الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الغرب - اين يقود العالم؟

حافظ الكندي

2023 / 8 / 29
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الغرب هنا ليس توصيفا جغرافيا بقدر ما هو الموكب الحضاري الذي يقود العالم في طريق جديد. ذلك الطريق هو امتداد للاتجاه المادي في الفلسفة اليونانية، الذي يرى أن المادة هي المكون الأساسي للوجود، وأن كل الأشياء، بما فيها الجوانب العقلانية كالوعي، هي نتاج لتفاعلات مادية ومنتج ثانوي أو ظاهرة مصاحبة للعمليات المادية (الكيمياء الحيوية للدماغ والجهاز العصبي على سبيل المثال). ووفقا لهذه الفلسفة، فان الماديات هي من تخلق وتحدد الوعي، وليس العكس. بينما الفلسفة المثالية ترى ان الوعي هو الجوهر الحقيقي للإنسان بينما الجسم هو الاناء الذي يحتويه. وهو ما يلتقي في الاخر مع النظرة الشرقية التي ترى ان روح الانسان هي أجزاء من روح كليه في الكون خارج نطاق العقل والفعل البشري، اي ثنائية اتمان/براهمان.
وبخلاف الاحياء الاخرى التي تنشأ مع منظومة سلوك ثابته موروثه متأصله في طبيعتها تحدد لها أسلوب التفاعل مع المحيط، فان الانسان يولد مفتقرا الى محددات السلوك تلك. وقد تركت مهمه ملئ الفراغ هذه لعملية التربية التي يقوم بها المجتمع، والذي يغرز في المولود الجديد بوصله اجتماعيه تعلمه مبادي السلوك السليم مثل الاخلاق والقيم والمفاهيم والعادات والتقاليد. وكذلك افعل ولا تفعل كالنواهي والاوامر، الصواب والخطأ، العيب، والحرام والحلال، وما مقدس ومحترم. في عالم الانسان فان المجتمع حل بدل الطبيعة، وحل التاريخ بدل الوراثة.
الافراد المجردين من الوعي (الروح) هم مثل حبات مسبحه بدون الخيط الرابط، متناثرين ومعزولين عن بعض ولا يشكلوا مجتمعا عضويا له ذاكره تاريخيه. بل جماعه سكانية تربطهم متطلبات البقاء على قيد الحياة.
***
الدولة الرومانية هي التجسيد العملي لتلك الفلسفة اذ انها قامت على نموذج الجيش الروماني في التنظيم والانضباط وتقسيم تجمعات الجنود بصوره هندسيه دقيقه، وكذلك في كون الجيش مؤلف من جنود محترفين يعملوا بمقابل مادي. الدولة الرومانيه هي كيان سياسي يمثل افراداً بصفتهم مواطنين فيها، أي تجمع وحدات فرديه مستقله متساوين في الحصص الانتخابية، لهم حق المواطنة والتصويت، ويرتبطوا بعقد مجتمعي، وليس بكونهم مكونات في جسم اجتماعي عضوي. اختفى الوعي التاريخي والاجتماعي عن الذاكرة ومعه غابت التقاليد والقيم ومنظومة الاخلاق ومحددات السلوك البشري.

عالم الغرب الحديث قام على هدى الفلسفة المادية اليونانية وظل مخلصا لها وعمل على تطويرها في عصر النهضة، وأنشأ هيكله الحضاري على خطى النموذج الروماني. اورپا القارة هي قلعه رومانية كبيره تحوي قلاعا تشكل مقاطعات ومدنا وبلديات وتقسيمات أصغر فأصغر الى تصبح قلاعا فرديه وهي البيوت التي يسكن فيها مواطنو ذلك العالم. القلعة الكبرى تقف شامخه ومتفوقه في محيط يضم مجتمعات تقليديه تختلط فيها الألوان والاجناس واللغات والثقافات وأنماط الحياة والعيش والسكن، وبعضها عليه سمات الفقر والفوضى. هي الجديد البارق المتألق والأكثر تقدما بنظر الاخرين. وحيث المؤسسات المدنية تتمحور حول الفرد المجرد وفي خدمته تحيطه بجدران تحميه من المحيط، وترضي حاجاته ورغباته المادية. النموذج الغربي بات هو مقياس التقدم الاجتماعي الذي تحاول الأمم الاخرى بلوغه او قياس نفسها به بل وتجهد للتخلي عن جلدها وتراثها وشخصيتها لتنتمي اليه.

تلك القلعة ليست مجتمعا بل هي منظومه مؤسساتية تدير التجمع السكاني. الفرد هو عضو فيها. وهي تعمل بكفاءة الماكنة وكل شيء فيها بدون استثناء مصمم ومنفذ بدقه وبنظام محكم ويدار بواسطة برامج مدروسة وخاضعه لدراية وإدارة العقل البشري ابتداء من البنى الفوقية والقانونية والفكرية والثقافية التي تتحكم بالمفاتيح ...الى الفعاليات الاقتصادية والتجارية والمالية والعلاقات وتخطيط الدول والمدن والمقاطعات والشوارع والازقه والمساكن وما يجري داخل البيت وحوله وفي محيطه. يشمل ذلك مجالات التعليم والطبابة والثقافة وغيرها.
حتى الطبيعة من سواحل وغابات واشجار وانهار وجبال فهي ان لم تخضع للتخطيط والتعديل البشري فأنها على الأقل توثق وتسجل وتقيد. المدن مثل رقع شطرنج، والبيوت صناديق اسمنت وزجاج وحديد. الدول القومية الحديثة تضم عاده لون واحد لغة واحده ودين واحد...هذا البلد كاثوليكي وهذه هي لغته ولا يتوقع ان يضم بروتستانت او متحدثين بلغه اخرى...كل شيء معرف وقياسي ومنظم ومتناسق يخضع لنظام مدروس ومجرب لا شيء مختلف او يشذ عن النسق المقرر، مثل عشب حديث الجز في ملعب كرة قدم. نفس الطول واللون والكثافة...
الانسان الفرد اضحى مخطط كائن بشري ونتاج الهندسة الاجتماعية، خاضع للتصميم مثله مثل المباني. يجب تخطيطه أولا ثم تنفيذه قطعه فقطعه، حجرا فحجر، وحياته مقسمه الى دقيقه فدقيقه، من قبل دراسات معمقه لعلماء نفس واجتماع وطب وانثروبولوجيا.. ويبدأ التنفيذ منذ الولادة مما يقدموه من توجيهات للعائلة ثم الحضانة والمدرسة. ولذا فان افعاله وسلوكه واهتماماته ومعلوماته ومواقفه وروتين حياته اليومية محسوبة ومقننه ومدروسة كي تنتج فردا يتناسب ويستجيب لحاجات المنظومة ويصبح احدى احجار بنائها.
المبادئ الفكرية ابتدأت كثوره على القيود الاجتماعية وتحرر من القيم والمفاهيم التقليدية. غير انها وسريعا وعلى يد الفرد الغربي، لابد ان تصل الى حدوده القصوى طالما ان هذا الفرد هو قطعه من منظومه قائمه من الأساس على الفكر المادي الذي لا يحوي بوصله تاريخيه او اجتماعيه للتمييز ما بين الصحيح والخاطئ والخير والشر والجمال والقبح. لم يعد يردع الانسان شيء عن تحقيق رغباته وشهواته الجسدية مهما بدت غريبه بنظر اجدادهم الذين عاشوا في مجتمع أكثر طبيعية وتقليديه. لا يقتصر هذا على توسيع الرغبات المادية من طعام وشراب ووسائل ترف واستهلاك، ولكن بتزايد العنف وتعاطي المخدرات والانحلال الخلقي والعائلي وجرائم الاغتصاب وأنواع الممارسات الجنسية التي لا يحدها وازع ومنها النزعات الشاذة والمشوهة.

الشرق على خطى الغرب

أضواء هذا العالم وصلت مبكرا الى اركان المعمورة وبسرعة تم تبنيها او تقليدها في باقي المناطق والمجتمعات والبيئات والتي صارت تتخلى بالتتابع عن شخصيتها وحضارتها المشكلة تاريخيا، واخذت تسعى للسير خلف الغرب في هذا الطريق الذي بدا لها مثاليا كونه يوفر للإنسان اقصى متطلباته في العيش الرغيد والرفاه والأمان وتتجلى فيه مبادئ الحرية والعدالة والمساواة.
شهدت الكثير من الأماكن صحوه حضارية وآمال بالتقدم واللحاق بركب الحضارة الأوربي. وانطلقت محاولات حميمة لخلق بنى واليات مطابقه للغربية في محاولة خلق عالم مؤسساتي بدل التقليدي ابتداء من الدول والحكومات والدساتير وقوننة الآليات وأساليب التعامل والقيم والاخلاقيات والمفاهيم، والسعي لأنشاء هياكل صناعيه وتجاريه وزراعيه ومعالم فنون وآداب واعلام وثقافة. وامتد التأثر الى التعليم واللغات والطب والغذاء واللباس وأسلوب البناء وتخطيط المدن وأساليب السكن.
جاء هذا مع الافتراض الساذج ان هذا التوجه نحو الغرب هو مسار طبيعي يخضع للإرادة وان مجرد وجودها يكفي للوصول له، وانه تطور حتمي يتبع منطق التاريخ الذي لابد ان يسير الى امام. وان العوامل التي سمحت له في اوربا متوفرة في الأطراف ايضا. وان اوربا تسير في الطليعة وان سوف يتبعها العالم.
ولكن من الواضح ومنذ مراحل متقدمة ان الامر ليس بالبساطة التي يتمناها أبناء الاطراف. من جهة لان المنظومة الغربية هي حقيقة الامر وليدة اوربا تاريخيا. وهناك كان لها من العوامل التأريخية ما سمح لها بان تنمو وتزيح البنى الاجتماعية التقليدية ومن ثم ان تتسع وتضم مجمل مناطق القارة. وهي ظروف ليس من المضمون ان تتوفر في أي مكان اخر في العالم وخاصة حيث تتواجد مجتمعات عريقة وحضارات ذات امتدادات تاريخيه لا تتيح للمنظومة الغربية ان تجسد ذاتها بالصورة النقية والشاملة كما هو في اوربا. من جهة أخرى فان اوربا لن تسمح لغيرها بمشاركة امتيازاتها ولا بالمنافسة على مصالحها. وقد عملت منذ البداية على وأد أي محاوله نهضه تمكن المجتمعات الأخرى بنمو حقيقي مشابه لاوربا، او ان تقوم لها بنى تحتية وفوقية تسند بنيه تصنيعيه او زراعية رأسمالية ذاتية. وابتداء من القرن التاسع عشر في الصين والهند والشرق الوسط وافريقيا وحتى أمريكا الجنوبية تم تحجيم تلك المحاولات بكل الطرق وحتى قمعها بالقوة ان لزم الامر. فاورپا لا ترغب في تغيير نموذج السادة والتوابع الذي يناسبها. وقد نفذت بلدان قليله مثل اليابان وكوريا الجنوبية لأسباب جيوسياسية معروفه.
الشرق - من مجتمعات الى مخيمات لاجئين
المجتمعات التقليدية هي تكوينات عضويه مثل الاجساد الحية. هناك شبكه من الخلايا والشرايين والعظام والعضلات التي تعمل لإبقائها حيه وتستجيب للتحديات والمؤثرات الخارجية. هذه المجتمعات هي امتدادات تاريخيه مترابطة بقيم واعراف عادات وأخلاق ومفاهيم ممتدة من ماضي سحيق لا تعرف بدايته. وفي تدبير أمور معاشها فان الفعاليات الزراعية والرعوية والصيد والحرفية ...تعمل بصور متناسقة لتلبية الاحتياجات اليومية للأفراد وتوفير فائض البنى الفوقية والفعاليات الثقافية والدينية...فأنها ترتبط بشبكه دقيقه وحساسة من علاقات وترابطات. تلك الشبكة تقطعت اوصالها. وتقف ارتال البواخر والشاحنات تحمل البدائل الزراعية والصناعية للاستهلاك المحلي اتيه من الدول الصناعية لتعوض عما كان ينتج محليا.
التشكيلات التقليدية التي تضم تلك المجتمعات، قرى، ممالك، قبائل، امبراطوريات، عشائر، اخذت تتشرذم وصارت القارات تتقسم بخطوط على الخرائط وتنشأ "اوطان" جديده وتتعالى الحناجر بالنشيد الوطني، وترتفع اعلام الدول الحديثة لتعلن القطيعة مع الماضي الرجعي المتخلف ودخول العصر الجديد. ذهب القديم البالي ولكن لم يحل شي بدله. السقف القديم الذي مهما كان مهلهلا فقد كان يضلل على المنزل، ويحمي من حر الصيف وبرد الشتاء، جرى تهديمه، في كثير من بلدان الشرق الأوسط وافريقيا بجرة قلم او باسم الثورة، املا في انشاء البديل العصري المتطور لها. ولكن لم يعد هناك من سقف ولا بناء اجتماعي وانهارت الزراعة والرعي والحرف المحلية والروابط التقليدية وتكسرت الشبكة الاجتماعية وتناثرت في الريح، وتحولت البلدان الى مخيمات لجوء، والشعوب الى لاجئين في اوطانهم يغرقوا في الفوضى ويواجهوا الفناء.
ترافق هذا مع زيادة سكانية باتت خارج السيطرة تفيض عن قدرات الاستيعاب الأطراف واعالتهم مهما جرى شدها. وهو امر يتماشى مصلحة قوى الإنتاج الرسمالي كونه يضخم القاعدة الاستهلاكية لمنتجاته.
الجموع المتزايدة، حتى تلك التي لا تقيم في قلعة العالم الغربي، ترغب في استنساخ نموذجه في العيش والاستهلاك، ولذا فأنها تدخل بكل هذا الثقل السكاني المتنامي في دائرة الطلب واستهلاك احتياجات العيش البشري بالنمط الغربي الحديث.


عصر الغرب – الى اين؟

منظومة المؤسسات بقدر ما هي كفؤه فأنها صلبه وجافه وتفتقد الى المرونة. ومن ثم فأنها تسير في اتجاه واحد ولا يمكنها ان تتراجع او تغير اتجاهها. المطالب المادية لا تني عن الازدياد والتوسع والتمدد، وهل من حدود لرغبات الانسان وشهواته؟ اذ لا يوجد أصلا في الأساس المادي لهذه الحضارة ولا في قاموسها أي عنصر فكري حتى لو كان هامشيا مثل الزهد في الدنيا، واعمار النفسٌ بالقناعة، والتعفف عن المال والشَّهوات، والاقتناع بالقليل كما هو الامر في الحضارات التقليدية التي تحتوي بعدا روحانيا. هذا المسار المادي البحت يسنده نظام الانتاج الرأسمالي الذي لا يتوقف عن الدفع نحو النمو بغض النظر عن الاثمان التي تدفع لتغذية هذا النمو. ولكن هل يمكن تلبيته تلك المطالب الى الابد؟ وهل يمكن تلبيتها لكل الناس أينما كانوا ومهما ازداد عددهم؟
عالم الرفاه وخاصه عندما تعمم على صعيد عالمي يحتاج الى موارد متزايدة وغير محدودة زراعية وطبيعية وبحريه وصناعيه. لا البحار ولا الغابات ولا الأنهار ولا الحقول ولا الهواء سوف تكفي لتلبية حاجات البلايين من البشر ولا لاحتواء عوادمهم وفضلاتهم، او لحفظ الجو صالحا للبقاء، او درجات الحرارة من التصاعد، او لحماية العالم من الاحتراق، والانهار من الجفاف، والغابات من الاختفاء...وطالما ان خط التقدم الى الامام يعني ان لا تراجع ولا تبديل اتجاه. فهل هناك من يتصور ان نتوقف عن استهلاك الوقود والكهرباء والماء والغذاء والملابس والسيارات.... الى ان يوم تنتهي فيه الحياة على الارض؟ وهو يوم صار يحسب بالسنوات وربما بالأشهر بعد ان كان مفتوحا ولا يمكن التكهن به...
كل هذا بمباركه او غض نظر المنظومة السياسية والاقتصادية والإعلامية العالمية التي باتت تتحدى الطبيعة وتدفع العالم بصوره انتحاريه الى نهايتها.
***
احدى اهم إنجازات العلم الوضعي الحديث انه علمنا ان الانسان جزء من عالم الطبيعة وانه قد تطور من اشكال حيوانيه أخرى وليس مخلوقا منزلا من السماء وله تمايز وخصوصيه على غيره. هذا الكشف يعني انه لا خيار له الا ان يتبع آليات وقوانين الطبيعة مثل غيره من الاحياء، او أي خليه في جسم حي. عندما تتمرد تلك الخلية على الجسم الذي يحتويها وتأخذ بالانقسام والتكاثر وتمتص الغذاء والموارد الأخرى من الجسم فأنها تصبح عندها ورماً خبيثاً. وليس من نهاية لهذه الحالة الا ان كل من الورم والجسم ان يموتا....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحوثيون يعلنون بدء تنفيذ -المرحلة الرابعة- من التصعيد ضد إس


.. ”قاتل من أجل الكرامة“.. مسيرة في المغرب تصر على وقف حرب الا




.. مظاهرة في جامعة السوربون بباريس تندد بالحرب على غزة وتتهم ال


.. الشرطة الأمريكية تعتقل عددا من المشاركين في الاعتصام الطلابي




.. بعد تدميره.. قوات الاحتلال تمشط محيط المنزل المحاصر في بلدة