الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مِن جريمةٍ إلى أُخرى.

ازهر عبدالله طوالبه

2023 / 8 / 31
المجتمع المدني


إنّنا مُثقلونَ بالجِراح، تلكَ الجِراح التي لا قُدرةَ لنا على تضّميدها، بل لا قُدرةَ لنا على أن نكتَفي بعددٍ مُعيّن مِنها. فهي توقع علينا كعقابٍ مِن أؤلئكَ الذينَ سلّمنا لهُم زمامَ تسيير شؤوننا، أؤلئكَ الذينَ لا يعونَ أيّ مطلبٍ مِن مطالَب حياتنا، ولا يعرِفونَ كيفَ نعيش على أرضِ الواقع. فهُم لا يُكثِرونَ إلّا مِن التّنظير، التنظير الذي تُبتَر أقدامُه، ولا يسمحونَ لهُ بالخُروج ليحتكّ معنا.

لكن، اليوم، وزيادةً على هذه الجِراح، بدأنا نحنُ، وبأسّلحتنا التي لا ندري لماذا نحوزها، نجّرَح أنفسنا، مشاعِرنا، عواطفنا، بدأنا نسير في مركبِ اللّامُبالة، ومراكبِ الاستهتار بالرّوح البشريّة، مراكبٌ تسيَّر بخطفِ الأرواح. فهي، أي الأرواح، مادّتها الخام، التي إن فقدتها، لن تعود قادِرة على السير في طُرقِنا الوعِرة، طُرقنا التي نرفُض أن نُعبّدها بشيءٍ، ولو قليل، من المنطقيّة والعقلانيّة اللّتان يمتلكن ما لا يمتَلكه أيّ شيءٍ آخر على وضعنا في حياةٍ نستحقّها، وتستحقّنا.

ها نحنُ اليوم، ذوي أجسادٍ مُهترئة، وأرواح مُهمّشة، وعقول فقَدت قدرتها الإدراكيّة، التي أفقدتها جماليّة التّعبير عن الفَرح، وجرّدتها مِن كُلّ معالِمه. إذ أصبحنا على سُلّم الشّعوب التي، بيدها، تُبدِّل أفراحها الى إتراح، وسعادتها - التي بالكاد تحصُل عليها- الى أحزان.

ولكَم هو مُحزِن، ومُدم للقُلوب، أن نصلَ إلى حياةٍ كلّها جرائم. فما أن تقفَ عندَ جريمةٍ، على سبيلِ التجّاوز، إلّا وتُصدم بنبئ جريمةٍ أُخرى..إنّها جرائمٌ تخوض سباقًا في مضامير حياتنا ؛ تلكَ المضامير التي كانَ مِن اللّازم أن تُخصَّص لسباقاتٍ علميّة، ثقافيّة، تكنلوجيّة، رياديّة..الخ.. سباقاتٍ نوظِف فيها عقولنا ؛ لنصِل إلى الحياة المنشودة. لكن، باتَ مِن الواضح أنّنا لسنا أهلًا لمثلِ هذه السباقات، وإن كَان هناكَ مَن يخوضها، فإنّهُ يخوضها بشكلٍ فرديّ، دونَ أن تكون للمنهجيّة أيّ حضور.

نحنُ أهلٌ لأن نُظهر حالةً مِن العلوّ الفارِغ، الأنا المُتضخّمة، الخِسّة النفسيّة، الشجاعة المُفرَغة مِن كُلّ معانيها، الوهم بالرّجولة..نعم، نحنُ أهلٌ لكلّ ذلك، ولو لَم نكن، كما سيقول لي البَعض، فماذا يعني أن تقودَ سيارتكَ بسرعةٍ جنونيّة في أماكنٍ غير مُخصّصة لاستخدام السُرعة؟! وماذا يعني أن تجعلَ مِن شوارعِ القُرى - التي تُعتبر المُتنفّس الوحيد لساكني القُرى- مكانًا للسباق، دونَ أيّ شعورٍ بالمسؤولية، ودونَ أدنى تفكير بمَن يسيرونَ على الشوارع وأرصفتها..وبكُلّ بساطة، هذا بالنسبة لي، لا يعني إلّا أنّكَ قد وضعتَ قدمكَ في المحطة التي ستنقلكَ مِن حياة الإنسان الطبيعيّة إلى حياة الإنسان الذي يمتًلك صفة "مشروع مُجرم"، ولرُبما يصل الأمر إلى أن تُصبحَ مُجرمًا، وذلكَ بارتكابكَ جريمةً مُكتملة الأركان.

مِن قصة حوفا الوسطيّة (القصّة التي عيّشتني بحالةٍ مِن الرّعب والهَلع والخوف، خاصةً، لأنّني واحدٌ مِن الذي يمشونَ ليلًا في شوارعِ القَرية) إلى قصّة موت العريس الشّاب "الفناطسة"، ننتقلُ بكُلّ أسىً وكَمد. فالأولى، راحَ ضحيّتها عائلة، قَد رسمَت لنفسها مُستقبلًا متواضِعًا، رُكنهُ ؛ أن يعيشوا سالمين، ألّا تقسوا عليهم الحياة، ألّا تُضعغهم، ألّا تجورَ على هرميّ العائلة، الأب والأُم، وللأسف، هناكَ مَن تقمّصَ دور الحياة، وهدمَ هرمًا، وأدخلَ الآخر لغُرفة العمليّات ؛ لإجراء عمليّة الهَدم.
أمّا الثانية، يا إلهي، كَم فيها مِن الحُزن، حُزنٌ يُعادل حَزنَ بغداد على مرّ التاريخ، وكَم فيها مِن الدّموع، دموعٌ تُغلَب أمامها دموعُ الأمّهات اللاتي خطفهنّ الموت، وهنَّ لا يعرفنَ شيئًا عن مصائر أبنائهنّ الذين أُخذوا عنوةً إلى ساحاتِ الحَرب.
وعلى الرّغم مِن أن النتيجةَ في القصّتين واحِدة، إلّا أنَّ ظروف الثانية، تمزّق القلبَ إربًا إربا، وتجعلكَ غاضبًا على كُلّ مَن يقتني سلاحًا (لا يُجيد التعامُل معهُ)، يقتنيهِ لغايات التّباهي، ولإشباع الأنا البدائيّة، التي تُخيِّم وتُعشّعِش في داخِله.

أيّها القارئ، البعضُ مِنّا، مُنطلقًا مِن مسألة أنّ هذه القصّة مُكرّرة، أصبحَ يراها أمرًا هامشيًّا. فعلى حدّ زَعمه، يوم، أسبوع، شهِر، وننسى، ولا نتذكَّر إلّا عند حدوث "جريمة" جديدة. نعم، قد لا يكون أخينا هذا مُخطئًا. لكن، هو نظرَ للجريمة مِن منظوره الشخصيّ، ولا أُنكِر عليه هذا الحَق. لكن، ماذا لو طلبنا منهُ، دون أن نقسو عليه، ولا أن نلوّن يومه بالأسود، -حتى وإن كُنتُ أراهُ أسودًا، يومي ويومكَ ويومنا جميعًا-، أن يعطيني شعورهُ، لو كانَ هو بموقعِ الأُمّ أو الأَب، وهُما ينتظرانِ أن يرا ابنهُما محمولًا على الأكتاف، أو ينتظِراه ليرقصان معهُ وبجانبهِ..بالتّأكيد ستكون فاقدًا للحيلة، وستكون كصخرةٍ صمّاء، في ليلةٍ ظلماء، لا تملِك أن تفعل شيء، أي شيء.

كيفَ لنا أن ننسى، والفعل جريمة قَتل لعريس، مؤدّاها، أنّ هناكَ عشرينيّة "ترمّلت" وأمٌّ لن تحملها الحياة، وأبٌ ازرورقَ قلبهُ، وأصبحِ بدأ الوقت يهتك به. إنّها جريمةٌ مِن الجرائم التي تُرتكَب باسم الفَرح..بئسَ التّعبير عن الفَرح الذي سيؤدّي إلى قتل مَن نفرَح مِن أجله.
بئسَ الفرَح الذي يتجرّا المرء على دخوله وهو مُتزنّر بالسّلاح.
بئسَ الفَرح الذي ندّخلهُ قاصدينَ التّباهي والمُفاخَرة بما نقتَنيه مِن الأسلِحة. إنّهُ لأمر عاجّ بالحماقة، مليئ بالخَلل النفسيّ والعقليّ، والأقسى من ذلك، بلاهة شخصيّة مُتعلّقة بالاستهتار العام. فمَن يحمِل سلاحًغ بينَ مئاتٍ، بل آلاف مِن النّاس، هو مُستهترٌ بأرواح مَن يحيطون به، فاقدٌ لأيّ حاسةٍ تجاه النّاس، إنّهُ مُغيّب الوعي، بلا أخلاقٍ إنسانويّة، لا يُقيم لقُدسيّة حياة الإنسان أيّ مقام.

وأخيرًا، أقول لكُلّ واحدٍ سيقرأ ما كُتبَ هُنا : دافِع عن حياتكَ ضدَّ القتَلة الذين يلبسونَ ثوبَ الفَرح، تصدّا لهُم، أوقفهم، وهناكَ ثمةَ طُرقٌ كثيرة لإيقافهم، طرقٌ مُجتمعيّة وليسَت قانونيّة. فالأولى في هذا الإطار أكثر تأثيرًا مِن الثانية.
حياتكَ مُقدّسة ؛ فلا تسمَح للآخرينَ أن يحرموكَ مِنها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس توافق على مقترح الهدنة المصري القطري.. وقف إطـ ـلاق الن


.. العالم الليلة | المسمار الأخير في نعش استعادة الأسرى.. أصوات




.. شبكات | طرد جندي إسرائيلي شارك في حرب غزة من اعتصام تضامني ب


.. مع مطالبات الجيش الإسرائيلي سكاناً في رفح بالتوجه إليها. منط




.. لبنان: موجة -عنصرية- ضد اللاجئين السوريين • فرانس 24