الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


استمروا في العزف

فاطمة ناعوت

2023 / 7 / 26
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


في رواية "دون كازمورو" للبرازيلي "ماشادو دي أسيس"، نقرأ ما يلي:  "سيدي، قالت دودةٌ طويلة سمينة، نحن لا نفهمُ شيئًا على الإطلاق من النصوص التي نقضمُ أوراقَها، كما أننا لا نختارُ النصوصَ التي نقضمُها، كما إننا لا نحبُّ أو نكره ما نقضمُ. نحن نقضمُ وحسب". ربما هذا هو أدقُّ وصف لكثيرٍ من الأمور التي تحدث كل لحظة من لحظات حياتنا دون أن نفهم كُنهها. فنحن نتنفسُ طوالَ الوقت، دون أن نفهم ماذا يحدث للهواء الذي يدخل أنوفنا ويخرج منها بعد لحظة على غير ما دخل! ماذا صنع داخل أجسادنا خلال تلك الثواني؟ كيف دخل رئتينا ثم تسلّل إلى شرايينا واخترق رحلة الدم الدؤوبة من المخ إلى القدمين صعودًا وهبوطًا دون توقف إلا مع لحظة النهاية؟! هل نعلم كيف يخفقُ القلبُ دون كلل حتى ونحن نيامٌ ولا يكفُّ عن الخفق إلا ليقول: سلامًا أيها العالم؟! تلك عبقرية الخالق في خلقه، ودليلٌ على أن المعرفة ليست شرطًا لحدوث عظائم الأمور. ومنها الحب، ذلك اللغز المدهش.
يقول "بول إيلوار" في إحدى قصائده واصفًا حبيبتَه: "إنها تقفُ على جفوني/ شَعرُها في شَعري/ لها لونُ عيني/ جسدُها يداي/ تغمرُها ظلالي/ مثل حجرٍ في مواجهة السماء/ لا تُغمضُ عينيها/ ولا تتركني أنامُ/ أحلامُها في وهج النهار/ تجعلُ الشموسَ تتبخرُ/ وتجعلني أنا/ أضحكُ/ أبكي وأضحكُ/ تجعلني أتكلّمُ/ حين لا يكون هناك ما يُقال." ويشدو "صباح فخري” من الفولكلور وموسيقاه: "عيشةٌ لا حبَّ فيها، جدولٌ لا ماءَ فيه!". أما طاغور فقال: "الفنُّ مثلَ الحبِّ، كلاهما لا يُفسّر."
هذا اللغزُ الأعظم: "الحبّ"، ما خطبُه؟ ما حكايته؟ كيف يحدث؟ ومتى؟ ولمَ؟ وعلامَ يتمُّ الاختيار، إن كان ثمة اختيار؟ هل الحبُّ بالفعل أعمى كما قال "شكسبير" في مسرحية "تاجر البندقية" على لسان "جيسيكا" التي ارتدت ملابس ولد لكي تلتقي حبيبها "لورنزو”: "أنا هنا/ اِمسكْ هذه القبعة./ كم أنا سعيدةٌ إنه الليل/ وإنكَ لا تراني/ فأنا أشعرُ بالخجل من التحوّل الذي اعتراني/ لكنَّ الحبَّ أعمى/ والعشاقَ عميان/ ليس بوسعهم أن يشاهدوا تلك الحماقاتِ التي يرتكبونها هم أنفسُهم!/ لأن المحبين لو كانوا يرون/ لخجل كيوبيد نفسُه/ حين يراني وقد تحوّلت إلى ولد!" وفي مسرحية "حلم منتصف ليلة صيف" يقول على لسان أحد أبطاله: "الحبُّ الحقيقيّ، لا يمكن أن تجري أمورُه في سلاسة."
هل حقا ما يقوله شكسبير؟ هل الحبُّ اليسيرُ السهلُ الذي "لا غبار عليه" هو حبٌّ زائفٌ عابرٌ غيرُ حقيقي؟ ألابد أن يكون الحبُّ عسيرًا موجعًا لكي يبرهنَ على حقيقيته؟ ربما معه حق. الحبُّ الناعمُ اليسرُ الرَخْص هو شيء يشبه الموات. مثله مثل القصيدة السهلة التي تُكتب في لحظة، وتُقرأ في لحظة، وتُنسى وتموت في لحظة. الحبُّ يجب أن يكون: "غُبارٌ عليه" وليس كما يُقال: “لا غبار عليه”. الحبُّ الحقيقيُّ شائكٌ. مشتعلٌ. مُضنٍ. عسرٌ. قاسٍ. شرسٌ. مُعذِّبٌ ومُعذَّب. وإلا ماذا سيكتبُ الشعراءُ وعمَّ يكتبون؟ وعلام يتعذب الصَّبُّ حين تفضحه عيونُه؟ وفيم ينتحرُ المنتحرون؟ عسرًا يكون الحبُّ؛ وإلا ما وصلنا خبرٌ عن: روميو جولييت، وجميلُ بثينة، وقيسُ ليلى؛ وما كنا قرأنا عذابه إذ يقول: "أُحِبُّـكِ يَا لَيلَـى مَحَبَّـةَ عَاشِـقٍ/ عَلَيهِ جِميـعُ المُصْعَبَـاتِ تَهـونُ/ أُحِبُّـكِ حُـبًّا لَوْ تُحِبِّيـنَ مِثلَـهُ/ أَصَابَكِ مِنْ وَجْـدٍ عَلَـيَّ جُنُـونُ/ أَلاَ فَارْحَمِي صَـبًّا كَئِيبـًا مُعَذَّبـًا/ حَرِيقُ الحَشَا مُضْنَى الفؤادِ حَزِيـنُ". ولا ما حكاه "جميلُ بثينة" الماكر عن جهاده الخاص: "يقولون: جاهدْ يا جميلُ بغزوةٍ/ وأيُّ جهادٍ غيرهن أريدُ!/ لكلِّ حديثٍ عندهن بشاشةٌ/ وكلُّ قتيلٍ عندهنَّ شهيد". ثم هذا ما شدتْ به "صوتُ مصرَ" الساحر “أم كلثوم” من كلمات الأمير "عبد الله الفيصل": "يا فاتنًا لولاه ما هزَّني وجدٌ/ ولا طعمُ الهوى طابَ لي/ هذا فؤادي فامتلكْ أمرَهُ/ فاظلمْه إنْ أحببتَ، أو فاعدلِ".
لكن كل ما سبق لم يجب بعد عن السؤال: ما هو الحبُّ؟ في "أنت عمري"، أحد الأفلام المصرية المعاصرة، يقول البطلُ للبطلة بعدما أخبرته أنها تحبُّ البحرَ جدًّا: "تعرفي البحر؟" قالت: “ايوا وبحبه أوي!” قال لها: "كلام فارغ، جلوسك قدام البحر لساعات وتأملك جمال موجه لا يعني معرفتك به، لازم تغوصي فيه وتشوفي كل عوالمه اللانهائية قبل ما تقولي إنك تعرفيه. كمان الحب، كل الناس والأغاني تتكلم عن الحب كل يوم، لكن كم واحد بالفعل غاص فيه وعرفه؟" فتطرق البطلةُ، ولا ترد.
وحتى أُنهي كلماتي بشيء عذب، أعودُ إلى "شكسبير" في مسرحية "الليلة الثانية عشر" حيث يقول دوق "أورزينو”: "إذا كانت الموسيقى غذاءَ الحبِّ، فاستمروا في العزف. أتخموني بها حتى تبلغَ أقصاها فتتضاءل الشهوةُ وتفنى.”

***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - كلمات درر ياسيدة الحب الانساني الجميل ياسيدةالكلمة
الدكتورصادق الكحلاوي- ( 2023 / 7 / 26 - 20:06 )
والفكرة الرائعه - شكرا على هذه المقالة التحفه-تحياتي

اخر الافلام

.. الأقباط يفطرون على الخل اليوم ..صلوات الجمعة العظيمة من الكا


.. إليكم مواعيد القداسات في أسبوع الآلام للمسيحيين الذين يتّبعو




.. مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي: عدد اليهود في العالم اليوم


.. أسامة بن لادن.. 13 عاما على مقتله




.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط