الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حمدي أبو جليل … أول كتاب قرأتُه

فاطمة ناعوت

2023 / 7 / 9
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


رحل عن عالمنا روائيٌّ وأديبٌ مبدعٌ من أنبل وأرقى مَن عرفتُ في الوسط الأدبي. “حمدي أبو جليل" الريفيُّ المثقف نظيفُ القلب الذي كان يحلم بعالم أكثر جمالا وعدلا وعقلانية. كان قد سألني عن "أول وآخر كتابٍ قرأتُه؟" لينشر هذا التحقيق في صحيفة "الاتحاد" الإماراتية. ولروحه الطيبة أجيبُ اليوم سؤالَه، وسوف أبدأ بأول كتاب.
أول ما قرأتُ من كتب كان رواية "أحدب نوتردام" للفرنسي الشهير: "فيكتور إيجوو" في ترجمتها العربية. وطريقة وقوعي عليها كانت، في ذاتها، حدثًا لا يخلو من طرافة وشعرية. ولصوصية أيضًا. كنت عائدةً من المدرسة. وفيما أهمُّ بدخول بوابة عمارتنا، إذا بحمّالين يصعدون وآخرين ينزلون على ظهورهم قطعُ أثاث وحقائبُ وصناديقُ ممتلئة أغراضًا وكتبًا. كنتُ حول الثامنة من عمري، وقفتُ أراقبُ المشهد وأفكر: لماذا يترك الناس بيوتهم؟ وإلى أين يمضون؟ وماذا داخل خزانة الملابس فوق ظهر الرجل؟ تاريخٌ من البشر، وحكاياتٌ لا تنتهي للفساتين ورابطات العنق. ألمح كتابًا يسقط من أحد الصناديق المحمولة. أفكر للحظة أن أركض وراء العامل لأنبهه. لكن الفضول جعلني أمسكُ الكتاب محاولةً فهم عنوانه: “أحدب نوتردام"! ما معنى "أحدب"، وما معنى "نوتردام"؟ وريثما أفيقُ من تأملاتي، تكون سيارة نقل الأثاث قد مضت، وصار الكتابُ في حوزتي! عنوانُ الكتاب الطلسمي أغراني بالقراءة، لتكون أول عمل أدبي أقرأه. "كوازيمودو" و"أزميرالدا”. الأول رمزٌ للقبح الشكلي والتشوّه الخَلقيّ، والثانيةُ رمزٌ للجمال الجسدي الفاتن. لكن كليهما يجتمعان في جمال الإنسان ورقيّ الروح والفطرة الطيبة. أحدبُ، يحمل فوق ظهره نتوءًا شاذًا سيجعل منه أضحوكة باريس القرن١٢، له عين واحدة والأخرى مطموسة، مغلقة. لا يجيدُ الكلام إلا بلعثمة مرتبكة. مما سيحدو بأهالي باريس لانتخابه "أميرًا للحمقى" في احتفالهم السنوي. لم يكن "كوازيمودو" سوى لقيط وجده راهبُ كنيسة "نوتردام" على بابها في أحد صباحات باريس القارسة. تركته أمُّه ربما لبشاعة تكوينه. يلتقطه الراهبُ ويحنو عليه ويربيه، حتى كبًر وصار قارعَ أجراس الكنيسة الضخمة، مما يُفقده السمع، لتكتمل عاهاته. "أزميرالدا"، يعني زمردة، البنت الغجرية التي ترقص في "احتفال الحمقى" في صحبة عنزتها التي تجيد السحر. سمراءُ ممشوقة شعرها جَعِدٌ فاتن. تسلب ألباب الحضور، فيخطفُها القسُّ ويسجنها في غرفة بأحد أبراج الكنيسة تمهيدًا لحرقها بتهمة السحر والشعوذة وفقًا لقوانين أوروبا القروسطية. وكان الأحدبُ "كوازيمودو" يدخل محبسها محاولا مواساتها ويفكر كيف يحميها من مصيرها المشؤوم. كان قد أحبها لأنها الوحيدة التي لم تسخر من عاهاته وسقته جرعة ماء، حين كبّله القسُّ بالأغلال في ساحة الميدان عقابًا على خروجه من الكنيسة استجابة لنشوة الفرح بلقب "أمير الحمقى"، جاهلا بكمّ السخريات التي يضمرها شباب باريس فيما يتوجونه بالتاج الورقي. كان يحبها. وكانت تشفقُ عليه. كان في وجودها حيّةً دليلٌ له على وجود الجمال الإنساني المكتمل في الحياة. الروح والجسد. لذلك حارب البشرَ جميعًا من أجل حمايتها. صدَّ بجسده المعوّق بوابةَ الكاتدرائية الضخمة ليمنع دخول الباريسيين يرومون يحطمونها بجذوع الأشجار ملوحين بشعلات النيران طلبًا لحرق الساحرة الملعونة. ولما قتلها القسُّ في الأخير، لم ينتبه "كوازيمودو" لنفسه إلا وقد ألقى بربيبه القسّ من البرج الشاهق ثم جثا على ركبتيه يبكيهما معا قائلا: "هؤلاء كل من أحببت!” ثم يدفن نفسه معهما حيًّا، ليحفر الناس القبر بعد سنين فيجدون هيكليْن عظميين متعانقيْن، أحدهما لفتاة، والآخر لمسخ بشري معوّج الظهر. حين حاولوا فصل الهيكلين يتفتتان عظامًا صغيرة. قرأتُ الرواية مراتٍ عديدة في ترجمتيها العربية والإنجليزية.
نحن لا ننسى أول رواية قرأناها ولو بعد مائة عام. لاسيما إذا كان الكاتب "فيكتور إيجوو”. عرفتُ تفاصيل الكاتدرائية غرفةً غرفة وبرجًا برجًا وجرسًا جرسًا. وحين دخلتُ كلية الهندسة جامعة عين شمس، قسم العمارة بعد ذلك بعقد كامل؛ درستُ الكنيسة في مساقطها الأفقية والرأسية كأحد أجمل القطع الفنية التي أفرزتها المدرسة القوطية Gothic Architecture في القرن الثاني عشر. شيء يشبه الحلم وأنا أتتبع بقلمي الرصاص خطوط الكنيسة. النوافذ الدائرية بزجاجها الملون المعشق، الأبراج الشاهقة، المنمنمات والحفائر والمنحوتات، الأجنحة الطائرة، تماثيل الملائكة التي تعدُ الخطّاءين بالمغفرة. حتى الأرشيدوق "فرولو" و"كوازيمودو" رأيتهما بعين الخيال في المساقط داخل بعض أروقة الكنيسة وعند المذبح. كأنني أسير داخلها في صحبة الأحدب الذي لم أره إلا وسيمًا ساحرًا. وفي أولى زياراتي لباريس، ركضتُ نحو كنيسة نوتردام، لكي أعيش أجواء الرواية من جديد وألتقي بصديقي “كوازيمودو”، لكنني لم أجده. أخرج من نوتردام وأقف على ضفة نهر السين أتأمل البناية الشاهقة، فألمح "كوازيمودو" يلوح لي من أحد أبراجها هاتفا: تعالي يا ناعوتة، فأنا أحبك أيضًا! وفي مقال قادم، أحكي لكم عن آخر كتابٍ قرأتُه.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي: عدد اليهود في العالم اليوم


.. أسامة بن لادن.. 13 عاما على مقتله




.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط


.. 102-Al-Baqarah




.. 103-Al-Baqarah