الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دائرة الوعي... أم دائرة الوهم...

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2023 / 7 / 13
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


من الإشكاليات الفكرية التي تواجهها المعرفة ويواجها المصطلح بشكل خاص هو أستسهال إطلاق العناوين والمسميات لمجرد أن الكاتب أو الصانع للعوان أستحسن ما يكتبه أو يضعه من مصطلح، دون الأهتمام أصلا بقيمة الإضافة أو قيمة المفهوم والمضمون الذي يحمله هذا المصطلح والعنوان أو صدق التعبير عنه، ومن المظاهر أو الظواهر الكتابية المدانة في نظري وإن كانت أمرا واقعيا وطبيعيا نظرا لقوة الإعلام المسوق وتأثيره في صناعة أنواع من المعرفة المبسترة أو المطبوخة على عجل لهدف أو غاية ما هو التساهل والأعجاب السريع بالعناوين المنفوخة أو التي تحمل هالة من "الشو" الإعلامي، وهذا الأمر نتاج طبيعي لواقع ثقافي ومعرفي معتل ومنحرف قلق وأنتقالي ومصلحي غير منتج وغير أصيل، في الوقت الذي يجري التعمية والتغييب والتجاهل وحتى محارية الفكر المقابل الجاد والذي يحمل هما فكريا حقيقيا ومنها الأطاريح المعرفية الناضجة والتي تحمل دسما فكريا ممتازا ومؤثرا وأصيلا، هذا الأمر ليس جديدا على الساحة ولا هو من صنع خيال الكاتب، بل هو خلاصة حقيقية للواقع الراهن خاصة عندما يكون التهميش والتقديم يخضعان لمزاجات المتحكم السياسي والسلطوي في المجتمع.
لقد أشارت الكاتبة والمثقفة العراقية الأستاذة الدكتورة لطيفة الدليمي لهذا الموضوع بشكل مركز ومكثف وسريع ،وإن كانت قد نظرت في خطابها النقدي بشكل حصيف جدا وبمهارة الدبلوماسي المعرفي في قراءتها الأولى لكتاب دائرة الوعي المغلق، والذي قرأته اليوم وأنا أشاركها في كل ما ذهبت إليه من نقد موضوعي حقيقي وهي الخبيرة والقارئة المحترفة بشكل عميق للفكرة وجذورها وصولا إلى ما يريد أن يقوله الكاتب مضمرا أو معلنا الهدف، وهذه الميزة التي تتحلى بها الدكتورة الدليمي لا تتوفر عادة عند الكثير من النقاد القراء بشكل خاص، وبشكل مجرد من الأفتنان المأخوذ به الكثير ممن كتب عن هذا الكتاب أو عن الكاتب، وإن كنا نرى أن أي محاولة معرفية في أختراق الجمود الفكري الطاغي على المشهد الثقافي والمعرفي هو جهد محمود ومطلوب الأستمرار به وتشجيعه بدل الرثاثة المملة والزيف الذي يضخ يوميا على أنه فكر ومعرفة وثقافة، لكن هذا لا يمنع أن نسكت عن الحال والواقع الذي يبرر الخلل ويظهر جانب واحد من الواقع يراد له أن يغطي عملية أخرى، القصد من ورائها أن لا نرى حقيقة العقل المعرفي المنتج الحقيقي للوعي والمعرفة القادرة على فتح كل الأبواب أمام المجتمع لينهض بجد، ويقود سيرورة فكرية جديدة فيها من عوامل التأصيل والأصالة أكثر مما فيها من مشاهد الشو الإعلامي والنفخ الغير منتج في النهاية.
إن موضوع الوعي واحد من أكثر الموضوعات التي أهتم بها الباحثون في عدة مجالات والكثير من فروع المعرفة تناولت الموضوع والمصطلح ومنها الفلسفة بشكل خاص، منذ أن عرف الإنسان أرتباط وجوده بالوعي بهذا التلازم هو الذي يفتح له الطريق لصنع الواقع أو منا يقول البعض أن الوعي هو حالة قائمة قبل الإحساس به أو التفاعل معه بضرورات الواقع، فالوعي سابق للوجود ومتقدم عليه، بمعنى أن الوعي حالة لا تولد مع الوجود بقدر ما يكشف الوجود عنها عندما يضطر الإنسان للسؤال، هنا يجد نفسه أمام حالة لا بد من التعامل معها بالشكل الذي تحمله فكرة الوعي ذاتها، وبكلام أوضح أن الإنسان هو الذي يخضع للمعرفة والوعي عندما أراد أن يبقى في الوجود، ولم يكن هو من يصنع الوعي بما يحمل من قوة طبيعية له، هذا الموضوع فيه جانب من الحقيقية وليس كامل الحقيقة التي يحملها الوعي، فالوجود منظم ومخطط ويتحرك بقواعد وقوانين ومعادلات في غاية الإطلاق والتجرد، لكنها لا تدرك لذاتها بذاتها بدون آليات الإحساس والأكتشاف والتفسير، وهنا يدخل العقل لاعبا محوريا ومركزيا في تحريك الوعي وفي دائرة المعرفة الكبرى المتضمنة الأسئلة الأولى الكيف والكم والزمن والغاية والعلة.
فالوعي حالة وجودية لا تنفصل عن القدرة على التأقلم الطبيعي لدى الأنسان، فهي حالة م مجموعة علاقات تربط الأنسان بواقعه بوجوده بكينونته وتستمر معه للحد الذي يقرر هو من خلاله وبناء على التراكم والتجريب والحاجة أن يتوقف أو يقلل من قدرة الوعي على التأثير عليه، فهو لا يتحرك داخل دائرة ولا يمكن أن يكون الوعي دائريا محيط بالإنسان، بقدر ما هو تفاعل قطبي متعدد الروابط ومتشعب ومتشارك، ويمكن وصفه التقريبي بأنه مثل الجذور النباتية الممتدة عميقا والمتصلة بما بعدها صعودا، فالوعي هنا يأخذ حيزا عموديا بنشاط العقل والإدراك وعرضيا من خلال المعايشة والحاجة والقدرة على التجدد، الذي يتكلم عن دائرة الوعي يفترض أن يفهم أن الدوائر بمنحناها المستمر يمر بحالات متشابهة في نقاط محددة، بمعنى أن الوعي يمكن أن يتجدد وينشط ويستقر ويتوقف تبعا لموقع النقاط التي يتكرر في التواجد عليها أثناء حركته في داخل الدائرة، وهذا الوصف غير ممكن ولا يتحقق أبدا لأن الإنسان يتحرك بدائرة الوجود مرة واحدة وأحيانا لا يكملها أو يتجاوز نقطة البداية، والوعي ملحق بالوجود وجودا وعدما، ومن هنا يأت قولنا أن دائرة الوعي هي صورة من صور دائرة الوهم.
تقول الأستاذة الدليمي في قراءتها الموجزة عن إشكالية مقاربة الوعي والمعرفة التي لا يمكن فهمها إلا من خلال منظومة مركبة من الوجود الواعي أولا، والمقترن حتما بوعي وجودي نشط ومنفتح وجاد في القراءة الموضوعية للعنوانين، فتقول مثلا (أظنُّ أننا غادرنا نموذج (كارل بوبر) أو (توماس كون) بسبب تعقيد موضوعتي (الوعي) و (المعرفة) اللتيْن ما عاد من الممكن دراستهما إلا في نطاق مبحث النظم المعقّدة المتداخلة التي تحتاج فريقاً بحثياً متعدّد الاطياف)، هذا التصويب ضروري جدا والتخصص في عالم المعرفة اليوم ليس خيارا مثاليا فقط، بل تحول إلى لزوم حتمي ومتوجب العمل به إنطلاقا من أساس البحث ووصولا للغاية منه، فليس بمقدور المفكر أو المثقف أو حتى الكاتب الأعتيادي إن لم يكن يملك المقدار الضروري من المعرفة والوعي اللازمين أن يبحر في موضوع يحتاج إلى خزين متخصص من المعرفة المسبقة التجريبية والتأملية معا، هذه الأمر واحد من أهم أساسيات ما يعرف بأقتصاد المعرفة.
إن التفريق الذي تشير له الكاتبة السيدة الدليمي في قراءتها بين ما يعرف بالوعي التحصيلي الجبري الذي يسميه كاتب الكتاب بالوعي المغلق، وبين الوعي الأكتسابي الناتج عن فعل إيجابي تراكمي ومتطور، هو تفريق بين طرق تحصيل الوعي وليس تصنيفا للوعي بذاته، فكل معرفة هي نتاج وعي منه وعي مختر ومراد ومطلوب وهناك لا وعي ترسبي تراكمي يكتسبه الإنسان لا إراديا، أما عن طري فعل الفطرة البشرية، أو تأثير الواقع الوجودي وما يفرضه على شكل المعرفة من خلال ما يعرف بالعقل الباطن، فكلاهما الوعي المباشر والوعي المترسب النافذ هما نتاج عقل الإنسان، وعقل الإنسان متشعب في طرق الإدراك والتحصيل وحتى الإنعكاس التقريري أو التفاعل المقابل، فلا يوجد وعي مغلق ناتج عن إحساسانا المباشرة ووعي أخر مفروض لا يمكن للإنسان حتى من منعه من التكوين أو التبلور والفعل، كما يصنف كاتب الكتاب ذلك بين دائرة وعي مغلق وأخر غير مغلق فتقول كما تنقل الأستاذة الدليمي عن الاطروحة الاساسية في كتاب ضمد هي {أنّ الوعي البشري (والمعرفة البشرية بالتبعية حيث المعرفة نتاج طبيعي للوعي) محكوم بمحدوديات قصوى ناجمة عن طبيعة مدركاتنا الحسية، وأنّ المعرفة المتحصلة بواسطة إحساساتنا تقع في نطاق دائرة رمزية أسماها ضمد ( دائرة الوعي المغلقة )، وكلّ معرفة خارج نطاق هذه الدائرة إنما هي معرفة غير متحصلة عن طريق الحواس أو معرفة ميتافيزيقية}.
إذا نقد السيدة الدليمي للمصطلح وإن لم تظهره واضحا بشكل أكيد وجاد ينعقد على التسمية الأصطلاحية التي جاء بها الكاتب جزافا ومستعجلا دون أن يملك القدرة على تحديد الموصوف أو وصف المحدود، وهذا يعد محاولة القفز على حقيقة أرتباط الوعي بالتجربة الوجودية بكافة مفاصلها وتفصيلاتها التي هي بالأخر بناء هيكل ونظام المعرفة البشرية، فما المعرفة بالحقيقة إلا الوجه الأخر للوعي الوجودي للإنسان ككائن قادر أولا على الصنع وثانيا على التفاعل وثالثا على التغير، وبدون هذه المظاهر المعرفية الواعية لا يمكن أن يستمر إلا كباقي الموجودات التي يسيطر عليها الوعي التكويني المغلق طبيعيا دون أن تستفاد لا م قوانين الوجود ولا من التجربة الزمنية ولا يحركها دافع التطور كالحيوانات مثلا بالرغم من أنها تملك وعيا من نوع ما لكنه وعي منغلق لا يخرج بها من دائرة التكوين الأساسية، لذا بقيت مع مرور الزمن أكثر مما مر على الإنسان دون أن تتحرك بهذا الوعي عن نقطة الأنطلاق الأولى، النقطة التي يسميها الكاتب "ضمد" الذي جعلها تعبيرا مختلطا بين الوعي وبين الإدراك به على أنهما مرحلة أو نقطة واحدة وعرف بها على أنها (الآلية أو الأداة أو الجهاز الذي أخرج البشر من بيئتهم الحيوانية إلى بيئة انسانية صُنِعت وفقاً لحاجاتهم، الوعي هو الذي خلق اللغة وابتكر الثقافة وكتب التاريخ ......).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حيوان راكون يقتحم ملعب كرة قدم أثناء مباراة قبل أن يتم الإمس


.. قتلى ومصابون وخسائر مادية في يوم حافل بالتصعيد بين إسرائيل و




.. عاجل | أولى شحنات المساعدات تتجه نحو شاطئ غزة عبر الرصيف الع


.. محاولة اغتيال ناشط ا?يطالي يدعم غزة




.. مراسل الجزيرة يرصد آخر التطورات الميدانية في قطاع غزة