الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحيل الفقيه..دارس الفلسفة أسامة خليل

أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)

2023 / 8 / 28
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يا مِنجل الموت تمهَّل
نعى الناعي وفاة الزميل العزيز د.أسامة خليل مدير مركز سكريب لا مارتان الثقافي في باريس؛ فغمرني شعور بالحزن والانقباض، بعد أن عرفته باحثًا نادرًا ومنشغلًا حقيقيًّا بالقضايا الفلسفية الكبرى مثل: الإيديولوجيا والعقلانية والعلم والبنية والبنيوية والذات الإنسانية والرمز والخيال والحقيقة...إلخ.مؤمنًا بأن الفلسفة بحث عن الحق المطلق، وأنها لا تخدم أحدًا سوى الحقيقة.بعد أن تلقَّى أصولها، وثَقِفَ مدارسها ومباحثها وتاريخها وتأريخها من أستاذيْنا الجليليْن: زكريا إبراهيم ويوسف كرم.
أذكر عند لقائنا الأول في فندق شبرد في منتصف الثمانينيات، أنه راحَ يطرح عليَّ بعضًا من نصوص فلسفية، طالبًا مني نسبتها إلى أصحابها، مُعرِّجًا على شروحها لدى فلاسفة آخرين ومناقشتها، بعد أن عرفَ أنني خريج كلية الآداب- قسم فلسفة، ولمَّا أجبتُ انعقدت بيننا صداقة وطيدة لم تنقطع حتى ساعة رحيله الفاجع.
ولأنه يعي أن النقد والسؤال والمساءلة هي روح الفلسفة ومبناها، فقد عاش حيرة لم تطلْ بين أصوله المسيحية وحبه لوالده القس وتعاليمه الدينية التي رسَّخها في وعيه ووجدانه، وبين دراسته للفلسفة التي قادته إلى التساؤل عن ماهية الإنسان وجوهر وجوده؛ انطلاقًا من مقولة مارتن هيدجر:"إن التفكير في حقيقة الوجود هو، في الوقت ذاته، تفكير في إنسانية الإنسانيّ، والمهم هو أن تكون إنسانية الإنسان في خدمة حقيقة الوجود".
فعكفَ على دراسة مقارنة للأديان ومنابتها، غير أنه بدلًا من أن يقوده البحث الفلسفي إلى جلاء الأصل الفلكلوري المتبدي في الأسطورة الدينية وكيفية عملها وتأثيرها وربطها الظواهر الطبيعية بقوى الطبيعة الخارقة، وأن يُدرك أن مسار المَخاض الفلسفي مرتبط بمسار المَخاض العلمي، وأن يتساءل كما تساءل لوي ألتوسير في كتابه "لينين":(ألم يتمّ في الديكارتية نفسها، إنشاء المقولة الجديدة للعِلّية، هذه المقولة الضرورية للفيزياء الجاليلية- نسبة إلى جاليليو- التي كانت ترتكز على العِلَّة الأرسطية وعقبة إبستمولوجية؟ أضف إلى ذلك، أن الأحداث الكبرى التي نعرف تُحيلنا إلى الانفتاح المثير على القارَّتيْن العلميتيْن الكبيرتيْن:الرياضيات الإغريقية والفيزياء الجاليلية). بدلًا من ذلك، فعل ما فعله ديكارت حين استثمر معارفه الفيزيائية في أغراض ميتافيزيقية، وما أفضت إليه تجارب الفيزيائي الألماني هايزنبورج بإطلاق سؤال اللاحتمية، واتَّجه بتأثير من د. حسن حنفي أستاذ إلى الإسلام الليبرالي المتسامح باستخدام المنهج الفينومينولوجي (لدى هوسرل على وجه الخصوص)، وهو المنهج الذي تلقاه- حنفي- في مصر أولًا على يد أستاذه د.عثمان أمين.ويعتمد على الحدس المباشر في إدراك الأشياء، فالحدس، والحدس وحده،هوالذي يمكن أن يكون المنبع الأول لكل يقين؛ ومن ثمَّ فالتعليق والحدس هما القاعدتان الرئيستان في المنهج الظاهراتي. وبذلك يغدو الوعي واقعة فريدة لا تستطيع أي صورة فيزيائية أن تعطينا مثالًا عنها، اللهمَّ إلَّا صورة الانفجار السريع الغامض. إن المعرفة هي "الانفجار نحو"، هي أن ينزع الإنسان نفسه من باطنه العميق كي يخرج عن ذاته، هناك، نحو ما ليس ذاته، "هناك قرب الشجرة، وفي نفس الوقت خارجًا عنها"بتعبير سارتر. ووجد د.أسامة خليل في الخلطة العجيبة التي قام د.حسن حنفي بتركيبها ومزجها، معبِّرة، في الواقع، عن أزمته الخاصَّة كما هي أزمة كل فصائل الإسلام السياسي، في فهم الواقع ومعضلاته ومستجداته، وجد فيها ضالته المنشودة أو توجُّهًا حَرِيًّا بالتبني وفقًا لمنظور معقد يجمع من ناحية: بين "الأصولية" ليس بمعناها المذهبي الشائع، ولكن بمعناها الأكاديمي التأصيلي التجديدي لتكريس مجتمع إسلامي جديد. ومن ناحية أخرى: بين مناهج التأويل في الفكر الديني الأوروبي الحديث، كل هذا عبر منظور جمع فيه بين آية الله الخميني الذي ترجم بعض أعماله إلى العربية والفيلسوف الإسلامي الإيراني علي شريعتي ولاهوت التحرير وجيفارا في أمريكا اللاتينية ومارتن لوثر في الولايات المتحدة الأمريكية.
كان حسن حنفي يروج لدعوته تحت عنوان اليسار الإسلامي من إندونيسيا إلى أمريكا اللاتينية.وهنا نجد من المتناقضات ما لا يمكن استساغته ولا تقبُّله؛ إذ كيف يمكن التوفيق مثلًا بين الخميني الذي يقول بولاية الفقيه ومعصوميته من الخطأ، وبأن الإنسان قادر على معرفة وجود الله، لكنه، أي الإنسان،عاجز، بحكم طبيعته، عن أن يعرف أي نظم يختار لحياته بدون توجيه إلهي.وبين جيفارا الذي يؤمن بأن الناس الواقعيين الفاعلين هم الذين يُنتجون تمثلاتهم وأفكارهم.في ظل نمو معين لقواهم الإنتاجية ولنمط العلاقات الذي يتناسب مع تلك القوى؟ بل كيف يمكن التوفيق بين الخميني السلفي المحافظ وبين علي شريعتي المجتهد الذي اغتالوه لأنه يركِّز على الجانب الإنساني من الدين أكثر من تركيزه على الجانب الإلهي، ويربط بين قضايا المسلمين في الحاضر وقضاياهم في الماضي "كقضية فلسطين مثلًا" ووضعها في إطارها العالمي من علاقات القوة والمصالح؛ فتعمقت الفجوة بينه وبين الهيئة الدينية الرسمية التي ترى أن استرداد "فدك" من أهل السنة أكثر أهمية من استرداد فلسطين من أيدي الصهاينة؟
وبسببٍ من هذه الخلطة التوفيقية- التلفيقية، انتهى د.حسن حنفي كما بدأ إخوانيًّا إسلاميًّا يدافع عن الأصولية الإسلامية، وأولوية الإيمان على العقل، ويدعو إلى الحاكمية، وتكفير النظم القائمة دون تمييز، وسيادة الطاعة المطلقة لإمامهم حسن البنا الذي يُلقّنهم أن مشروع الخلافة شعيرة إسلامية يشغل كرسيَّها الخليفةُ –أي حسن البنا - الذي هو ظلّ الله على الأرض.ولعل عودة سريعة إلى سلسلة مقالاته الطويلة عن "الحركة الإسلامية المعاصرة" تُوضِّح ما أسلفت.لكن أخطر ما أصاب به د.حسن حنفي تلميذه د.أسامة خليل كان ازدواجية التفكير، والجمع بين ما لا يجتمع، كقول د.خليل دون أن تطرف له عين أو تختلج له عضلة:" كان أستاذي الدكتور حسن حنفي فقيهًا مجددًا للفكر الديني في العالم الإسلامي على غرار لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية، لكنه كان مضطرًّا أن يعتمد ـ كمدخل إلى ذلك ـ مناهج التأويل في الفلسفات الغربية الحديثة.كيف ذلك؟ إن مناهج التأويل الحديثة خاصة الألسنية والتأويلية والسميولوجيا ستنتهي به لو كان أمينًا مع نفسه إلى تفكيك بنية الخطابات وتعريتها من أثواب القداسة التي أُلبست لها بفعل ملابسات وعوامل غير معرفية، ناهيك عن فتح الأبواب على مصاريعها أمام الأسئلة التي جرى كبتها سياسيًّا واجتماعيًّا ودينيًّا، فكيف تتأتى للدكتور حسن حنفي – في نظر تلميذه د.أسامة خليل - الإفادة من مناهج التأويل في الفلسفات الغربية الحديثة في تجديد الفكر الديني الفلسفي، وهو يؤمن بـ"الحقيقة الواحدة والوحيدة"، وبأن الجماعات الإسلامية هي الفرقة الناجية وخشبة الخلاص لنا؟ كيف له ذلك وهو يصف نفسه "أنا شافعي العصر الحديث، أنا غزالي العصر الحديث"؟
إن ما يقول به د.أسامة خليل نقلًا عن أستاذه د.حسن حنفي، ذكَّرني بما اضطلعت به دارالآداب اللبنانية في الخمسينيات والستينيات من تقديمٍ للفيلسوف الفرنسي الوجودي جان بول سارتر كفيلسوف قومي عربي، أو مساواة أدونيس الصوفية بالسريالية، أو ما نهض به البنيويون المغاربة من مؤالفةٍ بين فوكو وابن رشد.
إن خطورة ما يقول به حسن حنفي، ويُردِّده صفيُّه ونَجِيُّه أسامة خليل هو استخدامه مناهج التحليل الحديثة من أجل إضفاء طابَع الأصالة والوطنية على دعاة فكر ديني مأزوم ومستبد موغلٍ في النرجسية والتطرف.وهو، للأسف، نفس ما فعله د.خليل حين لجأ إلى الدين من أجل إعادة التأسيس للنهضة العربية الإسلامية، التي يدعوها بـ"الانتصاب الحضاري الجديد"، مستبعدًا العلم من نهضته المدَّعاة.
ألا يدعونا ذلك إلى التذكير بما قاله د.حنفي أخيرًا، وبين ما دعا إليه سابقًا في كتابه "التراث والتجديد" من:"أن لفظ الله ينطوي على تناقض داخلي، ولفظ إسلام فقد معناه الأصلي، ولفظ دين لا يؤدي إلى الإيصال، ولا ينقل المعنى الأصلي؛ لأن اللغة التي يرفضها العصرحتى ولو كانت لغة قديمة لا يمكن استعمالها من جديد"، مناديًا بالانتقال من"العصر القديم المتمركز حول الله، إلى العصر الحالي المتمركز حول الإنسان"؟
الأمر الذي عاينه بنفسه تلميذه د.خليل في الواقعة التي سردها لنا يومًا ومؤداها ذلك اليوم المشهود الذي عقد فيه المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية ندوة له - للدكتور خليل- لمناقشة ما كتبه عام 1994 تحت عنوان "نظرية الإسلام والعهد الدهري"، واستنكر فيه حنفي لجوءه إلى الدين مرتكزًا أساسيًّا للنهضة العربية!
وقد لعبت مجلة "أصول" التي كان يُصدرها د.أسامة خليل دورًا كبيرًا في الترويج لهذه الأفكار الأصولية.
غير أن الرجل كان متعدِّدَ المواهب والقدرات، جامعًا بين كتابة الدراسات الفقهية ذات الطابَع الفلسفي، وكتابة الأغاني والغناء والتلحين، والقراءة النهمة لكل ما تجود به المكتبات والمطابع من عطاء فكري وثقافي، داعيًا إلى إسلام ليبرالي متسامح، فضلًا عن خلقه الراقي وتواضعه الجم.رحمه الله.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وحدة 8200 الإسرائيلية تجند العملاء وتزرع الفتنة الطائفية في


.. رفع علم حركة -حباد- اليهودية أثناء الهجوم على المعتصمين في ج




.. 101-Al-Baqarah


.. 93- Al-Baqarah




.. 94- Al-Baqarah