الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لكي تعرفَ الزهورَ … كُن زهرةً

فاطمة ناعوت

2023 / 7 / 12
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لكي تعرف ما هي "الزهرة"، عليك أن تصبح أنت ذاتُك "زهرة"، لكي تعيشَ حياتَها وتشعر بما تشعر. لابد أن تتفتّح كزهرة. تبتهج لنور الشمس، وترقص مع هطول المطر وتُخرج البراعمَ من نسيجك, وحين يحدث كل ما سبق، سوف تسمعُ الزهورَ تكلمك وتحكي لك أسرارها. هكذا تعلمك فلسفة "زِّن" إذا أردتَ أن تناقش أو تحكم على أي موضوع. عليك أن تدخل الموضوع لتراه من الداخل وتشعر بها كما يشعر هو بذاته. وفلسفة "زِن" تعني التأمل العميق، نشأت في الهند وانتشرت في بلاد الشرق الأقصى حتى وصلت إلى اليابان. وهي تدعو إلى "الوعي بالذات"، والغوص داخل النفس والنفور من كل ما حولنا من عوالم خارجية وشهوات.
في مقالي السابق، يوم الخميس، أخبرتكم عن أول كتاب قرأته في طفولتي وكانت رواية: "أحدب نوتردام" للفرنسي "فيكتور أوجو"، ووعدتكم بالحديث عن آخر ما قرأتُ من كتب، والأدق "أحدث" ما قرأتُ، وهو: "التصوّف البوذي والتحليل النفسي"، تأليف "د.ت. سوزوكي" وترجمة د. "ثائر ديب”. يحاول الكتابُ البحث عن خيوط تربط بين منظومتين إنسانيين تبدوان متنافرتين ليس بينهما إلا تناقضات. بوذية "زِنْ" التي هبطت على العقل الشرقيّ الميّال إلى التأمل والتجريد الروحاني، كما يليق بالعقلية الهندية والصينية، في مقابل: "التحليل النفسي" الذي هو نتاج تزاوج العقلانية الإنسانية الغربية، مع رومانسية القرن التاسع عشر الأوروبي؛ والذي تمتد جذوره الأولى إلى الحكمة الإغريقية في بحثها عن ماهية الإنسان والقوى الغامضة التي تُسيّره. وبينما ينهجُ "التحليلُ النفسي" النهجَ العلمي العقلاني، تنحو بوذية "زن" المنحى الوجوديّ الروحيّ حتى لتقترب في تعريفها من فلسفة "التصوف الديني" بوصفها محاولة الوصول إلى الذات العيا عبر مرحلة "الاستنارة". وبينما يسعي "التحليل النفسيّ" إلى استخلاص الإنسان من أمراضه الذهنية، فإن "البوذية" تتوقُ إلى الخلاص الروحي للإنسان. بين ركام كل تلك التباينات الجوهرية بين المنظومتين، هل يمكن السعي وراء أية روابط بينهما؟ هذا الكتابُ إذن هو محاولة عقد "مقارنة حذرة" بين منظومتين تبدوان، ظاهريًّا، متضادتين، حتى وإن ظلَّ "الإنسانُ" وسلامتُه الذهنية والروحية هو شاغلَهما الأول.
والحقيقة أنني قبل الشروع في قراءة هذا الكتاب، كنتُ أقرأ في ديوان "أشعار زِّنْ"، Zen Poetry كان أهداه لي الشاعر الأمريكي، "سام هاميل”، المناهضُ لسياسات البيت الأبيض في الشرق الأوسط، حين التقينا في سويسرا عام ٢٠٠٧ في "مهرجان المتنبي الشعري"، الذي يقيمه الشاعرُ العراقي “علي الشلاه”. وجوهر منظومة "زِن" عرّفه "سوزوكي" بأنه فنُّ تبصُّر المرء بطبيعة ماهيته؛ بوصفه دليلا ومرشدًا إلى طريق الرحلة من العبودية إلى الحرية عبر تحرير كلَّ الطاقات الخبيئة داخل كلِّ إنسان. تلك الطاقة تكون، في الأحوال العادية، محبوسةً ومشوَّهة، فلا تجد قناة أو متنفسًا لتفعيل نشاطها. وعلى هذا فإن غاية "زِنْ" هي إنقاذ الإنسان من الجنون والعجز. والحرية التي يعنيها الكتاب هي إفساح المجال للدوافع الخلاقة والخيِّرة، الكامنة أصلاً في قلوبنا، بحيث يمكن لها أن تتحرك بحريّة. فنحن عميان تجاه حقيقة: "أن في حوزتنا كلَّ القدرات والإمكانات الضرورية لجعلنا سعداء، يحبُّ واحدُنا الآخر”. محورُ الكتاب هو التوجُّه الأخلاقي الذي يتقاسمه كلٌّ من "زِنْ" و"التحليل النفسي”.
فلكي تتحقق غايات "زِنْ" لا بدَّ من التغلب على الجشع. جشعَ التملّك، جشع المجد، وجميع أشكال الجشع مثل الحسد والشهوة والأنانية. وهذا بالضبط ما يهدف إليه التحليل النفسي. فالجشع، في معجم التحليلي النفسي، ظاهرة مَرَضية، تظهر حين لا يكون المرءُ قد طوَّر قدراته وطاقاته الُمنتجة. ورغم أن التحليل النفسي ليس منظومة أخلاقية؛ وكذلك "زِنْ"، التي تتعالى غاياتُها على الغاية التي يضعها السلوك الأخلاقي هدفًا؛ إلا أن كلا المنظومتين تفترضان أن يتماشى تحقيقُ غايتهما مع التحوُّل نحو الأخلاق القويمة، مثل: التغلب على الجشع، والقدرة على الحبِّ والإيثار والرحمة. "التحليل النفسي" و"زن"، لا يحققان للإنسان حياة فاضلة عن طريق "قمع الرغبة الشريرة"، بل يتوقعان أن تذوب الرغبةُ الشريرة وتتلاشى من تلقاء ذاتها تحت نور الوعي المتعاظم ودفئه. فلا يمكن الوصول إلى غاية "زِنْ”من دون التغلُّب على الطمع وتمجيد الذات والحماقة. ولا يمكن تحقيق "ساتوري" Satori، أي "الاستنارة"، دون التواضع والمحبة والرحمة. وكذلك لا يمكن تحقيق غاية "التحليل النفسي" ما لم يحدث تحوُّل إيجابي في طباع الشخص وأخلاقه. فمَن يبلغ "الطور المُنتِج" لابد أن يكون قد كفَّ عن الجشع، وتغلَّب على شعوره بالعظَمة، وعلى أوهام القدرة الكاملة والمعرفة الكلِّية؛ فتراه متواضعًا، ينظر إلى نفسه كما هي عليه حقًّا. وإذن، فإن ما يرمي إليه كلٌّ من "زِنْ" و"التحليل النفسي" يتعالى على الأخلاق القويمة؛ إلا أنه من المستحيل تحقيقه ما لم يحدث التحوُّل الأخلاقي نحو الفضيلة.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي: عدد اليهود في العالم اليوم


.. أسامة بن لادن.. 13 عاما على مقتله




.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط


.. 102-Al-Baqarah




.. 103-Al-Baqarah