الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دور التراثية في التنمية

واثق غازي عبدالنبي

2023 / 8 / 27
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تمهيد

ذكرنا في مقالتين سابقتين دور كل من الدين والسياسة في عملية التنمية، وفي هذه المقالة نذكر دور التراثية. والتراثية كلمة نريد لها أن تصبح أكثر تداولاً لأنها تلخص لنا معاني كثيرة ومفردات متنوعة. في هذه المقالة سوف نبين معنى التراثية أولاً، ومن ثم نوضح دورها في عملية التنمية. وسوف لن نذكر تعريف التنمية هنا لأننا ذكرناه في المقالتين السابقتين عن الدين والسياسة ودورهما في التنمية.

ما هي التراثية؟

التراثية مصطلح قدمه عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي في عدد من مؤلفاته كتعريب لكلمة (culture) التي عربها البعض خطئاً على أنها الثقافة أو الحضارة. يُعرف الدكتور الوردي التراثية في كتابه (في النفس والمجتمع العراقي) على أنها: (مجموعة المعتقدات والقيم والتقاليد والعادات والمألوفات التي ينشأ عليها الإنسان منذ طفولته في مجتمعه المحلي).
ونحن هنا نستخدم مصطلح التراثية وفقا للتعريف اعلاه لأنه يوفر علينا عناء تكرار كلمات مثل التقاليد والعادات والأعراف وغيرها، ولأنه أيضاً يغنينا ويجنبنا سوء الفهم الذي قد ينتج من استخدام كلمتي (ثقافة) أو (حضارة).

التراثية والتنمية

التراثية تلعب دوراً مهما في التنمية. ودورها لا يقل عن دور الدين والسياسة، بل أن التراثية تتداخل وتشترك مع الدين والسياسة في الكثير من القضايا. إن التراثية تشكل وتحرك دوافعنا وطريقة عيشنا، خصوصًا إذا علمنا أن التراثية تتسلل إلى أذهاننا وسلوكنا وتتحكم بالكثير من جوانب حياتنا. التراثية تعمل فينا بطريقة التنويم المغناطيسي. تحركنا كأننا نيام. وهذه هي خطورتها إذا كانت لا تنسجم أو تعمل ضد قيم التنمية.
فالتراثية التي لا تحترم العمل اليدوي مثلاً وتعده عاراً تكون تراثية ضارة بعملية التنمية. والتراثية التي تحترم من يحصل على المال بأقل جهد أو بدون جهد أصلًا وتعده إنسانًا شاطرًا أو فهلويًا هي تراثية تعيق التنمية. والتراثية التي تقف في وجه عمل المرأة وتمنع الاختلاط هي تراثية ضارة وفاسدة. هذه مجرد امثلة على ما يمكن للتراثية أن تفعله في موضوع التنمية والتي سوف نبينها فيما يلي بإيجاز.

1. كراهية العمل اليدوي
يكره الكثير من أبناء المجتمعات العربية والإسلامية العمل اليدوي سواء كانوا متعلمين أو غير متعلمين. وهذه الكراهية هي جزء من تراثيتنا التي اكتسبناها من نظرة بدوية أثرت فينا وما تزال ملازمة لنا حتى ولو كنا نعيش في الريف أو المدينة. وهذه فكرة قدمها عدد من الباحثين منهم الدكتور علي الوردي في عدد من كتبه ومنها كتاب (في النفس والمجتمع العراقي).
كتب علي الوردي في كتابه المذكور أعلاه عن كراهية المتعلمين للحرف اليدوية قائلاً: (لا ننكر أن بلادنا اليوم قد ظهرت فيها مهن وحرف كثيرة تدر الربح الوفير. ولكن المشكلة فيها أن المتعلمين مازالوا ينظرون إلى تلك الحرف بنفس نظرة التعالي التي اعتادوا عليها في الماضي. فالواحد منهم يفضل الدخل القليل الذي يأتيه من وظيفة ثقافية مرموقة على الدخل الكثير الذي يأتيه من حرف السمكرة أو النجارة أو الحدادة أو ما شابه. إن نظرة الناس إلى هذه الحرف سوف تتغير في المستقبل طبعاً تبعاً لتقدم المسيرة الحضارية عندنا، ولكنها الآن مازالت على وضعها القديم لم تتغير إلا قليلاً).
كراهية العمل اليدوي هي التي تجعل متعلمينا، ومنهم المهندسون على سبيل المثال لا الحصر، يفضلون العمل المكتبي على العمل الحقلي أو المعملي لأن فيه عمل يدوي وجهد عضلي. رأيت الكثير من أصحاب الوظائف المكتبية يترفعون عن تنظيف مكاتبهم التي يجلسون عندها رغم قذارتها، ويفضلون على تنظيفها أن ينتظروا عامل النظافة الذي قد يتأخر عنهم لساعات أو حتى أيام. وحجتهم في ذلك، أنهم لم يدرسوا لسنوات حتى يقوموا بعدها بتنظيف مكاتبهم بأيديهم!
إذا استمرت تراثيتنا بتغذيتنا بكراهية العمل اليدوي فأننا سوف نبقى متخلفين عن مسيرة التنمية، لأنه لا يمكن تحقيق أي بناء أو نهضة بدون عمل يدوي مجهد وشاق. عالمياً، يجب أن يكون هناك بالمعدل تسعة عمال لكل مشرف واحد. في مجتمعاتنا يريد الجميع أن يكونوا مشرفين.

2. الفهلوة
في مجتمعاتنا يُعد المرء فهلويًا وشاطرًا إذا أستطاع أن يحصل على أكبر قدر من الدخل بأقل جهد من العمل. إذا أستطاع الموظف أن يحصل على راتبه كاملاً دون نقصان، وربما مع حوافز، على الرغم من أنه يتغيب نصف الشهر، فهذا يعني أنه شخص فهلوي وشاطر ويعرف كيف يدبر أموره. في حقيقة الأمر هذا الفعل هو احتيال وسرقة، ولكنه ووفقاً لمفاهيم تراثية لا يشكل عملاً منكراً في العديد من المجتمعات. والشخص الذي يقوم به لا يشعر أنه حتى أرتكب خطأً، بل يعتز بأفعاله ويفتخر بها.
في مجتمعاتنا يعمل الفرد فقط تحث تأثير الخوف أو المصلحة الشخصية. أما أن يعمل بوازع من ضمير أو وطنية أو خدمة للصالح العام فهو أمر نادر، ومن يقومون به قلائل وهم عادة يوصفون بالمثالية أو السذاجة أو الخيابة. التراثية في مجتمعاتنا تقف بجانب الفهلوي المخادع ضد المبدئي المثابر. ومن المؤسف له أن مؤسساتنا الحكومية بما تعانيه من بطالة مقنعة استطاعت أن تعزز هذا السلوك المنحرف في نفوس موظفيها.
إن شخصية الفهلوي تتعارض مع قيم التنمية التي تحترم وتبجل العمل من أجل المجموع وتجعله واجباً من واجبات كل فرد قادر عليه. إن الفهلوة قائمة على الخداع والكذب والتحايل وهي لذلك تُعيق تحقيق التقدم في المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، أي أنها تعيق التنمية الشاملة. فكيف لبلد أن يتقدم إذا كان أغلب مواطنيه فهلوية؟!! بالمناسبة، في اللهجة العامية العراقية يُسمى الفهلوي (كلاوجي)، وتُسمى الفهلوة (كلاوات).

3. عمل المرأة
إن عزل أغلب النساء في البيت ومنعهن من التعليم وبالتالي العمل، هو أحد أسباب تخلف التنمية في العالمين العربي والإسلامي. ما يحدث في العالم العربي هو أن رجل واحد يعمل لإطعام عدة نساء (أم وأخت وزوجة وبنت) وفي الغرب كل شخص يطعم نفسه.
التراثية العربية أو الإسلامية أو الشرقية هي التي تمنع المرأة أو الفتاة، في العديد من بلدان الشرق، من العمل والكسب. وهذا يقود إلى أن الأب أو الزوج أو الابن عليه أن يعمل وحده لكي يعول أفراد أسرته التي قد يصل عدد أعضاءها إلى السبعة أو الثمانية. وهو بالتأكيد يعجز عن توفير كافة احتياجاتهم، وبالتالي يعيش الجميع في قحط دائم.
قد يقول البعض أن الوضع تغيير كثيراً وأن عمل المرأة أصبح يوازي أو ينافس عمل الرجال في عالمنا العرابي والإسلامي. هذا انطباع قد يبدو صحيحاً، ولكنه مع الأسف لا يتفق مع الأرقام والإحصائيات. فمازالت معدلات عمل النساء أقل بكثير من معدلات عمل الرجال. وهي معدلات تتناسب كثيراً مع معدلات تعليم المرأة. كما تم ملاحظة أن عمل المرأة غير المتعلمة يكون أقل أجرًا وأكثر مشقة. تعليم المرأة وإتاحة الفرصة لها مع الحفاظ على كرامتها وحقوقها هو أحد متطلبات التنمية الشاملة التي تقف التراثية عائقاً دون تحقيقها.
صرح مسؤولو منظمة العمل الدولية مرارًا وتكرارًا بأن معدلات بطالة النساء في مناطق مثل الدول العربية وشمال أفريقيا ماتزال تبلغ ضعفي معدلات بطالة الرجال بسبب الأعراف الاجتماعية السائدة (التراثية) والتي تمنع مشاركة المرأة في العمل المأجور. وأن هذه التحديات والعقبات المستمرة أمام المرأة ستقلل من إمكانية قيام هذه المجتمعات بتحقيق التنمية الاقتصادية.

الخلاصة

التراثية هي مجموعة المعتقدات والقيم والتقاليد والعادات والمألوفات التي ينشأ عليها الإنسان منذ طفولته في مجتمعه المحلي. ومجتمعاتنا مليئة بالعديد من التراثيات التي تعيق التنمية، منها: كراهية العمل اليدوي، والفهلوة، ومنع عمل المرأة. وفي الواقع، فأن هناك تراثيات أخرى كثيرة تعيق التنمية الشاملة مثل الاستهلاك المظهري والتحاسد والتنازع والتي ننوي ذكرها في مقالات اخرى. ومن الجدير بالذكر قبل الختام أن نؤكد على أن العقائد الدينية والسياسية والتراثية متداخلة مع بعضها ويصعب أحياناً التفريق بينها لشدة تداخلها وتأثير كل واحد منها بالآخر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الأقباط فرحتهم بعيد القيامة في الغربي


.. التحالف الوطني يشارك الأقباط احتفالاتهم بعيد القيامة في كنائ




.. المسيحيون الأرثوذوكس يحيون عيد الفصح وسط احتفالات طغت عليها


.. فتوى تثير الجدل حول استخدام بصمة المتوفى لفتح هاتفه النقال




.. المسيحيون الأرثوذكس يحتفلون بعيد الفصح في غزة