الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


متمماً واجباته الدينية، مات مسلوباً من حقوقه الدنيوية

حسن خليل غريب

2023 / 7 / 18
المجتمع المدني


لخلاص نفس الإنسان بعد الموت، كما يعتقد رجال الدين، عليه أن يتمِّم واجباته الدينية من عبادات وطقوس تحددها المؤسسات الدينية. وهذه مسألة ليست موضع انتقاد في رأينا، لأنها تعود لاختيار الإنسان نفسه. ونحن نحترم حق الاختيار في كل ما له علاقة بضمان راحة الإنسان النفسية. ولكن أن يتوقف دور رجل الدين عند فرض هذه الواجبات، متناسياً أن للإنسان حقوقاً، فهذا ما يضعنا في مواجهة عقلية مع ما هو مثبت من تقاليد دينية منذ آلاف السنين.
إن عدالة الخالق بين البشر ابتدأت منذ أن وحَّد بينهم في صنع عوامل استمرار الحياة، في تكوينهم الجسدي، وفي تكوين مصادر الطعام والماء والجنس، وخلق تلك العوامل في الطبيعة وفي تكوينهم الجسدي والعقلي بالمساواة الكاملة، وهو رمز لعدالة الخالق في تكوين الكون.
وتدليلاً على تلك المساوة، والعدالة بين البشر، نعود إلى تحليل تلك العوامل التي كوَّنها الخالق في الطبيعة من جهة، كما كوَّنها في تركيب الإنسان البيولوجي -جسدياً وعقلياً- من جهة أخرى. ومن خلال العودة إلى نتائج الأبحاث التاريخية والبيولوجية، نجد أن عوامل الغذاء والماء والتناسل لم تتغير عند الإنسان المعاصر عنها عند الإنسان البدائي. وأن ملكة التفكير عند الإنسان لم تتغير بالنوع، وإن تغيرت بالكمية. فالإبداع العقلي والذهني للبشر مستمر منذ بداية التكوين المعروف. نجده الآن في التقدم العلمي الخارق في شتى أنواع العلوم. ووجدناه قبل آلاف السنين في الإبداع الفلسفي منذ سقراط وأفلاطون وأرسطو... كما نجده في الإبداع العمراني عند من بنوا أهرام مصر، ومن بنوا أبراج بابل في العراق، كإحدى عجائب الدنيا السبع.
وعدالة الخالق هذه، تعني أنه ساوى بين البشر في إتمام الواجبات والحصول على الحقوق. بينما السائد الآن -وقبل الآن بآلاف السنين- وكما تعتقد المؤسسات الدينية أن على الإنسان أن يتمم واجباته الدينية غاضَّة الطرف عن حقوقه الدنيوية، لا بل تناست كلياً تلك الحقوق، ودعت إلى مواجهة النقص فيها بالصبر لأن الخالق سوف يعوضُّهم عنها في (نعيم الآخرة).
فإذا طلبنا من الإنسان إتمام واجباته الدينية كبوابة عبور لخلاص نفسه بعد الموت، ولم نأبه بخلاص جسده وعقله، كحقوق له قبل الموت، فلا بُدَّ من أننا سوف ندرك أن هناك نقصاً ما علينا أن نتداركه، وأن نتوجَّه إلى تحميل المسؤوليات في التقصير لمن نرى أنه يجب أن يتحمَّلها.
علماً أن الخالق لم يفرض على البشر واجبات يمارسها تجاهه وإليه، لأنه خلقهم بمحض إرادته، ولم يغرس فيهم غريزة عبادته، لأن من أهم أسرار خلقه للكون، فهو صانعه لا عن حاجة إليه، ولا عن مِنَّة. بل يظهر من شتى الأسباب والبراهين، أنه لا يريد من البشر جزاء ولا شكورا، لأنه ليس بحاجة لإنسان يشكره كما يفعل الطغاة من الحكام. فكان ابتكار الواجبات الدينية من صنع رجال الدين، ظناً منهم أنها عربون تقدير للخالق، لأن من يقوم بعمل الخير يكون مؤهلاً لتقديم الشكر إليه.
إلى هنا، تكون ممارسة الواجبات الدينة مفهومة، حتى لو حصرها رجال الدين بعبادات وطقوس رسم رجال الدين نصوصها وحركاتها، فأما أن يختصروا حياة البشر بممارستها، فهذا ما هو من غير المفهوم ولا المهضوم عقلياً. إن هذا الاختصار يؤدي إلى تفسير وكأن الله خلق البشر لـ(عبادته) فقط، وليس لأي غاية أخرى؛ كما يدل هذا الاعتقاد على أن خلق عوامل استمرار الحياة البشرية وكأنه كان عبثياً، وسيان استمرت الحياة أو أتى الموت، طالما أن حياة الإنسان لا غاية من ورائها بأكثر من إتمام الواجبات الدينية.
ولأن للحياة أغراض أخرى، خلق لها عوامل استمرارها في الطبيعة نفسها، وعوامل تحسينها وتطويرها في غرس ملكة العقل والتفكير في الإنسان، وهذا يعني أن الخالق أعطى الإنسان ملكة معرفة الواجبات التي عليه أن يؤديها لتحسين الحياة البشرية، ومعرفة حقوقه التي الإنسان الفرد وعلى البشر الآخرين أن يسهموا فيها.
لم تكن ومن غير المفهوم أن لا يقوم رجال الدين بواجباتهم في تعزيز مفاهيم حقوق البشر ودعوتهم لعدم السكوت عن تطبيقها وتنفيذها كما خطط لها الخالق. وهذا التقصير يعود -كما نعتقد- إلى أن الخالق عندما كوَّن الإنسان منذ النطفة الأولى، فإنما خلق له عوامل استمرار حياته في أدق تفاصيلها، وتوفير تلك العوامل هي من حقوق البشر الأساسية التي في حال غيابها فلن يكون لتكوين الإنسان معنى. ولهذا السبب نعتقد أن توفير حقوق الإنسان في الحياة السليمة هي مهمة، ليس رجال الدنيا وحدهم، بل هي من أولويات واجبات رجال الدين في الدرجة الأولى.
لهذه المقدمة، في ترابط أسباب كتابتها، ولأن تطبيقها يظهر منقوصاً، ومنقوصاً جداً، ويتحمل رجال الدين وزر هذا النقص. ولأنهم يمارسونها منذ القدم، ولم تتغير وتتقدم، لا نجد من سبيل لإيصال صوتنا إلى مسامعهم، سوى أن تكون صرختنا مصحوبة ببعض الغيظ والغضب.
لذا، نطلب من مقاماتهم الهدوء والسكينة، وليصححوا من أسباب غضبنا ما يكون بعيداً عن الواقع، ويقدمون لنا البديل الصحيح الملموس والمعيوش.
وإذا كنا نعتقد أنه من غير صلاحيات رجل الدين أن يحرث في حقول الدنيا كي لا تنعكس أخطاؤه سلباً في نفوس المتدينين، لأنهم سيعتبرون أوامره وعظاته وكأنها أوامر إلهية مقدسة، لكننا لن نعفيه من أن يلعب دوره كضمير للعدالة، وذلك بأن يضمِّن مواعظه الروحية مواعظ يحث فيها من يعظ فيهم على المطالبة بحقوقهم، والتنديد بمن يحرمهم منها ويسطو عليها، وصولاً إلى الثورة في وجوههم.
أكثر ما يثير الغضب والاستهجان أن يُشيَّع الإنسان إلى مثواه الأخير، يصلِّي على جثمانه رجل دين لكي يدخله الله إلى جنان الخلد، بينما مات من الجوع والمرض، لا يملك أطفاله شروى نقير، يُسكتون فيه ألم الجوع، وثمن حبة دواء يعالجون بها أمراضهم، ولا يملكون سقفاً يقيهم حرَّ الصيف، ولا قرَّ البرد القارص.
يراودني التساؤل المر كلما حضرت جنازة وداع قريب أو صديق أو جار أو ابن قريتي، وما أطولها رحلة ومناسبات وفيات. وما أمرُّها لحظات وما أكثرها. مرارة تساؤل تتبعها مرارة، وحنظل شعور يتبعها حنظل خاصة عندما تتبعها عبارات المواساة (ألله أعطى، والله أخذ)، (هذا ما كتبه الله علينا)، و(هذه إرادة الله لا مردَّ لها)، و... و...
طبعاً وُلد الإنسان بإرادة من خالقه، ومات بإرادة من خالقه. إرادة الخالق بخلق المخلوق كانت مرتبطة بتكوين الخلايا التي إذا ماتت يموت المخلوق، وإذا ما توافرت عوامل نموها تستمر حياة المخلوق لوقت طويل. وتتوقف إرادة الله عند تكوين النطفة الأولى، وتبدأ إرادة الإنسان حيثما تنتهي إرادة الله. فهبة الحياة وعواملها هي إرادة الخالق، ولكن حرمان الإنسان الحي من حقوقه في الدنيا لا علاقة لها بإرادة الخالق، لأنه فيما لو كتب له فصول حياته وقدَّر تفاصيلها بشكل مسبق، فهل يبقى هناك هدف ما في تلك الحياة؟
إن الخالق خلق النمل والنحل والجماعات الحيوانية، كأمثال نذكرها للعبرة. ولكنه خلق فيها غريزة التكاثر والتناسل والسعي لجمع القوت. ولكنه لم يأت إليها برحيق الأزهار إلى خلاياها، ولم يأت إليها بالحبوب إلى أوكارها، ولم يأت إليها بالذبائح إلى ملاذاتها... وبين هذا وذاك، لم يخلق فيها غريزة أن يأكل البعض منها أكثر من حاجته. وأن يجني البعض منها القوت، وأن يتكاسل البعض الآخر سوى من أصيب بعاهة أو بمرض. ولم يخلق الغريزة فيها أن يقتل البعض منها البعض الآخر تنافساً على نيل حصة له أكثر من حاجته. فالمؤونة مخزونة من دون أقفال، وقلما تجد مخازنها تنفد قبل حلول مواسم الجنى الجديدة، لا بل تفيض عن حاجة الجميع.
واستناداً إلى ذلك كله، نتساءل: أين مفهوم عدالة الجماعات الحيوانية الغريزية، من مفهوم عدالة الإنسان العقلية؟
كل أفراد جماعة حيوانية يتساوون بالواجبات، ويتساوون بالحقوق، كل واحد فيها يجني القوت، وكل واحد فيه يأكل ما يحتاجه من الجنى. أليس في هذا ما يلفت النظر؟
بلى، يلفت النظر لأنه بينما كل أفراد جماعة بشرية مثقلون بالتنافس على تكديس حصصهم أكثر من غيرهم، يقتل البعض منهم البعض الآخر من أجل تكديس أكثر ما يمكن من الأملاك. ولا يتورَّع ذلك البعض عن ارتكاب جرائم السرقة وتكديس أكثر ما يمكن من المسروقات من ثروات شعب آخر ليقدِّم منها جزءاً لصالح شعبه. ويحتفظ بالجزء الأكبر منها في خزائنه وحساباته الخاصة.
والأكثر غرابة من كل هذا وذاك، هو أن الخالق وهب للإنسان عقلاً، ولم يهبه للحيوان. حصل هذا الواقع في وقت نرى فيه أن الحيوان غريزياً يقف عند حدود قواعد التكامل بين ثنائية الواجبات والحقوق كمبدأين قيميين للعدالة، في الوقت الذي يتميز فيه الإنسان بمدارك عقلية ونجد أنه يتجاهل تلك الحدود.
ونختتم مقالنا قائلين إن خالق الكون عندما اعتبر أن هناك تكاملاً بين حاجات الجسد وحاجات الروح والعقل، نعتبر نحن أن تجاهل هذا التكامل من قبل رجال الدين لهو خطير خاصة أنهم يزعمون تمثيل الخالق على الأرض. وإن كل من هو مؤمن بهذا الزعم، يعني عليه أن يكون ضميراً للخالق يأخذ بتكاملية أسباب خلق الإنسان، لا أن يأخذ جزءًا منه ويتناسى الجزء الآخر. وغير ذلك يمكننا اعتبار أن الدين هو صنيعة رجال السياسة، وفيه رُسم لرجال الدين دوراً يخدمون فيه من صنعهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيليون يتظاهرون أمام منزل بيني غانتس لإتمام صفقة تبادل ا


.. معاناة النازحين في رفح تستمر وسط استمرار القصف على المنطقة




.. الصحفيون الفلسطينيون في غزة يحصلون على جائزة اليونسكو العالم


.. أوروبا : ما الخط الفاصل بين تمجيد الإرهاب و حرية التعبير و ا




.. الأمم المتحدة: دمار غزة لم يسبق له مثيل منذ الحرب العالمية ا