الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدين كظاهرة اجتماعية في الزمن الجاهلي -

عيسى بن ضيف الله حداد

2023 / 7 / 27
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الدين كظاهرة اجتماعية
في الزمن الجاهلي "
مدخل / في وقفة مع حسين مروة
يستهل حسين مروة رؤيته في الظاهرات الدينية في العصر الجاهلي، في إشارة موضوعية يقول فيها: بأن الدين، بمختلف أشكاله وعقائده وتعاليمه في مختلف الأزمنة، لا يأتي الناس مفاجأة بصورة منعزلة ومنقطعة عن حياتهم الأرضية ولا عن حركة تطورهم التاريخي، اجتماعيا ًواقتصادياً وسياسياً وفكرياً، وإن الدين لا يأتي الناس كذلك وفقاً لرغبات ذاتية على نحو ما أشار به هيغل في محاضراته عن تاريخ الفلسفة أثناء كلامه عن العلاقة بين الدين والفلسفة، ردا على القائلين بأن الدين شيء ناشئ عن الاستبداد والغضب، أو عن رغبة الكهان أنفسهم في خداع الشعب لخدمة أهدافهم الأنانية. إن معارضة لمثل هذا الرأي في نشأة الدين هي معارضة صحيحة، لأنه بالفعل لا يمن القول بأن الدين ينشأ عن رغبة ذاتية لهذا الفريق من الناس أو ذاك، سواء كانوا كهاناً أو غير كهان. بل الواقع أن للدين جذوره الاجتماعية الخاصة، كما أن له جذوره المعرفية لما هو واقع فعلاً في تاريخ الفكر الإنساني وتاريخ الدين، من وجود الصلات المتبادلة بين الإيمان الديني والمعرفة البشرية.. - ص ٣٠٢[ يقول د عمر فروخ " والنبوة في الإسلام ليست نتيجة خروج آدم من الجنة، بل هي ظاهرة اجتماعية إذ إن الأمم تحتاج بين عصر وعصر إلى من يهديها ويدلها على السراط المستقيم ].
ويستمر المفكر عروة: إن الفئات المعادية للتقدم يهمها ترسيخ كون الدين يظهر منفصلاً عن جذوره الاجتماعية وفي انقطاع مطلق عن قضية الصراع الطبقي بالأخص [أو لنقل الصراع المجتمعي]. وفي هذا السياق الأيديولوجي نفسه اجتهد كثير من مؤرخي الإسلام، قديما وحديثاً في أن يجعلوا – أولاً -، من الإسلام بدئا لتاريخ جديد كلياً في حياة العرب منقطاً تاماً من تاريخ حياتهم قبل الإسلام، أي أن جاء كل شيء جاء به الإسلام، من تعاليم وتقاليد ومفاهيم وشرائع، لا صلة له بشيء من ماضي العرب السابق للإسلام، البعيد منه والقريب، ثم اجتهدوا في أن يجعلوا – ثانياَ – تاريخ الفكر العربي مبتدئاً بتاريخ ظهور الإسلام، بحيث يبدوا وكأن العرب لم يكن لهم قبل ذلك ما يستحق أن يذكر من تراث فكري أو ثقافي، وكأن الإسلام قد خلق العرب من نقطة الصفر. إن هذه النظرة، إلى الإسلام من جهة، وإلى تاريخ العرب قبل الإسلام من جهة ثانية، تخالف الواقع أولاً، وتعادي العلم ثانياً، وتعارض نصوص الإسلام وتعاليمه وتشريعاته ثالثاً. أما مخالفتها للواقع فمن حيث إن المصادر الكثيرة الموثوق بها تاريخياً وعلميا تثبت أن تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده تاريخ واحد متصل، وإن كل شيء مما ظهر على السطح أو في الأعماق ضمن المجتمع العربي منذ ظهور الإسلام إنما هو امتداد تطوري لما كان عليه في عصور الجاهلية، ولا سيما العهد الأخير منها، عهد القرن السادس و أوائل القرن السابع.
[ ولي من الاعتقاد المنطقي القائل، أن الأمر قد بدأ من عهود البوتقة الحضارية الأولى واستمر فيما أتى ولم ينقطع، فالتاريخ يعرف التواصل لا التفاصل ومن الدلالات هو اللغة وتطور سيرها بين تلك المراحل..]
ويقول عروة: واما معاداة هذه النظرة للعلم فمن حيث إن الموضوعات العلمية التي أثبتت تجارب التطور الحضاري صحتها تنفي نفيا قاطعا نشوء ظاهرة الدين في مجتمع ما، وفي عصر ما، ولم ينبثق فجائيا من خارج إطار التاريخ لهذا المجتمع أو هذا العصر، ومن سياق التطور البشري على الأرض ذاتها. إن العلم الاجتماعي المستند إلى مراقبة القوانين الموضوعية الدياليكتيكية لحركة التاريخ البشري يثبت ان كل دين من أديان البشرية أنما ظهر ليحمل شكلاً غير مكتمل من انعكاس العلاقات الاجتماعية في تصورات الناس وأفكارهم في مراحل معينة من التاريخ. ولذا كان من الخطأ كل تفسير لظهور هذا الدين أو ذاك، بأنه حدث منفصل من مجاري الحياة البشرية العينية على الأرض. فالواقع أنه لم يظهر في تاريخ البشرية دين يتجاوز المستوى المتطابق معه من العلاقات الاجتماعية المعينة. لذا نعود لتوكيد القول بأن كل دين ظهر في التاريخ كانت له جذوره الاجتماعية في الجانب الذي ظهر فيه من الأرض، وكانت له بالقدر نفسه جذوره المعرفية المتصلة بالواقع البشري.
وأما النظرة الى الإسلام التي تقدم ذكرها تعارض نصوص الإسلام وتعاليمه نفسها، فمن حيث كون هذه النصوص والتعاليم قد تضمنت كثيراً من صور تاريخ العرب في الجاهلية ومن أعرافه وتقاليده وشرائعه وأقرت يعضها وعدلت بعضها الآخر ونبذت منها ما أصبح يتعارض عن وجوده وبقائه مع ما كان يتمخض به مجتمع الجاهلية نفسه قبل ظهور الإسلام من ولادة علاقات اجتماعية جديدة...
الظاهرات الدينية في مرحلة الجاهلية العربية
من حسين مروة كملخص: كانت الظاهرات الدينية اشد ظاهرات الوعي في الجاهلية، تأثرا بعملية النشاط المادي.
وهي تتمثل بالوثنية بصورتها الأولى، وهي في وعيهم تعكس صورة عالمهم القبلي نفسه، من حيث كونها أولاً تبسيطاً ساذجاً لعلاقة الإنسان بأشياء الطبيعة وظاهراتها ذات التأثير المباشر في حياته اليومية. فأن الوثنية تصور هذه علاقات كعلاقات سيطرة مطلقة قدرية ثابتة ونهائية على الإنسان...[ بيد أنني بالإضافة لتعدد الآلهة، كاستجابة للتعدد القبلي، فالمنبع الأصلي يستمد ذاته من تعدد مظاهر الطبيعة لكونها لغزاً له، ومثل هذه الوثنية ما زال قائما في عصرهم على نطاق واسع..]
ويرى مروة: حين بدأ مجتمع الجاهلية يتمخض قبيل الإسلام بتحولات تؤدي إلى تغيير في تركيبه الاجتماعي وفي علاقاته الاجتماعية نحو الانقسام على أساس جديد يمهد للأساس الطبقي، أخذت الظاهرات الدينية تتأثر بهذا التمخض الاجتماعي، فرأينا الوجهة التوحيدية تبرز في هذه الظاهرات: برزت أولاً في التوحيد اليهودي، حيث وجدت في بعض المناطق قاعدة للديانة اليهودية، - وثانياً في التوحيد بمفهومه المسيحي حيث وجدت، في مناطق أخرى، قاعدته للديانة المسيحية.
ثم ظهرت في نهايات عهد الجاهلية شكل ديني جديد لا يأخذ بمفهوم التوحيد اليهودي ولا المسيحي، بل بالمفهوم الذي سيصبح مفهوم التوحيد الإسلامي، وهذا هو دين الحنفاء. هذا الذي كان التعبير الناضج على صعيد الوعي الديني، عن اتجاه المجتمع العربي الجاهلي نحو الصراع مع نظامه القبلي البدائي التعددي.. ولعل هذا
التحوًل كتقدم في الوعي، أكثر من غيره ..
وأرى، أن هذه المرحلة تواكبت مع تطور التجارة العالمية ومركزية الجزيرة في ظلها حيت تطور الوعي على نطاق نخب الجزيرة العربية، والتفاعل مع المحيط في وعيه مع ذاته..
بعد هذا العرض المكثف، نقف في التدين عند ظواهرها الثلاثية المحتوى، وهي اليهودية أولاً/ ثم المسيحية ثانياً / ثم حركة الأحناف ثالثاً..
وقفة مع اليهودية- يرى مروة مستنداً على جواد علي: أما اليهودية فأن أولى المناطق التي وجدت فيها داخل الجزيرة هي مدينة يثرب وما يجاورها في الحجاز، ثم وفدت من هناك إلى اليمن، فتوطدت بحيث أصبحت في مطلع القرن السادس دين الدولة، وقد لعبت دورا ظاهراً في المنازعة بين الحميريين والأحباش.. [ وكل هذه النقاط مستمدة من جواد علي ]
على ضوء من ذلك: نرى ان مروة قد غالى في جعل قضية التوحيد كظاهرة مسببة لتواجد اليهودية في الجزيرة العربية، من حيث قضية التوحيد اليهودي هي مغايرة البتة، تتعلق بكون يهوه كإله هو لليهود دونما غيرهم، ولم يتوقف قط عن محاربة آلهة الأقوام، فأين هو التوحيد يا ترى ؟؟
وحتى حسين مروة بحد ذاته، قد أشار إلى ذات المسألة بملاحظات تحت السطر في ذات الصفحة/٣٠٧/، حيث قد ذكر/ في الملاحظة الأولى/ ١: ليس لدينا من المصادر ما يحدد زمن اليهودية إلى هذه المنطقة من الجزيرة قبل القرن السادس الميلادي. لكن الذي يمكن معرفته حتى الآن أن هجرة اليهود إلى هناك كان أولاً للتجارة، ثم كان نتيجة الاستيلاء على فلسطين من احدى الإمبراطورتين المتحاربتين خلال القرن السادس: بيزنطة وفارس. / وفي الملاحظة الثانية/٢/ يذكر: هنا نفتقر إلى المصادر المحددة زمن وفود اليهودية إلى جنوب الجزيرة العربية. ولكن سبب وفودها كان نفسه الذي نرجح انه كان سبب دخولها الحجاز. [جواد علي: ج٦ ، ص ٢٤٢٥ ]..
نزاع ديني أم سياسي
في الآتي ينظر مروة لذات المسألة بعين فاحصة ويقول: يصور معظم المؤرخين هذه المنازعة كأنها محض نزاع ديني بين اليهودية والمسيحية، في حين هي بجوهرها- بالرغم من اتخاذها المظهر الديني
– نزاع سياسي بين ملوك الأحباش والحميريين..
[ وكيف ؟]: من الضرورة بمكان سرد مجرى ما جرى لكونه يعكس بدوره مجريات شبيه في مواقع أخرى: كان الحميريون بعد اكتشاف طريق الملاحة البحرية في المحيط الهندي بين الهند وأفريقية، وراحوا يستخدمون هذه الطرق البحرية، منذ ما بعد القرن الأول للميلاد، وقد تطورت هذه التجارة على أيديهم حتى بنوا بعض المدن على سواحل البحر الأحمر استجابة لهذا التطور. كانت هذه المدن الساحلية ممراً للبضائع الثمينة الذاهبة إلى بيزنطة. وفي ذلك الحين كان التأثير البيزنطي ينتشر في الحبشة جنباً إلى جنب مع انتشار المسيحية فيها. فداخل البيزنطيين طموح السيطرة على ذلك الموقع التجاري الاستراتيجي في اليمن. وجرياً على العادة في استخدام الدين سلاحاً للمطامح والمطامع السياسية. أخذ الأحباش يشنون الغارات على مواقع الحميريين في اليمن تحقيقاً لمطامح السياسة البيزنطية باسم المسيحية، واتخذوا الدين سلاحاً لكسب مسيحيي اليمن كحلفاء للحبشة. وقد كان رد الحميريين على ذلك انهم أخذوا يعملون على نشر اليهودية في بلادهم. ومن هنا أصبحت اليهودية سلاحا سياسيا أيضا لمحاربة المسيحية بوصفها وسيلة سياسية للأحباش.. [ ص ٣٠٧ ]
استمر الصراع للسيطرة على اليمن باسم الديانتين المسيحية واليهودية
حتى القرن السادس إذ أخذ ذو نواس ملك حمير يضطهد المسيحيين ويغتصب أملاكهم وأموالهم، فأتخذ الأحباش ذلك ذريعة للتدخل المسلح في اليمن سنة ٥٢٥ بعد الميلاد، فهزموا جيش ذو نواس، وأنتحر حيث قد خاض البحر بحصانه وقضي وغرق فيه. فأنقضت بذلك آخر سلطة لليهود في اليمن. ولكن الديانة اليهودية ظلت لها جذورها هناك. والمعروف أن يهود اليمن عرب بالأصل انضموا إلى اليهودية بفعل هذا السبب السياسي القديم، وهم لذلك يتكلمون العربية دون العبرية..
ولاستكمال الصورة بإيجاز: حاول الحبشي ابرهه، احتلال مكة / المركز التجاري الأكبر في ذلك العهد... أصيب جيشه بالجدري، فانسحب لصنعاء. / كانت حملة الأحباش على مكة احدى ظاهرات الصراع على السيطرة السياسية - الاقتصادية.
يثور عرب اليمن ضد الاحباش بقيادة سيف بن ذي يزن/ يستغل كسرى انو شروان [ ٥٣١٥٧٨ م ] ليحتل اليمن بعد الاحتلال الحبشي/ ويستمر الاحتلال الفارسي حتى ظهور الإسلام / لتعود اليمن لتاريخها العربي..
لا استبعد في هذا الصدد ما بين كسرى/ الفرس/ و اليهودية صلة
متأصلة بينهما، تعود لزمن كورش وعزرا، وهي في أساسها منبعثة في بنيتها التحتية من السياسة والاقتصاد، المنبثق من نزعات الهيمنة على طرق التجارة. وهي قديمة العهد كما نعلم..
يكاد يتكرر هذا المشهد ولو بكيفييه أخرى فيما حدث بين الغساسنة
والمناذرة.. حيث تصارعا بالتوازي مع صراع الفرس وبيزنطة..
إلى الأحناف ويقظة العرب
في ذلك الزمان كانت تتصارع الأديان، ولعلها هي مازالت تتصارع بخفية، بالرغم من عدم الإيمان الكلي بها، ولا سيما في حضن السياسة التي بدورها يحركها الاقتصاد، وكان عرينها في ذاك الزمان هي التجارة، ولعلها هي تتجلًى في زمننا بأشكال عديدة/الاقتصاد..
كما رأينا في تلك المرحلة، تجلت بمظهرها في اليمن ما بين المسيحية/الأحباش/ واليهودية/حميًر والفرس/، والبوصلة كانت التجارة في فروعها ومراكزها اوما أحاط بها..
وعلى وقع من ذلك أو في ذاك المدى، مازال للأكثرية العربية وجودها، متحلقة حول مكة بتقاليدها المنبعثة من وثنيتها، حيث صمدت لغزوة أبرهة الحبشي في ظل من جائحة الجدري، وكان ما يسمى بعام الفيل الموافق ل ٥٧١ ميلادية.
ولا أنسى مواقع ومواقف أكثرية العرب المتمثل بمكة، التي قدر لها القائدة للأكثرية ذات الصفة الوثنية، ومن هنا وهنا انبثق الأحناف كتيار ديني.. كيف وكيف ؟
لا شك بكون الجزيرة العربية ومن خلال ما يدور حولها، هو ما أثار لدى نخبها، وكان مثار حوار في جلسات الأسواق التجارية، وما يسمى بموجات عكاظ في طابعها الفكري والأدبي وما تمخض فيها وعنها..
من المؤكد كان لظهور اليهودية والمسيحية دوراً محركاً للحوار، بما له من صلة بالفكر الديني بكل ما يحتوي عليه من رؤى ومقومات، بيد أن الديانتين لم تخترق الحصون العربية وبقيت تدور في الأطراف، بل وتكاد على صلة بالأجنبي.
وقفة مع تشكل تيار الأحناف
هو ما قد ظهر لي كتيار، بمعنى لم يتبلوًر كتدين، فلم يظهر كمؤسسة ترعى تقاليد ولها طقوس..
في البدايات ظهرت نواة تتكون من نخبة فكرية تعالج قضايا عامة، بكل حكمة، يشار إليهم كحكماء، بعضهم من الشعراء، كزهير بن ابي سلمة، أو على ألسنة بعض الخطباء مثل ساعدة الأيادي،
والحارث بن كندة الثقفي، وابنه النضر بن الحارث.
ثم ظهر إلى جانب هؤلاء من حمل صفة حنفاء، وهم: قس بن ساعدة الأيادي، زيد بن عمر بن نفيل، وأمينة بن ابي الصلت، وأرباب بن رئاب، وسويد بن عامر المصطلقي، وأسعد أبو كرب الحميري، ووكيع بن سلمة زهير الأيادي، وعمر بن جندب الجهني، وعدي بن زيد العبادي، وأبو قيس صرمة بن ابي أنس، وسيف بن ذي يزن، و ورقة بن نوفل القرشي، وعامر بن الظرب العدواني، وعبد الطابخة بن ثعلب بن وبرة بن قضاعة، وعلاف بن شهاب التميمي، والملتمس بن أمية الكناني، وزهير بن أبي سلمة، وخالد بن سنان بن غيث العبسي، وعبد الله القضاعي، وعبد بن الأبرص الأسدي، وكعب بن غالب.
والجامع الوحيد بين هؤلاء، ينحصر في مبدأ عام، يتمثل برفض عبادة الاصنام، رفض تعدد الآلهة، والإيمان بإله واحد. وهم غير متماثلين رأيا واعتقاداً، كما لم يكونوا على صلة وترابط بينهم، أي لم يكونوا يؤلفون جماعة متواصلة تنظمها حركة نشاط مشتركة. وبهذا يكون المبدأ العام لتلك الجماعة، هو رفض الموقف الوثني بشكل مطلق أولاً، ومخالفة الثوابت الاعتقادية اليهودية والمسيحية ثانياً..[المرجع جواد بن علي: ج٥، ص ٣٧٠ ]
ومن تحري الأـسماء يظهر لدي كون هؤلاء الحنفاء ينتمون لمعظم المناطق
والقبائل وحتى الانتشار قد جرى عبر التفاعل بين الأسواق التجارية، حيث أسهمت الحركة الفكرية عبر ما يسمى بالحكماء..
ومن أجل التيقن من وجود ظاهرة الحنفاء هو أمر مفروغ منه، أكده المستشرقون، حتى أن بعضهم قد انصرف إلى البحث عن أصل كلمة " حنيف " من أين اخذها عرب الجاهلية حين أطلقوها صفة دعاة التوحيد قبل الإسلام، بينما انصرفت عناية بعض آخر منهم إلى محاولة إثبات أن الحنفاء في الجاهلية هم فئة من زهاد العرب المسيحيين. [ كلود كاهن "تاريخ العرب والشعوب الإسلامية " ترجمة د نضر الدين القاسم، دار الحقيقة بيروت ١٩٧٢، ص ١٣ ]
[ نقطة نظام: المثير في الأمر، أن الكتبة المنتمية بعصبوية إلى المسيحية يحاولون جعل العديد من الأحناف ملكية مسيحية لهم، ومن بينهم ورقة بن نوفل القرشي وربما غيره، وبعضهم يجعل معظم شعراء العرب في صنفهم ورصفهم في صفوفهم، ومن دون دلالات تاريخية.. أجل كان للمسيحية حضور واقعي بكيفية أو بأخرى، وذلك على أطراف الجزيرة العربية، حيث تهيمن بيزنطة، ودام الأمر حتى حضور المد العربي الإسلامي، حيث تغيرت الوقائع ولنعلم أن حسين مروة الماركسي الذي هو خارج قوس العصبويات الدينية.. فلا ضير من مقولاته ]
يستمر حسين مروة في حفرياته التاريخية للتعرف على ظاهرة الأحناف، يقول/ ص ٣١٢: إن وجود هذه الظاهرة، في أخريات الجاهلية، لا تنفيه الأدلة النقلية التاريخية، بل تثبته. لكن، حتى لو الأدلة كانت غائبة عنا، لكن علينا – بالضرورة – اثبات الظاهرة بالاستناد إلى منطق التاريخ نفسه. فهو يدعونا إلى رؤية ظاهرة الحنفاء كواقع حتمي تقتضيه طبيعة التغيرات التي كانت تحدث في مجتمع الجاهلية خلال القرن السادس ميلادي على صعيد العلاقات الاقتصادية الاجتماعية، إضافة لعامل التفاعل الطويل الأمد بين الموقف الوثني والموقف اليهودي المسيحي من العالم على صعيد الوعي الديني. إن هذا العامل الأخير لا يصح تجاهله ولا يصح التهوين من أثره في خلق ظاهرة كظاهرة الحنفاء، غير أنه هو نفسه إنما يخضع في عمق تأثيره ذاك وفي وتيرة حركته المؤثرة وتحديد اتجاهها- إنما يخضع في ذلك كله إلى الفعل الحاسم الذي تفعله حركة تطور العلاقات الاقتصادية الاجتماعية ذاتها في تحديد وجهة تطور العلاقات الأخرى على مستوى الوعي البشري، وإن يكن ذلك بواسطة الأقنعة والأدوات غير المباشرة وغير المتطورة..
[ لننظر هنا كيف وضع مروة، اليهودية والمسيحية في حيز المنظور الحيادي فيما هو يذهب إليه في بحثه.. حيث قد طبق ذات المنهج الماركسي على الديانتين وهذا يؤكد موقعه الموضوعي، وهو بدوره ما يجعلني بمنأى عن الألسنة العصبوية من اية جهة كانت، في هذا الزمن الهائج فيما حولنا
بلا ريب.. ]
مع حسين مروة: وكنا قد رأينا ان حركة تطور الواقع الاجتماعي في أخريات عصر الجاهلية تتجه إلى تفجير الإطارات القبلية التعددية للدخول في إطار توحيدي يتسع لأشكال جديدة متطورة من التناقضات الاجتماعية. إن هذا الاتجاه المتحرك آنذاك قد ارتسمت علاماته في افق الحياة الجاهلية بأشكال ومظاهر عدة وعلى مستويات متنوعة ومتفاوتة. يمكن أن نذكر من ذلك- أولاً – ما أخذ يظهر في العلاقات القبلية من اتجاه نحو التحالفات الكبرى بين مجموعات من القبائل بدلا من التجمعات الصغيرة المنعزلة ومن تفتت بطونا وأفخاذ لكل قبيلة، فضلاً عن كل عشيرة. كانت هذه التحالفات الكبرى تعني بالضرورة، أن تغيراً في العمق أخذ يمس الاستقلال القبلي الضيق المغلق الذي كانت تتشبث به كل وحدة قبلية بمفردها مهما كان حجمها ضئيلاً، حفاظاً منها على مناعتها الداخلية ونقاوة تقاليدها الخاصة. فإذا رأينا هذه الوحدات ذاتها تنخرط، فيما بعد، بتحالف واسع ينتظم مجموعات من القبائل والعشائر، فذلك هو شكل من التنازل عن معنى " الاستقلال" القديم. والتنازل من هذا النوع هو – بدوره – حالة من حالات التفكك الجاري يومئذ في النظام القبلي البدائي بوتيرة متسارعة.
في هذا الصدد أذكر: ظاهرة تحالف قبائل تنوخ بعد انهيار سد مأرب التي انبثق منها ممالك عدة: الأزديون/ واللخميبون، والغساسنة، وقبائل كندة.. فضلاً عن مملكة تدمر والأنباط، وممالك اليمن القديم وحتى قريش وغيرها..
من جانب آخر يذكر حسين مروة /في ملاحظة تحت السطر ص ٣١٣/: التجمع القبلي العدناني والقحطاني، ففي كل منهما انتظم العشرات من القبائل والبطون والأفخاذ التي تنتمي – كما يزعمون – إلى أحدهما. ثم أخذت تتجه التحالفات وجه تقررها المصالح المباشرة والضرورات الدفاعية لذلك كانت روابط الجوار أكثر من روابط الدم والنسب.
يمكن ان نذكر - ثانياً – في هذا السياق حادثين كبيرين شهدتهما الجزيرة في زمنين متقاربين سبقا اظهار الدعوة الإسلامية:
أولهما، تفجر الصراع السياسي في اليمن الذي اتخذ، بعد حملة ابرهة الحبشية الفاشلة على مكة، مضمونا تاريخياً حدد وجهته كصراع بين قوى داخلية من اهل البلاد وقوى خارجية تحتل البلاد فعلاً / الاحباش/ او تطمع باحتلالها /الفرس/. إن هذا التفجر، بمقدماته ونتائجه، أوجد عاملاً موضوعياً للشعور المشترك بالحاجة إلى إعادة النظر في العلاقات القبلية التقليدية أي علاقات التجزؤ والتفتت القائمة على نظام الوحدات المستقلة المغلقة والمتحاربة.. أما الحاجة إلى إعادة النظر في هذه العلاقات فقد أخذت تعبر عن نفسها بمظاهر التقارب في المواقف تجاه الأخطار التي كانت تنذر معظم سكان الجزيرة بأنها ستحل بهم دون استثناء إن لم يجدوا الإطار الجديد من العلاقات الذي يدفع عنهم تلك الأخطار. فقد كان صراع المطامع الخارجية الفارسية- الرومانية للسيطرة المباشرة على جميع المواقع الحيوية من الجزيرة، يزداد احتداماً بعد انتزاع الفرس أرض اليمن من قبضة الأحباش وبذلك كان يزداد وضوحاً خطر امتداد الغزو الخارجي إلى مواقع جديدة. / فلنقل كما أرى، هو شأن ينبثق بالعفوية والبداهة، فتاريخ الإسلاف غني في الذاكرة.. /
وثانيهما، هو حادث ذي قار الشهير سنة ٦٠٩ من كان التعبير الناضج عن ذلك التعبير المشترك بالحاجة إلى نمط جديد من العلاقات بين مختلف قبائل الجزيرة، لا سيما القبائل المحاذية لنقاط التماس مع سلطات احدى الإمبراطوريتين المتصارعتين: الفارسية والرومانية، ذلك الشعور المشترك هو الذي يصفه بعض المؤلفين المعاصرين ب " الشعور القومي " [من بينهم عبد العزيز سالم/ في تاريخ العرب في العصر الجاهلي ص٤٩٦/ وجواد علي/ في تاريخ العرب قبل الإسلام ج٤ ص ٤٠٧/ وسمى هذه الحركات المناهضة للأحباش بالحركات القومية]
كان حادث ذي قار التعبير الناضج – بالفعل – عن أكثر من الشعور المشترك المشار إليه. أعني أنه كان معبراً أيضاً عن تبلور الاتجاه العام لمجمل المتغيرات التي كانت ترهص بها معظم الاحداث في جانبي الجزيرة قبيل الإسلام. وإذا صح عن صاحب الدعوة الإسلامية – وقد تابع المعركة كما تقول الأخبار – انه قال عن يوم ذي قار:" هذا يوم انتصفت به العرب من العجم، وبي نصروا "، فان تعبيره ب " العرب " والعجم " كفريقين في المعركة تلك، يضفي على الحادث الكبير معناه التاريخي شبه الحاسم، وهو المعنى الذي استمده من طبيعة تلك المتغيرات المتحركة يومئذ على صعيد المنطقة. وطبيعتها هي طبيعة الاتجاه العام للأحداث نحو التكون الجنيني لمجتمع " عربي "، بمعنى الكينونة الكيفية للمجتمع ، دون الكمية التي كانها " المجتمع " الجاهلي.. وهل كان " المجتمع " الجاهلي غير " حاصل جمع " كمي لوحدات قبلية منفصلة ؟. أما الحديث: " هذا يوم انتصفت به العرب من العجم." إن كنا نفترض أن محمدا النبي العربي لم يقله، بل قاله عربي غيره في عصره.. حتى هذا الافتراض يكفي ليكون هذا القول، بحد ذاته وفي عصر المعركة ذاته. دليلا عن الفريق الذي انتصر يوم ذي قار هي " العرب " لا " مجموعة القبائل " التي تنادت للمشاركة في مواجهة العجم. ودليلا أيضا ان الإسلام حين قدم للجزيرة أداتها التوحيدية انما قدمها في الزمن المحدد لأن حاجة الجزيرة إلى التوحيد كانت ناضحة تاريخيا حينذاك.
بالإضافة لما تقدم، ظهرت دلالات أخرى لم يشر لها حسين مروة، بيد أنه يمكن تطبيق المنهج الذي سلكه مروة عليها، وهو ما يخص قبائل تنوخ وهي ملحمة العرب بلا منازع- (من موسوعة المعرفة وهي موثقة )
وهي كانت قد سبقت معركة ذي قار التي حدثت مع بعض من فروعها، ألا وهم المناذرة..
نقطة نظام:" موجز عن تنوخ / ورد الكامل عنها في ما مر في بحثنا عنها/.. ورد ذكر تنوخ في النصوص السبئية والحميَرية وفي الكتابات الحسائية وفي كتب بطليموس. تشكلت قبيلة تنوخ من اتحاد قبلي شمل أكبر القبائل العربية ضمت: الأزد، قضاعة، وقبيص، وإياد، وتميم، والعماليق.
اتفق زعماء هذه القبائل على تمليك زعيمهم مالك بن فهم الأزدي والمناداة به ملكاً على المنطقة المحصورة بين نجد غرباً والخليج العربي شرقاً وحدود عُمان جنوباً، وحدود البصرة شمالاً، وقد سميت
هذه المنطقة الجغرافية الشاسعة البحرين.
في86 م استطاع مالك بن فهم الدوسي الأزدي إجلاء الفرس عن عمان وأصبح ملكاً عليها واتخذ من مدينة قلهات عاصمه لملكه وقد حكم عمان أكثر من 70 سنة، وامتد سلطان مالك في عمان حتى ضم إليها البحرين وأطراف العراق.
يمكن توزيع عناوين تلك الفروع الرباعية الآتية:
الأزديون ملوك تنوخ في إقليم البحرين والعراق. (87-268). اللخميون المناذرة، وهم بطن من تنوخ/ الأزد في العراق وإقليم البحرين (268-618). وجدوا أنفسهم في تحالف مع الفرس بعدما
كانت مع بيزنظة..
الغساسنة، وهم بطن من تنوخ/ الأزد في سوريا والأردن. (220-638)/ في تحالف مع الروم وبيزنطة.. وفي عداء مع الفرس/ وحلفائهم المناذرة..
الكنديون، وهم قبيلة من حلف تنوخ في حضرموت ووسط وشمال الجزيرة العربية (325-528). / وجدت ذاتها واقعيا في موقع مستقل يحميها الصحراء المحيطة بها
من جانب آخر: كان لتدمر والأنباط وغيرهما دورا واضحا في تلك
العملية التاريخية التي أشار حسين عروة اليها بكل براعة، لاسيما كانت تدمر والأنباط كانتا في تواصل دائم مع الجزيرة العربية، في حين أن عروة لم يشر لما ذكرت..
ولكل من هؤلاء مجموعة من القبائل في ظلها، ينطبق على كل منهم الأداة المنهجية التي استعملها حسين مروة على ما سبق، من حيث كل منهم قد تجاوز نطاق القبيلة وتقدم لحياض الدولة بقدر أو بآخر..
بالإضافة لذلك، لا يمكن العبور عن حادثة عام الفيل التي تقهقر فيها أبرهة، في ظل من الجائحة المرضية، فلابد أن أعطت صدى واقعياً على مدى المجتمع الجاهلي، ولا سيما قد تصادف مجراها بتقارب زمني مع ذي قار،/ عام ٦٠٩ ميلادية/، مع حادثة عام الفيل / في عام ٥٧١ م/ ، ففي ذلك الزمن تبقى الأحداث الكبرى في مجراها عبر الذاكرة الجمعية.. [لا أدرى كيف تغافل حسين مروة عن الربط بين الحدثين حتى لو كان لأحدهما بعد ميتافيزيقي في بعض من جوانبه ]
إرهاصات
ويستمر حسين مروة في مساره البحثي: في هذا السياق التاريخي
برزت ظاهرة الحنفاء على مستوى الوعي الديني. برزت الظاهرة لتكون التعبير الناضج الآخر على المستوى الآخر. وينبغي هنا أن نرى في مجال الوعي الديني ذاته بعض الظاهرات التي سبقت او رافقت ظاهرة الحنفاء، لكي نرى فيها علامة أخرى على كون " الحنيفية " بمفهومها التاريخي لم تبرز ارتجالاً دون علاقة بالزمن والبيئة. نعني تلك الظاهرات المتصلة بالحركة الوثنية ذاتها. وهي التي تبدوا كروافد تصب في المجرى العام لحركة تاريخ الجاهلية، في زمنها الأخير، نحو الوحدة. إننا نجد هذه الظاهرات الروافد في شبكة من الواقعات، أبرزها:
أولاً، كون مجموعة من القبائل قد تلاقت على عبادة مشتركة ترتبط بصنم واحد. نرى ذلك – مثلا – في اجتماع قبائل: جشعم، وبجلية، وباهلة، ودوس، وأزد السراة، وهوازن، والحارث بن كعب، وجرم، وزبيد، والغوث بن فر بن اد، وبني هلال بن عامر، على الصنم المعروف " ذو الخلصة ". وفي اجتماع قبائل: قضاعة، ولخم، وجذام، وعاملة، وغطفان، على الصنم المعروف باسم " الأقيصر " [ ١ و ٢ ابن الطلبي: كتاب الأصنام، القاهرة /١٩٢٥ ص٢٥ ٢٨٫. ٤٧ ] وا٠٩لألوسي بلوغ الأرب ج ٢, ص ٢٠٧. ٢٠٩ ]// لا استبعد وجود مثل هذه الظاهرة لدى تحالف تنوخ وغيرهم/ والقول لي..
ثانياً، قيام ذلك " التنظيم " العملي لإدارة مواسم الحج الوثنية. وهو التنظيم الذي شمل مهمات الرفادة والحجابة والسقاية وغيرها من الوظائف التنظيمية لشؤون الحج موزعة بين الزعامات المكية ذات السيطرة الاقتصادية والدينية. وشمل كذلك التزامات مختلف قبائل المنطقة [قبائل الشمال خصوصا] بموجبات أداء مراسيم الحج بصورة جماعية و سلمية، كالتزامهم الامتناع الطوعي خلال المواسم الدينية هذه، والتزامهم كون الامتناع عن الحرب محدودا بأشهر ثلاثة معينة سميت عندهم – وفقا لهذا الالتزام - بالأشهر الحرم، أو المحرمة فيها الحرب.
ثالثا، انخراط تلك القبائل كلها بصورة موضوعية، خلال الزمن الحج، في عملية تتداخل فيها العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والدينية والأدبية، تداخلاً تفاعلياً ينتج مزيدا من الاندفاع الموضوعي نحو ذلك المجرى العام لحركة صيرورة جديدة. وقد كانت الأسواق الموسمية، المنعقدة أثناء أداء مراسيم الحج، هي المظهر الحركي الأكثر فاعلية في سياق هذه العملية المتداخلة.
إن جملة هذه الظاهرات، داخل الحقل الديني الوثني ذاته مرتبطة موضوعيا بظاهرات الواقع الاجتماعي، أي تلك الظاهرات التي كانت
حصيلة عملية تاريخية تجري حينذاك باتجاه اختراق الأطر القبلية التعددية البدائية عن طريق صيرورة " المجتمع "الجاهلي الكمي. مجتمعاً " عربياً " بالمعنى الكيفي..
تلك هي العملية التاريخية نفسها التي كانت ظاهرة الحنفاء نتاجها التاريخي الفعلي. " فإن الحنيفية "- كما نعرف الخطوط العامة لصورتها الجاهلية – لا تدعوا الى اختراق الأطر القبلية التعددية فحسب، وانما تدعوا إلى اقتلاع هذه الأطر جذريا على مستوى الوعي الديني. ذلك لأن دعوتها تتوجه – على هذا المستوى – على اقتلاع جذرها الوثني. من حيث كون الوثنية- بالأصل- وعيا قبليا تعدديا تقسيميا للجماعة البشرية ذاتها. فليس من معنى التعددية الآلهة في الوثنية، لولا انها الصورة القاتمة في وعي الانسان القديم عن تعددية الأطر البدوية او الريفية او المدنية المفصلية والمغلقة للتجمعات البشرية في المراحل الأولى لتاريخ التطور الاجتماعي.
من هنا، وعلى هذا الأساس من تصوًر مدلول الوثنية، نرى في دعوة الحنفاء الى إلغاء عبادة الأصنام وإلى التوحيد الالهي دعوة ضمنية إلى الغاء الأساس الاجتماعي الذي قام عليه كل البناء الذهني للعالم في وعي الوثنية الجاهلية ومن هنا – تحديدا - ننظر بعناية مشددة إلى هذه الظاهرة / الحنفاء/ كحلقة ذات شأن كبير في مرحلة الانتقال من عصر الجاهلية إلى عصر الإسلام..
نقطة نظام: إن كان هذا التحليل يصلح للعرب في عصر الجاهلية، لا يصلح لجغرافية واسعة ولا سيما لدى الإمبراطوريات الكبرى ولاسيما الإغريق والرومان في معظم أوقاتهم، وأن أراد البعض دمج المسيحية بهم، فقد جرى في زمن متأخر وهو مستورد من المنابع الشرقية..
ô
أحناف في الميدان
ومن الدلالات التي يعتمدها مروة في منظوره من حيث كون الأحناف - كما يرى – هم بمنحى تيار إذ يقول: إذا نحن قد أخذنا ببعض الاخبار المروية عن الأحناف، من أن أكثرهم كان يقرأ ويكتب، وأن بعضهم كان على اطلاع على " الصحف " ومجلة لقمان "و الكتب السماوية " تلك كان يقرؤها هؤلاء الأحناف، أي التي كانوا يستمدون منها عقيدتهم، كما نفهم من تلك الاخبار ؟ ..
أما الصحف فأهل الجاهلية يطلقونها على مدلولات مختلفة لا تنحصر في المدلولات الدينية.. فالآيات القرآنية التي تنص على ذكر الحنفاء تنفي انهم كانوا يهوداً او نصارى، أي أنه تنفي أن تكون " صحف اليهودية " " أو النصرانية " مصدر عقيدة الحنفاء/ والقرآن هي لهم الأقرب في زمنهم [صورة البقرة، الآية ١٣٥ /سورة آل عمران، الآية ٦٧،٦٨ ] .
أما " مجلة لقمان " فليس من ضوء تاريخي نتعرف فيه عن مضمون ما تحتويه، لكي نتعرف أمرا جديدا في مسألة الحنفاء.. بل ويظهر لنا إشارة لها صلة بهم، تروى عن " السويد بن الصامت " أنه قدم مكة حاجاً أو معتمراً " وإن النبي محمداً قد تصدى له ودعاه إلى الإسلام، فقال سويد: لعل الذي " معك مثل الذي معي " . فقال النبي: مالذي معك ؟ . قال سويد: "مجلة قمران ّ " يعني حكمة قمران ". فقال: أعرضها علي" . فعرضها سويد، فقال : هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل منه: قرآن أنزله الله علي، وهو هدى ونور. وتلا عليه القرآن، ودعاه إلى الإسلام. فلم يبعد. وقال: هذا حسن.. ثم انصرف سويد.. إلى آخر الرواية..[ الرواية ملخصة من ابن الأثير أسد الغابة " ج٢ ص ٣٧٨. روها ابن هشام " السيرة: ج١ ص ٢٦٥ هامش الروض الأنف"].
يرى حسين بن عروة: أن نقطة الضوء في هذه الرواية: هي أولاً، أن " مجلة لقمان " تعني "حكمة لقمان – كما ينص ابن الأثير - وإن هذه " الحكمة " ليست بعيدة عما كان لدي صاحب الدعوة الإسلامية بعد ظهور أمره علانية. وثانياً، أن " سويد بن الصامت " لم يذكره أهل الأحبار في عداد الحنفاء هو خارج على وثنية الجاهلية فعلاً كالحنفاء، وإلا كيف صح لصاحب الدعوة الإسلامية ان يقول هذا الكلام الذي عرضه عليه سويد من " حكمة لقمان" أنه كلام حسن"؟ وأما ثالثاً، فنستنتج من كل ذلك أن ما سميناها " ظاهرة الحنفاء" هي بجوهرها وأبعادها التاريخية لا تقتصر على افراد معنيين معدودين كالذين عني أهل الأحبار بذكر أسمائهم، بل كان لها معنى الظاهرة سعة وشمولاً بحيث وجدت الطريق لنفسها ان تظهر باسم " مجلة لقمان " أو " حكمة لقمان " كما باسم وجدت " الحنفاء " أو " الأحناف" أـو ربما بأسماء أخرى لم تنكشف لنا بعد، وكما وجدت الأشكال المختلفة للتعبير عن دلالتها وأبعادها: خطابة او شعراً أو حكمة تسير مسرى الأمثال. وفوق ذلك: وجدت في الإسلام نفسه تعبيرا عن دلالتها وأـبعادها بالشكل الأفضل كما جاء على لسان صاحب الدعوة الإسلامية في رواية ابن الاثير.
ويختتم مروة ما رآه هنا - وبفكر تحليلي – بقوله: إذا كان أمر هذه الظاهرة على هذا المستوى وبهذا القدر من السيرورة والأهمية، فكيف حصل أن خرجت من زمنها التاريخي ذاك " غامضة " " ومطموسة" ؟ ولماذا حصل ذلك...؟
الجواب عسير، ولكن سيبقى مطلوباً بإلحاح، كما بقي الجواب مطلوباً
حتى الآن عن السؤال حول " الحلقة المفقودة " في تطور الإنسان البشري..
ô ô
كخلاصة/موجز المقال/ خط السير:
١التجارة كقاعدة اقتصادية الممثلة للبنية التحتية ----٢ المؤدي لتشكل الأسواق العربية ---٣ في ظلها انبثقت او تطورت اللغة والشعر--- ٤ أدى التفاعل الفكري والديني والمجتمعي إلى تمزق الوحدات القبلية، وتزامن مع ظهور حركة الحنفاء كطليعة للإسلام..
ô ô








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صاروخ باليستي روسي يستهدف ميناء أوديسا


.. ما فاعلية سلاح الصواريخ والهاون التي تستخدمه القسام في قصف م




.. مراسل الجزيرة يرصد آثار القصف الإسرائيلي على منزل في حي الشي


.. خفر السواحل الصيني يطارد سفينة فلبينية في منطقة بحرية متنازع




.. كيف استغل ترمب الاحتجاجات الجامعية الأميركية؟