الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما زلت تلميذا

علي فضيل العربي

2023 / 8 / 20
التربية والتعليم والبحث العلمي


كلّما صادفته في الطريق ، يمشي الهوينى ، و قد أثقل الدهر خطواته ، مستعينا بعكازه ، الذي نسمّيه في بلدتي ( خيزرانة ) ، هرعت نحوه كي أسلّم عليه و أقبّل ناصيته ، لحظتها يخرج من جيبه حبّة حلوى و يسلّمها لي كأنّني مازلت – في نظره - ذلك التلميذ الصغير في صفّه الابتدائي .
هو ذاك معلّمي و شيخي و سيّدي في سنوات المرحلة الابتدائيّة في سنوات الستينات . كان حظّي أن أدخلني والدي المدرسة ، بعد أربع سنوات من نيل بلدي ، الجزائر ، استقلالها و حريّتها . و خروج الاحتلال الفرنسي الغاشم مهزوما ، مدحورا ، يجرّ وراءه الخيبة و الذل و المهانة .
منذ عرفته لم يتغيّر معلّمي . مازالت صورة حركاته و سكناته و نظراته داخل الصفّ ماثلة أمام عينيْ ، بلغ سنّ التقاعد فتقاعد ، و كانت منحة نهاية الخدمة لا تتعدّى مصاريف شهر واحد أو ملاليم كما يقول إخواننا في أم الذنيا . كانت أجرته فيما أعلم زهيدة ، لا تكاد تسدّ مصاريف الشهر ، لم تسعفه تلك الآلاف من الدينارات في شراء سيارة أو منزل أو في قضاء عطلة صيفيّة أو ربيعيّة في مركّب سياحيّ في بلده ، أو القيام برحلة سياحيّة في بلد مجاور أو غير مجاور ، عربيّ أو أعجميّ . و في حفل تكريمه بمناسبة تقاعده أهدوه منبّها صينيّا و لوحة كُتبت عليها سورة الناس . و وعدته الخدمات الاجتماعيّة بدفع نصف مبلغ العمرة ، إن حالفه الحظ في القرعة ، لكنّ الحظ خانه و أدار له ظهره و لم يعتمر .
و من مكارم معلّمي – التي مازالت عالقة بالذاكرة – أنّه كان رجلا قنوعا بأجرته الزهيدة ، و لم يفكّر يوما في استغلال ما يسمّيه معلّمو اليوم ( الدروس الخصوصيّة ) التي أرهقت مصاريفها جيوب الأولياء في مراحل التعليم كلّها . بل كان يخصص حصص دعم مجانيّة لتحسين مستوى بعض تلاميذه المتأخرين عن زملائهم . كان معلّمي – حفظه الله و جزاه عن كلّ حرف علّمه لمئات التلاميذ عبر مسيرته التعليميّة – حريصا على نجاحنا ، يعاملنا كما يعامل الحكيم الحاذق الجسد الواحد ، يحنو علينا حنان الأب الرؤوف بأبنائه ، و يشجعنا بجوائزه البسيطة في نظره ، القيّمة في نظرنا ، كأنّ يمنحنا قلما أو بطاقة بريديّة جميلة أو كتيبا لقصة مصوّرة ، أو قطعة شيكولاطة . و كان إذا وعد أنجز ، و لا أتذكّر أنّه اخلف أو سوّف وعده ، كما فعل عرقوب ، الذي صارت قصته مثلا يُضرب في خلف الوعد ( أخلف من عرقوب ) .
في إحدى الصباحات الخريفيّة أبت ابنتي الصغيرة المتمدرسة في مدرسة ابتدائيّة محاورة للحي الذي أقطنه ، أبت و هي تبكي بحرقة الذهاب إلى المدرسة . فسألتها عن السبب . فقالت لي : إنّ معلّمتنا تحضر معها شوكة ( محقنة ) طبيّة ، و تهدّد تلاميذها و تتوعدهم بوخزهم بها إن هم أخطأوا الجواب في مسألة حسابيّة أو تمرين لغويّ ، و هي خائفة بل مرعوبة من ذلك . أخذت ابنتي الصغيرة ، بعدما هدّأت من روعها و أمنتها و طمأنتها . و طلبت لقاء معلّمتها ، فلقيتها ، و استفسرت منها الأمر ، أهو صحيح ما قالته لي ابنتي عن قصة الوخز بالشوكة ( المحقنة ) . فقال لي : إي ، نعم . ذلك أسلوب أتّبعه لتشجيع تلاميذي على الجدّ و الاجتهاد . قلت : إنّ العمل البيداغوجي ، التربوي يقوم على الترغيب لا الترهيب ، و على الوعد لا الوعيد ، وعلى الجائزة لا العقوبة . المعلّم ، يا سيّدتي ، رسول العلم و الرحمة و نبع الحبّ و الإنسانيّة . و ذكّرتها بما قاله أمي الشعراء أحمد شوقي :
قم للمعلّم وفّـــــــــه التبجيــــــلا .. كاد المعلّم أن يكون رسولا
و إذا المعلّم ساء لحظ بصيرة .. جاءت على يده البصائر حولا
كم كان معلّمي رجلا حكيما ، طيّبا ، كريما ، و مازال كلّما التقيته ، أعطاني قطعة حلوى ، و قد غزا رأسي الشيبُ ، فأستلمه منه ، و كلّي خجل و تواضع و فرح و سرور ، و كأنّه أعطاني كنزا من كنوز الدنيا . و مازلت في نظره تلميذه الصغير على مقعد القسم ، و مازال في نظري معلّمي و سيّدي ، كلّما التقيته ازداد حبّي و تعلّقي به . و صدق من قال : من علّمك حرفا صرت عبدا له . هل مازال معلّم اليوم كمعلّمي ؟ و هل مازال تلميذ اليوم يمجّد معلّمه و يبجّله و إذا لقيّه بادره بالتحيّة و قبّل يده أو رأسه ؟ يستحي أن يدخّن أمامه – مثلا – أو يبدر منه سلوك مشين كالتجاهل أو التكبّر .
المعلّم – يا سادتي - هو أبو الجميع ؛ الرئيس و الوزير و اللواء و العالم و رائد الفضاء و الحكيم و الصيدلي و المهندس و المدير و القاضي و المحامي و الأستاذ و العبقري و الفيلسوف و الصانع و المخترع و الطيّار و رباّن السفينة . و باختصار هو قلب المجتمع و عقله و لبيبه .
المعلّم في أوروبا الليبيراليّة و اليابان و أمريكا الشماليّة – يا سادتي - هو حجر الزاويّة في حركيّة المجتمع و تطوّره العلمي و التكنولوجي و الاقتصادي . و لمّا سئل أحد الفاعلين السياسيين في اليابان عن سرّ النهضة العلميّة و التكنولوجيّة و الاقتصاديّة التي شهدها اليابان بعد خروجه من الحرب العالميّة الثانيّة منهكا و محطّما ، أجاب قائلا : لأنّنا وضعنا المعلّم قبل الوزير . أما المستشارة الألمانيّة الحكيمة أنجيلا ميركل - التي قادت ألمانيا الموحّدة بعقل أرجح من عقول حكام العالم الثالث كلّهم - فقد ردّت على مطلب المضربين ، الذين طالبوا برفع أجورهم لتتساوى و أجور المعلّمين قائلة : أتريدون أن أسوّكم بمن علّموكم .
لو كان معلّمي المنهك و المتعب من وطأة واقعه المعيش ، معلّمي و سيّدي ، الذي تقوّس ظهره كالمنجل في منتميا للمنظومة اليابانيّة أو الألمانيّة ، ما رأيته يمشي الهوينى و يتهادى على عكّازه ، و قد بدت على محيّاه آيات الخصاصة في مجتمع طفت على سطحه الجيّف و المتردّية .
فتحيّة إلى معلّمي و سيّدي ، و إلى كلّ من علّمني حرفا و أنار لي دروب الحياة الكريمة ، و أنقذني من الجهل و الجهالة و له أهدي هذه الأبيات لأمير الشعراء أحمد شوقي :
قم للمعلّم وفـّـــــــــــــه التبجيلا .. كاد المعلّم أن يكون رسولا
أعلمت أشرف أو أجلّ من الذي .. يبني و ينشىء أنفسا و عقولا
سبحانك اللهمّ خير معلّم .. علّمت بالقلم القرون الأولى
أخرجت هذا العقل من ظلماته .. و هديته النور المبين سبيلا
و طبعته بيـــد المعلّم تارة .. صَــــدِىءَ الحــديدُ و تارة مصقــولا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صاروخ باليستي روسي يستهدف ميناء أوديسا


.. ما فاعلية سلاح الصواريخ والهاون التي تستخدمه القسام في قصف م




.. مراسل الجزيرة يرصد آثار القصف الإسرائيلي على منزل في حي الشي


.. خفر السواحل الصيني يطارد سفينة فلبينية في منطقة بحرية متنازع




.. كيف استغل ترمب الاحتجاجات الجامعية الأميركية؟