الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقض الدين والفلسفة

هيبت بافي حلبجة

2023 / 8 / 7
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ننتقد البناء التأسيسي والمبنى التأصيلي لكل من الدين والفلسفة ، لكل من الدين كدين ، لكل من الفلسفة كفلسفة ، ولاننتقد هذا الجانب أو ذاك ، لاننتقد هذه الإطروحة أو تلك ، لاننتقد المعنى ، إنما ننتقد المبنى ، ونوضح ذلك من خلال ثلاثة مستويات متقاربة . المستوى الأول ، وهو موضوع الميتافيزيقي والغيبي ، أي ماوراء الطبيعة حسب تعبير أرسطو ، والمستوى الثاني ، وهو موضوع المنطق ، والمستوى الثالث ، وهو موضوع الحقيقة . مع ملاحظة إننا لانعالج هذه المواضيع في زواياها الخاصة ، فذلك يحتاج إلى صفحات وصفحات ، إنما نتحدث هنا عبر السؤال الأساسي عن ماهو المعيار الفعلي لمحتوى فهمنا لتلك المواضيع وعلاقتها بالدين والفلسفة .
المقدمة الأولى : في موضوع الميتافيزيقيا والغيبيات يهمنا ما ذهب إليه أرسطو ، وما ذهب إليه المعتقد الإسلامي ، الأول ذهب من الفيزيقيا إلى ميتافيزيقيا ، وتحديداٌ من الطبيعة إلى ماوراء الطبيعة وركز في هذا المجال على الحالة الإنطولوجية ، بينما الثاني ألغى كل ما هو محسوس ومدرك وقفز إلى الغيبي الأول ، الوجود الوهمي ، وجود الإله ، وألصق به كل ما هو غير معروف مباشرة من قبل الإنسان ، وركز في هذا المجال على الحالة الإبستيمية ، المعرفية الصرفة . أي :
ومن جهة أولى ، من جهة أرسطو ، يقسم أرسطو الميتافيزيقيا ، الماوراء الطبيعة ، إلى ثلاثة أقسام ، القسم الأول وهو علم الوجود ، وتحديداٌ الوجود الإنطولوجي المحض ، القسم الثاني وهو علم اللاهوت ، وتحديداٌ كل مايتعلق بموضوع الذات الإلهية ، والقسم الثالث وهو علم الكلي ، أي علم المبادىء العقلية والمبادىء الأساسية ، مثل مبدأ الهوية ، مبدأ عدم التناقض ، مبدأ الثالث المرفوع .
وحينما نتمعن في هذه الأقسام ندرك بجلاء تام إن أرسطو قد ألحق الفيزيقي بالميتافيزيقي كمكمل هامشي ، قد ألحق الطبيعة بماوراء الطبيعة كتابع حسابي ، لذلك هو يرى إن الإله محرك لايتحرك ، وهو الذي حرك العالم ، على الرغم من إنه يلغي محتوى الخلق لدى الإله ، أي إن هذا الأخير لم يخلق العالم والكون والمادة ، إنما هو المحرك الذي حرك المتحركات ، من حيث ، من حيث إنها وجود سايق ، من حيث إنها مادة سابقة .
ومن جهة ثانية ، من جهة المعتقد الإسلامي ، يقول النص الإلهي ، سورة لقمان ، الآية 34 : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم مافي الأرحام وماتدري نفس ماذا تكسب غداٌ وماتدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير .
وبخصوص هذه الآية ، يقول الشيخ محمد متولي الشعرواي ، إن الحارث بن عمر بن حارثة قد أتى رسول الإسلام فقال له ، أريد أن أعرف متى الساعة ، وقد بذرت بذري فمتى ينزل المطر ، وإن إمرأتي حامل فهل ستلد ذكراٌ ، وقد أعدت لليوم عدته فماذا عن غدي ، وها قد عرفت حياتي فكيف أعرف مماتي ، فنزلت هذه الآية .
وهكذا فإن النص الإلهي يركز على الجوانب التالية :
الأول إن الحقيقة الإنطولوجية الوحيدة هي وجود هذا الإله ، ولاوجود غير هذا الوجود ، ولاوجود يتخطى هذا الوجود .
الثاني إن الغيبيات ، وهي كثيرة ، تتمركز حول الجانب المعرفي ، الإبستيمي فقط ، أي معرفة ماذا وماذا ، وهي تتعلق حتماٌ بما قد سوف يحصل .
الثالث إن هذه المعرفة تدور حول ما سوف يحدث للإنسان وهذا يدل على جهل مؤلف النص الإلهي بحقيقة فهم أصلية العلاقة مابين اليوم ومابين الغد .
والرابع إن النص الإلهي ليس في حقيقته إلا نصوص تستجيب لحالة بشرية مباشرة ولا علاقة لها بتأصيل العلاقة الموضوعية مابين الإله المفترض ومابين الإنسان .
والخامس من المؤكد إن هذا رد فعل بشري بسيط على أسئلة مباشرة : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداٌ وماتدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير .
والسادس إن ذكر إن الله عليم خبير يدل على إن مؤلف النص الإلهي بشر يصف الإله بالعلم والخبرة ، أو ليس هو من أقر بذلك ، فكيف يكون عليماٌ خبيراٌ بما يصدره ويقره هو نفسه .
ومن جهة ثالثة ، من جهة فكرة الإله ، إذا ما أغضضنا الطرف عن موضوع الديانات ، وتصوراتها الساذجة حول هذا الوجود ، وذهبنا إلى التجريد الكلي والفرض الجدلي البحت ، وكان هناك إله ، فماذا يمكننا القول ، وكيف يمكن أن يكون هذا ، هذا الإله ، هو هو :
من جانب أول ، لن يحتاج هذا الكائن أن يطلق إليه أسم ووسم وخاصية الإله ، فيكون إلهاٌ لمن ، إلهاٌ لنفسه ، إلهاٌ لوجوده الخاص .
ومن جانب ثاني ، لن يكون هذا الكائن غيبياٌ وميتافيزيقياٌ ، سيكون هو هو ، هو الوجود الفعلي والحقيقي ، فلاغيبي ولاميتافيزيقي بالنسبة له .
ومن جانب ثالث ، لن ، بل من المستحيل عقلاٌ ومضموناٌ وإنطولوجياٌ ، أن نوجد نحن وغيرنا من النباتات والطيور والحيوانات ، وحتى هذه الطبيعة التي نحن جزء منها بشكل ما أن توجد .
ومن جانب رابع ، يمتنع عن هذا الإله كل شكل من أشكال الحركة ، فهو لايستطيع أن يتحرك . ويمتنع عنه أي نوع من أنواع الإرادة، فهو لايستطيع أن يريد . ويمتنع عنه أي مضمون من مضامين المشيئة ، فهو لايستطيع أن يشاء . ويمتنع عنه أي محتوى من محتويات الخلق ، فهو لايستيطع أن يخلق .
ومن جانب أخير ، إن الشيء الوحيد ، وهذه حالة جدلية ممتنعة ، الذي يمكن أن يكون ، أن يكون هذا الكائن مائتاٌ ، شريداٌ لاحياة فيه ، إنه مجرد أن يكون تجريداٌ مجرداٌ من كل ماقد يخطر على بالك ، ولايخطر على بالك ، فهو واللاوجود واللاشيء ، كلها هناك ، كلها فراغ فارغ بالكلي والمطلق .
المقدمة الثانية : وفيما يخص موضوع المنطق ، فسواء كان الأمر يتعلق بالمنطق الشكلي الصوري الأرسطوي ، أم بالمنطق الديالكتيكي الهيجلي أو الماركسي ، أم بالمنطق الرياضي ، أم بمنطق الموضوعية الإيجابية ، ومهما يكن تعريفه ، وسواء كان فناٌ ، أم علماٌ ، أم الأثنين معاٌ ، فإن السؤال الأساسي والوحيد هو : من يفرض منطقه ، من يفرض المنطق ، بأي منطق أي بمنطق من نحن وغيرنا محكومين ، وهل نحن فعلاٌ وغيرنا محكومين بمنطق ، أي كان شكل ومضمون هذا المنطق ، أي ماهو المنطق الذي يحكم الكون أو الوجود ويحكمنا ، وهل وجود المنطق ضرورة وماشكل هذه الضرورة ، وإذا ماغاب المنطق فهل يحكمنا اللامنطق ويحكم الكون والوجود ، أم ثمت أمر ، هو الأساس والجوهر ، هو حقيقة الفيزياء ، حقيقة الفيزياء بالنسبة لنا ، بالنسبة للإنسان ، وأما خارج حدود الإنسان فكيف يمكن أن نتحدث عن المنطق . وهكذا :
من جهة أولى ، من جهة المعتقد الإسلامي ، إذا كان الإله هو الذي يتحكم بالكون ، وإذا كانت له مشيئة أو قدر ، وإذا كانت إرادته تتحكم في أصول الأشياء وفينا ، في كل جزء من الثانية ، بل تتحكم فينا وفي الأشياء حتى خارج الزمن والمكان ، إذا كان بمقدوره ، وهذا من قدرته الكلية ، أن يتصرف ويغير من ومن ، فهذا يفضي لا محالة إلى غياب المنطق برمته ، غيابه وغياب قوانينه ونواميسه ، ومهما كان نوعه وشكله ومضمونه ، بل الأنكى من ذلك إن ، لو وجد المنطق تحت أي شرط كان ، فإن هذا الإله يستطيع أن يبدله ، يلغيه ويقصيه ، بل حتى أن يجعله خارج حدود أي منطق كان ، بل يستطيع ، حسب المعتقد ، أن يجعلنا محكومين باللامنطق .
ومن جهة ثانية ، من جهة المنظومة الفكرية لهيجل ، إذا كان الأساس الفكري لكل منظومة هيجل يكمن ، ويكمن قطعاٌ ، في موضوع الروح المطلقة ، الفكرة الكلية ، فإن ، أي حديث هيجل عن المنطق هو حديث سخيف وتافه ، إلا إذا إقترن بكليته بمحتوى هذا الجوهر المطلق ، وطالما نحن نتحدث عن هذه الروح المطلقة فإننا إزاء :
من جانب أول ، غياب الأشياء ، غياب منطقها ، غياب الكون لمصلحة الوجود ، الوجود الإنطولوجي ، موضوع حلقة قادمة .
ومن جانب ثاني ، إذا وجد منطق ما فهو منطق تلك الروح الكلية ، والسؤال المحوري هنا ، كيف أدرك هيجل منطقها ، وكيف أدرك كيف إنها تتحكم وتؤثر على الكون والأشياء بذاك المنطق .
ومن جهة ثالثة ، من جهة المنظومة الفكرية لماركس ، وإذا تجازونا كافة إطروحاته ، وأغضضنا الطرف عن تلك الإنتقادات التي وجهنا إليها ، تبقى تلك الفكرة القاتلة ، والتي تدور حول أساس التشكلية التاريخية الخامسة ، والمرحلة الثانية والأخيرة ، حيث فناء الدولة والقوانين ونهاية الإستغلال والجور والظلم ، حيث لايمكن مطلقاٌ أن تتحقق إلا إذا تحقق شرط وعي الضرورة ، أي شرط وعي الإنسان لهذا الوعي ، وعي الضرورة ، وطالما نحن نتحدث عن الوعي التاريخي فإن كل ما إشترطه ماركس في مقدماته الفكرية وبناء ديالكتيكها ومن ثم منطقها ليس إلا حالة حماقة فلسفية ، لإنه هو يلغيها من حيث إنها مقدمات كونية ، مقدمات تاريخية .
ومن جهة رابعة ، من جهة المنطق الرياضي ، فإن ذلك ليس إلا تصورات غير دقيقة ، لإن حسبها ينبغي بالضرورة كشرط مطلق : أن تكون معرفتنا بحقيقة الرياضيات تامة وأكيدة ، وأن تكون على علم مطلق بحقيقة العلاقة مابين الرياضيات والكون ، وهذا ما هذا ، بل وهذا محال لمليون سبب .
ومن جهة خامسة ، من جهة تلك الفرضية التي ذكرناها في المقدمة الأولى ، وكان من جهة ثالثة من جانب فكرة الإله ، فلو وجد ذلك الكائن المائت لما كنا وماكان أي منطق لنا ، أو أي منطق يحكمنا أو يحكم الكون ، بل لما كان أي منطق لهذا الكائن وأي منطق يصدر عنه أو أي منطق يحكم شأنه ، لكان هو نفسه لامنطق له ، أي إله جاف وجامد بدون منطق .
المقدمة الثالثة : وفيما يخص موضوع الحقيقة ، كلما إزداد فهمنا لأساس محتوى الحقيقة المرتبط حصرياٌ ، وفقط حصرياٌ ، بالكون ، وبالكون فقط ، خارج إطار التعريف الساذج والسخيف للحقيقة ، وخارج ما يسمى بأنواع وأشكال الحقيقة ، كلما إزداد فهمنا لسذاجة الدين والفلسفة . فكيف تحدث الدين والفلسفة عن الحقيقة :
من جهة أولى ، يقول الجرجاني إن الحقيقة هي الشيء الثابت قطعاٌ ويقيناٌ ، وكإننا ندرك ماهو هذا الشيء الثابت بالقطعي واليقيني ، وماهو اليقين والقطعي ، وماهو معيار الحقيقي والفعلي لهما .
من جهة ثانية ، ثمت نظرية التطابق للحقيقة ، ونظرية الإتساق ، وحسب الأولى كي نكون إزاء الحقيقة لابد من تطابقها مع الواقع ، أن تكون صادقة مع الواقع ، وكإننا ندرك ماهو الواقع ، وندرك قوانينه وقواعده ، ومن خلال ذلك ندرك مضمون الحقيقة .
وأما نظرية الإتساق ، فهي تؤكد على أمرين أثنين ، الأول إن الشرط الفعلي للحقيقة هو توفر الإتساق مابين حيثياتها ، والثاني من الواضح إن مضمون الإتساق لايعبر إلا عن حالة نسبية وشخصية ، وقد مايبدو لدى بعضهم متسقاٌ هو يفتقر إليه .
ومن جهة ثالثة ، يؤكد العقلانيون إن الحقيقة ينبغي أن تتأسس على العقل ومبادئه ، وكإن العقل الإنساني يتضمن في جوهره تلك الأسس التي تحرك محتوى الكون وتشرح تكوينه وطبيعته .
ومن جهة رابعة ، إن المعتقد الإسلامي لايؤمن بأي حقيقة سوى حقيقة الوجود الإلهي ، لذلك ثمت واجب الوجود وممكن الوجود ، فواجب الوجود هو الحقيقة ، هو حقيقة الوجود ، هو الوجود ، وأما ماهو ممكن الوجود فهو بالقطع خارج تأصيل الحقيقة ، لإنه بالأصل أصبح موجوداٌ من خلال إرادة واجب الوجود الذي هو الإله ، الذي هو الحقيقة الوحيدة .
ومن جهة خامسة ، وأما التجريبيون الذين أصلوا للحقيقة على قاعدة التجربة ، فإن ذلك بداية الطريق إلى فهم الإتجاه الذي يفضي إلى مايمكن أن يسمى يوماٌ ، فهمنا الأولي لمحتوى الحقيقة ، مع ملاحظتين ، الأولى أن تكون التجربة مرتبطة بالواقع وبالكون حصرياٌ ، الثانية أن تكون الفيزياء هي أساس ومحتوى أصل التجربة ، مع شرط وهي أن ندرك إن فهمنا لن يكون إلا في حدودنا ، ولن يخطى بالقطع أساس تلك الحدود .
ومن جهة سادسة ، يؤكد وليم جيمس ، أحد الأقطاب الثلاثة للذرائعية ، البراجماتية ، إن الحقيقة مرتبطة بالضرورة بالمنفعة ، وهكذا كنا بمصيبة واحدة غدونا نعاني من مصيبتين ، مصيبة محتوى الحقيقة ومصيبة موضوع المنفعة ، وكأننا ندرك المنفعة بصورة مسبقة وبمعيار موضوعي تام ، بل وكإن المنفعة خاصية واحدة ، ذات سياق وحيد ، وطبيعة إحادية الجانب ، ومشتركة مابين البشرية جمعاء بهذه الخصائص .
ومن جهة سابعة ، بعد أن شك بالعقل وبالحواس ، أطلق جملته الشهيرة ، أنا أفكر إذن أنا موجود ، وأعتمد على خاصية الشك ، ولم يتوفق ديكارت في موضوع الوصول إلى الحقيقة ، لإنه أستند ، أول ما إستند إليه في منهجه ، هو موضوع البداهة ، وربط مابين البداهة والحقيقة ، إن البداهة هي البداهة التي هي مطلقة ولاتفتقر إلى ما يكشف عنها ، وهذه مغالطة فاحشة ، فلو وجدت مثل هذه البداهة لما شك في كل شيء ، وإستنجد بالمذهب الشكي ، لكانت تلك البداهة هي الأساس الأصيل والأصلي .
نكتفي بهذا ، ونبدي رأينا كالآتي ، في موضوع المادة ، ثم في موضوع الواقع ، ثم في موضوع إشكالية الإنسان :
أولاٌ : في موضوع المادة ، ميز القدماء مابين المادة والروح ، وإشتهر عن الماديين إعتقادهم إن المادة هي التي سبقت الوعي والروح فيما يخص المسألة الأساسية للفلسفة ، وإستغرب الكاتب عباس محمود العقاد تصورهم هذا ، وضرب بيده على الطاولة التي أمامه ، هاتفاٌ كيف يمكن لهذه الطاولة أن تخلق الوعي .
وإذا عرفت المادة على إنها ، كل شيء يشغل حيزاٌ وله كتلة ، فإن لافوازية ، العالم الشهير ، قد تقدم بقانون سماه ، قانون حفظ المادة ، الذي حسبه إن لاشيء يفنى فناءاٌ ولاشيء يحدث حدوثاٌ ، إنما هي ولادات وةتطورات وتبدلات وتفاعلات وتغيرات وإنحلال وتفكك وتفسخ من إلى ، ومن إلى إلى من .
وإذا إعتقد الفكر الكلاسيكي إن الكون مؤتلف من مادة وطاقة ، مادة منفردة ولها خواصها دون الطاقة ، وطاقة منفردة لها خواصها دون المادة ، أي لامادة تتحول إلى طاقة ، ولا طاقة تتحول إلى مادة ، فإن ماكس بلانك وأنشتاين قد أكدا إن هذا التصور خاطىء ، وإن المادة تتحول إلى طاقة كما تتحول الطاقة إلى مادة .
وإذا كانت الأجسام الكبيرة تتصرف وفقاٌ لقواعد وقوانين خاصة بها ، فإن الفكر الحديث يؤكد على إن الجسيمات المتناهية في الصغر تتصرف وفقاٌ لطبيعة مزدوجة ، كجسيم وكموجة .
وإذا أكدت الفيزياء الحديثة على وجود ظاهرة التشابك الكمومي ، التداخل الكوانتي ، مابين جزيئين ، اللذان يتصرفان مكملين لبعضهما البعض دون أي إعتبار للمسافة التي تفصل مابينهما ، مثل حذاءين ، أحدهما أيمن والآخر أيسر ، فتخالفت إطروحات كل من أنشتاين ونيلز بور ، وأكدت التجارب على صدق ماذهب إليه نيلز بور . أي إذا كان لدينا حذاءان ووضعنا أحدهما في علبة في القطب الشمالي ، والثاني في المنزل فمجرد فتح علبة ما نعرف إذا كان الأول أيمناٌ فإن الثاني هو أيسر بالضرورة ، فإعتقد أنشتاين إن الأمر قد تقرر مابين الجزيئين منذ حصول التشابك الكمومي في حين أكد نيلز بور إن هذا لايتقرر إلا ، وحصراٌ إلا ، عند فتح إحدى العلبتين ، أي إن الحذاءين يكونا ، في نفس النفس ، أيمناٌ وأيسراٌ معاٌ ، فلا أحدهما أيمن ولا الآخر أيسر ، لكن مجرد النظر في داخل إحدى العلبتين ، فإذا إختار الأول أن يكون أيمناٌ فإن الثاني يضطر أن يكون أيسراٌ ، وهذا هو أساس تجربة ماتسمى بقطة شرودينعر ، فالقطة هي حية ومائتة معاٌ وسوف تختار إحدى الحالتين إذا نظرنا إلى داخل الصندوق موضوع التجربة .
والآن ، كيف ندرك أساس فهمنا لموضوع أصل المادة ، أو التي تسمى بالمادة ، لكي ، لابد من إدراك جوهر الحركة الفكرية لدينا :
من جانب ، لندع جانياٌ ثنائية الوعي والمادة ، ثنائية الجسد والروح ، لنترك التعريف الكلاسيكي للمادة جانباٌ ، كونها تشغل حيزاٌ ولها كتلة ، ولنهجر عالم الأجسام المركبة والماكروسكوبية ، ولنشاهد فقط عالم الجسيمات الميكروسوبية المتناهية في الصغر ، لإن الأجسام الماكروسكوبية تخلق ، وقد خلقت ، قضيتين كاذبتين تربكان الفكر والتحليل ، تؤذيان المنهج والأصول ، وهما قضية الماهية وقضية الجوهر ، وفي الأصل لاماهية ولاجوهر .
ومن جانب ثان ، إن هذه الجسيمات الصغيرة تعري فحوى المادة من إنها تشغل حيزاٌ ولها كتلة ، وتتصرف خارج طبيعة الحيز والكتلة . ورغم من إنها أصل المادة بمعناها الإنساني إلا إن لها عالم خاص ، عالم شديد الخصوصية ، وكإن لكل منهما عالم منفصل تماماٌ عن عالم الآخر ، وكإن العالم الأول يخص الإنسان ككائن حسي ، والآخر ينتمي إلى ماهو خارج عالم الإنسان .
ومن جانب ثالث ، إن هذه الجسيمات تمارس ذاتها ، تمارس ما تمارس ، فهي لا تتصرف ، وليس لها قوانين وقواعد بالمعنى البشري لهما ، كما إنها لا تخضع لقوانين وقواعد ضمن إشكالية الخضوع ، إنما هي تمارس ذاتها ، أي هي كما هي تتجلى لذاتها كما هي .
ومن جانب رابع ، ليس لها طبيعة مزدوجة ، جسيم وموجة ، إنما تبدو كذلك حينما تخضع للشرط الإنساني في التجربة ، وقد تبدو وكإن لها طبيعة ثالثة ورابعة ، وذلك ليس حسب شرط الواقع إنما حسب شرط الطرف الآخر ، شرط من يبحث عن طبيعتها .
وهكذا فإن هذه الجسيمات تكشف حقيقة مايدور في ثلاثة مستويات :
الأول إنها تلغي الوجود الإنطولوجي لكل مانسميه جهلاٌ بالميتافيزيقي والغيبي ، لإنها لاتقبل بأي شكل من الأشكال التدخل في شؤونها الخاصة ، كما إنها تعارض بالمطلق أصول الخلق ، الخلق الإلهي .
والثاني وإذا وجد منطق خاص بها ، فهو ذلك المنطق الذي هي تمارسه من خلال ممارسة ذاتها ، أي إن ذلك المنطق هو الذي يعود في جوهر لها ، أي لتلك الجيسمات .
والثالث إنها هي التي تحدد ، من حيث ذاتيها ، محددات الواقع ، وشرط الواقع ضد ومقابل فهم الإنسان لدلالات الواقع ، وهي التي تكشف عن حقيقة إشكالية فهم الإنسان للكون ، كما إنها تكشف عن معضلة المعضلات في الدين والفلسفة .
ثانياٌ : في موضوع الواقع ، لو أدركنا حقيقة ماهو الواقع ، لأدركنا حجم تلك الإشكاليات البائسة والسخيفة التي تتشدق بها الفلسفة والدين على حد سواء ، ولكي ، لابد :
من جهة ، إن الأجسام غير المجهرية تقابلها في موضوع الفيزياء ، الفيزياء الكلاسيكية ، فيزياء نيوتون ولافوازيه وفيزياء الحركة ومسألة الكتلة ، في حين إن الفيزياء الحديثة الكوانتية هي التي تتناظر مع تلك الجسيمومات الدقيقة المجهرية .
ومن الواضح إن الفيزياء الكلاسيكية هي كاذبة في أصولها ، في علاقتها بتلك الجسيمومات المجهرية ، وهي لايمكن أن تكون صادقة ، ولاتستطيع أن تكون ، إنما تتناظر قواعدها وقوانينها مع أسس زمانية ومكانية الدماغ البشري ، إنما تتوازى تلك القوانين مع طبيعة عقلنا كفكر وكحركة إستنباطية وكعمليات رياضية أولية .
ومن الواضح أيضاٌ إن الواقع ، الواقع من حيث هو أساس مانسميه بالكون ، يرفض الفيزياء الكلاسيكية بالجذرية ، يرفض قوانينها وقواعدها لإنها إفهومات بشرية ولاعلاقة لها بأساس تأصيل حقيقة هذا الكون ، وفي الأصل لاسرعة ولازمن ولامكان ولاتعيين ولاثبات .
وهكذا ، وعند التمعن فيما ذهبنا إليه ، ندرك إن الدين والفلسفة والفيزياء الكلاسيكية والأجسام المركبة كلها تندرج تحت سلة تلك المآزق المشكلة ، في حين إن الواقع من حيث هو أساس الكون ، والمادة من حيث إنها تشكلت من حقيقة تلك الجسيمات المجهرية ، والجسيمومات المجهرية من حيث إننا لاندرك ماهو غيرها ، فإن كلها مجتمعة ومشتركة ستؤلف ماقد يفتح المجال الأولي لتأصيل فهمنا لموضوع هذا الكون .
ومن جهة ثانية ، إن الواقع ، حسب تصورنا ، والذي يكمن في ، وفي ماوراء تلك الجسيمات المجهرية ، يرفض بالمطلق كافة التصورات المسبقة الدينية والفلسفية ، يرفض بالمطلق كافة تلك الميادىء الثابتة والمطلقة الدينية والفلسفية ، ويرفض كلياٌ تلك القوانين والقواعد التي يعتقد البعض إنها تعود إلى الواقع ، لذلك إن الواقع كما تلك الجسيمومات المجهرية يمارس ذاته ، ولايمارس ماهو ثابت أو مطلق ، أو ماهو يملى عليه ، فالواقع ليس هو الواقع إنما هو ذاك الواقع زائد تلك الممارسة . أي : لايوجد ماهو غيبي ميتافيزيقي ، لايوجد أي منطق أولي مسبق يحكم الواقع أو يفسره ، كما لاتوجد حقيقة كما في ذهنية الأديان والفلسفة ، إنما يوجد ماهو يتحقق في ممارسة تلك الجسيمومات المجهرية لذاتها .
ثالثاٌ : في موضوع إشكالية الإنسان ، ثمت ثلاثة أبعاد لهذه الإشكالية :
البعد الأول ، يتصور الإنسان إنه إبن الإله ، إنه الإله ، إنه النبي إبن الإله ، إنه سيد الكون ، والكون قد خلق له خصيصاٌ ، يتصور إن هذه الإجرام البعيدة ، 14 مليار سنة ضوئية ، كلها في خدمته ، وإن هذه الحيوانات والنباتات كلها خلقت له وسخرت ، ولايدري هذا الإنسان إن لو إنه ، هو والأرض والمجموعة الشمسية بل ومجرة درب التبانة ، أفنيت فناءٌ مطلقاٌ كلياٌ لما غير ذلك شيئاٌ في الكون ، فتصور أن يأتيك شخص يزعم إن إلهه قد خلق الأرض والمجموعة الشمسية ومجرة درب التبانة لأجل ذرة تراب في المكسيك أو كاليفورنيا .
البعد الثاني ، إن الإنسان حينما يقوم بتلك التجارب العظيمة المذهلة في تلك المختبرات المميزة والرائعة والدقيقة ، فإنه ينسى إنه في النهاية مراقب ليس إلا ، وإن تلك الجسيمومات المجهرية لاتنكشف ذاتيتها لأي مراقب بل وضمن أي تجربة مميزة كانت ، لإنها لاتمارس إلا ذاتها في مطلق حريتها ، في كلية طبيعتها ، لإنها هي ماهي ، وهي هكذا هي . وهكذا يزعم العلماء إن قطة شرودينغر هي حية ومائتة في نفس النفس ، وتختار إحدى الحالتين عند فتح العلبة ، في حين إن الأدق هو إن تلك القطة تمارس ذاتها فهي ليست حية وليست مائتة ولن تختار إحدى الحالتين ، وستبقى هي على ماهي عليه ولن ولن ، إلا إن الإنسان من خلال التجربة يحجم عنها ذاتيتها ويفرض شرطه الإنساني على التجربة وعلى القطة معاٌ فتبدو وكإن هذه الأخيرة قد رضخت لشرطه التعسفي .
البعد الثالث ، لو أدرك البشر معنى إن وجوده في هذا الكون مؤقت توقيتاٌ تافهاٌ يمكن إهماله ، لما جعل من نفسه إلهاٌ ، ولما خلق الإله والشيطان ، بل لما خلق تلك الثنائية ، فحينما كان الإنسان البسيط الساذج والتافه كان الكون موجوداٌ منذ بليارات البليارات البليارات مع رقم ضخم من الأصفار ، وسيبقى بعده حتماٌ ، أي بعد فنائه وزواله بنفس تلك الأرقام من المن .
وفي النهاية ، حذار حذار من الفهم الخاطىء لما نتصوره ، فهذا لايعني مطلقاٌ ، من جانب إن تجربتنا سخيفة وتافهة بل هي عظيمة ومميزة ومن حقنا أن ندرك الأمور وخباياها ، ثم من جانب أننا ندعو إلى اللاأدرية بل بالعكس سيدرك الإنسان أموراٌ أقوى بكثير من معرفته الحالية وسوف يسلك ذلك الدرب بكل ثقة وبكل طمأنينة ، ومن جانب ثالث إننا نؤكد فقط على بعض القضايا التي لابد منها : إن الحقيقة التي نصبو إليها تنتمي إلى تلك الجسيمومات المجهرية وغيرها ، وإن الدين ليس إلا حماقة بشرية وحاجة كانت تافهة ، وإن الفلسفة إن لم تقترن بفيزياء الكوانتوم ستكون قصيدة عاطلة عن الفعل . وإلى اللقاء في الحلقة الثامنة والأربعين بعد المائة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - المعضله
على سالم ( 2023 / 8 / 9 - 04:42 )
اكيد هذا موضوع شيق وجذاب للتأمل والتفكر , لكن الحقيقه ان هذا الوجود معقد وصعب للغايه وعصى على الفهم لذلك فأن كل محاولات الفلاسفه والعلماء والمفكرين حتى الان لم تجاوب على اسئله كثيره حيويه ومفصليه عن كينونه هذا الوجود , نحن لانعلم متى بدأ هذا الكون اللانهائى ومتى سينتهى وماهو الهدف من وجوده اصلا

اخر الافلام

.. فرنسا تلوح بإرسال قوات إلى أوكرانيا دفاعا عن أمن أوروبا


.. مجلس الحرب الإسرائيلي يعقد اجتماعا بشأن عملية رفح وصفقة التب




.. بايدن منتقدا الاحتجاجات الجامعية: -تدمير الممتلكات ليس احتجا


.. عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تغلق شارعا رئيسيا قرب و




.. أبرز ما تناولة الإعلام الإسرائيلي بشأن تداعيات الحرب على قطا