الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدستور والتمويه الثقافي

مهدي النجار

2006 / 11 / 4
المجتمع المدني


تعيش الشعوب العربية الإسلامية خدعة دستورية من خلال ثقافة صارمة تفيد بان قانون الله "الشريعة" هو الدستور المعتمد لممارسة الحاكمية، أي انه التبرير السياسي ليمارس الحاكم ( الخليفة/ الأمير/ الملك /الرئيس/...) حكمه على الناس، ولكننا من خلال قراءة وقائع التاريخ الخام نجد هذه الثقافة مثل كلمة حق أريد بها باطل، فكم عقيدة أججت التناحر والتعصب وأباحت دم أتباع غيرها من المذاهب منذ أكثر من ألف سنة، هذه العقيدة تقرا النص الإلهي بشكل وتلك تقراه بشكل آخر، أي أن كل طائفة كانت تقلص النصوص التأسيسية كلها إلى مجرد وسيلة لإثبات حقيقتها وعقيدتها والدفاع عنها، حتى أصبح وكأن كل طائفة تنتمي إلى عالم أو مرجع مختلف تماما عن الآخر، هذا في حين ينتمي الجميع إلى الأصل نفسه، والصدر نفسه، والتاريخ نفسه، وتكمن الخدعة الكبرى حين تقرا "السلطة" النصوص المرجعية من خلال شراحها ومفسريها وفقهائها ومؤوليها، وكما يسميهم علي الوردي: "وعاظ السلاطين". هؤلاء يشرعنون حق السلطة وممارساتها القمعية (يسبغون الشرعية على وجودها) وبالتالي تتشكل ثقافة دستورية فوق التاريخ تتجلى من خلالها صورة خيالية وتبجيلية وتفخيمية للحاكم، ينوب عن الله وباسمه يحكم، تُختزل القوانين بأفعاله وأقواله، وويل لمن تسول له نفسه أن يحيد عن هذه القوانين أو يخترقها قيد شعرة، ولكن الله عز وجل يتعالى على البشر ولا يمكن لأحد أن يحكم باسمه إلا تعسفاً، فالبشر –كما


يؤكد محمد اركون- هم يحكمون البشر في الواقع حتى لو كانوا يتوهمون العكس.
أسست الثقافة الإسلامية على هذا المنوال المشروعية التقليدية للسلطة الرسمية وبررتها بالفتاوى والفقه الديني منذ نشوئها وحتى يومنا هذا كصدى لما قاله معاوية عندما استولى على الحكم: "لو لم يرني ربّي أهلاً لهذا الأمر ما تركني وإيّاه، ولو كره الله تعالى ما نحن فيه لغيّره" (القاضي عبد الجبار/فضل الاعتزال).
أصبح من الصعب على الناس أن يفكروا في أي شئ خارج هذا التأسيس المغلق، وألحت ثقافة التمويه أن تُنسي الشعوب عادة التفكير منذ زمن طويل، أصبح كل شئ محظوراً تماماً ومتدثراً بالقداسة، بات الناس يشعرون بان تاريخهم هو تاريخ خوف، تاريخ متراجع، بمعنى انه يسير بعكس الاتجاه، اتجاه العقل والحضارة، فبدلا من أن يمشي إلى الأمام نجده يعود إلى الوراء، إلى أزمنة العصور الوسطى ومفاهيمها الثيوقراطية في الحكم والسياسة.
من المعلوم أن المناقشة حول الشريعة والحكمة كانت قد شغلت الثقافة الإسلامية في القرون الوسطى، وكان سؤالها: هل تتعارض اجتهادات العقل واجتراح قوانين دنيوية وبشرية (دساتير) مع القانون الإلهي أو الديني ؟! لاريب في أن كل الديانات الكبرى، خاصة التوحيدية (ومنها الدين الإسلامي) إذا ما قرئت خارج دائرة السلطة وخارج نطاق حرابها ومهيمناتها الثقافية وبعيداً عن الغلو والتطرف والانسداد الذهني، سنجد جميعها تدعو لان يسمو الناس بأنفسهم ويتقربوا من مثلهم الخالق ويؤسسوا لهم حياة كريمة تسودها المحبات، لا تنفك هذه الديانات من تقديم البرهان تلو البرهان على فضيلة التسامح والحكمة والموعظة الحسنة والتحاور: "نصف العقل التودد إلى الناس"، مليئة هذه الديانات بالنداءات التي


تقوي من تفتح العقل واشراقاته وسط فضاء جد واسع من الاختيار للشخص البشري: "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" أهل الكهف/29 . كذلك يتحدث القران الكريم ببلاغة عالية عن موضوعات أساسية تخص البشر أينما كانوا: كالحياة والموت، والآخرة والعمل الصالح، وترشيد إنفاق المال، وتحريم القتل والفساد في الأرض، وفيه نجد العدالة تشكل لب الحياة دافعاً الناس باتجاه الأخذ بها، نجد أهدافاً للديانات ذات طابع كوني كتلك الآية القرآنية التي توصف وظيفة الأنبياء، أصحاب الشرائع عليهم السلام: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين". ألا يكفي هذا التوصيف وحده لدحض افتاءات النماذج البشرية المتوحشة، التي أباحت قتل الأطفال والأبرياء والمدنيين غير المحاربين باعتبارهم كفاراً مباحاً قتلهم والتمثيل بهم ومصادرة أموالهم، ألا يقف عائقاً أمام التوجهات التي تريد أن تطفأ نور الحياة؟! حين تحل الرحمة لا مكان للكراهية والإكراه، حين يحل التسامح لا مكان للحقد والضغينة، على هذه الأسس المرجعية السامية يمكن أن يصنع البشر دساتيرهم الدنيوية، هذا الحث الإلهي على الرحمة والتسامح يتقاطع مع القول بان الأرض الإسلامية ستظل أبديا نموذجاً للاستبداد ومرتعاً خضباً لحكم الطغاة، وبالتالي فان الأمور لابد أن تتغير في السياق الإسلامي ( كل المجتمعات التي يشكل فيها الإسلام دين الأغلبية) من خلال صناعة دساتير تعتمد الثقافة الإنسانية بالمعنى السامي والعالي للكلمة، الثقافة التي تمثل كفاح الإنسان الدءوب والعنيد الذي يقوم به للرد على ذلك الإذلال والفشل والاحتقار والتراجع الذي يشعر به بسبب حصول التعصب والتطرف والإقصاء، بسبب عدم قدرته على منع اندلاع العنف وعلى دحر الكراهية، الثقافة التي تمثل مقاومة الإنسان لكل ما يريد أن يسحق إنسانيته أو يقضي على نسمة الحرية فيه.


لاشك في أن ذلك ما زال صعباً، فالبشر سوف يستمرون في تشويه العلاقة بين الشريعة والحكمة، عن طريق إنزال الأديان من تنزيهها المتعالي إلى خضم الصراعات البشروأهوائهم وتضارب المصالح الدنيوية والسياسية، وحين ينغمس المشرعون في الحكومة دون الحكمة، وفي التعصب دون التسامح، وفي الالتباس دون التعقل، ,عندها سيكتبون دستوراً لاهو من قانون الشريعة ولا هو من قانون الحكمة. ـــــــــــــ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لاجئون سودانيون عالقون بغابة ألالا بإثيوبيا


.. الأمم المتحدة تكرم -رئيسي-.. وأميركا تقاطع الجلسة




.. تفاصيل مقترح بايدن من تبادل الأسرى حتى إعمار غزة


.. شاهد: أحداث شغب في ملعب صوفيا الوطني في بلغاريا: إصابة 3 من




.. أبو حمزة: الطريق الوحيد لاستعادة الأسرى هو الانسحاب من غزة