الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عقيدة العصمة بين النص والأفتراض ج 6

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2023 / 7 / 24
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


العصمة من منظور المنطق
من أكثر المبررات التي يسوقها دعاة العصمة والمرجوين لفكرتها أن المنطق العقلي ولغياب النص النقلي يوجب على العقل الإنساني أن يؤمن بهذه القضية على أعتبارا مهمة يسوقنها كمبررات، وينغمسوا بهذا المبررات والواهية ويبنون عمارة الفكرة العظيمة على أساس واهي، لا يصمد أمام المنطق العقلي الجدلي المقابل، فمثلا يقول أحد عتاة المفكرين المناصرين لهذه القضية والتي يرون فيها إحكاما منطقيا وعقلانيا لا يقبل النقض، يقول السيد مرتضى الشيرازي في احد تقريراته في موضوع العصمة وقد ساق دليله العقلي المركب كما يقول، ليثبت أن نبيا بلا عصمة لا يمكن أن يكون أمرا واقعيا ولا منطقيا عقلانيا (وخلاصة ذلك انّ الهدف من بعثة الأنبياء ـ الذي هو هداية الناس ودعوتهم إلى الدين ـ لا يتحقّق إلاّ في ظلّ «كسب اعتماد الناس وثقتهم بالداعي)، فهو يرى أن الهدف يبرر الغاية من العصمة وليس ترتيب الله الذي كما يقول غيره من فقهاء الشيعة لطف إلهي وتكريم تطهيري سابق لعلم الله السابق بهم، هذا الزعم بالبرغماتية هو المنطق الكامل عند الشيرازي وما يمثله من خط فكري، فيمضي وبثول (وإنّ هذا الهدف والمسلك العام لا يتحقّق إلاّ من خلال نزاهة وعصمة المربّي، وعلى هذا الأساس لابدّ أن يكون الأنبياء ـ وبحكم العقل ـ معصومين من الذنب والعصيان ليتسنّى لهم كسب الناس وانضمامهم إلى الدعوة والسير في طريق الهداية).
ويمكن أن يتصوّر أنّه يكفي في جلب ثقة الناس وقبولهم للدعوة نزاهة النبي عن اقتراف الذنوب وارتكاب المعاصي علانية وعلى مرأى ومسمع من الناس، وهذا لا ينافي كونه عاصياً ومقترفاً للذنوب في الخلوات وفي الخفاء، وهذا القدر من النزاهة كاف في جلب الثقة عند هؤلاء، هنا يريد هذا المتكلم أن يطرح علينا قضيتين ، الأولى تتعلق بمعنى النزاهة المؤدية للعصمة، والنقطة الأخرى في طبيعة العصمة نفسها وفهمنا لها على أنها مانع نفسي، ونبدأ من النقطة الثانية التي يطرحها هذا القول وهو معنى العصمة من حيث هي قوة مانعة نفسية في الدرجة الأولى قبل أن تكون شرطا للنزاهة.
فالعصمة من وجهة نظر منطقية عقلية بأعتبارها ملكة فهي أما تكون مطبوعة أو مصنوعة في الذات البشرية، أي أما أن تكون طبيعية تلقائية أو تكون كسبية تحصيلية، فإذا كانت من الباب الأول أي طبيعية فهذه الملكة وما ينتج عنها لا تكون محل أمتياز لمستعملها أو مستخدمها لأنها مفروضة عليه، السمع كحاسة وملكة طبيعية عند الكائن الحي، فعندما يستخدمها بالشكل الذي وضعت من أجله وظيفيا لا مثاب ولا ثواب فيها لأنها غير معدة للبلاء، ولكن بمكن أن يكون عليها عقاب ولوم وعتاب عندما تكون خارج وظيفتها، عندما يسمع الكائن الحي ولا ينفعل بما هو واجب مع السمع، أو يستغلها لغير الهدف الذي وضعت من أجله كالنميمة والتجسس بغير حق والخ من الأخلاقيات المذمومة عن طريق السمع، فالعصمة عندما تكون طبيعية كما هي عند الملائكة مثلا أو في الكتاب لا تسجل لهم فيها مثاب ولا يحصل العامل بها على أجر، لأنه أي الكائن أجرى أمرا طبيعيا دون تكلف أو تكلفة أو مشقة.
وأما أن تكون مكتسبة وهذا الفرض الطبيعي الثاني الذي لا ثالث معه، وهي تبدأ بشكلها الأصغري وتكبر وتنمو بالرعاية والعلم والتأدب وصولا إلى ما يسمى الكمالات البشرية التي هي نوع من الأرتقاء الأخلاقي البشري المعتمد على شدة ومراقبة ضبط السلوك، هذا النوع من الكمالات لا يجري بسهولة ولا يتكون بالبساطة بل هو مضمون الجهاد الأكبر الذي دعا له الدين، ومنه حماية الإنسان من الشرك كما قي النص التالي (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) لقمان (15)، فهذا النوع من الجهاد مع وسوسة النفس ودور الشر والشيطان وكون الإنسان ضعيفا وجزوعا ومحل بلاء كما قال الله تعالى (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) الملك (2)، هذا البلاء والأمتحان مع ترقق الطبيعة الشرية وما فيها من إلهام للفجور التي وصل فيها الإنسان بجهادة إلى مرحلة الكمالات الشرية العليا المؤهلة لقيادة مجتمع الإنسان بالنزاهة العالية، هنا قد وصل مرحلة العصمة الصنعية الكسبية التي فيها ومنع وبها كل الثواب والجزاء الأوفى.
إذا في عملية أصطناع العصمة والترقي الكمالي في السلوك هو محور النص الذي يبشر في الأحسنية عند الله، فالرسول أو النبي أو المعلم الداعي كما يقول السيد مرتضى الشيرازي عقلا ومنطقا يجب أن يكون متحصلا مع نزاهته على الأحسنية، فبدون الأحسنية تلك في العمل لا فيمة للنزاهة المفترضة، مثال حسي وعملي عندما تريد أن تسافر وتركب طائرة مثلا لا ينفع أن يكون الطيار على معرفة كاملة بالملاحة وقوانين الطيران ومستلزمات الإعداد نظريا فقط، بل لا بد أن تكون هناك تجربة وأختبار وبرهان وخبرة متراكمة واحسنيه عمن سواه متأتية من قدرته على التعامل بالنظري على أرض الواقع بالعمل وبالأخص في الأحسن عملا، هنا النزاهة المطلوبة للتبليغ لا بد أن تكون عبرة معاناة ومقاساة وجهاد روحي ونفسي وعقلي سلوكي مستمر يجعل من الرسول والنبي مثال وقدوة لأنه جسد المثل الطيبة ومارس العمل الأحسن والأصلح على أرض الواقع.
وهذا تاريخيا قد حصل مع النبي منذ نشأته يتيما وقد رباه الله بمعنى هيأ له الفرص الممكنة لينشأ صادقا أمينا لا تشوب سلوكه شائبة، وهذا يفسر عجز قريش أن تطعن به مرة بكون ساحر ومره بكون كذاب أشر، لأن الواق العملي يكذب ذاك وليس لطف الله أو الملكة النفسية الي يقولون أن الله زرعها فيه هي التي أفشلت هذه التهم، ثم هناك السؤال الأكبر كيف عرف الناس قيم وأخلاق محمد المزروعة والموهبة له من دون تجربة ولا نضال ولا جهاد نفسي وعملي؟.
هناك قاعدة سلوكية علمية يعتمدها ويقرها علم النفس كما تقرها المعرفة عموما، وهي أن الإنسان الإيجابي العصامي هو صنيع تجربته وصنيع خبرته في الحياة، فمن لا يخطئ لا يعرف الصح، ومن لا يفشل مرة لا يتذوق حلاوة النجاح والفوز، ومن لا تختبره الدنيا يكون مهزوزا أمام أبسط القضايا والمشاكل، بينما الذي يكون أصلب عودا وأقوى في ممارسة القيادة والنجاة هو الذي يتعظ بتجربته وتجربة الأخرين ويصنع منها سلما للنجاح، وقد سئل حكيم يوما كيف نلت هذه الدرجة من الحكمة وما هو سر حكمتك؟ قال راقبت أخطاء غيري فتجنبت الوقوع بها، وحاولت أن أفهم لماذا وقع المخطئ بخطأ حتى لا أمنح الظروف فرصة أن تضعني في نفس المكان، هذه هي الحكمة وهذا هو سر الحكماء أن عملوا وأرتقوا بتجربتهم من الضعف للقوة، وليس لأن الله زرع فيها العصمة والنزاهة حتى يقودوا غيرهم، هؤلاء الذين يزعمون أنهم كذلك لا يمكن أن يقودوا أنفسهم بنجاح، لافتقادهم عنصر الثنائية الضدية التي تتصارع في داخلهم من أجل الأحسن عملا.
إذا مع كل ذلك نسأل فطاحلة التنظير عن المنطق العقلي الذي يستوجب شرط العصمة الموهوبة أو التكوينية للنبي قبل البعث والإرسال، خاصة وأننا أمام تكليف خاص وعام وأصطفائي كما يقول الفقهاء، فالنبوة تكليف إلهي وليس تشريفا بلا مسئولية، والدليل أسلوب الوعد والوعيد الذي خاطب الله به رسوله في آية الإكمال "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) المائدة (67)، فلو كانت الرسالة غير تكليف وجوبي وفقا لما يجعلها محمية كما يريدها الله وأنها تشريف للنبي، ما خاطب الله رسوله بهذا التحديد التنبيهي بضورة الخضوع التام له.
خلاصة ما نقوله إن إدعاء العقل والمنطق الذي يستوجب عصمة النبي يتعارض تماما مع حقيقة النبوة ومصاديق معانيها ومضمون هدفها عند الله وعند الناس، فالله الذي بعث في كل أمة نبيا من أنفسهم بمعنى من سنخ طبيعتهم، وكلفه وكلفهم أن يكون القدوة الحسنة في الإيمان والعمل والإصلاح، هو الذي قال قبل ذلك (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) وهو الذي قال (ولا تزر وازرة وزر أخرى)، وهو الذي جزم يقينا للناس ومنهم الأنبياء والرسل أن طريق الإصلاح يبدأ من النفس ( لا يغير الله بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، فهذا الله الذي وضع هذه القوانين الإصلاحية النفسية التي تصقل النفس وتهذبها في سبيل صحة الأيمان والخير والأحسنية، يأت فيعفي الرسل والأنبياء من هذه القوانين، بناء على قول قائل بلا حجة ولا برهان سوى أنه أتخذ من عقله قانونا، ومن هوى نفسه تشريعا بدلا من إرادة الله وسنته في خلقه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 155-Al-Baqarah


.. 156-Al-Baqarah




.. 157-Al-Baqarah


.. 158-Al-Baqarah




.. 159-Al-Baqarah