الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
حلول العلم والايديولوجيا للتخلف العربي 2
لبيب سلطان
أستاذ جامعي متقاعد ، باحث ليبرالي مستقل
(Labib Sultan)
2023 / 8 / 30
المجتمع المدني
. 5. فهم ركائز الحل النظري للخروج من التخلف
تم في الجزء الاول تحليل تجارب الامم الأوربية والدول الصاعدة وتم استخلاص بعض المحاور (الركائز) بأنها هي ما وقف وراء خروج هذه الأمم من حالة التخلف وبتمكنها بأقامتها تمكنت من الخروج تدريجيا منه والسيربطريق البناء والرقي والتقدم .واستند استخراج هذه الركائز على تجارب الامم الاوربية ( في القرنين 18 و 19 تحديدا لقربها من واقعنا اليوم) ومن تجارب الامم الناشئة في القرن 20 مثل كوريا والهند وتركيا والصين والبرازيل وغيرها ، ومنه تم تحديد هذه الركائز الثلاثة والتي يمكن تسميتها " الحل النظري لقضايا التخلف " ، وهو حلا علميا وفقا لمنهج العلم بدراسة تجارب النظائر الناجحة واستخلاص نتائجها من دراسة سياق تطورها التاريخي ( أي تحليل العلاقة بين نشؤئها وترابطها تاريخيا) ، ومن خلال قراءة واقعها اليوم وها هي تجاربها امامنا . ان هذه التجارب تمكننا ان نخرج بنتيجتين : الاولى ان هذه الركائز تشكل الحل النظري لقضية التخلف اولا، والثانية ان هناك علاقة ترابطية بين هذه الركائز ، فبعضها يعتمد على بعض. واذا توفرت ثلاثتها ستتوفر اسس الاستقرار الدائمة (الوضع الفيزيائي المستقر ) ، ومنه يمكن التوصل الى نتيجة لا بد من اقامتها مترابطة ببعضها ( أي متوازية ومتوازنة مع بعضها ) وربما ان تحقيق ركيزة منها دون الاخرى قد لايؤدي بالضرورة للتنمية الشاملة بل ربما لتنمية جزئية أو مؤقتة، او حتى التراجع عن التنمية).
ولغرض دراسة امكانية تطبيقها في مجتمعاتنا العربية ( خصوصا في بلدان مثل مصر وسوريا والعراق ) ، وجدت من المفيد اعادة صياغتها وتعريفها بشكل جديد ، دون المس بجوهرها، ولكن لغرض توضيح اكثر لمفاهيمها، فلايكفي ان نقول اقامة نظاما وطنيا أو علمانيا ، او اقامة ديمقراطية ، او مطالبة بتنمية اقتصادية دون تحديد محتواها وأبعادِها، وربط معناها النظري بالتطبيقي وترجمتها للواقع وتبيان ما المقصود بها تحديدا في اهم مفاصلها ووفق معطيات مجتمعاتنا ، ومنه ارى باعادة صياغة هذه الركائز الثلاثة في مفاهيم محددة اكثر وضوحا لتتلائم وفق واقعنا ومعطياته.
1. التنمية المؤسساتية لوطنية الدولة
يركز هذ البعد التنموي على تثبيت وتطويروطنية مؤسسات واجهزة الدولة ( نستخدم الوطنية بدل العلمانية رغم انهما واحدا وهو فصل الدولة عن كافة العقائد الدينية والوضعية كي تصبح الدولة وطنية حقا). انها الركيزة الاولى للتنمية. ان اقامة هذه الركيزة في الواقع هو العمل على امرين: اولهما خوض معركة اصلاح دستوري يمنع تبني الدولة لأحدى العقائد ( غير عقيدة المواطنة المتساوية وحرياتها القانونية) ، والثاني يمنع تسلل هذه العقائد لتسييس مؤسسات الدولة ، ووضع ادارتها وسياساتها خارج الاحزاب ، لتكون لسلطة تدين بالولاء للدستور وليس لاحزاب ( أي وضع عملها وادارتها مسؤولية مباشرة لملك او لرئيس جمهورية منتخبا مباشرة من الشعب مقيدا دستوريا وحالفا وملتزما امام شعبه وبرلمانه انه يعمل بابعاد مؤسسات الدولة عن التحزب والعقائدية). وطبعا هذا وحده لايكفي ( كما اثبتت التجارب العربية ) بل يتطلب تمكين قضاء مستقل متخصص يحاسبه ويحاسب كافة السلطات لو حدث خرقا لهذا المبدأ ولهذا القانون الاعلى للدولة ) .
ولأهمية هذه الركيزة فيمكن حتى تعريف ان اهم معركة للتنمية الوطنية هي خوض معركة اصلاح الدستور ، فهي اهم معركة اجتماعية سياسية لابعاد مؤسسات الدولة عن التحزب والعقائدية الفكرية والدينية كي تكون مؤسسات تعمل على اساس الوطنية والكفاءة والنزاهة والمساواة ، أي على اسس ومعنى اقامة الدولة الوطنية الحقيقية. ان معركة فصل مؤسسات الدولة عن التحزب هي أهم المعارك السياسية كونها ستبعد هذه المؤسسات عن الفساد والافساد والمحسوبية ، واقامة سلطة قضائية ادعائية مستقلة تطبق القانون وتقطع اي طريق للفساد او لتسييس مؤسسات الدولة ( وهما واحدا ) ولجعلها تخضع لتأثير العقائد او لنفوذ احزاب او مصالح سياسية وحزبية ( تماما كدور القضاء الاميركي مثلا في محاكمات ترامب ، وساخصص لها فصلا خاصا لعرض دروسها الهامة) . ان هذه هي في الواقع اهم معركة تنموية، فلاتنمية اقتصادية ممكنة بتفشي الفساد السياسي والاداري والمالي في مؤسسات تدخل لها الاحزاب والعقائد الايديولوجية لتمارس الفساد والانحياز ولمصالح اتباعها ومنها تهدم الدولة الوطنية واسسها.
2. التنمية الديمقراطية
ان الديمقراطية في الحكم تقوم على اربعة ارجل، وليست من فهمها رجلا واحدة تقتصرعلى الية اقامة الحكومات بانتخابات برلمانية ، كما هو فهمها الشائع ، بل انها تقوم على اربعة ارجل. فعدا الية الانتخاب والانتقال السلمي للسلطة ، تقوم الديمقراطية على الية الشفافية في كشف عمل السلطات امام الشعب ( مثلا جعل اي مبلغ تنفقه السلطة معلومة للعامة وللاعلام اين وكيف ولماذا وماحقق) ، ورجل ثالثة تقيم الية المسائلة والمحاسبة الفاعلة ( المسائلة البرلمانية او الشعبية اوالاعلامية ، تبعها الية المحاسبة القضائية بعد المسائلة وكشف اي ممارسة للفساد والاهدارأوالتلاعب بالمال العام) ، ورابع هذه الارجل هو الحرية التامة للصحافة ونشر المعلومة وحرية الرأي والنشر والاعلام.
ان مفهوم التنمية الديمقراطية يعني العمل على اقامة هذه الارجل الاربعة التي تمثل المفهوم شبه المتكامل للديمقراطية . انها توفر امرين هامين لنجاح التنمية: الاستقرار السياسي ( من خلال اليات الانتقال السلمي للسلطة)، وهو أهم ما يشجع جذب الاستثمارات الداخلية والخارجية في الاقتصاد، وثانيها انها تمنع الفساد الحكومي ( من خلال اليات المراقبة الشعبية والاعلامية والبرلمانية مع قوانين ومحاسبة قضائية صارمة). ان الركيزة الديمقراطية ووطنية المؤسسات بابعادها عن الحزبية ، ستخلق ظروفا مؤاتية للانطلاق نحو تنمية اقتصادية حقيقية . فهي تحتاجها سواء في اقامة الاستقرار السياسي والاجتماعي أوبآليات فضح ومحاسبة الفساد الحكومي، ودونها يصعب الحديث عن التنمية الحقيقية.
3. التنمية الاقتصادية
ان التنمية الاقتصادية هي الهدف الاعلى لكل العملية التنموية . انها تمس حياة الناس مباشرة بتوفير فرص العمل وتوفير طريقا للعيش الكريم والرفاه المادي من خلال العمل والانتاج.
يجمع الاقتصاديون أن أهم ركن في التنمية الاقتصادية هو قدرة الدولة على جذب المال الوطني المدخر ( تحت الارض والسجاد والأسِرّة والخزائن المصرفية) ، وجذب وإغراء الرأسمال الخارجي للقدوم بماله وخبراته ، للاستثمار في مشاريع انتاجية ( زراعية ، صناعية ، تحويلية ، خدمية) ، وبها يتم توفير فرص العمل والقضاء على البطالة ومنها الفقر والتحول الاقتصادي نحو العمل والانتاج، وسواء في العالم المتطور او المتخلف، لايمكن الحديث اليوم عن اية عملية تنموية اقتصادية دون ربطهه بجذب الاستثمارات الوطنية والاجنبية اليها، وحتى يمكن وصف التنمية الاقتصادية بالتنمية الاستثمارية ، فبدونها لا يمكن الحديث عن التنمية.
ما هو دور الدولة ومؤسساتها في العملية التنموية الاقتصادية ؟ ولعلك ايضا تجد شبه اجماع بين علماء الاقتصاد ان اهم دور للدولة ان تدعمه وتشجعه وتحميه كونه هو الذي يقوم بالبناء ويوفر فرص العمل وهو الذي يقوم بزيادة الانتاج وتوفير الخدمات ومنه زيادة الرفاه والثروة القومية ، وهذه واحدة من اهم اركان سياسة الدول باجمعها متطورة او نامية او صاعدة ، عدا النائمة الديكتاتورية التي ترى ان "الرأسمال " ينافسها ومنه قامت بؤده باسم الاشتراكية ووضع ملكية وادارة المرافق الاقتصادية تحت سيطرتها كاحدى ادوات السيطرة على المجتمع وتقوية السلطات الديكتاتورية. ان على الدولة ان لاتنافس الرأسمال الاستثماري ( اي لا تنافس مواطنيها او الاسثمارات الاجنبية ) بل دعمه وتوفير الظروف والضمانات لجذب رؤوس الاموال للاستثما ر
واضافة لأعلاه ، يمكن فرز اربعة مهام رئيسية وهامة تقوم بها الدولة لدعم التنمية الاقتصادية، أولها تطوير البنى التحتية ( طرق سريعة ، جسور ، سكك حديد ، موانئ ، شبكات الاتصالات، توفير الطاقة الرخيصة )، وثانيها تطوير التعليم العام والمتخصص وتأهيل القوى البشرية ، ودورها الثالث دعم الاستثمار وتسهيل الاقراض الاستثماري وتقديم الضمانات وحماية المرافق الاستثمارية ، والرابع دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة وتوفير القروض الطويلة الامد دون او بتقليص نسب الفوائد ، والخامس التخطيط الاقتصادي لموازنة التنمية الجهوية والبيؤوية وتشجيع الاستثمارات في المناطق النائية وفي قطاعات هامة للاقتصاد الوطني ودعم فرص الاستثمار الجهوي ( المالي والاراضي والاعفائي من الضرائب مثلا ) ، ودعم الاستثمار النائي، والتكنولوجي وغيرها مما تراه الدولة هاما لتوازن التنمية وطنيا وجهويا وبيؤيا .
كما ان احدى اهم الاسس للتنمية في البلدان التي تورطت واعتمدت نماذج فاشلة في الاشتراكية ( مثل العراق ومصر وسوريا ) وقامت بالتأميمات ووضعت ادارة شركات انتاجية وتجارية تحت ادارتها وسيطرتها ، هو التخلص منها اولا ( وهذا ما فعلته الصين مثلا ونجحت ) وابعاد الدولة ومؤسساتها عن العقائد الايديولوجية في ادارة الاقتصاد ، فهو ابن السوق ، كما يسميه الاقتصاديون ، وقوانينه العلمية مستخلصة منه . فالدولة يمكنها التملك ولكن لايمكنها ان تدخل منافسا في الاقتصاد لمواطنيها او للشركات الوطنية اوالاجنبية العاملة على اراضيها ( وهنا تدخل تجربة الصين مرة اخرى حيث جعلت كل الشركات المملوكة للدولة تعمل وفق قوانين السوق التنافسية وسحبت نفسها ودعمها من ادارة الشركات المملوكة لها، (وهو عكس الطروحات الماركسية والاشتراكية الفاشلة بوضع الشركات تحت سيطرة وادارة الدولة وهو نموذج فشل اينما طبق على مدى القرن 20) . ويمكن اثبات نجاح من خلال التجربة مايمكن صياغته بمبدأ العلمانية الاقتصادية ( اي بمبدأ فصل الدولة عن العقائد والايديولوجيات الاقتصادية) ، تماما كمبدأ العلمانية الفكرية ( بفصل الدولة عن العقائدية الدينية والفكرية ) . وكما توجب فصل الدولة عن العقائدوالاخذ بالدولة الوطنية، يتوجب فصل الاقتصاد عن العقائد الايجيولوجية ( مثل طروحات الماركسية الاقتصادية بتحويل ملكية وسائل الانتاج للدولة ) والاخذ فقط بقوانين العلم في ادارة الاقتصاد ، قوانين العلم المعاصر الاستثماري والادارة العلمية للتنمية الاقتصادية المتوازنة والدائمة وليس بنماذج ايديولوجية فاشلة، كالتي تبنتها بعض الدول العربية دون تمحيص وادت لتدمير اقتصادها الوطني .
وتلخيصا لأهمية الركائز الثلاث ، فيمكننا الخروج بنتيجة ان اية تنمية حقيقية شاملة تتطلب توفير هذه المستلزمات الثلاثة اعلاه ، بناء مؤسسات وطنية ونظم الديمقراطية السياسية والادارية، والتنمية الاقتصادية الاستثمارية. ان هذه الركائز هي من وقفت وراء نجاح وصعود العشرات من الدول بشرقها وغربها وعلى امتداد كافة القارات، ومنها فيمكن اعتمادها ركائز علمية كونها مبرهنة عمليا.
ان ادخال مجتمعاتنا في المعركة التنموية يتطلب التوجه لاقامة هذه الركائز ، وهي معارك مصيرية لها ان ارادت ان تخطوا نحو التحضر والخروج من عنق زجاجة التخلف ، فهي اهم معارك مجتمعنا وتجب توضيحها لكل الناس كي تكسب التأييد والفهم والدعم.
6. هل توجد حلولا رغم الظروف المتردية في بلداننا العربية
ليس الامر غريبا اذا ادعينا ان جميع الظروف في بلداننا تقف متحدة وجميعها ضد الانسان وضد التنمية. ويكفي بغياب الركيزتين الاوليتين ( وطنية المؤسسات وغياب الديمقراطية) كي تنتفي العوامل الموضوعية لأنطلاق أية تنمية اقتصادية ، فعوامل انطلاقها غير متوفرة ، وحتى لو انطلقت ( بتشجيع سلطة ديكتاتورية مثلا) ، فلا يمكن ضمان نجاحها او استمرارها ، ببساطة لان لا أحد يجازف في الاستثمار كونه لا يثق بوجود استقرار ولا بالنظم الديكتاتورية، عدا ما يصاحبها من سيادة الفساد في اجهزة الدولة وعملها لمصالح النخبة، وليس بالطبع للمصالح الوطنية. جميعنا يعرف ذلك. ونحن نعلم ان غياب الوطنية وهيمنة الفساد على مؤسسات الدولة ، النابع في جذوره من غيابها ومن غياب نظم الديمقراطية ، هي أهم العوائق التي تقف امام اية تنمية اقتصادية.
ولكننا لو امعنا في التحليل للواقع العملي ، سنرى بالمقابل جماهير واسعة جائعة تقف امام هذه الديكتاتوريات وشعبا قلقا على مستقبله وشبابا يطالب بفرص العمل ومعها تضاؤل امكانيات نظم التخلف في توفير اية حلول مقبولة لها تكفل توفير سبل العيش حتى بادنى المتطلبات . هذا مايمكن استخلاصه من دراسة واقع مجتمعاتنا. ومن هذا الواقع يمكن صياغة وطرح مناهج وحلولا تأخذ بعين الواقع الحالي .
ولعل اهم منهج هو تجزئة المعارك الى اصغر وخوضها بعد دراستها علميا لتوفير ظروف وضمان اكبر لنجاحها. اي ان الحلول لا تأتي من خوض معارك فوق طاقة من يخوضها ( مثل معارك الماركسيين العرب مع الامبريالية العالمية وبعد انتصارهم الموعود والمدعوم بالحجة المهدي (عج) ستحسم كل معاركنا الداخلية بغياب الامبريالية).
ان الحلول ليست وصفات جاهزات، وبالتأكيد هي ليست حلولا ايديولوجية، تمت تجربتها جميعها وفشلت، ولكن قوة الايمان كما نجده عند المؤمنين بالله ورسوله والصحابة ، لاتعرف الفشل وتبرره انه التآمر الخارجي من الامبريالية . نحن بحاجة لمناهج وخططا علمية يمكن تقييمها ومراجعتها وتطبيقها عمليا.
اود ان اتشارك مع القارئ بأحد هذه المناهج التي سبق وتم تطويرها وتطبيقها منذ سبعينات القرن الماضي وتم تطوير وتطبيق نظريات في اطار علم الذكاء الاصطناعي وتحت صنف منها يدعى نظم التخطيط الذكية Intelligent Planning Systems ، استطاعت صياغة وتطوير طرق ونماذج عديدة لكيفية حل قضايا معقدة تستخدم مبدأ " التجزئة أوالتفسيخ Decomposition Case" للقضية المعقدة الى قضايا اصغر ، واعادة تفسيخ و"تجزئة " لكل قضية منها الى عدة قضايا اصغر وابسط ، والاستمرار بالعملية في التفسيخ ، من اعلى الى اسفل ، حتى الوصول الى حد ادنى من القضايا التي يمكن حلها او ايجاد حلولا لها بموارد وطرق ووسائل متوفرة ، ومنه توليد خطة Plan Action يتم تنفيذها باعادة التسلق والتجميع ، هذه المرة من اسفل الى اعلى ، واستخدام حلول القضايا الاصغر لحل قضية اكبر، والاستمرارفي التسلق للأعلى وحل القضايا الأكبر حتى تتوفر امكانيات حل القضايا " الأم " او "ألمعقدة " . وتفرز الخطة القضايا والحلول المتوازية ( أي التي يجب ان تحل بان واحد ) او المتتالية ( اي تحل وفق تسلسل تتابعي) مع تحديد الموارد المتوفرة والوسائل والعمليات التي يجب القيام بها لحل القضية ، وهكذا يتم الانتقال الى حل قضايا المستوى الأعلى من حلول للمستوى الادنى في مستويات الشجرة التخطيطية ( تشبه شجرة الارز اللبنانية ذات الطبقات المتوازية ) . هذه احدى المناهج من بين عديدة يمكنها مساعدتنا لطرح منهج علمي يساعدنا في حل القضايا المعقدة بشكل علمي وممنهج ومدروس.
وقد فكرت ومنذ سنوات في امكانية تطبيق هذا المنهج، وفعلا قمت بدراسة امكانية ايجاد حلول واقعية لقضية معقدة مثل قضية التنمية في بلداننا المتردية ( تمت في ظروف العراق الحالية). ووجدت ان هناك اكثر من منهج ممكن ، واخترت واحدا من بين العديد منها ، أو ما اعتقده قابلا للنجاح وما يمكن تقييمه وانجازه، وانه لو تم حسن استخدامه لامكن نقل المعركة مع هذه النظم الفاسدة لأصلاح النظام السياسي واقامة الركيزتين الاوليتين اللازمتين للانطلاق للتنمية ولكن بمنهج اخر ، وذلك بتحويل المعركة من سياسية سلطوية الى معركة اقتصادية ( أي تجزئة هذه القضية الى ثلاثة وفقا لركائزها " النظرية " ويتم اعطاء الاقتصادية الاهمية الاولى والقصوى لان تحليلي اظهر لي انه اذا تم حلها ستخلق ظروفا مؤاتية لحل القضايا السياسية وهي وطنية المؤسسات واقامة نظم الديمقراطية .
وتوصلت لتكوين عناصر نموذج تنموي اقتصادي اسميته "نموذج التنمية المحلية الذاتية " . ويمكنني تلخيصه على النحو التالي . يقوم النموذج على طرح واقامة عدة مشاريع محلية صغيرة تمول بقدرات ذاتية وتتكامل فيما بينها ( ومنه اضفت له فيما بعد صفة التكاملية) بحيث كل منها يحتاج لخدمات الاخر ، وجميعها انتاجية وتهدف لتشغيل الشباب وتحويلهم للانتاج وتمكينهم بالعيش من عملهم وذلك في بيئة محلية محدودة وتضم ربما الف شاب فقط، وعند نجاحها يمكن اعادة تنفيذها واقامة مشاريع ناجحة مثلها في اماكن محلية ومحافظات اخرى ( تم التخطيط لتشغيل 50 الف من الشباب خلال خمسة سنوات ، ويمكن توسيعه حتى الى ضعفه لو تتوفر ظروف ذلك). وفي مرحلة متقدمة ، وكون المشروع صمم ليكون تكامليا ، اي تعتمد اجزاءه على بعض، فسيدفع للتعاون بين التجمعات وزيادة وزنهم الاقتصادي والاجتماعي ، وعدم اعتمادهم على الحكام والاحزاب في عملهم ولكسب رزقهم من عملهم ، ومنه يمكن خلق ظروفا مؤاتية للمطالبة الجماعية باصلاح في الدولة وسن تشريعات لدعمهم وانهاء الفساد الحكومي وتحقيق التفاف اجتماعي حول مطلبهم ، ومن تعاظم حجم ووزن قدراتهم ، يمكن ومن ثقله الانطلاق ببرامج هامة لاصلاح النظم والتشريعات للتحول الى وطنية وكفاءة المؤسسات وصولا لاقامة مؤسسات وطنية وحتى نظما واليات مراقبة ديمقراطية كفوءة. هذا هو سيناريو الحل الذي رأيته انه ربما يكون قابلا للتحقيق ، وسيستغرق ربما سنوات طويلة ، ولكنه طريقا منهجيا يمكن برمجته وتخطيطه.
انه سيوفر العمل ، وبنفس الوقت يكسب شبابا ودعما اجتماعيا لانهاء الفساد الحكومي والمطالبة بتوفير ظروف التنمية واقامة ركائزها الثلاث. انه مشروع اجتماعي سلمي وغير مؤدلج ، واشبهه بما قام به غاندي في معركة الملح والاكتفاء الذاتي لخوض معركة استقلال الهند، او حتى ما قام به الاخوان من جمعيات اجتماعية واقتصادية لكسب الناس لصفوفهم ونجحوا رغم اغراضهم الخبيثة ، اونموذج الكيبوتسات الاسرائيلية في فلسطين ونجاحها في توفير فرص العيش والعمل لساكنيها ولجذب المهاجرين وساهم فيما بعد في خلق ظروف اقامة اركان دولة علمانية داخل دولة فلسطين كونها نجحت اقتصاجيا ، بينما بقيت المقاومة تخوض معارك تحرير دون سند اقتصادي ومنه حولت القضية الفلسطينية الى قضية اروقة للنظم العربية بينما هي فشلت على الارض التي تسيطر عليها لفشلها اقتصاديا.
اني اعتقد ان هذا النموذج الذي تم تطويره لظروف العراق يمكن ان يكون ناجحا في مصر وسوريا واليمن والجزائر والسودان وغيرها . ربما تختلف هذه الدول في شكل المعطيات الداخلية، ولكنها تلتقي باخرى متشابهة اهمها الفقر وشبه انعدام للتنمية وفرص العمل للشباب ومنه يجعل الحل الاقتصادي حلا جيدا ، ويمكنه ان يكون جذريا لدعم الدعوات للاصلاح السياسي ، وبدونه ، وفق رأيي ، تبقى دعوات الاصلاح القائمة اليوم ايديولوجية فوقية ، وفي الواقع هي ليست الا خطبا وشعاراتا ، حتى تشترك بعضها بماتقوله وتردده النظم الحاكمة القمعية الفاشلة واجهزتها ودعايتها ، ويردد معها حتى من يعارضها من احزاب وكتل الايديولوجيات الثلاث ، ويردد جميعها " ان سبب تخلفنا هو تآمر الامبريالية وعميلتها الصهيونية" ، ولو سألت حافظ الاسد والمالكي في العراق ، فلن يجيبك بغير ذلك ، ولوسألت المتمركشين فسيأتيك نفس الجواب " ومن يكون غيرهم " ومثلهم القومجية والسلفيين بشقيهم دعوجية واخونحية وولائيين. فهي عندهم جميعا ، انها ليست معارك حقيقية داخلية لاقامة ركائز التنمية الوطنية ، بل الاهم منها اقامة ركائز الايديولوجيات الفاشلات الثلاث واهم معاركها هو الاخلاص لمقولاتها فهي الاولى وهي مهمتهم وليس ما دونها مهمة ، وكل ما نحن فيه ليست الا بسبب تأمر واوامر ومخططات امبريالية.
ان طرح حلولا ونماذج اقتصادية " ذاتية " والبدء منها لبدء عملية الاصلاح السياسي هو ماشغلني منذ عدة سنوات . وما اقصده " ذاتية" هو امكانية اقامتها بجهود ذاتية بعيدة عن هيمنة الحكومات والايديولوجيات وتحويلها لمشاريع ومبادرات وطنية . وكنت قد قمت بدراسة احد النماذج وركزت على استخدام تكنولوجيات متقدمة في مواضيع مثل استصلاح الاراضي وتوفير مياه الزراعة في الصحاري باستخدام المضخات الشمسية ( وهو موضوعا علميا معقدا عملت عليه منذ عام 2008 ونجحنا بتطوير اول مضخة ثلاثة الطور تعمل ذاتيا ومكتفية بالطاقة الشمسية عام 2010 ويمكنها ضخ المياه للسطم من ابار بعمق يتجاوز حتى 500 متر ، وقمنا بتجربتها مع وزارة الري العراقية عام. 2012) ، وبتوفير المياه والطاقة يمكن اقامة مزارع تعاونية ، ولسكنهم تم طرح مشروعين احدهما لانتاج مواد بناء جديدة متطورة عازلة ( وجدتها مطبقة في صحارى اميركا ) والاخر مشروعا بانشا وحدات سكنية رخيصة وبمواصفات عزل وتبريد طبيعي كفوءة من مواد متوفرة محليا ، ومشاريع صناعية صغيرة لتحويل المنتجات الزراعية الى زيوت واعلاف حيوانية ، واخرى لتشغيل النساء في الخياطة والنسيج وتصديره لاميركا واوربا ( حال الصين وفيتنام وبنغلادش وغيرها) ، ومشاريع اخرى مثل حفر الابار واخرى للطاقة واخرى للنقل ، جميعها مترابطة وتشكل شبكة متكاملة يكمل بعضها بعضا ومنه اطلقت عليه " النموذج الذاتي للتنمية المحلية التكاملية " وهو مشروعا تم تطويره بتفاصيل تقنية وتنفيذية وتدريبية في 120 صفحة ، وربما ساطرح ملخصا مكثفا عنه بشكل منفصل.
ولدراسة تطبيقه ، فعلا حملت هذا المشروع معي الى العراق وقمنا باول التجارب مع وزارة الري العراقية في صحارى كربلاء والانبار عام 2012 وكانت ناجحة جدا ، مما شجعني بالمضي في العمل باكماله عام 2014. وخطر ببالي ان اطرحه على احدى الاحزاب الوطنية العريقة في العراق لطرح الجزء الخاص بمبادرة لاستصلاح الاراضي ومحاربة التصحر وتجهيز المياه لزراعتها واقامة اول مجمعات الشباب وتأسيس شركة تقوم بهذا العمل ، فضحك الاخوان واحدهما صديقا لي والاخر عضو في اللجنة المركزية وعلقوا " تريدنا نتحول من حزب الى ادارة شركات على الطريقة الاميركية " ، ضحكت بدوري ، وقلت لهم ِلمَ لا اذا كان الامرالتشغيل وتوفير فرص العمل للعاطلين، واعطيتهم مثالا عن قيام الحزب الشيوعي الايطالي بتأسيس شركات في الخمسينات لبناء السكن الرخيص ومنه كسب اصوات الناخبين، ورغم الترحيب والاشادة منهم والوعد بالدراسة لم اسمع منهما شيئا لحد اليوم ونحن في العام 2023. ومؤخرا خطر لي مفاتحة السيد الصدر ، خصوصا وهو خرج من البرلمان ، وهو يبدو لي انه ليس خيارا مفضلا، ولكني اود انحاح اول تجربة لهذه التنمية الذاتية ، والسيد له ميليشيات توفر الحماية من اعتداءات الميليشيات الولائية المنتشرة في كل شبر من العراق ، ولكن ذلك ليس هو هاجسي الوحيد ، حيث اني اتردد فيه ، خوفا من نجاحه ، وبنجاحه تنطلق سمعة للسيد وسيتلف حول الصدر ملايين جدد ، ويتم تنصيبه واقامة نظام ولاية الفقيه، وبه ندخل في دهليز جديد ، فالعمائم لاتؤتمن ، ورغم ذلك لم استثني الامر بعد.
المهم ما اردت طرحه ان هناك طرقا مختلفة لخوض معارك التنمية وهي ربما تبدأ بمعارك صغيرة ، كالتي اعلاه، وبانجاحها يتم التوسع لمعركة اكبر للسير بالاصلاح نحو هدف يجب ان يكون واضحا وهو اقامة الركائز الثلاثة للتنمية وهي بحلولها جميعها معارك داخلية ، لاتجري بوصفات ايديولوجية ، بل بمناهج علمية كما وهي ليست معارك خارجية وهمية كما يطرحها للناس في مجتنعاتنا المعممجية.
د. لبيب سلطان
29/07/ 2023
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. قطر تبدأ إرسال مساعدات إنسانية إلى لبنان لدعم مئات آلاف النا
.. أصوات من غزة| إسرائيل تقتل 10600 طفل وفق الأمم المتحدة
.. ما وضع الأقليات العرقية في ولاية جورجيا؟
.. هل يستطيع لبنان مواجهة أزمة النازحين؟
.. العراق يعلن استقبال مئات النازحين اللبنانيين عبر منفذ القائم