الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفهوم الهوية في فكر عبدالجبار الرفاعي

حيدر جواد السهلاني
كاتب وباحث من العراق

2023 / 8 / 26
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


المقدمة//
يشغل موضوع الهوية حيزاً غير قليل في الثقافة والفكر والدراسات وعلوم السياسة والقانون والاجتماع، خصوصاً في ظل الجدل الذي ارتفعت وتيرته، سواء على المستوى الداخلي أو الدولي، وفي أطار مجتمعات التكوينات والهويات ، أو في أطار احتدام المصالح الدولية ، وقد كان لإنصهار الأنظمة الشمولية الأثر الأكبر في احتدام الصراع بين الهويات، وأدى هذا المتغير إلى انقسام دول وانفصال كيانات ظلت متحدة لسنوات طويلة، وبروز هويات فرعية وخصوصاً في ظل ارتفاع رصيد فكرة حقوق الإنسان ومبادئ المواطنة والمساواة، وهو ما كان غائباً في ظل الأنظمة الشمولية والاستبدادية، وقد أرتقى في الآونة الأخيرة جدل الهويات ليصبح محل نزاعات كبرى وحروب أهلية، وترك ندوباً وجراحات وحواجز تاريخية ونفسية، وقد ازداد حدة وتنافر في السنوات الأخيرة، رغم وجودها في السابق، ولا يمكن الحديث عن هوية ثابتة أو متكاملة أو دون تغيير باعتبارها معنى ساكن، حتى وأن كانت بعض عناصر الهوية قابلة للثبات مثل الدين أو اللغة، لكنها أيضاً تخضع لعملية الفهم أولاً والتغيير ثانياً، وحتى لو بقيت الأصول قائمة، فأن بعض عناصر الهوية مثل العادات والفنون تتطور وتكون أكثر عرضة للتغيير، لا سيما علاقتها مع الثقافات والهويات الأخرى تأصيلاً واستعارة، وهذه لا تأتي دفعة واحدة بالطبع، بل تتم عملية التحول بصورة تدريجية وتراكمية وطويلة الأمد، والأمر ينطبق على تفاعل وتداخل الهويات لا سيما من خلال عناصر التأثير القوية( السياسة والثقافة والاقتصاد).
الهوية في اللغة والاصطلاح//
مصطلح الهوية لفظ تراثي قديم، موجود في كتب المصطلحات والمعاجم مثل التعريفات للجرجاني، ومعناه أن يكون الشيء هو هو وليس له مقابل مما يدل على ثبات الهوية. وتأتي الهوية أيضاً من ضمير هو، وتعني صفات الإنسان أو الشيء وحقيقته، وأيضاً تستعمل للإشارة إلى المعالم التي تميز بها الشخصية الفردية.
هناك عدة تعريفات للهوية ومنها:
1_الهوية هي مجموعة من المميزات التي يمتلكها الأفراد وتساهم في جعلهم يحققون صفة التفرد عن غيرهم.
2_الهوية، هي كل شيء مشترك بين أفراد ومجموعة محددة تساهم في بناء محيط عام لدولة ما، ويتم التعامل وفقها.
3_الهوية هي شفرة تجمع خصائص مجموعة عرقية، وهي بذلك تاريخ وحضارة وواقع اجتماعي.
4_الهوية هي وعي الإنسان واحساسه بذاته وانتمائه إلى جماعة بشرية قومية أو دينية، مجتمعاً أو أمة أو طائفة أو جماعة في إطار الانتماء الإنساني العام.
5_الهوية هي الوعاء الأكبر لسلوكيات المجتمع من دين وعادات وتقاليد وثقافات.
مفهوم الهوية//
الهوية خاصة بالإنسان والمجتمع والفرد والجماعة، وهي موضوع إنساني خالص، والهوية تعبير عن الحرية، وقد تتطور الهوية بالانفتاح على الغير، وقد تنكمش وتتحدد أو تتقلص وتنحصر أو تنتشر، لكنها دون أدنى شك تغتني بتجارب الناس ومعاناتهم وانتصاراتهم وآمالهم، وهذه المسألة تتأثر سلباً وإيجاباً بالعلاقة مع الآخر، وبذلك الهوية ليست معطى جاهزاً ونهائياً، وإنما هي عمل يجب اكماله دائماً، والتغيير هو الذي يطبع الهوية وليس الثبات، والتفاعل بحكم علاقة الإنسان بالآخر، وليس الانعزال، وبذلك الهوية حالة إنسانية ديمقراطية لا تخضع لأساليب القمع والطغيان والانعزال، فهذه الممارسات تؤدي إلى تصحر الهويات، وهذا ما فعلته بعض الجماعات الإسلامية عندما أرادت أن تفرض هوية إسلامية بالقوة والعنف، وقد أدى هذا الفعل إلى نفور المجتمع من هذه الهوية، بل انعكس سلباً على الهوية الإسلامية،
الهوية ليست مجرد شعور خاص بهذا الشخص أو ذاك، بل هي جهاز انتماء، ولا يمكن لأي صيرورة أن تعمل في أفق روحي ما إذا لم تكن تملك شكلاً معيناً من الإلزام وفناً معيناً من الانضباط، والهوية ليست موضوعاً ثابتاً أو حقيقة واقعة، بل هي إمكانية حركية تتفاعل مع الحرية، فالهوية قائمة على الحرية، لأنها إحساس بالذات والذات حرة، والحرية قائمة على الهوية، لأنها تعبير عنها، وبذلك الهوية ليست شيئاً معطى بل هي شيء يخلق، ويشعر بها كل إنسان كوعي البشر، وقد يتحول كبت الهوية السياسية عن طريق السجن والاعتقال والتعذيب والملاحقة والمطاردة إلى ثورة مفاجئة، إذ تكمن الهوية ولا تنعدم، فالهوية هي اصالة الوجود وتنعدم بانعدامه، والهوية تنفجر ضد كل مظاهر الاستبداد السياسي والثقافي عن طريق الاستبعاد والتهميش وتزوير الانتخابات ،وتعد الهوية أيضاً نسقاً من القيم وفي مقدمتها الكرامة فإن أي نيل من كرامة المواطن يمثل اندلاع الثورة، والهوية ترتبط بالوعي الخالص، والوعي الخالص هوية خالصة ووعي ذاتي، والهوية هي احتياج اصيل للإنسان، وهي ليست فقط فكرة للتأمل، بل هي اساسية في بناء المجتمع الإنساني، فالإنسان محتاج أن يتطرق إلى هويته ويحتاج أن يرتدي هوية تلائم تاريخه وعاداتهم وثقافاتهم والأهم من ذلك أن تلائم دين المجتمع، وتحرص المجتمعات على الحفاظ على هوياتها، لأن هذه الهوية تساعد على اعلاء من شأن المجتمع، وهي جزء لا يتجزأ من المجتمع، وتساهم الهوية في زيادة العلاقات الثقافية والاجتماعية.
الهوية والفلسفة//
الهوية موضوع فلسفي بالأصالة عالجه الفلاسفة المثاليون والوجوديون على حد سواء وحولوه إلى قانون الهوية، أما الواقعيون فلا يعني لهم سواء تكرار لفظي، ويرتبط مفهوم الهوية ببعض التساؤلات الفلسفية التي تدور حول الذات، فالهوية هي حقيقة المعرفة المطلقة للذات، من حيث الصفات الجوهرية المميزة للشخصية، وبذلك يمكن القول أنه من الصعب تحديد هوية الفرد فلسفيا، لأنه لا يمكن بناء المعرفة على الصفات الخارجية الشكلية فقط، وإنما الهوية الفلسفية نابعة من فهم الذات جيداً، وهنا الهوية في الفلسفة حقيقة الشيء المطلقة، والتي تشتمل على صفاته الجوهرية التي تميزه عن غيره، كما أنها خاصية مطابقة الشيء لنفسه أو مثله.
افلاطون/ يرى افلاطون أن الإنسان ليس مجرد عنصري جسماني، بل أيضاً عنصر جوهري، والهوية هي حقيقية الانسان وجوهره، وهذه الرؤية نابعة من موقف افلاطون لهذا العالم، فهذا العالم هو عالم زائف، والعالم الحقيقي هو عالم المثل وعالم الجواهر.
الفارابي/ الهوية هي الشيء الخاص للفرد، وهي الوجود، وهي الظهور العياني للفرد، وبذلك هي وحدة الشخص أو الجماعة.
ديكارت/ أن أساس هوية الشخص والشيء الذي يميزه هو "الفكر" لأنه هو الشيء الوحيد الذي لا يقبل الشك.
جون لوك/ مفهوم الهوية، هو مفهوم نفسي، وهي ناتجة عن طريق الاحداث والظروف التي يمر بها الإنسان، وهي التجربة الحسية، والفكر عنده لا ينفصل عن الاحساس، والهوية عند لوك هي الشعور المرتبط بالذاكرة باعتبارها صلة بين الماضي والحاضر.
شوبنهاور/ ينفي أن تحدد هوية الشخص من خلال الجسم، لأنه يتغير باستمرار، فالإرادة هي هوية الإنسان، وتتحدد هذه الإرادة بأنه يريد أو لا يريد، وهكذا ينتقد شوبنهاور الشعور لأن الشعور يتجدد مع مرور الزمن، وكما يمكن تعديله وتقويمه بينما الإرادة لا يمكن أن تخضع للزمن، فالإرادة هي الشيء الجوهري للإنسان ويعطيها الأولية على العقل.
حسن حنفي/ مفهوم الهوية يتداخل مع مفهوم الماهية، فالهوية لغوياً أن يكون الشيء هو هو وليس غيره، وهو قائم على التطابق أو الاتساق، والماهية أن يكون الشيء ما هو بزيادة حرف العلة ما على الضمير المنفصل هو والمعنى واحد، وقد يجعل البعض الماهية أكثر عمقاً من الهوية، و الهوية خاصية للنفس لا البدن، وهي حالة نفسية وليست حالة بدنية طبقاً للنظرية الأفلاطونية، وهي ليست حقيقة مجردة ثابتة دائمة صورية كما يظن الفلاسفة المثاليون، بل هي من صنع الأفراد والشعوب.
انواع الهوية//
1_ الهوية الشخصية/ هي مجموعة من السمات الأساسية التي تميز كل شخص عن غيره.
2_ الهوية الثقافية/ ويقصد به انتماء الفرد لمجموعة من الثقافات والمعارف التي تخص مجموعة معينة والإيمان بها، وغالباً ما تنبثق هوية الشخص الثقافية من العادات والتقاليد والموروثات والمكتسبات التي يتلقها من البيئة المحيطة به وكونت شخصيته الثقافية، ورغم التنوع الثقافي الذي يشهده العالم في الوقت الحاضر من الانفتاح العالمي بين الثقافات يبقى التمسك بالهوية الثقافية للمجتمع هي الأساس الذي يقوم عليه أي مجتمع محافظ على تراثه، ويمكن الحفاظ على هويتنا الثقافية، من خلال غرس المبادئ والقيم والعادات والتقاليد في الأطفال منذ الصغر.
3_الهوية الوطنية : تدل على ميزات مشتركة أساسية لمجموعة من البشر، تميزهم عن مجموعات أخرى، وربما يختلفون في عناصر أخرى، لكنها لا تؤثر على كونهم مجموعة، فعلى السبيل المثال لا الحصر ما يجمع الشعب الهندي مثلا هو وجودهم في وطن واحد ولهم تاريخ طويل مشترك، وفي العصر الحديث لهم أيضا دولة واحدة ومواطنة واحدة، كل هذا يجعل منهم شعبا هنديا متمايزا رغم أنهم يختلفون فيما بينهم في الأديان واللغات وأمور أخرى.
مفهوم الهوية في فكر الرفاعي//
الهوية كما يعرفها الرفاعي هي" لكل جماعة بشرية شغف بإنتاج هوية خاصة مصطفاة، على وفق ما ترسمه احتياجاتها وأحلامها وآفاق انتظارها، وما تتعرض له من إخفاقات وإكراهات". وكل ذلك يسهم في كيفية بناء معتقدها، ويحدد ألوان رسمها لصوره المتنوعة وتعبيراته في الزمان والمكان، ثم تدمج صور المعتقد لتدخل عنصراً في مكونات هذه الهوية، بجوار العناصر الأخرى مثل الثقافة واللغة وغيرها، كذلك تدخل الهوية في مكونات المعتقد، إذ تتغذى منه الهوية ويتغذى منها، فإن كان المعتقد مغلقاً يؤدي ذلك إلى انغلاق الهوية، وإن كانت الهوية مغلقة يؤدي ذلك إلى انغلاق المعتقد، ويتشكل مفهوم الحقيقة وفقاً لهما، ذلك أن المعتقد والهوية ينشدان إنتاج الحقيقة حسب رهاناتهما ومطامحها ومعاييرهما، سواء كانت تلك الحقيقة دينية أو غير دينية.
يؤمن الرفاعي بتشكل الهوية وتتحول من عصر إلى عصر، إذ الهوية تتأثر بكل المنعطفات والتحولات التكنولوجية والمنعطفات الواسعة في العلوم المختلفة، و الهوية في عالمنا اليوم لم تعد بسيطة، بل اصبحت عميقة، وتتألف من سلسلة طبقات متنوعة المكونات وتتزاحم عليها صور متعددة. أما بنية الهوية في عالمنا اليوم معقدة، تتألف من سلسلة طبقات متنوعة العناصر، لا تلبث عناصرها على الدوام في سلم ترتيبها، ولا تمكث في موقعها، ولا تقف عند صورة واحدة من صورها، لذلك تتطلب معرفتها تفكيراً صبوراً، يتوغل في طبقاتها، ويحلل عناصرها، ويضئ صورها المتلاحقة، إذ الهوية في حالة تشكل مستمرة، ولا تستطيع أي هوية أن تعزل نفسها عما يجري فيما حولها من تحولات مختلفة في العالم، وإيقاع حاد ومتسارع للتغيير في كل شيء، ولا يمكن أن يتغير كل شيء فيما تظل الهوية ساكنة، والهوية في حالة صيرورة، بل هي صيرورة لا تكف عن التحول المتواصل، لأنها علائقية بطبيعتها، تتحقق تبعاً لأنماط صلاتها بالواقع، وما يجري على الهويات الموازية لها، وذلك يفرض عليها أن يعاد تكوينها، فتصاغ في سياق: تفاعلها، انفعالها، تضادها، صراعها، تسوياتها، تساكنها، تضامنها، مع كل ما يحدث في الواقع، وكل ما يجري على الهويات الأخرى، وأما ممانعة الهوية ومكوثها في أنفاق الماضي يفضي إلى انغلاقها على نفسها وتحجرها، وفشلها في إعادة إنتاج ذاتها في سياق يواكب الايقاع المتسارع لتحولات الواقع، ومن ثم خروجها من العصر.
يسير الرفاعي بفهمه لمفهوم الهوية على طريق الطهطاوي، فالطهطاوي كان كما يصفه حسن حنفي بأنه ليبرالي، إذ بالرغم من أنه رجل دين لكنه تجده يدعوا للأخذ بالعلوم الغربية والتحرر من التراث المغلق، وهنا نجد الرفاعي ينقد المجتمعات العربية المنغلقة، والتي ترى أن تاريخها يكفي بتطورها وكل اساليب التطور تستمد من الماضي، فيقول الرفاعي" هناك شعور كامن في لا وعي كثيرين من الناس في مجتمعنا، بأنه تاريخنا وثقافتنا تتفوق على كل الثقافات، وتراثنا يختلف عن كل تر اث، وبقى هذا الشعور والاستثناء يغذي الهوية باستمرار، حتى تصلبت وانغلقت على نفسها، فبلغت حالة تتخيل فيها أنها مكتفية بذاتها، لأن كل ما تحتاجه في حاضرها ومستقبلها يمدها به ماضيها، فالتراث منجم زاخر بكل ما هو ضروري لكل عملية بناء ونهوض، إذ علومها ومعارفها الموروثة تغنيها عن كل علم ومعرفة تبتكرها المجتمعات الأخرى، وهي ليست بحاجة إلى استيراد ما أبدعه غيرها، وفي الهوية المغلقة يعيد متخيل الجماعة كتابة تاريخها، وفي أفق يتحول فيه الماضي إلى سردية رومانسية فاتنة، ويصبح العجز عن بناء الحاضر استعادة استيهامية مهووسة بالأمجاد العتيقة، ويجري ضخ الذاكرة الجمعية بتاريخ متخيل يضمحل فيه حضور التاريخ الأرضي، وتخلع على الأحداث والشخصيات والرموز والأفكار والمعتقدات والآداب والفنون هالة أسطورية، تتحدث عنها وكأنها خارج الزمان والمكان والواقع الذي ظهرت وتكونت وعاشت فيه". وهنا نلاحظ أيضاً أن الرفاعي يقترب بفهمه للهوية من التيار العلماني والتيار الليبرالي، ويبتعد عن التيار القومي والتيار السلفية فيقول" أن هذه الجماعات القومية والدينية تلح في الاعلاء من مكانة التراث، والايحاء بأن بعثه كما هو يكفل نهوض مجتمعنا، ولا حاجة للإفادة من علوم ومعارف وثقافات غربية ، وقد بالغت هذه الجماعات في التشديد على الخصوصية والاستثناء، حتى انتهت إلى موقف خائف من كل ما ينتمي للآخر ومنجزاته وعلومه ومعارفه وثقافته". ويرى الرفاعي أن انغلاق الهوي وتحجرها يؤثر سلباً على التطور العلمي للمجتمعات العربية، فيعتقد أن تاريخ العلم هو تاريخ تفنيد الأخطاء، فتطور العلم تراكمي لا يبدأ من الصفر في كل مرة، ولا تعتمد المجتمعات لإعادة اكتشافه ما اكتشفه غيرها، أو البحث من جديد عما هو ناجز من معطيات العلم، فحقل العلوم الطبيعية وقوانينها يختصان بعالم المادة، ويمكن اكتشاف الطبيعة من خلال التعاطي مع هذا العالم بأدوات ووسائل مادية في المختبرات وغيرها. ويعتقد أن هناك علاقة قوية بين الهوية والمعتقد الذي تعتقد به أمة ما، فيذهب إلى أن لكل مجتمع شغف بإنتاج هوية على وفق معطيات المجتمع، لكن هذه الهوية تصدم في بعض الدول بانغلاق المعتقد فيؤدي إلى انغلاق الهوية، إذ الهوية والمعتقد يقومان بنفس الدور في المجتمع، فالأثنان يتلاعبان بالمعرفة ويتلاعبان بالذاكرة، إذ تعمل الهوية المغلقة على إعادة خلق ذاكرة موازية لها، وتنتقي فيها من كل شيء في تاريخها وتراثها ما هو الأجمل والأكمل، ولا تكتفي بذلك بل تسلب ما يمكنها من الأجمل والأكمل في تاريخ وتراث ما حولها، فتستولي على ما هو مضيء فيه، ويجري كل ذلك في اطفاء الهوية لذاتها، لذلك تعمد لحذف كل خسارات الماضي وإخفاقاته من ذاكرة الجماعة، ولا تتوقف عند ذلك، بل تسعى لتشويه ماضي جماعات مجاورة لها والتكتم على مكاسبها ومنجزاتها عبر التاريخ، وأن السعي لمواكبة التطور الحاصل في دول الغرب وأمريكا أدى هذا السعي للبحث عن هوية تحافظ على تراثنا الديني والموروثات الثقافية إلى تلفيق الهوية العربية، فاتجهت هذه النزعة التلفيقية إلى النظر والتخلف بين الماضي والحاضر والتراث والحداثة والأصالة والمعاصرة والمعروف والغريب والمألوف والمقترع والمقدس والمدنس والديني والدنيوي والفلسفة والدين وعلوم الإنسان والمجتمع والخ...، فأنهك ذلك التلفيق النصوص الدينية بعمليات تأويل متعسفة لا يقبلها منطق التأويل القديم، ويرفضها منطق التأويل الجديد، و أن علاج بقاء الهوية ليست فيه من المنطق أمام هذه الموجات الهائلة من التفسير، بل الأجدر هو أن تخرج هذه الهوية من قوقعتها، كي لا يمحو وجودها واقع يتغير فيه كل شيء، ولتحتفظ بشيء من عناصر البقاء، حتى لو كانت مضطربة ومشوشة، فالهوية في حالة تشكل مستمرة، فممانعة الهوية ومكوثها في أنفاق الماضي تفضي إلى انسدادها وتحجرها، ومن ثم خروجها من العصر، ذلك أن كل هوية تفشل في إعادة إنتاج ذاتها في سياق يواكب ايقاع التحولات المتسارعة في الواقع وتعجز عن الاسهام في بناء الواقع، ويفرض عليها التاريخ أن تنسحب، إذ أن كل من يعجز عن صناعة التاريخ لا محل له في ذاكرة التاريخ، فالهوية في عصر تكنولوجيا المعلومات والمنعطفات الواسعة في العلوم المختلفة يفرض عليها التغيير فلا يمكن للهوية أن تصمد أمام هذه الموجات الهائلة، فهذه الموجات تفرض هوية خاصة وتؤثر في الهوية، وبذلك يرفض الرفاعي فكرة دعاة البحث عن هوية دينية للعلوم والمعارف، فهذه المواقف كما يصفها الرفاعي أشبه بالفكر الجاهلي فيقول " أن حقل العلم غير حقل الدين وحقل المعرفة غير حقل الإيمان، فوظيفة العلم غير وظيفة الدين ووظيفة المعرفة غير وظيفة الإيمان، ومهمة رجل العلم في الحياة غير مهمة رجل الدين، ومهمة رجل الإيمان في الحياة غير مهمة رجل المعرفة، فالعلوم كونية لا هوية دينية واعتقادية".(1) وأخيراً يبقى السؤال قائم متى نرى مفكر عربي ينظر للنهوض بالواقع العربي ليس في حل إشكالية الأصالة والمعاصرة، أي بمعنى آخر هل المجتمع العربي يستطيع مواكبة التطور الغربي من خلال الرجوع للتراث والتمسك به، أم الأخذ بالمنتج الغربي وترك التراث، أم التوفيق بين الأثنين، هذه السؤال طرح بعد دخول نابليون وسفرة الطهطاوي المعروفة وإلى يومنا هذا الجدل قائم حول الإجابة، أما نحن فنعتقد أن المشكلة ليست في التراث، بل تراثنا زاخر وإن كان فيه بعض من الأخطاء وهذه هي الحضارة لا تجدها مكتملة في كل نواحيها، بل المشكلة هي في القراءة والاجتهادات الخاطئة في قراءة التراث، وكان من المفترض الأخذ بكافة العلوم الغربية ولا داعي للقلق من المنتج الغربي العلماني، لأن المنتج الغربي لو لم يتدخل من الباب سيتدخل من الشباك(النافذة) وسيكون خطره أكبر في تغيير عادات وتقاليد مجتمعاتنا.
الهوامش//
1_ينظر عبدالجبار الرفاعي: الدين والاغتراب الميتافيزيقي، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، ط3، 2022، من ص126 إلى ص133.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جيش الاحتلال الإسرائيلي يكثف غاراته على مدينة رفح


.. مظاهرات في القدس وتل أبيب وحيفا عقب إعلان حركة حماس الموافقة




.. مراسل الجزيرة: شهداء ومصابون في قصف إسرائيلي على منازل لعدد


.. اجتياح رفح.. هل هي عملية محدودة؟




.. اعتراض القبة الحديدية صواريخ فوق سديروت بغلاف غزة