الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عقيدة العصمة بين النص والأفتراض ج 5

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2023 / 7 / 24
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


العصمة عند أهل الكتاب
لعل المسلمون هم وحدهم من يؤمن بعصمة الأنبياء والرسل قولا وفعلا، وهم وحدهم من يؤمن أن من شروط النبوة والرسالة هي طهارة النفس المانعة من أن يتلوث السلوك بما يتنافى مع منزلتهم عند الله وأمام الناس وفي صدق أنفسهم، فعند الرجوع لأسفار اليهود والوصايا العشرة والتفسيرات والأدب الديني اليهودي بأعتباره المنبع الأساسي أيضا لعقيدة النصارى، نجد أنه بالرغم من أنحيازهم الشديد لأنبيائهم لكنهم لا يتورعون أبدا في وصفهم ونسبة كل الأفعال السيئة لهم، أما مباشرة أو من خلال أسلافهم بما يعني عدم طهارتهم المعنوية مسبقا.
ففي التوراة نجد أيضا أن النبوة موهبة خاصة يهبها الرب لمن يشاء من عباده، وبمقابلها أدعياء وكَذَبة يخرج من أفواههم كلام كامن في النفس، أو أوهام موجودة في الذهن، بينما يجري على لسان النبي ما أنزله الله تعالى من وحي، وهذا المفهوم للنبوة واحد عند كل أتباع الرسالات السماوية قبل أن يجري التحريف والتزوير والوضع والكذب على الأنبياء والدس في الرسالات، فهي بالأصل كما يفهمها الربانيون من اليهود والنصارى مثلا هي الكمال المطلق للنفس، وتحررها التام من كل نزعة من نزاعات الهول، والغرور، والطيش، والامتناع من اقتراف أيّ جريمة، أو ذنب أكان على سبيل العمد أم السهو، وبالتالي هي موهبة إلهية يتفضل بها الله على عباده بعد توفر الأرضية لإفاضتها عليهم، وأنها غير قابلة للتحصيل والكسب.
ولكن عندما نعود لكتبهم التي نعتقد جازمين بناء على إخبار القرأن الكريم عنها وعن تحريفها وتبديل القول، سنفاجأ بكثيرة أخبار الزنا عند الأنبياء أو أصولهم وخاصة ممن كانوا من سلالة يعقوب أو من الأسباط خاصة في كتاب التوراة، وفي الأسفار الخمسة، وأسفار موسى والعهد القديم (أسفار التاريخ، والأنبياء، والكتابات بما فيها أسفار الحكمة) مليئة بحكايات زنا المحارم خصوصا مع الأنبياء بدأ من إبراهيم ع الذي تزوج أخته ساره وأنتهاء بالطعن بزنا الصديقة مريم العذراء، وقد حرص كتّاب التوراة وناقليها على رسم الصور بصور متناقضة تثير الدهشة التي أشار لها نص قرآني سابق حينما أستشكل عليهم أن يأمروا الناس بالبر وينسوا أنفسهم، فمن جهة هذه الكتابات والنصوص الحكمية تحرّم الزنا، وتنذر بالعقوبات بحق مرتكبيها، ومن جهة أخرى تسند هذا العمل إلى الأنبياء الذين اصطفاهم الله تعالى، ولم يكترثوا لمكانتهم ودورهم الوظيفي في حمل البلاغ الإلهي، على الرغم من معرفتهم أن الله جعل في الأمم أنبياء من أخوتهم يتكلمون باسمه "وسأقيم لهم نبي من وسط إخوتهم… وأجعل كلامي في فمه فيخاطبهم بكل ما آمره به” .
ولكن في المقابل يستغرب القارئ لما كتبه كُتّاب العهد القديم بحق الأنبياء الذين اصطفاهم الله تعالى، فكثيرة هي السطور في العهد القديم التي تصف الأنبياء بأوصاف مركبة مثيرة للاشمئزاز، وعلى رأس هذه الصفات موضوع الزنا، والأمر المستغرب هو أن ما نسبوه إلى الأنبياء أنه يتناقض مع ما دوّنه كتاب العهد القديم حول سير الأنبياء، فإنه يناقض العصمة، ويشيع الفاحشة، وينشر الفساد، ولكي لا يتهمنا أحد بأننا نتجنى على الحقيقية ونقول ما لا هو وارد في الكتب، سأنقل نصا معتمدا عن رأوبين ويهوذا، جاء في التوراة "وحدث إذا كان إسرائيل ساكنًا في تلك الأرض أنّ رأوبين ذهب فضاجع بِلْهَة، سُرّية أبيه، فسمح بذلك إسرائيل” سفر التكوين، 35: 22، لم يعلن إسرائيل (يعقوب) غضبه على هذه الفعلة القذرة، بل سكت عليها وبارك ابنه البكر رأوبين.
ليس فقط قبول الدناءة والزنا بالمحارم بل أصافت التوراة ما يتناقض مع أخلاقيات الإنسان البسيط وربما حتى اللا متدين ولا مؤمن، فالسكوت كما يقال علامة رضا، وفوق الرضا التوراة تقول أن إسرائيل بارك هذا الزنا وهو نبي ابن نبي من سلالة أنبياء، هذه النموذج من عشرات النماذج التي تطفح بها كتبهم من عهدهم القديم للجديد للتلمود لكل ما خطت أياديهم من تحريف وإهانة للرسل والأنبياء، لذا فأنا أرى أن موضوع العصمة عند المسلمين مرتبط أساسا بالدفاع عن الأنبياء في مقابل المس والإهانة التي مارسها اليهود ضدهم، وقد تكون ردة فعل مسبقة ضد هذا المنهج وليس إيمانا مصدره الأعتقاد الصحيح الكامل.
والحقيقة أن أي إنسان عاقل سيتبادر إلى ذهنه سؤال جوهري ومهم بخصوص أخلاقيات الأنبياء والرسل كما ترد في التوراة والإنجيل، وهو ما دام الأنبياء يفعلون هذه المحرمات ويتصفون بهذه الدونية الحيوانية البهيمية، فلماذا لا يكون ذلك مباحًا بين البشر بأعتبار أنهم ينقلون عن الله ما يؤمنون به ويعملون بما يؤمنون؟ فمن جهة التوراة تحرم الزنا والفواحش، وتضع عقوبات صارمة عليها (القتل والرجم)، ومن جهة أخرى تصف الأنبياء أنّهم زناة، بل ويمارسون الزنا مع بناتهم وأخواتهم وقريباتهم… فأمّا الأمر الأول، وهو تحريم الزنا، فهو من أوامر التوراة الحقة، التي جاء بها موسى. فقد ورد النهي عن الزنا في باب الوصايا العشر وبالتحديد، الوصية الثالثة "لا تزنِ".
كررت التوراة ما جاء في الوصايا العشرة نصها ومضمونها "لا تزنِ” في سفر تثنية الإشتراع 5: 18، وفي سفر آخر يميل إلى التخصيص فيقول مدونو الكتاب "لا تدنس ابنتك بجعلها زانية" سفر الأحبار، 19: 29.، ويكون أكثر وضوحًا وأشد تخصيصًا من أسفار أخرى، فيقول الكُتّاب "لا يقترب إنسان إلى قريب جسده، ليكشف العورة، عورة أبيك، وعورة أمك لا تكشف عورة امرأة أبيك، لا تكشف عورة بنت أبيك، أو بنت أمك، لا تكشف عورة أخت أبيك… لا تكشف… لا تأخذ امرأة على أختها…" سفر الأحبار، 18: 6 – 24.، ثم يكررون هذه الشريعة من الأحكام الواجب تنفيذها بحق من يمارس محرماتها فيقول الكتاب "إذا زنى رجل مع امرأة قريبة، فإنه يقتل الزاني والزانية، وإذا اضطجع رجل مع امرأة أبيه، فإنهما يقتلان، وإذا اضطجع رجل مع كنته، فإنهما يقتلان فقد فعلا فاحشة… وإذا أخذ رجل أخته بنت أبيه، أو بنت أمه، ورأى عورتها، ورأت هي عورته، فإنهما يقطعان أمام أعين بني شعبهما" سفر الأحبار، 20: 10.. وإذا وجد رجل مضطجعًا مع امرأة زوجة بعل، يقتل الاثنان.
هذه العقوبات الصارمة والقاسية جدا على من يرتكب الزنا تحديدا زنا المحارم لماذا لا تطبق على أنبياء بني إسرائيل إذا كانوا ممن تنطبق عليهم شريعة موسى وقبلها شريعة إبراهيم التي يزعم بنو إسرائيل أحقيتهم وحدهم بها بالنسبة لمن سبق موسى ورسالته زمنيا، والأدهى من كل ذلك أن هؤلاء الأنبياء ليس فقط لم يعاقبوا الزناة ولم يطبقوا عليهم الوصايا العشر، بل باركو هذا الفعل المشين بعد أن رضوا به، ولأنهم كانوا كذلك وهو محلل عليهم ومبارك في شريعتهم لماذا يمنعوا الناس منه ويعاقبوهم عليه، مادام مباركا ومقبولا وفي رضا من الله، هل هذا من باب تؤمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم الواردة في القرأن الكريم.
إن عقيدة اليهود في النبوة عقيدة فاسدة لأضطراب مفهوم النبوة عندهم أصلا كما أُستنتج من النصوص، وما أوردوه من تفاهات وخطايا أتى بها الأنبياء والرسل حين سردوا الأحداث المتعلقة بهم، يتناقص تماما مع تعريفهم "النبوة أنها اصطفاء إلهي"، وأن النبي ينطق بما يوحي إليه به، ولا يقول كلامًا من ذاته وأفكاره الخاصة كما هي عند المسلمين، والحقيقة إن الآباء اليهود الأولين لم يجهلوا الوصايا والفرائض التي وضعها موسى، ولكنها لم تفعل فيهم ولم تؤثر بهم، ولم تكن عقولهم مهيّأة لتقبّلها بحقيقتها الكاملة، لأنها حاولت أن تضع حدًا لعادات وتقاليد عميقة الجذور في حياتهم المعتادة قبل أن تأتيهم الرسالات والأنبياء أو بتأثير المحيط الذي عاشوا فيه، أو لوجود أفكار متقصدة هدفها أن تضليل الناس على علم من بعد ما جاءهم الهدى بغيا بينهم كما يقول القرأن الكريم، وقد ظلوا يمارسون المحرمات من شتى أنواع الزنى والكذب وحب الماء بشكل مفرط ومقدس حتى فوق العقيدة، وقد حاول مدونوا كتّاب العهد القديم أن يؤكدوها في نفوس أتباعهم بشتى الوسائل، وتكرار صياغتها بأساليب متعدّدة، من نهي، إلى أمرٍ، إلى تقرير مقرون باللعن، وأحيانًا من الأسلوب المبتذل ليخرج بقالب من الرضى، أو الاعتذار… ورسموا أبشع الصور وألصقوها بالأنبياء وأبنائهم.
فالزنا في التوراة لم يكن حدثا أستثنائيا عند الأنبياء والرسل، بل هو وراثة من أول الخلق يوم لم يكن في الوجود من بشر إلا آدم وزوجه حواء حسب تعبير التوراة في سفر التكوين، فقد زنى آدم كع بنات الجن وزنت حواء مع أبناء الجن وهؤلاء هم الناس أبناء الناس، أما ما نتج من علاقة جنسية بين آدم وحواء هؤلاء هم أبناء الله وهو أسلاف اليود بني إسرائيل، والحكاية كما وردت عندهم تبدأ (منذ أن خلق الله تعالى الخلق الأول من البشر وتهمة الزنى ملازمة للخالق والمخلوق الأول، وأصفيائه في ما بعد من الأنبياء، وهذه الصفة حتمية استنادًا لما ورد في التوراة والعهد القديم)، فيرى اليهود (أن آدم كان له عشيقة من الجن اسمها "ليليت" كان يأتيها لمدة مئة وثلاثين عامًا، وأنجب منها أولادًا كثر، وفي المقابل كان لحواء عشاقًا من الجن يأتونها وولدت منهم أولادًا كثر)، وتسمي التوراة أبناء آدم وحواء من زواجهما أبناء لله لأن الله خلق آدم على صورته أي صورة الله حسب زعمهم، وأن روح آدم جزء من روح الله، فلهذا فهو ابنه على الحقيقة لا على المجاز فقط… "قال الله لنصنع الإنسان على صورتنا كمِثالنا" سفر التكوين، 1: 26.، وفي مكان آخر قالت التوراة "وقال الرب الألة هوذا الإنسان قد صار كواحد منا" سفر التكوين، 3: 23.
إذا قصة الزنا لم تقف عند هذين المخلوقين، بل أخذت منحى الاستمرار، فكانت مع أبناء آدم نفسه، وبنات حواء أيضًا، وذلك أنه لما كثر أبناء آدم الذين تسميهم التوراة “أبناء الله” رأوا أن بنات الناس حسنات فاتخذوا منهنّ زوجات، والمقصود ببنات الناس… بنات حواء من زناها مع الشياطين، وبنات آدم من زناه بعشيقته “ليليت”، من هنا أنتقلت لعنة الزنا للأنبياء والرسل عن طريق أبناء وبنات الناس، فالملامة لا تقع عليهم أي على أبناء الله ولكنها كلعنة أصابتهم لأن بنات وأبناء الناس كانوا أولاد زنا، وبهذا المنطق التبريري المنحرف جعلوا علة الزنا كما يزعم اليهود أنها تسلسلت من نسل شيت بن آدم (وهو نبي أيضًا)، وشيت عندهم من أبناء آدم وحواء من زواج صحيح، أما بقية البشر فهم من نتاج الاتصال أبناء الناس ببنات الناس أي البشر ما عدا اليهود من بنات وأبناء الزنا.
الملخص من كل ذلك ونحن نركز على جانب واحد من الصفات المذمومة القبيحة التي وصغ بها الأنبياء والرسل، وبتقدير عظمة هذا الفعل في الإسلام الذي وصفه (إنه كان فاحشة وساء سبيلا)، نجد أن الإقرار بكون النبوة والعصمة موهبة من الله أصطفاها أو أقامهم كاملين حسب تعبير التوراة مع ما يؤمنون به مكتوبا عندهم، لا نجد تفسيرا مقنعا ولا منطقا مقبولا يجمع بين أمرين بينهما تناقض محال الجمع والأستجماع بينهما، ليس فقط من الناحية الشرعية ولكن أيضا من الناحية الأخلاقية التي عليها البشر الأسوياء.
وخير دليل على ذلك ما أورده العهد القديم، ونبّه إليه، إذ جاء فيه ما يلي: “بل كن كاملًا لدى الرب إلهك، لأنّ تلك الأمم التي أنت طاردها تصغي إلى المنجمين والعرافين، وأما أنت فلم يُجِز لك الرب إلهك مثل ذلك، يقيم لك الرب إلهك نبيًا مثلي من وسطك، من إخوتك، فله تسمعون، وفقًا لكل ما سألته الرب إلهك في حوريب، في يوم الاجتماع، قائلًا: لن أواصل سماع صوت الرب إلهي، ولن أرى بعد الآن هذه النار العظيمة، لئلا أموت فقال لي الرب: قد أحسنوا في ما قالوا سأقيم لهم نبيًا من سبط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيخاطبهم بكل ما آمره به، وأي رجل لم يسمع كلامي الذي يتكلم به باسمي، فإني أحاسبه عليه، ولكن أي نبي اعتدّ بنفسه فقال باسمي قولًا لم آمره أن يقوله، أو تكلم باسم آلهة أخرى، فليُقتل ذلك النبي”.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 155-Al-Baqarah


.. 156-Al-Baqarah




.. 157-Al-Baqarah


.. 158-Al-Baqarah




.. 159-Al-Baqarah