الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المعمودية بالماء من منظور تاريخي وديني

ألفى كامل شند

2023 / 9 / 3
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


كان للماء منذ فحر التاريخ قدسية خاصة، فحسب أسطورة الخلق البابلية ان الماء أساس كل شيء ومن الماء انبثق الوجود. و أنه في البدء لم يكن موجودا سوى غمر من المياه. ثم خرجت من الفوضى المائية كائنات وبدأت الآلهة تتخذ أشكالا واضحة.
وعرفت شعوب وحضارات قديمة عبادة الماء. واحتفظت الأديان السماوية (الابراهمية) اليهودية والمسيحية والإسلام بتلك القدسية . واتخذت من الماء شعيرة في العبادة، ومن طقس الاغتسال بالماء (التعميد) دليل التطهير والتحرير من الخطيئة والتجديد والخصوبة. فمثلا في الديانات المصرية القديمة .كان التلميذ المرشح للكهنوت إذا اجتاز الاختبارات التي تجري له، يخلع ملابسه ويستحم (يتطهر) في الماء ويطيبونه بالزيوت والعطور . ثم يرتدي زي رجال الدين، ويجب أن يقوم الكاهن بغسل يديه كعلامة على التطهر قبل الشروع في أداء شعائر العبادة. ويقوم الفرعون بمراسيم تبخير المعبود وتطهيره بسكب المياه المقدسة عليه، ثم يقدم القرابين لأبيه الذي يمنحه الحياة.
المعمودية بالماء في المسيحية:
كانت شعيرة المعمودية تمارس من قبل تأسيس الكنيسة الأولى. فتشير عدد من الكتابات ان اليهود الذين سكنوا بلاد ما بين النهرين (يهود الشتات) يلزمون من ينضم إلى اليهودية بالتعميد (كان المتهودون يعمدون بالغطس في نهر قريب علامة التطهير، “وَأَرُشُّ عَلَيْكُمْ مَاءً طَاهِرًا فَتُطَهَّرُونَ. مِنْ كُلِّ نَجَاسَتِكُمْ وَمِنْ كُلِّ أَصْنَامِكُمْ أُطَهِّرُكُمْ. وَأُعْطِيكُمْ قَلْبًا جَدِيدًا، وَأَجْعَلُ رُوحًا جَدِيدَةً فِي دَاخِلِكُمْ.." (خر: 25-28).
وبوضح عدد من الشواهد الاثرية أن فرقاً يهودية مثل الفريسيين والصدوقيين والأسينيين والغيورين التي ينتسب أليها يوحنا المعمدان كانوا يعمدون المهتدين حديثاً كعلامة على طبيعة المتجدد. حيث احتوت مخطوطات البحر الميت في قمران شعائر طقسية فيها غسل واغتسال ورشّ وغمس في الماء. مثالٌ على هذه النصوص نصٌّ في المخطوطات يُعرف باسم حُكم المجتمع، يقول «وبإطاعة روحه لأحكام الله يتطهر جسمه برشّه بالماء المطهّر وبتقديسه بمياه التوبة». ومن المرجح ان يوحنا المعمدان اتبع طريفة الغمس التام في التعميد. لقد اعتمد المسيح من يوحنا رغم دهشته انه لا يستحق فعل ذلك لكن المسيح قال له دعني أتم طريق الخلاص وأكمل كل برّ المزمع ان يفعله عملياً بموته على الصليب ودفنه وقيامته.
ومارست الكنيسة الأولى المعمودية، بناء على وصية المسيح لتلاميذه "أذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم" (متى 28: 19) واشترط المعمودية للخلاص " مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ)" مرقس 16: 16(.، ومنذ زمن الرسل باتت المعمودية تقليداً في الكنيسة. وكان الرسل يعمّدون، بأمر من السيّد المسيح نفسه، في أثناء حياته ومن بعد قيامته.
ولم تكن تتبع طريقة ثابتة أو موحدة. فقد ذكر العلامة ترتليان (155 -220) في كتابه عن المعمودية الذي كتبه عام 198م، ان هناك كان أساليب متنوعة للمعمودية. ومنها وسيلة سكب الماء على رأس إذا لم يمكن الغمس التام. وقال سيبريان أسقف قرطاج (208 –258) بأن مقدار الماء غير مهم ودافع عن الغمس والسكب والرشّ (الرسالة 75.12).
كانت معمودية يوحنا المعمدان عامة للجميع بما في ذلك الأمم، بغية التوبة وتمهيد الطريق أمام الرب ، أما المعمودية المسيحية فهي خاصة لنوال الروح القدس "أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ، وَلكِنِ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلًا أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَهُ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَار"(مت 3: 11). ومن خلالها يصير المسيحي عضوا في الكنيسة. تقول رسالة كورنثوس الأولى 12: 13 "لأَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أَيْضاً اعْتَمَدْنَا إِلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ يَهُوداً كُنَّا أَمْ يُونَانِيِّينَ عَبِيداً أَمْ أَحْرَاراً. وَجَمِيعُنَا سُقِينَا رُوحاً وَاحِداً".
وفي مجمع نيقية بالقسطنطينية (325 ميلادية) أعلن الآباء الكنسيون في صلب قانون الايمان "إيمان الكنيسة بمعمودية تُمنَح مرّة واحدة لمغفرة الخطايا “وشملت المعمودية التعليم المسيحي والدهن بزيت الميرون .
وباتت المعمودية بسكب الماء الطريقة المتبعة في أوروبا بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر، لكن استمرت بالغطس في الكنائس الارثوذكسية. واعتبر الإصلاحي البروتستانتي مارتن لوثر المعمودية سرًّا مقدسًا ، الا ان أغاب البروتستانت لا تؤمن أن المعمودية لازمة للخلاص، بل يعتبرونها مجرد رمز للإيمان أو فريضة، ويعتبرون أن الخلاص هو بالإيمان بالمسيح إلهاً ومخلصاً .
وبستخدم الماء في الدين الإسلامي بشكل ممماثل حيث يلزم من يدخل الإسلام، الاغتسال وقراءة الشهادة يقصد التطهير لدخول للدين الجديد. ويمارس المسلم الوضوء "لاغتسال بالماء" قبل أداء فريضة الصلاة، أو التيمم بالتراب الطاهر إذا استحال الوصول إلى الماء. ومن صفات الجنة الطاهرة المقدسة إنها مليئة بالأنهار الجارية.
في الختام: أن الرجوع إلى أصول العقيدة في العصور البدائية الأولى لا يدل على بطلان الرسالات السماوية وكل ما يدلّ عليه أن الحقيقة الايمانية أعمق من أن تتجلَّى للناس كاملة.. وان الحاسَّة الدينية بعيدة الغور في الطبيعة الإنسانية، وأن الإنسان على مرّ العصور لم يكن يحيا بغير إيمان أوبمعزل عن الله غي أشكال مرئية ومحسوسة تناسب ثقافته عصره ودرجة الوعى. وأن الناس يقدمون على معرفة الحقيقة طورا بعد طور.. وان العيادة ليست بالروح فقط، بل بالروح والجسد وأيضا المادة التي تختبئ في باطنها كما يقول اللاهوتي الكاثوليكي “تيلارد شاردان كذلك روح.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اغتيال ضابط بالحرس الثوري في قلب إيران لعلاقته بهجوم المركز


.. مسيحيو السودان.. فصول من انتهاكات الحرب المنسية




.. الخلود بين الدين والعلم


.. شاهد: طائفة السامريين اليهودية تقيم شعائر عيد الفصح على جبل




.. الاحتجاجات الأميركية على حرب غزة تثير -انقسامات وتساؤلات- بي