الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طوبى للغرباء

مريم الحسن

2023 / 7 / 27
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ما ان يتسع عالمك الداخلي حتى يتكتشف لك عجز اللغة عن التعبير عما تستكشفه في ذاتك و تشعر به
حينها فقط و فقط حينها ستدرك خيانة اللغة و ستراها على حقيقتها, مخلوق مادي عاجز, و ستدرك محدودية بلاغتها , مهما أظهرها صانعوها عكس ذلك.
ستكتشف أن كلماتها ما هي إلا تراكيب و مصفوفات تعبيرية لا تناسب سوى توصيف الواقع المحسوس فقط.
و أن الحاجة فيه هي من انجبتها للتواصل بها عبر ما يتمظهر فيه.
وأن مجازها, مهما ابدع و بالغ فيه محترفوه و متقنوه, قاصر عن بلوغ قمم المعاني الوجودية الكبرى

حين تدرك ذلك و تلج باب انفضاح الوهم , ستستشعر الوحدة, و ستعيش الغربة , و سيجتاحك حنين مفرط إلى لحظة انبلاج المعنى الأول لكل شيء قبل توصيفه لك .. و تدجينك.
ستضج فيك رغبة ملحة لتلمس وجه الحقيقة الأول, المتجرد من تشوه اللغات على اختلافها و توصيفاتها , رغبة تدفع بك و بإلحاح للإلتقاء مع حقيقة تعجزعن إدراكها بفكرك و لغتك, لكنك تستشعرها, تسكنك كنجم يومض في فضاء روحك , يتراءى لك حيناً و حينا يغويك ,يحضك على استكشافه لكنك عاجز عن بلوغه فكراً و لغة.

ما أن تخلع عنك رداء النكران و تلج باب الاعتراف بعجزك المادي عن بلوغ اللا مادي و اللا محدود , المتجرد من اي لبوس وصفي ألبسته إياه بنات أفكار اللغات و خيالهن, حتى تتأجج فيك أسئلة كثيرة و جديدة, أوّلها ما السبيل إلى بلوغ إجاباتها؟ و تاليها ما اللغة القادرة على سبر أغوارها لفهمها؟ و أسئلة أخرى كثيرة غيرها ستتسلل و تختلف باختلاف وعي و شخصية سائلها و مدى اتساع عالمه الذاتي و انفتاح المجال الطاقي فيه.

ما أن تهدأ عاصفة تساؤلاتك, و يستقر مع هدوئها توهج ناراختلاط مشاعرك, حتى تسمع صوتاً داخلىاً فيك يناديك, لكن بصمت. يحاورك باسترسال صامت و بلغة قلة فقط من الناس تفهمها أو تتقنها. ستستشعر الصفاء و سكونه يتممدان بانسياب سلس في ذاتك, و سيتحول الصمت إلى يد تربت على كتف تساؤلاتك لتطمئنها و تهدئ من صخب انفعالها و ثوران تشتتها.

ما أن يخمد بركان وجدانك و يصفو بحر الأفكار فيك حتى تستشعر أنك أتممت الخطوة الاولى على درب المعرفة الذاتية. دربٌ لغته الصمت و شرطه الصمت و عنوانه الصمت, و صمته يسير دائماً في اتجاهين : داخلي في حوارك مع أجوبة اسئلتك , و خارجي في تأويل و تطبيق ما اغترفته منها, و في فهمك و تواصلك مع مَن مروا بمثل بتجربتك , فأنت لست الوحيد ولا الأول ولا الأخير , فالتجربة عمرها من عمر الوعي الأول , و قبلك كثر جداً عاشوها, أسماء و ألقاب كثيرة مر عليها قلم التاريخ , احتضنها و دوّنها , و اخرى تناساها او لم يسمع بها , لأنها انصفت تجربتها و لم تتكلم , و أوفاهم لها مَن لم يتكلم.

و ما زالت المسيرة مستمرة ودرب التجربة متدفق كنهر ترفده ذواتٌ بحثت عنه فوجدته , وأحياناً نادرة, ذواتٌ أوصلتها إليه يد الصدمة أو الصدفة . ستعرفهم حتى لو لم تلتقِ بهم, و ستسشعر اتصالك بهم حتى لو اختلفت بينك و بينهم ظروف الزمان أو المكان. هم غالباً ما يكونون من خارج دارة معارفك , وفي أحيان نادرة يكونون منها , لكن السمة المشتركة الوحيدة بينكم و علامة مروركم جميعاً بذات التجرية, أنكم إن حصل و التقيتم لن تتبادلوا قط, ولا تحت أي ظرف , تفاصيل تلك التجربة بالكلمات, بل بالصمت. لأنها باختصار تجربة فردية جداً, و ذاتية لصيقة بروح من مر بها وعاشها, و وليدة وعيه الخاص , لذا تفاصيلها تختلف باختلاف الذوات. أما مضمونها فهو أثقل من أن يحمله متن لغة بني نظامها غلى لسان و صوت و حرف و فكر.

ستستمر رحلتك الجديدة و لن تعود منها ابداً إلى ما كنت عليه قبلها, فبعد أن نفضت عنك رماد ثوبك القديم , و استشعرت ولادتك الجديدة , سيتغير منطورك و فهمك لكل شيء. لذاتك أولاً, و للواقع حولك ثانياً , لينتهي بك المطاف أخيراً إلى فهمٍ جديدٍ و مختلف للوجود, لا يتلاقى إلا فيما ندر مع ما عرفته أو نشأت عليه سابقاً.

ستنغمس أكثر و أكثر في استكشاف واقعك الجديد, واقع ما بعد الولادة , و ستعيد بناء كل مفاهيمك على أسس جديدة و رؤى جديدة, عمادها الإرادة الحرة حقاً و فعلاً و ليس ظناً أو اعتقاداً.أما علامة انغماسك في بنائك الجديد فهو تغليبك صمتك على كلامك, لا طوعاً و لا كرهاً إنما انجرافاً .. في رغبة ملحة تخطفك من عالم الكلام إليه فما أنت منكبٌ عليه يرتقي بك إلى ما هو أرفع من ثرثرة الكلام , و أعمق من أن يُفسّر لتتحدث به.

شعور الغربة سيلازمك حتماً , ودائماً ,لكنها غربة من غير وحدة , غربة صاخبة, يضج صمتها بالمعاني المسترسلة في جدلية مستمرة من ذهاب و إياب , و توالد متجدد.
غربة ..
نفسك فيها تجالس الطمأنية
روحك فيها تستظل السلام
أما وعيك, فمنشغل بالتواصل المتواصل و مصافحة كل ذرة مرئية وغير مرئية في هذا الوجود .. فطوبى للغرباء








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مؤتمر صحفي لوزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه في لبنان


.. المبادرة المصرية بانتظار رد حماس وسط دعوات سياسية وعسكرية إس




.. هل تعتقل الجنائية الدولية نتنياهو ؟ | #ملف_اليوم


.. اتصال هاتفي مرتقب بين الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء الإسرائي




.. مراسل الجزيرة يرصد انتشال الجثث من منزل عائلة أبو عبيد في من