الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصور الذهنية.. وآلية اشتغال الدماغ البشري..

محمد اسماعيل السراي

2023 / 8 / 21
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لو اني اعطيتك في مرة ما معلومة ما، و لكن بدون اي شرح مسهب لها، بل مجرد معلومة مقتضبة، ويصدف انك لا تعلم اي شيء عن، او حول، هذه المعلومة، فان عقلك ربما لن ينتج اي صورة ذهنية عنها. سيكون ذهنك في حينها عبارة عن شاشة فارغة بدون اي عرض او بث يذكر، او عبارة عن شاشة ساكنة او مطفأة . لان عقلك حينها لن يستطيع استحضار اي صورة مخزنة لهذه المعلومة او حتى قريبة او مقابلة لها، او ان يستطيع انتاج اي صورة لما اعطيته من معلومة مقتضبه. وهذا عكس المعلومة التي سبق ان اختبرها عقلك كثيرا، فستفهم حينها ما اقول لك سريعا، لان عقلك سيستدعي من الذاكرة جميع الصور حول ذلك الموضوع او تلك المعلومة وينسقها وينظمها في هيئة فكرة او صورة اوسع واوضح تنبثق على شاشة عرض عقلك، او ذهنك الواعي. اما المعلومة المبهمة والتي لم تختبرها سابقا ولم تنظر فيها قبلا، فانك ستحتاج الى شرح وافِ وربما لأكثر من مناسبة او جلسة نقاشية حتى يستطيع عقلك تشكيل مجموعة من الصور حولها، ومن ثم تخزينها في الذاكرة البعيدة ، واستدعاءها وقت اللزوم الى الذهن الحاضر او الواعي او ما يمكن ان نسميه بالذاكرة القريبة. ان هذه الصور المخزنة ، هي في الاصل معلومات معينة تم استحصالها عن طريق الحواس، سواء أكانت معلومات مسموعة او مقروءة او منظورة او مشمومة او مستذاقة او ملموسة، وقد تحولت الى صور مخزونة في ذاكرة الدماغ او العقل، تستدعى حين الحديث مع الاخر، او حين التفكير والتأمل. فأن صادف يوما وحدثك احد اصدقاءك عن مدينة غريبة لم تراها عيانا او تسمع بها سابقا ولم تراها قبلا في اي وسيلة اعلام او تلفزيون او غيره، ولم تستطع ذاكرتك من ربطها بصور قريبة عن مدينتك، او ان تتخيلها على وفق صور مدن اخرى خبرتها قبلا، بسبب الاختلاف البيئي الكبير- مثلا- بين بيئة المدينة التي يحدثك عنها ذلك الصديق وبين بيئة المدن التي اختبرتها، وكذلك الاختلاف الجغرافي والثقافي ربما بينها وبين مدينتك او ما عرفت من مدن اخرى، فحينما يحدثك ذلك الصديق عن هذه المدينة الغريبة البعيدة بحديث مقتضب، فستكون حينها شاشة العرض الخاصة بذهنك خالية من الصورة او متوقفة البث، اي غير قادرة على تشكيل اي صورة ولو قريبة عن هذه المدينة، وقد يطرد ذهنك الواعي اي صوره تحاول الذاكرة استجلابها بسبب يقينية ذهنك او عقلك الواعي ان تلك الصورة بعيدة جدا عن واقع المدينة التي يحدثك عنها الصديق والتي تحاول فهمها او تشكيل صورة عنها. وان السبب بعدم استيعابك لمعلومة الصديق تلك، لان عقلك حينها لا يستطيع جلب اي صورة من الذاكرة مقاربة لها لخلو الذاكرة اساسا من تلك الصور المقاربة. ولهذا، وبما ان ذهنك الحاضر خالي جدا حينها من صور مقاربة، وشاشة عرضه لم تستطع عرض اي شيء مخزون للمدينة او مقاربا لصورتها، فانك ببساطة سوف لن تفهم حينها ما يقول هذا الصديق.. ان هذه الآلية في التفكير والتصور يمكن تطبيقها على الافكار والمعلومات جميعاً، وخصوصا الافكار الصعبة التي يتحصل عليها المرء بجهد ومطالعة مستمرة وطويلة الامد، والتي يفتقدها امرؤ آخر بسبب خمول عقله وقلة اطلاعه، فان التفاهم بينهما والحوار سيكون صعبا جدا، ان لم يكن مستحيلا. حيث انك اذا حاورت احدا ما يختلف عنك في مستوى الوعي والادراك والثقافة، او ان معلوماته وثقافته متضادة مع معلوماتك وثقافتك، او انك تقرا وتبحث وتطالع صنفا من المعرفة يختلف عن الصنف الذي يقرا ويطالع هو فيه- ويصدق هذا خصوصا في الافكار والمعرفة الدقيقة او التخصصية- فانه لن يفهمك او انك انت الذي لن يفهمه. حيث انك ربما تتحدث بموضوع مقتضب او معلومة مقتضبة وسريعة مع احد ما، وانه حينها لن يفهم ما تقول، لان ذاكرته حينها تكون خالية الوفاض من اي صورة عن الموضوع الذي طرقته باقتضاب، وحينها لن ترتسم اي صورة مقاربة على شاشة عرض ذهنه للموضوع الذي طرقت، وسيكون ذهنه حين ذاك اشبه بشاشة ساكنة او مطفأة ، وآن ذاك وببساطة سوف لن يفهم ما تقول ابدا. فانك اذا اردت افهام الشخص الذي تحاور، فإما ان يكون هو ايضا قد اختبر وطالع وتعاطى نفس المعرقة التي تتعاطاها، او ان لم يكن كذلك وانك اصررت على ايصال الفكرة او الموضوع له، او هو اصر على ذلك كي يفهمك، خصوصا اذا كان الغرض من النقاش بينكما هو لأجل التحاور والافهام لا لأجل الجدل، فإنك ستحتاج حينها الى الاضطرار للشرح المسهب وايراد الكثير من الأمثلة المقاربة والتطرق لأكثر من محور، وربما يستمر الامر الى عدة جلسات نقاشية، حتى حين ذاك فقط يكون ذهن المحاور قد كون صورا كثيرة مقاربة عن الموضوع المطروق، تخزنها الذاكرة وتستدعى حين العرض على شاشة الذهن، وحينها فقط ربما سيفهم ما تقول، او العكس، اي حين يكون هو من يريد افهامك. ان هذا يصدق كثيرا في النقاشات التي تتحول غالبا الى مجرد جدالات عقيمة وتراشق بالكلام وربما يتحول الامر الى القاء الاتهامات جزافا. ويحدث هذا اكثر في المجتمعات المنغلقة على افكارها وثقافتها وعاداتها، والتي لا تتقبل اي افكار جديدة ولا تؤمن بحرية الفكر، بل ترفض اي جديد كونه يهدم منظومتها الفكرية والثقافية التراثية التي انتظمت واكتملت لديها عبر اجيال عديدة، فهي غير مستعدة للتخلي عنها او حتى ادخال عنصر فكري جديد عليها ربما يهدد رتابتها، او يلقي بحجر وان كان ضئيل الحجم على سطح فكرها الراكد. لذلك يكون الحوار الثقافي الجديد في هكذا بيئة فكرية وثقافية موصودة على ثقافتها المنقولة والمتناقلة، والتي تتعاطاها باستمرار وبشكل يومي مستمر وتعيد انتاجها من نفس الافكار المتوارثة ذاتها، سيكون حينها الحوار الجديد مجرد حوار عقيم. وهذه المجتمعات ليست ترفض الجديد من الافكار الحديثة فقط او طراز حياتي جديد، بل هي ترفض اي منتج حضاري جديد وان كان مادياً كالأجهزة او منتجات الصناعة الحديثة، حتى وان كان الرفض في البداية فقط. لانها تعتبر كل جديد طارئ عليها، سواء اكان ثقافيا فكريا ام ماديا، انما هو خطر قادم من ثقافات اخرى تهدد استقرارها. لذلك ستكون رافضة وناقدة لكل جديد، حتى تضطر اخراً لتقبله ضمن حضارتها المحلية. والسبب، ان اي منتج مادي حضاري او ثقافي جديد، وثقافي في الدرجة الاساس، سوف يعتبر لديها بمثابة عامل مخلخل، او ناسف حتى، لمنظومتها الاخلاقية ودافعا نحو الانحلال. وان هذا الجديد ستكون له تبعات اخرى على مناحي آخرى من الحياة الاجتماعية والاخلاقية لهذه المجتمعات. فحتى المنتج الحضاري المادي، ايضا ستكون له انعكاسات على الثقافة الساكنة بطريقة ما، ويؤدي لاحقا الى استطراد ثقافي واخلاقي يثلم من المنظومة القيمية والاخلاقية. وقد خبرت هذه المجتمعات هكذا نوع من المنتجات الحضارية بشقيها المادي والثقافي، لكن بالخصوص المنتج الثقافي او الفكري الطارئ عليها او طراز الحياة المستورد، فستكون نتائجه وخيمة اكثر على منظومتها القيمية والثقافية الساكنة والمتوارثة. لذلك سيكون الحوار الثقافي والفكري، ان لم يكن يجتر من نفس فضاء المنظومة الفكري الموروث، فهو حوار جدالي عقيم ومرفوض، وربما خطير ايضا. وهذا عكس النقاش والحوار في المجتمعات المفتوحة ثقافيا وفكريا على المنتج الثقافي والمادي الجديد، سواء الوارد من ثقافات اخرى او هو منتج ابداعي تفرزه عناصر هذه الثقافة المنفتحة ذاتها. ويمكننا ايضا ان نعطي مثالا بسيطا على الانغلاق الفكري ازاء الافكار الجديدة، وايضا هنا سيكون السبب الرئيسي لهذا الانغلاق هو رفض هذه المنظومة الثقافية المنغلقة على ذاتها للجديد الطارئ خوفا على منظومتها الفكرية العتيدة من ان ينالها معول الهدم، وايضا سيكون السبب في ذلك هو خلو الذاكرة من الصور المخزنة، والتي قلنا عنها، عن هذا الموضوع او الفكرة المطروحة، ولذلك فان العقل في هذه المجتمعات سيكون رافضا للفكرة التي سنعطيك اياها بعد قليل كمثال، لأنها ببساطة سوف لن تكون مفهومة بل ربما ستكون مثيرة للسخرية وربما للاتهام، وتواجه بغلظة ورفض قاطع. واما المثال فهو؛ انك ربما تفكر تفكيرا مطابقا لتفكير الاخرين داخل مجتمع يؤمن جدا بان الانسان قيمة عليا وكائن مميز ونوع راقي لا يشبه اي كائن او شيء اخر على هذه الارض، فضلا عن ان يكون مرتبطا، بيولوجيا وتصنيفياً، بأحدٍ من انواع هذه الكائنات الارضية. ومن ثم يدور نقاش بينك وبين احدهم ممن يؤمنون بنظرية التطور البايلوجية مثلا، وان الانسان في تفكيره كان قد تطور عن اسلاف مشتركة مع انواع من كائنات ارضية اخرى، بل انه احتاج الى حقب زمنية طويلة وهو يتنقل في اسلاف تجريبية- اندحرت جميعها وانقرضت- سواء من الناحية البيولوجية او حتى الناحية الاجتماعية والسايكلوجية والثقافية، حتى وصل الى ما وصل اليه حاليا من نوع متطورومتكيف بصورة جيدة مع البيئة الارضية من الناحية البايلوحية وكذلك من الناحية الاجتماعية والسايكلوجية والثقافية، نوعا ما، ولحد الان على الاقل،بالرغم من عيوبه الكثيرة التي لازالت تلازمه وتلازم مرحلته التطورية. ان هذا الكلام الفارغ ،برأيك، سيكون فارغا بصورة اكيدة لديك، ولن يلقى تقبلا من عقلك وفكرك وموروثك عن الانسان ذلك المخلوق المتميز جدا والذي لا تدانيه اي مخلوقات دنيا ودنيوية خرى. بل ربما ان هذا النقاش سيثير لديك السخرية والتندر على هكذا افكار او حتى التنمر عليها. ان السبب الرئيسي في عدم تقبلك هذه الفكرة انك لم تفهمها ببساطة ،والسبب ان ذاكرتك خالية تماما من اي صورة مطابقة او مقاربة لما يقوله محدثك، فلذلك لن ترتسم على شاشة ذهنك اي صورة ما وستكون منطفاة ببساطة حين يحدثك محاورك، بل ربما سترتسم في شاشة عرض ذهنك تلك الصورة المثالية عن الانسان المميز والسوبر والراقي، رغما عن فكرة مساوئه الخلقية التي قد تستدعيها صور من ذاكرتك عن بعض الافراد الذين لا تستسيغهم اخلاقيا، ولكن مع ذلك فان هذا الانسان في المحصلة سوف لن يشبه اي نوع اخر متدني حتى يكون يوما ما مشترك معه في سلف او جد اقدم. لهذا ستكون افكار محاورك جدا مضحكة بالنسبة لك، وايضا وفي نفس الوقت ربما سيكون عدم تقبلك لأفكاره امرا مضحكا ومثير للاستغراب بالنسبة له، لانه ببساطة يرى ان ما يقوله واضحا جدا لما يستطرد معك في الحديث، بسبب كمية الصور المتلاحقة التي يستدعيها ذهنه من الذاكرة فيعرضها على شاشة الذهن حينها، والتي تحصل عليها من خلال المطالعة والبحث المستمر في هذا المجال، لذا فستكون الافكار متسقة جدا في ذهنه، فيستغرب ازاء ذلك من عدم فهمك لها، لانه ربما لم يدرك ببساطة ان شاشة ذهنك يستحيل ان تعرض مثل هذه الافكار، لانعدام الصور التي يتحدث حول موضوعها الذي تناقشان، وانه في هذا الحين يشرع ذهنك بعرض صور اخرى مخزنة عن تميز النوع الانساني والصورة الكبيرة التي ينظر فيها الى الانسان كقيمة عليا لا تدانيها اي صورة لاي كائن دنيوي اخر، ولانك ايضا ببساطة لم تبحث قط ولم تفكر اصلا في هذه الصورة حول الانسان وتطوره من انواع اخرى ادنى، وتعرضه لسلسلة طويلة من التغيرات التطورية البايلوجية وغيرها، عبر مديات زمنية طويلة منذ ظهور الجنس البشري الى الوجود قبل حوالي ٣ مليون سنة وحتى اليوم، وربما حتى المستقبل الى ان ينقرض او يبيد. بل ان ما بحثت فيه وعرفته وفهمته يوما بعد آخر هو التميز البشري وكون الانسان كان على هذه الصورة ذاتها منذ وجوده، وسيبقى هكذا حتى فناءه. اذن فان المسألة ببساطة هي اختلاف جوهري في الافكار والرؤى حول فكرة نشوء او اصل هذا الانسان، وكلاكما سوف يستدعي من ذاكرته ويعرض على شاشة ذهنه ، اثناء حواركما، صورا مخزنة عن مفهومكما الخاص والمتضاد حول موضوع الحوار. ولا يعني هذا قطعا ان يكون هو على حق او ان تكون انت على حق، بل القصد من ذلك المثال ان نبين مدى عدم تلاقيكما في الحوار بسبب الصور الذهنية المتضادة والخاصة بكل منكما. ايضا يمكننا ان نقيس ذلك الامر على افكارا واراء ونظريات اخرى يكون فيها الحوار بين طرفين كل منهما ينهل من معرفة مختلفة او متضادة عن الاخر، او ان يملكها احدا ما ويفتقد اليها الاخر، إنما هو حوار عقيم كحوار الطرشان كما يقول المثل، ولن ينتهي الحوار اخيرا الى شي غير الجدل او ربما التراشق وفساد المودة بين المتحاورين، والسبب ببساطة هو الصور الذهنية المتضادة والتي ستؤدي حتما الى عدم فهم الآخرين لبعضهم البعض.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مفاوضات التهدئة في غزة.. النازحون يتطلعون إلى وقف قريب لإطلا


.. موجة «كوليرا» جديدة تتفشى في المحافظات اليمنية| #مراسلو_سكاي




.. ما تداعيات لقاء بلينكن وإسحاق هرتسوغ في إسرائيل؟


.. فك شيفرة لعنة الفراعنة.. زاهي حواس يناقش الأسباب في -صباح ال




.. صباح العربية | زاهي حواس يرد على شائعات لعنة الفراعنة وسر وف