الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صراع المذاهب والحروب الدينية

باسم عبدالله
كاتب، صحفي ومترجم

(Basim Abdulla)

2023 / 7 / 30
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


اوغل تاريخ المعتقدات في القدم لفترة زادت عن عشرة آلاف سنة، تدرجت فيها الأديان بين الوثنية والإله المعبود غير المرئي، وقد استحوذ الشرق الاوسط على معظم الافكار الروحانية والعقائد التي ميزت هذه الرقعة في العالم، فانتجت بحق الفكر الروحاني في الاديان الابراهيمية، اذ تفرعت من الديانة اليهودية، المسيحية والإسلام. تمسكت الأديان بميزان العدالة في الارض من خلال ربط المعتقدات الغيبية في عقيدة الجنة والنار، والمتلازمة بين الله والشيطان، ذلك ان الفكر الغيبي قد توسع بتطوير الربوبية الى الالوهية، حيث اضيفت صفات جديدة اقترنت الى حد بعيد بالصفات البشرية كي تكون اكثر مسوغاً لتمازج المعتقد الغيبي في الفكر الإنساني، فصاغ الطبيعة الإلهية وفق خيالات العقل البشري واضعاً فيه الحوافز المادية في اطار العدل الإلهي في مفهوم الجنة، والانتقام الإلهي للعصاة والزناة في مفهوم النار.
امامنا الثنوية الكونية، في شقيها الرحماني والشيطاني، بين الله وابليس، وضعهما الفكر الديني في كفتي ميزان، وكلاهما شخصيتان روحانيتان، درج العقل البشري على وضعهما في العالم المادي في مفهوم الجنة، فلم يكن الله داخل الجنة، لكنها كانت في خلق آدم وهو النموذج الذي استند عليه الفكر الغيبي في استنباط العقيدة الغيبية رغم تناقضها الشديد للمنطق والعقل. كان مرتكز الفكر الغيبي في وضع آدم بين الرحمن والشيطان، اذ اختلف بسببه الميزان الإلهي للعدالة وتم تأسيس المعتقد وطرد آدم من الجنة الى الأرض، ليبدأ حياة قاسية، حيث عرف معنى الموت والجريمة وقصر الحياة. انتقل من الابدية الى الموت والمرض، لكن انتقال آدم و حواء من الحيز الروحاني الى الأرض، هدفه الترويج الى مفهوم العدل والعقاب عند عدم الطاعة. رغم ان الإله والشيطان وجهان لعملة واحدة، فلقد بثت العديد من السور القرآنية تبادل دور الله مع الشيطان في تطبيق مفهوم الإرادة لكلا الطرفين.
ربط الفكر الديني الاخلاق عندما تطور الفكر العقلاني في تفسير الكون باعتباره منظومة متكاملة الأطراف في وحدة كونية وقد جمع تلك الترابطات الكونية بقدرات الإله الواسعة، خاصة عندما تطور الشكل الغيبي لمفهوم الإله عند ظهور اديان التوحيد، فصار الله كياناً مستقلا، قوياً ومقتدراً من جهة والعالم بأسره من جهة اخرى. صار مفهوم الخير والخير تابعا لمفهوم عقيدة التوحيد، فباتت عقيدة الغيب تنطلق عبر التاريخ في توسيع القيم السلوكية للخير والشر حتى تشكل المعتقد الراسخ في توضيح الشخصية الإلهية بشقيها الرحماني والشيطاني فصار الاول يجسد مفهوم الخير، وهذا هو المعتقد التوراتي وما لحقه من مشتقات المعتقد في المسيحية والاسلام. والثاني معتقد الزرادشتية عندما جعلت الله يسمو على الخير والشر، لكنه خير بطبيعته ، والمعتقد الثالث المانوي تمثل في اصل الوجود هي الله والمادة، فالله اصل الخير والمادة اصل الشر، ثم المعتقد الرابع تمثل في وحدانية الله بصفاته في الخير والعدل وان الشر تمثل في شخصية الشيطان، التي خلقها الله ا ذ اوكل اليها مهام لاهوتية واسعة بحرية مطلقة في اغواء البشر، كما عبرت عنه المسيحية والاسلام رغم ان شخصية الشيطان اختلفت في مفهومها الدرامي بين الديانتين، إلا ان مصدرها واحد في الملأ الأعلى.
نورد على سبيل المثال بعض الآيات القرآنية استيضاحاً للفكرة الدينية للسلطة التي اعطاها الله للشيطان لكنه دور متبادل بين تفرد الله في اغواء عباده، واغواء الشيطان لوحده ” ويضلّ الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ” (1) ” ولا تتبع الهوى فيضلك ’ الشيطان ’ عن سبيل الله ” (2)
اشار النص الى الله في سلطته المطلقة في ضلالة المفسدين والظالمين، لكنه استعمل كلمة الضلالة في الاشارة الى سلطة الشيطان ودروه في اغواء البشر، فهي غواية اندرجت في مفهوم سلطتين متعارضتين من جهة في ان الله بتلك الضلالة له السلطة المطلقة ” فأن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ” (3) بات بيده التسلط بما شاء في مصير خلائقه. حتى صارت بيده سلطة الشيطان في الاغواء والإفساد والضلالة. لقد اتسعت دلالات الغواية والإضلال في المفهوم العقائدي لطبيعة الشخصية الإلهية في العديد من السور القرآنية ” ... وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا” (4) فلقد قام الله بدور الشيطان آمرا المترفين ان يفسدوا في الارض بهدف تدمير قريتهم، اي التحريض على عمل الفساد الأخلاقي بهدف نيل العقاب الإلهي، بل ان الأمر ليزداد وضوحاً في فهم الشخصية الإلهية وقدرته على المكر ” ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ” (5) ذلك في اظهار قدرته على المكر الذي فاق مكر الشيطان ” فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ” (6) فهذا المكر في التلاعب بمصائر البشر قد فاق دور الشيطان، ورغم طرده بحسب الرواية الدينية من الملكوت الأعلى بسبب خطيئة آدم، إلا ان الله اعاده اليه في حوار التحدي بهدف افساد ايوب وتدمير ممتلكاته وقتل اولاده وتحويله وقد اكل الجرب والأمراض من جسده ليثبت الله للشيطان اخلاص ايوب عند تعرضه لمحنة الإختبار القاسية .
وكما زين الشيطان اعمال العباد في انحرافهم عن اعمال التقوى كذلك فعل الله الأمر ذاته ” ان الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم اعمالهم (7) فهذا امر الشيطان كذلك في تزيين اعمال السوء ” وزين لهم الشيطان اعمالهم ” (8) بل ان اعمال الغواية والخداع بين الله والشيطان ابليس متبادلة، فهذا الشيطان يقر صراحة في الحيز الروحاني اغواء الله له كي يضله عن طريق الخير ” رب بما اغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم اجمعين ” (9) بل ان اعمال الفتن والاضطرابات في الاقوام قد اقرها الله لنفسه واقرها لشيطانه ابليس : ” ولقد فتنا الذين من قبلكم ” (10) فهي تصدير الفتن والحذر منها ” يابني آدم لا يفتننكم الشيطان ” (11) يشير تبادل الصفات بين الإضلال، والتزيين، والاغواء، المكر، الى ذاتية كائن واحد، وعلينا من هذا الحقيقة في النص الديني ان نستنتج جذور العنف التي تحولت فيما بعد الى جماعات وفرق مسلحة وطوائف متناحرة تعتمد على تنفيذ العنف لتحقيق المطالب الللاهوتية، فلم يكن ارتكاب الشر بسبب استنباط عقيدة الشيطان وتقديمها للوجود كنموذج غير اخلاقي وغير إنساني، لقد برزت كحاجة دينية يهودية اذ كان من المستحيل قبول فكرة الشر من خلال صلتها بالعناية الإلهية، حتى في المسيحية لم يكن قبول الشيطان كجزء من رسالة يسوع المسيح، لقد اتضحت معالم الإله بعيدا عن سلطة الشيطان رغم انه باق يحكم العالم الى نهاية الكون، ثم يزول الشيطان. لقد تأسس الفكر الديني على دمج الخير والشر معا في اطار الفعل البشري حتى توسع هذا المفهوم في ان الخير رمز للملائكة واللون الابيض والسماء، والشر رمز الى الشيطان والنار والعالم السفلي واللون الاسود. لقد بات الشر عقيدة كل الأديان، لكن في بدء الحضارات ظهرت جدلية الخير المطلق والشر المطلق فلو كان الله هو الخير المطلق لماذا خلق الشر؟
اقترن تاريخ الفكر الديني بالكثير من الصراعات الدينية والمذهبية والطائفية، تسببت في قتل عشرات الملايين، فالحروب الصليبية التي وقعت بين المسيحيين والمسلمين في القرون الوسطى بسبب محاولة الاحتفاظ بالاراضي المقدسة من المسلمين، وقد وقعت كذلك حرب الثلاثين عاما بين الكاثوليك والبروتستانت في اوربا في القرن السابع عشر حتى تحولت اوربا الى ساحة صراع ديني شديد تسببت في قتل الملايين، فكان الدين السبب في اشعالها. انتج الدين الاسلامي والارثوذكسي بين حرب الدولة العثمانية والامبراطورية الروسية فتيل الصراع في القرن التاسع عشر حول منطقة البلقان اذ كانت تحت سيطرة الاتراك، لقد انهكت هذه الحرب قدرات الاتراك فكان صراع ديني جغرافي استهدف من خلاله الروس السيطرة على البحر الاسود وممراته في البوسفور. قامت الحرب الدينية كذلك بين المسلمين والصرب بما سمي بحرب البوسنة، فلقد كان سبب النزاع الخلافات الدينية التي تغلفت باطار القومية، فلقد كان الدين وراء تلك الحرب، كذلك امتد الصراع الديني بين السلطة الفلسطينية واسرائيل على اساس التناقض في العقيدة الدينية فمازال هذا الصراع الى يومنا هذا صراع اليهودية والاسلام. لم تقف الحرب عند هذا المنحنى بل اشتعل فتيل الحرب بين ايران والعراق في العام 1980 حرب ضروس قتلت مئات الآلاف من عناصر الطرفين لأسباب دينية طائفية جغرافية في الهيمنة على منطقة الخليج، فلقد دامت الحرب ثمانية سنوات، كلفت كاهل الدولتين انهيار اقتصادهما هكذا تم اعلانها حربا بين السنة والشيعة، في اطار صراع عسكري واسع النطاق تسبب في انقسام دول الخليج وتفكك الوحدة العربية. استمرت الحروب الدينية في اوربا كذلك في القرنين السادس عشر والسابع عشر في محاولة الاصلاح البروتستانتي، النظام الديني والسياسي في اوربا للبدان التي تدين بالعقيدة الكاثوليكية، فحرب الثلاين عاما حين تحالفت فرنسا مع القوات البروتستانتية ضد امبراطورية هايسبورك الكاثوليكية تم من خلال صراعهما تأسيس نظام سياسي جديد. لقد عرفت كذلك تلك الحروب حروب الإصلاح الديني كان فيها مارتن لوثر مصلحاً دينيا بين المسيحية في شقيها الكاثوليكية الرومانية واللوثرية، اذ حل الصراع بين البروتستانت والبابوية.
تاريخياً تطور المفهوم القيادي للعقيدة الدينية في دفع المجتمعات الى تحويل الفكر الديني الى واجهة لتحويل الاطر المدنية للدولة الى كيان ديني يقود الدولة وبتنـظيـر منطلقاتها العقائدية والسلوكية كذلك تشريع العقوبات الإلهية الصادرة بحق الخارجين عن معتقداتها كما وردت في العديد من السور القرآنية ” إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ... ” وفي سفر العدد في العهد القديم كان للعنف في التشريع الالهي دوره الهام في تحويل طابع العنف والقتل يتخذ طابعا إلهيا وتشريعا سماويا ” ... وَسَبَى بَنُو إِسْرَائِيلَ نِسَاءَ مِدْيَانَ وَأَطْفَالَهُمْ، وَنَهَبُوا جَمِيعَ بَهَائِمِهِمْ، وَجَمِيعَ مَوَاشِيهِمْ وَكُلَّ أَمْلَاكِهِمْ. وَأَحْرَقُوا جَمِيعَ مُدُنِهِمْ بِمَسَاكِنِهِمْ، وَجَمِيعَ حُصُونِهِمْ بِالنَّارِ.” وفي سفر يشوع انتشر العنف الإلهي. لقد قدم الفكر الديني التنظير والتجربة لعمل مؤسسات تفسر النص الديني على محمل التأمل العقلي والعاطفي للنص حتى على حساب التأملات الراديكالية لهذا ظهر الساسة والحكام في العالم الإسلامي لتوطيد حكمهم، هكذا فعل المماليك الذين استغلوا الصراع المذهبي لخدمة مصالحهم الشخصية كما هو الحال مثلا في المذهب الشافعي في مصر والشام، وقد قامت المذاهب الأخرى في تفسير النص الديني مما جعل الهوة تتسع بينهم الى نشوب صراعات عنيفة الى يومنا هذا. كان من ثمار تلك الصراعات المذهبية ان دفعت المساجد والكنائس الثمن، فلقد خصص لكل كنيسة ولكل مسجد مذهب خاص به، فجعل الخلاف بين المذاهب يتفجر الى صراع مرير بين الحنابلة والشافعية فتعرضت المساجد للسلب والنهب والحرق. هكذا نشب الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت على عقيدة الإله الواحد يسوع المسيح، وقد دب الخلاف في فهم طبيعة مريم ام المسيح، مما جعل الطوائف المسيحية تنقسم بشكل واسع في تفسير وجودها بين التأليه والتنزيه وبشرية وجودها. تطورت المفاهيم الروحانية ليس فقط في العالم القديم، بل امتد في عصر العولمة، فأدى تغلغل المعتقدات الروحانية الى خبراء السياسة والحرب، فصار الدين شكلا سياسيا له جذوره الاعتقادية فبرزت الهوية الدينية شكلا مسلحاً تمت صياغته عبر المليشيات المسلحة فامتلكت الهوية الدينية التي تعبر عن تميزها بصياغة دور توافقي مع الحكومات ذو التوجهات في انظمة الحكم العسكرية. لقد ظهرت انظمة مسلحة عبرت عن ولائها الديني بهدف اسقاط حكومات كانت في اتجاه مغاير للمعتقدات الدينية، كما كان الحال في افغانستان من الملكية حتى سقوط الشيوعية، فلقد كانت دولة جبلية عصية على الدول الغربية والاتحاد السوفيتي، اذ بدأ الحكم اليساري بداية عام 1978 في تأسيس جمهورية افغانستان الديمقراطية بقيادة حزب الشعب الديمقراطي الذي انتهج الفكر الماركسي، فتعمق الصراع بين الشعب والعقيدة الجديدة فتوسعت المعارضة للحكم الشيوعي، بتحول التيار الديني للجهاد بتوجه اسامة بن لادن الى افغانستان عام 1996 مرتبطاً بعلاقة قوية بجماعة طالبان، والتي مازال ليومنا هذا تأثير تلك الجماعة على تخلف المجتمع الافغاني للقيم المدنية ولتدني مكانة المرأة.
لقد انتشر هاجس الخوف من الصراع الديني المتطور عبر الانظمة العسكرية فصارت تلك الحكومات الاسلامية تفرض نفسها بانها ظواهر اسلاموفوبيا Islamophobia فصار التقليد الغربي وقد اعتراه الكثير من الظلم على مجموع الكيانات السياسية منذ نهاية الحرب العالمية الاولى، فلم يظهر الغرب الوجه الآخر للإسلام بل قام بالتركيز على الوجه المعتم في صراعه السياسي على نظام الحكم وانتزاعه بالقوة كما حصل في الثورة الايرانية التي استبدلت الإسلام بدل اطر العولمة التي عاشها المجتمع الايراني، هكذا حلت العلمانية بدل الخلافة الإسلامية وقد بدا عهد جديد في علمنة المجتمع التركي وازالة او محاولة ازالة التراث الإسلامي.
بات الصراع بين العلمانية والتدين حين اعاد للأذهان التعصب المقيت في تنظير عقائدي عاد بالمجتمعات الشرقية الى ذكريات الحروب الصليبية، وما يحصل اليوم من حرق القرآن في السويد إلا إشارة واضحة لإسلوب تعسفي وغير مبرر من الانتقام في الاجيال الاسلامية القادمة بلا مبرر، فقط لانها تحمل طابع الانتماء للإسلام بحرق رموزهم الدينية. لقد ولد الصراع المذهبي الى يومنا تشويه سمعة الدين وخاصة الدين الإسلامي، ذلك الصراع العقائدي بين السنة والشيعة، والاقتتال الذي حصد الملايين من الطرفين مما جعل الفكرة الغربية توسع اطار الفوبيا الإسلامية بلا تقدير للتغييرات الجوهرية التي غيرت العالم الإسلامي وجعلته اكثر ملائمة لطابع الحياة الغربية رغم وجود جماعات اسلامية مسلحة الى يومنا هذا تفرض الحصار الفكري والتعليمي والتعامل مع الغرب، إلا انها ليست بذات القياس التي كانت عليه قبل عشرات السنين. لقد اثر الصراع المذهبي على سمعة التدين في كل العالم، فرغم الصراع الشيعي السني نرى حرص ايران ان يتضمن اسمها صفة الإسلامية. لقد بات واضحا ان المجتمعات الإسلامية لم تستطع ان تتوافق مع الاعداء التقليديين لهذا الدين فصار احساس المتدين ابراز هويته الدينية بأي شكل كان. صار الدين النسخة التي يمكن تصديرها غالبا عبر الصراع المذهبي، فكل مذهب يرى ان مذهبه الاتجاه الصحيح لمعتقداته. انتقل الصراع المذهبي بأشكاله العقائدية في الشرق بحكم وجود تلك العقائد في الوجدان وفي اعماق اللاوعي الجماعي للشعوب الى سلطة تحكم دولا عند ظهور الإسلام السياسي، حتى تحول الاتجاه السياسي الى ايديولوجيا تماما كما هو الحال مع العديد من ايديولوجيات العولمة فصار توظيف النص الديني في خدمة الهدف الدنيوي ليظهر مفهوم ” الدين والدنيا ” فلقد ظهر التباين واضحاً بين النص المقدس وقوى الإسلام السياسي، ماذا انتجت لنا هذه التشكيلة الجديدة ؟ لقد انتجت اسوأ انواع الاستبداد والفوضى وتمكن دكتاتوريات انظمة الحكم الهيمنة على المال العام بهدف افقار الشعوب ومحاولة ابقاء النص الديني مقدسا في العقول اطول مدى ممكن. ان التناحر الديني بين التيارات الإسلامية وانظمة بلدان الشرق الاوسط تتمثل في هدف الوصول للسلطة وليس بهدف ارساء العدل الإجتماعي وعدالة توزيع المال العام، لقد نجح الصراع في اثبات هوية المعتقد الى تأكيد ذهنية التبعية المطلقة للحاكم اذ كان غالبا حاكم ورجل دين. لم يعد التمييز بين ماهو ديني وماهو سياسي حتى ان الصراع بين الاديان الإبراهيمية نفسها ” اليهودية، المسيحية، الإسلام ” مازال فيها الصراع فصار تدين الدولة او دولة التدين يحمل صراعاً فكريا وعقائديا مما يؤدي احيانا الى صراع دام بينهما كما وقع الحال في مصر عندما اعلنت الدولة المصرية بهويتها الإسلامية الحرب على اخوان المسلمين فقامت باعتقال واعدام العديد منهم . حتى وقع الامر نفسه في تونس ، الجزائر، اليمن و سوريا. تقاسم الغرب الشرق في قيام الدولة الدينية، فهذا قسطنطين المسيحية اعتمد المسيحية ديناً للامبراطورية الرومانية فتحكم بها الكهنوت فصار التزمت العقائدي الكيان الدستوري للدولة، فلقد خاض الكثير من الحروب الدينية، هكذا اعتمدت دول الشرق النهج الإسلامي فكانت البداية ان خاضت القبائل العربية الهجوم والاستيلاء على القوافل التجارية والحروب الضروس في السيطرة على المدن في العهد الجديد للتدين من خلال للفتوحات الإسلامية. سيطر البابا على الدين والدنيا في اوربا وسيطر الخليفة على الدين والدنيا وكلاهما قوة قمع الشعوب، الامر الذي اختلف بين دين الشرق والغرب، فدين الغرب رفض استغلال الدين في السياسية، بينما صارت السياسة في الشرق ادخالها جزءاً في التراث الديني.
الصراع ليس مفهوم حديث بل ظاهرة امتدت مع امتداد الحياة وقد شملت كل مر احل التاريخ، فمنذ فجر الحياة ظهرت التفسيرات بين الفلاسفة والمفكرين وقد اختلفت تلك التفسيرات واختلفت معها ادوات الصراع. هكذا ظهر الصراع السني الشيعي، وكما اشارت كلمة الصراع هي انها وضع اجتماعي يسعى فيه طرفان لتحقيق اهداف معاكسة فكل فريق عقائدي يرى ان الحق بجانبه ويسعى بكل ما اوتي من قوة لتحقيقه، وقد نشأ الصراع العقائدي للفكر الديني على اساس ايمان احد الطرفين بما يراه مناسباً وحقيقيا لأفكاره وايمانه بالوقت ذاته في عدم حقيقة ايمان الطرف الآخر. جسّد الصراع بين المذاهب الدينية اشكال وانماط يمكن استخلاص نظرية العقيدة فيها المتمثلة بالنظرية النفسية ” السيكولوجية ” فالقائد الديني يقود الموالين له في تغذية ميولهم الدينية بدوافع الرغبة في التسلط والسيطرة وزرع الاحقاد والكراهية، فتتحول المذاهب الدينية الى نزاعات عدوانية وانفعالات نفسية، حولت الدولة الى مذهب ديني كبير تقوده الأفكار الدينية في مختلف مراحلها التي تطبق مبادئ الإيمان بالغيب قسراً حتى يمتد الأمر الى نظرية العلاقات المجتمعية التي تمثل الصراع في الانقسام والاستقطاب وحالة الفوضى وعدم الثقة والعداء بين الطوائف داخل المجتمع الواحد، ففي الصراع الديني الباب مفتوح في انهيار قيم الدولة وفقدان سلطتها بشكل مباشر وغير مباشر احياناً، فالشعوب تتحرك باتجاه الصراع بسبب حماسها تجاه المثاليات الدينية او الوطنية فيتم نشر وسائل الاكراه ضد المعارضين.
لقد تشكل الفكر الديني اصلا من خلال مذهبية الإيمان، ولم يكن في مقدور الدين ان يستمر لولا الصراع المستميت من اجل بقائه، هكذا بدأت التصورات السياسية الشيعية وتميز دورها في الصراع السني، فلقد كان للبعد السياسي المسيطر على فاعلية الدولة اذ فرضت مسألة الحكم نفسها على الواقع السياسي والاقتصادي للدولة وصار المسلك التاريخي الديني لا يتم إلا من خلال تيار التشيع، فظهرت الكثير من الفرق الإسلامية وصار حب علي بن ابي طالب جوهر الصراع في تاريخ الفكر الديني الإسلامي، ادى ذلك الى تصدع الوحدة الإسلامية التي بدأت في منهاج السنة، وانهياره مقابل المد التشيعي، حتى باتت ولاية الفقيه في ايران تمتد بدورها الى الحياة السياسية للنخبة في العراق وان كانت ظاهرياً لم تتخذ كعقيدة لها اجندتها الواقعية في العراق إلا انها اثبتت واقعها من خلال الولاء المطلق لقيادة التشيع في ايران. لقد لعب الدور الديني في العراق في اضعاف المال العام وانهيار مدنية الدولة فانتشر الجهل وتعمق التعصب والاصرار الى الرجوع للخلف بهدف التمثل لشخصيات جسدت طابع الصراع الاموي السني بمزايا اخلاقيات الصراع الهاشمي التشيعي، وانتقاله للصراع المفتوح بين الفكر العقائدي الشيعي وتاريخ التسنن الإسلامي الى يومنا هذا.
ان الأمر ازداد تعقيداً في استمرار الصراع المذهبي في عقيدة الاثنى عشرية التي ترى الامامة منصباً إلهياً والامام فيها مختار من الله لسابق علمه وله الوجود السابق لبشريته الى غياب محمد بن حسن العسكري الذي اختفى منذ 12 قرناً ، فلم تتطور نظرية الإيمان بغيبية المهدي المنتظر ”محمد بن الحسن العسكري ” إلا حين قام الخميني بتطوير تلك النظرية الى نظرية ولاية الفقيه لتحل هذا المعضلة في الفكر المعاصر ، لقد تحولت عقيدة فكرة الإمامة من الانتظار الى التفعيل فالولي يقوم محل الامام حتى ظهوره. لقد شكلت نظرية ولاية الفقيه نقلة نوعية في تاريخ الفكر السياسي الشيعي ومنعت عنه الذوبان في التاريخ المجهول لظهور الإمام المنتظر، رغم ان ركائز عقيدة الإيمان بالامام الغائب تشوبها الكثير من التناقضات والروايات الموضوعة إلا انها منعطف تبريري لصياغة التدين الشيعي، هذه النظرية عبرت الحدود الجغرافية لإيران بهدف ربطها بتحالفات مع دول مثلت الاذرع العقائدية لها بهدف تشكيل النظام الدولي على اساس تعددية الاقطاب فصارت ايران المفهوم الجيوبوليتيك الشيعي مما اعطى لإيران سلطة الزعامة للعالم الشيعي، فصار الربط بين مركزية ايران في التشيع ومركزية صنع القرار في ولاية الفقيه (12)
بات من الواضح اعتماد ايديولوجيا الاسلام السياسي الشيعي في ايران من خلال منطلق التوسع الإيراني اذ اظهر الطموح الايراني هدفه التوسع الإقليمي حتى كان في عصور سابقة لظهور الإسلام المتمثلة في الامبراطورية الفارسية وهم يروا في ذلك امتداداً طبيعياً لحضارة التاريخ القديم، ومن خلال ذلك الايمان المطلق طرحت اوساط ايرانية عديدة فكرة تصدير الثورة الى العالم الإسلامي في التصور الراسخ للعقيدة ان تلك الثورة قابلة للتكرار في اي بلد عربي آخر . تبنت ايران فكرة توسيع علاقات منتخبة لفئات شيعية في العراق، لبنان وبلدان خليجية اخرى كالبحرين وقد ظهر مجلس التعاون الخليجي ردة فعل على الثورة الايرانية لما قدمته من نموذج راديكالي معادٍ للأنظمة مما جعل المجلس يتجه غربا في حماية مصالحه الإقليمية فصار التقرب الغربي رادعاً للثورة الإيرانية وتحجيماً لدورها التوسعي. لقد ادى الصراع السني الشيعي في العراق وايران الى قيام حرب ادت الى انهيار اقتصاد البلدين، اذ تحول الصراع المذهبي والطائفي الى صراع عسكري مرير، صراع سني شيعي بقدر ما حكمته الطبيعة المذهبية سادت فيه كذلك الاطماع السياسية ما جعل الطموح الإيراني وقد وجد في الاحتلال الأمريكي للعراق فرصته السانحة لزيادة التوسع فانهيار القيادة العراقية وفقدان وحدتها السياسية جعل فرصتها كبيرة للهيمنة على القرار السياسي العراقي. لقد مر على العراق عقدين من الزمن او يزيد لم يتقدم خلالها علمياً، اقتصاديا، عمرانيا، دولياً غير تقدمه الوحيد في حقل العقيدة الشيعية، فحولت العراق من عوالم العلمانية الى النظام الجديد في مزالق الدولة الدينية الشيعية.
هل يحتاج العالم الى عقيدة تحل محل الاقتصاد والقوانين المدنية بقوانين دينية امتد تاريخها لعشرات القرون؟ وهل يفترض ان يتحول مبدأ التشيع الى اداة قسرية لتعطيل تنمية الدول العربية غير الشيعية وتلك التي تدور في فلك ولاية الفقيه، وهل الاحزاب التي تدين بالولاء لإيران قادرة ان تحرر الشعوب العربية المستضعفة كشعب فلسطين بدل تأجيج الصراع المذهبي لصالح القوى الغربية الموالية لإسرائيل؟ ان الاحزاب الشيعية في دول المحور الايراني، سوريا، لبنان، العراق، باتت مواقع مستهدفة ذلك ان المدنية يجب عليها افراغ المحتوى الديني كي تكون دولا ذو ميزان اقليمي رصين قادر على التنافس في ميادين التنمية البشرية كما فعلت قطر والامارات. ان صراع المذاهب الدينية يفتك باستقرار الدول ويجعلها فريسة للمطامع الغربية فيكون العالم كله ميزان غير متعادل بين الهيمنة الغربية ومطرقة الحصار الاقتصادي التي تعطل دور الدول في اتمام دورها الواطني في الوجه المثالي للدولة بما يمثله حرية وكرامة المواطن بدل حشره في رقعة جغرافية يصعب عليه التنقل خارجها إلا بشروط صعبة، مازالت تلك الدول في محور التشيع تراهن بشكل عنيد على تحديها رغم مرور عشرات السنين على وضعها داخل حصار اقليمي لا تتعداه.

مراجع البحث

1 – سورة ابراهيم 27
2 – سورة ص 26
3 – سورة فاطر 8
4 – سورة الاسراء 16
5 – سورة آل عمران 54
6 – سورة الاعراف 99
7 – سورة النمل 4
8 – سورة الانفال 48
9 – سورة الحجر 39
10 – سورة العنكبوت 3
11 – سورة الاعراف 27
12 – الايديولوجية الصهيونية : دراسة في علم اجتماع المعرفة، عالم المعرفة، عبدالوهاب المسيري، طبعة 1 الكويت، 1982 .



.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط


.. 102-Al-Baqarah




.. 103-Al-Baqarah


.. 104-Al-Baqarah




.. وحدة 8200 الإسرائيلية تجند العملاء وتزرع الفتنة الطائفية في