الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في نقد مفهوم -المجتمع التراحمي-: المسيري نموذجاً

زكرياء مزواري

2023 / 8 / 12
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يعود استعمال مفهوم "المجتمع التراحمي" للمفكر المصري عبد الوهاب المسيري (1938-2008)، واستخدمه -إلى جانب مفهوم "المجتمع التعاقدي"- كأداة إجرائية في تحليله لمجموعة من الظواهر الاجتماعية سواء حين كان في مصر أو حين كان طالباً في أمريكا. وطبّق هذا المفهوم بشكل واضح في سيرته الذاتية-الفكرية، حين سلّط الضوء على مدينة مسقط رأسه "دمنهور"، وحلّل طبيعة العلاقات الاجتماعية السائدة فيها.
أخذ المسيري هذا التمييز بين المجتمع التراحمي(Gemeinschaf) والمجتمع التعاقدي(Gesellschaft) من علماء الاجتماع الألمان كما صرّح في سيرته، ومعلوم أن هذا التفريق يعود تحديداً إلى عالم الاجتماع الألماني "فرديناند تونيس" (1936-1855)، وهو أحد المساهمين البارزين في إرساء النظرية الاجتماعية، واشتهر بمؤلفه "الجماعة المحلية والمجتمع العام" سنة 1887. وكان "تونيس" كغيره من السوسيولوجيين في أوروبا، مسكوناً بهاجس الإمساك بالخيط الناظم المفسّر للتحوّلات السوسيولوجية الكبرى التي مرّ منها المجتمع الأوروبي، جراء الانتقال الحضاري الكبير من نمط إنتاج قائم على الفلاحة والزراعة وما يوزايه من أشكال في التنظيم الاجتماعي وبنى ثقافية وذهنية معينة، إلى نمط إنتاج آخر يعتمد الصناعة والتجارة، وما يرافقه من تنظيمات سوسيولوجية جديدة. وبهذا حاول السوسيولوجي "تونيس" أن يفهم هذا التحول، وطبيعة اشتغال المجتمع التقليدي (Gemeinschaf) والمجتمع الحديث (Gesellschaf).
في تخميني أن ما يعاب على المسيري، أنه أسقط على مفهوم "الجماعة" أو المجتمع المحلي" أو "المجتمع التقليدي" -أي (Gemeinschaf)- تجربته الشخصية، وانتقى من مدلولات المفهوم ما يخدم نظرته الناقدة للمجتمع التعاقدي العلماني الشامل؛ فالمسيري عاش في بلدة صغيرة اسمها "دمنهور"، وهي عبارة عن تجمع بشري صغير، تسود فيه قيم التضامن والتآزر، وتنتفي فيه الفردانية لأن الروابط الاجتماعية قوية وصلبة. زيادة على أن المسيري كان من أسرة بورجوازية ريفية، ومن نسب عربي عريق، وما يعنيه ذلك من اجتماع الرأسمالين المادي والرمزي. ويحكي المسيري عن معاملات أبيه للخدم، وقيم الكرم والسّخاء والانفاق على المحتاجين، وطبيعة تعامل هؤلاء مع أسرة المسيري ومع مفكرنا عبد الوهاب. لا شكّ أن ذلك ترك أثره البالغ في نفسيته، وازداد الإحساس بتراحم جماعته الدمنهورية حين غادرها إلى القاهرة لإتمام دراسته الجامعية، وبعدها إلى أمريكا، حيث رأى تآكل قيم الجماعة التقليدية، وانتصار قيم الفردانية والتعاقد.
لكن، ما لم يخبرنا به عبد الوهاب المسيري، وهو ينتقد المجتمع الغربي السائل، مستنداً في ذلك على إرث مدرسة فرانكفورت النقدية، وبعدها على عالم الاجتماع البولوني "باومان"، أن "للمجتمع التراحمي" مساوئ كثيرة، بل إن عيوبه أولى بالانتقاد من غض الطرف عنها، والارتماء في أحضان النقود الموجهة للمجتمع التعاقدي، وهي نقود في الغرب موجهة لتصحيح المسار، وتبيان حجم كوارث الاستهلاك، وليست نقضاً أو حنيناً رومنسياً للجماعة والمجتمع التقليدي. إن المسيري وهو يكيل الثناء "للمجتمع التراحمي" –أي التقليدي- لا يخبرنا عن ذوبان الفرد في الجماعة، واستبداد هذه الأخيرة بالحياة الخاصة للفرد، وتدخلها في كل جزئياته وتفاصيله، كما لا يحدثنا عن تغوّل الأسرة والعائلة والعشيرة والقبيلة على الفرد، حتى تصير "أناه" مجرد صدى ""للنحن". هذه البنية الاجتماعية تخدم كذلك طبيعة السلطة السياسية، فالدولة في مثل هذه المجتمعات لا تنظر للفرد، ولا تراعي حقوقه الطبيعية، ولا تقدر انسانيته، بل تنظر إليه نظرة القطيع، وجزءاً من الجماعة أو القبيلة أو العصبية أو الطائفة، وليس كفرد حر وفاعل ومستقل، وبذلك يكون هذا الفكر التقليدي خادماً لاستبداد الدولة، وانفرادها بالسلطة. هذا على المستوى العام، أما على المستوى الميكرو سوسيولوجي، فنجد سيادة العلاقات الاجتماعية عوض سيادة القانون والمؤسسات، فإذا أراد الفرد مثلاً قضاء حاجة إدارية بسيطة في مؤسسة من مؤسسات الدولة، سينهك بالتماطلات والإجراءات البيروقراطية المملة، عكس إذا لجأ إلى وساطة العلاقات الاجتماعية سواء المبنية على الدم أو المصاهرة أو على المصلحة، وبالتالي يضيع جوهر المؤسسة التي من المفروض أن تحمي الفرد وتضمن حقه، وتسود في المقابل الجماعة الهاضمة لإنسانيته. كما أنه في المجتمعات التقليدية تشخصن المؤسسة والسلطة، فالفرد المسؤول في إحدى مرافقها، سرعان ما يوجهها لخدمة مصالحه، وأي شخص آخر سعى إلى انتقاد عملها، وكيفية اشتغالها، فكأنه ينتقده هو بالدرجة الأولى، زيادة على سيادة قيم الولاء والمحسوبية والزبونية والإيتاوات والرشاوى...إلخ.
أما عن المجتمع التعاقدي الذي انتقده المسيري، وبيّن عيوبه فقط، كانحلال القيم وتآكلها، وتحوّل الإنسان إلى شيء، حتى صار بموجبها مجرد مادة استعمالية، وهي نقود صحيحة ومتعارف عليها في أدبيات مدرسة فرانكفورت النقدية، ونقاد ما بعد الحداثة، نسي المسيري أن يذكرنا بمزاياه أيضاً؛ فالتعاقد يحيلنا على النّفس الليبرالي الذي عرفتها أوروبا بعد حرب ضروس ضد الإقطاع ورجال الدين والملكيات المطلقة، تعاقد بين المواطنين حول حقوقهم وواجباتهم من جهة، وتعاقد بينهم وبين الدولة المؤطرة بالقوانين. فالفرد وإن فقد روح التكافل والتضامن، فقد غنم العيش في ظل المؤسسة التي تحمي حقوقه دون الحاجة إلى الوساطة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 21 عاما على سقوط نظام صدام حسين: الفجوة بين الأحزاب الحاكمة


.. طلاب مؤيدون لفلسطين ينصبون خياما في باحات الجامعة الوطنية ال




.. ما أبرز مطالب الطلاب المحتجين في الجامعات الأمريكية؟


.. عمال هنود يتعرضون للخداع في إسرائيل.. ما القصة؟




.. قوات الاحتلال تقتحم مناطق عدة بالخليل أبرزها في مدينتي دورا