الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في مواجهة نظرية لنزعة المركزية الأوربية

عيسى بن ضيف الله حداد

2023 / 9 / 8
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


إننا نرفض نزعة المركزية الأوربية في رؤيتها للتاريخ. تلك النزعة التي تُطبق على غيرها منطلقات ومنظورات ومنهجيات قد تجاوزتها، بل ورفضتها بصدد دراستها لذاتها.
إن هذه النزعة تنطلق في دراستها لشؤون تاريخ الشرق القديم ولوريثه المباشر التاريخ العربي الإسلامي، بكونه يتمثل بتاريخ أديان، أو أشخاص، أو قبائل، أو أقوام منفصلة، أو حضارات مستقلة ،أو متصارعة.
باستطاعتنا تحديد بعض السمات الأساسية ذات الصلة بالدوافع الأولية المحركة عن كثب، أو عن بُعد لهذه المنهجية التي نجدها في ما يلي :
أولاً- منهجية منسجمة مع إستراتيجية السيطرة :
إن منطلق المركزية الأوربية في رؤيتها لشؤون التاريخ العربي، مرتكزة في دراستها على تقطيع أوصال مسيرة التواصل الحضاري للمجال العربي، ووضعته في قالب تاريخ أقوام وطوائف وأديان وقبائل وأشخاص…
يبدو لنا أن هذه الرؤية قد واءمت نفسها بشكل أو بآخر مع إستراتيجية فرض التجزئة، التي قد مارستها قوى السيطرة الاستعمارية الأوربية.
وفي المقابل بشأن المسألة اليهودية، فإن هذه المنهجية ذاتها تقفز فوق مسافات الزمان والمكان وفواصل التاريخ والحضارات: لقد تجاوزت مسافات الزمان، ربطت الماضي البعيد بالحاضر، وتجاوزت فواصل المكان والجغرافية، ودمجت مجموعات بشرية موزعة على أصقاع الأرض الأربعة بوحدة قرب عرقية لاهوتيّة – أو ثقافية مفتعلة. وبهذا قد عملت على ابتداع قومية خارج حدود الزمان والمكان والجغرافية والتاريخ والحضارات، قومية خاصة تخرج عن مجمل قوانين وعلم التاريخ والمجتمعات.
بمعنى اعتماد منهجية عملت على فصل المتصل ووصل المنفصل: إنها في الحالة الأولى (العربية) فصلت ما هو متصل في شؤون الزمان والمكان الحضارة، وفي الحالة الثانية (العبرية) وصلت ما هو منفصل في شؤون الزمان والمكان والحضارة.
إنه من المثير حقاً، كون هذه الرؤية التي انتهجت ممارسة أسلوب تقطيع أوصال وحدة التسلسل التاريخي للمسير الحضاري الخاص بالمجال العربي، بينما تعمل بنفس الوقت وبدرجة أعلى من الحماس على ابتداع سياق تاريخي موحد يجمع في جوانبه تواريخ مجموعات بشرية موزعة على بقاع الأرض المختلفة. تلك المجموعات التي يجمعها فقط تعلقها في أغلب الأحيان بسطحية برمز ديني أسطوري قديم، ألا وهو الرمز اليهودي.
إن هذا التناول المتعاكس بالتبادل، يكوّن بحد ذاته وجهين لعملة واحدة، مندمجة صميمياً مع إستراتيجية السيطرة على شؤون المنطقة. ذلك أن هذه المعايير الخاصة التي تُطبق على مجال التاريخ والحضارة العربية، التي تترافق بتطبيق معايير أخرى على تاريخ عبري وهمي- تحمل في ذاتها النقيض المطلق لما هو مطبق على المجال العربي- و أقل ما يقال بصددها أنها تنطلق من نزعات شوفينية، عرقية، عصبوية، استعلائية، معادية للعلم والتاريخ والإنسان.
ثانيا - في الشرق القديم شمولية حضارية لتنوع متعدد:
في واقع الحال إن المجموعات البشرية التي كانت قد تواجدت في الشرق القديم في تلك العصور السحيقة، لم تتجاوز طور التشكيلات القبلية، إذ مثلث في حقيقتها في حينها، حالات تعددية تجمعها شمولية حضارية واسعة ومتواصلة، تفاعلت في إطارها هذه المجموعات لتتجلى في نهاية المطاف، عبر الحضارة العربية الإسلامية، في السمات الحضارية العربية الموحدة.
إن ما يؤكد هذه الحقائق هو تلك الوحدة المتبدية في الثقافة واللغة، التي سادت عموم المنطقة، وتواصلت عبر مسيرة السمات المشتركة التي رافقت تطوراتها وتحوّلاتها عبر العصور المتلاحقة..
أما عملية الفصل والتقطيع لمعالم السير الحضاري المشترك، إنما يمثل نوع من التواطؤ على التاريخ لتطويعه وتفصيله، على قدر وقياس إستراتيجية الهيمنة.
ثالثاً- العرب الورثة التاريخيين للساميين، والهوية ثقافية لا عرقية: يشكل العرب المعاصرون الورثة التاريخيين والشرعيين للساميين. إن ما يُصطلح عليه بالهوية العربية هو الحصيل النهائي لسيرورة تاريخية حضارية متفاعلة معقدة، أدت في نهاية المطاف إلى ولادة هوية ثقافية، لا عرقية للهوية العربية.
على أننا، وحتى لا نقع في خداع الذات نؤكد: من كون الماضي لا يمكن أن يكون ممتداً على الحاضر والمستقبل بآلية سكونية، ذلك أن المسألة بجوهرها في بعدها الراهن هي مسألة خيار وفعل.. إذ أن الماضي بحد ذاته، لا يمكن أن يكون أكثر من جذر وطاقة كامنة، يموت فيه هذا الجذر وتتبدد تلك الطاقة، إذا لم يُوفر له شروط النماء ولها آليات التوظيف..
ملاحظة أخيرة في ذات الصدد : إننا كما نعتقد ننطلق في تناولاتنا السابقة واللاحقة من معايير ذات سمة علمية وشمولية، تخص كل المجتمعات والشعوب، وإننا برفضنا تناولات منظري المركزية الأوربية لن نندفع إلى مركزية عصبوية مقابلة، إنما على العكس سنتحصن بنزعة شمولية للسمات الإنسانية، على الرغم من قبولنا بتلاوينها المحلية المتنوعة، ولذلك نقول: لا وجود حقيقي للهويات العرقية في مسيرة التاريخ، ينطبق ذلك على العبرانيين والأوربيين والهنود والصينيين والعرب.
رابعاً - إن وضع قوننة تاريخية اجتماعية خاصة - لما يمكن أن يسمى بالمسألة اليهودية، مغايرة بحد ذاتها لما هو معمول به لسائر البشرية، يشكل بطبيعته صيغة عصرية خفية للمأثورات التوراتية ذات الصلة بمقولة الشعب المفضّل.
كما أن تلك " القوننة الخاصة " تشكل المحور الأهم الذي يلتم حوله شمل المنظورين المشار إليهما - أي منظور رؤية المركزية الأوربية، ومنظور رؤية المركزية اليهودية الصهيونية، وإن كان لكل منهما منطلقه الخاص وصيغته المتميزة الخاصة.
وبطبيعة الحال، إن هذه المقولة المتعلقة بالقوننة الخاصة - لا تبدو على الدوام في صورة واحدة، بل تتظاهر عبر العديد من الأشكال والصور والذي يرتدي الكثير منه أشكالاً مبطّنة…
خامساً - بصدد المسائل الخاصة بشؤون وتاريخ منطقة الحضارة العربية، يمارس المنظوران الفكريان السالفان: منظور المركزية الأوربية ومنظور المركزية العبرية التوراتية نفس النظرة - غير التاريخية - التي تجعل من تاريخ الشرق تاريخ قبائل وطوائف وأديان، لا تاريخ حضارات أبدعتها جهود الناس بعرقهم وكدهم وابداعهم.
كما يعمل هذان المنظوران، على ترويج أشكال عديدة لنفس النظرة غير التاريخية، وذلك مثلاً : بجعل تاريخ الحضارة العربية هو منبثق وملحق بتاريخ الإسلام، واضعين بذلك، حدوداً قطعية بين ما قد سبق حضور الإسلام من حضارات عريقة القدم، وبين ما قد تلاه من عمليات صهر وتوحيد و إبداع وصياغة من جديد.
سادساً - يظن البعض غير القليل من المنظرين للتاريخ في المنطقة العربية : في أن الإسباغ الإسلامي على كامل التاريخ العربي هو تمجيد للإسلام وإعلاء لشأنه، في حين أنه بحقيقته يخفض من قيمته، لأن ذلك يخفي تلك النزعة غير التاريخية، التي يحاول ترويجها أصحاب النزعة المركزية الأوربية واليهودية في جعل تاريخ الشرق بمجمله تاريخ أديان وطوائف مشتقة منها، بغية تمزيق وحدة تسلسلها الحضاري وتسهيل صياغة وضع الأساس التاريخي للكيان الصهيوني، وذلك بالاستناد إلى مقولة محورها: إذا كان تاريخ الشرق كله تاريخ أديان و كتب مقدسة، فللتوراة نصيبها الأوفر، لكونها أولى وأم هذه الكتب المقدسة.
إننا نعتبر، أنه لا يضير الإسلام وعظمته التاريخية بشيء، إذا كان للعرب أو لأجداد العرب إسهاماً رائعاً في حضارات سابقة لحضوره، إنما بالعكس يمثل هذا تمجيداً له وإعلاءاً لشأنه..
سابعاً - إن ظاهرة التلاقي بين هذين المنظورين، لا يمكن استيعابها من خلال وشائج الصلات الوثيقة بين الأقطاب المسيّرة للنظام الرأسمالي الغربي المسيطر على العالم. ذلك لكونه، من قاعدة البنية التحتيّة لهذا النظام تنبثق أيديولوجيا السيطرة الممثلة له، والذي في هدى خطابها قد تم إعلاء الشأن التاريخي للأدبيات التوراتية، كما قد جرى بذات الوقت تسويقها وتسويغها وقولبتها، بما ينسجم شكلاً مع معطيات علم التاريخ والمجتمع.
وعلى ذات النسق قد تم صهينة المسألة اليهودية ورفد الصهيونية الدولية تعسفاً، بما يمكن أن يسمى بالمشروعية السائدة..
ثامناً- إن الفكر العلماني الأوربي الرسمي والذي قد حقق إنجازات كبرى في عصور سابقة، لم يستطع في عصرنا أن يحسم علمانياً هذه المسألة المركبّة الخاصة بالمسألة اليهودية، بل أنها أي هذه المسألة قد نمت على هامشه واستطاعت أن تستثمر إنجازاته، نظراً لكون هذا الفكر في مظاهره الأساسية، بقي أسيراً لمسيرة وسيرة البرجوازية الغربية ونموها وصعودها على قمة سيادة العالم.
بودنا أن نشير هنا: إن هذا الفكر العلماني الرسمي، يعاني في حاضره مأزقاً تاريخياً حاداً، يتبدى بمراوحته وتردده وعدم قدرته على تقديم الإجابات الضرورية الوافية للأزمات المعاصرة.
كما أنه في ذات الوقت، في بعضٍ من مظاهره يعاني من ظاهرة التراجعات الخفيّة عن مواقفه السابقة.
تاسعاً - من جانب آخر، يعكس الفكر الرسمي السائد في بلدان المركز الغربي الأطلسي، نظرة ازدواجية خطرة في معالجاته لشؤونه شؤون في بلدان المركز، ولشؤون الآخر المتمثل في بلدان المحيط – من حيث كون منهج نظرته وممارساته تكاد تنتقل من النقيض إلى النقيض.
لعل تلك الازدواجية تعكس إلى حد ما، واقع التفوق والسيطرة الذي يميز تلك العلاقة غير المتكافئة، المبنية على مركزية النظام الرأسمالي وتحكمه بشؤون العالم على مختلف الأصعدة..
عاشراً - باستطاعتنا أن نضع في مواجهة هذا الفكر العلماني الغربي الرسمي الفكر الثوري، أي الفكر الخارجي المتمرد على النظام الرسمي، ذلك الفكر الذي يتمثل أساساً بالفكر الماركسي الديناميكي (لا المبتذل)، ذاك الذي جعل من الماركسية منهج عمل، لا بمثابة لاهوت جديد. كما أنه من الواضح قد نما من حول هذا الفكر وفي صلةٍ به تيارات تطوير وتجديد…
والجدير بالذكر أن هناك الكثير من آراء الباحثين، مما لا ينتمون رسمياً لهذا المنهج الماركسي - قد قدموا مساهمات رائعة ملتقية حيناً عفويًا معه أو موازية له….
في حقيقة الأمر، نحن لا ندين الفكر الغربي بمجمله، وبالعكس نحن نثمن الإنجازات الرائعة للفكر الغربي النقدي، الذي قد تصدى للفكر الغيبي. بيد أننا نرى أحياناً على الأقل خروجه عن أسسه المعقولة، عندما يضع ذاته في موضع المركزية الأوربية، والتي تطبق على غيرها نظرات قد رفضتها لذاتها، ولا سيما عند يتم إغراق تاريخ وحضارة الشرق في بحر من النظريات اللاتاريخية، الذي يجعل من الأديان ركيزة مؤسسة لحضارته، ويضفي على التوراة مقدراً كبيراً من الرصيد في مسيرته التاريخية والسياسية.
في نهاية المطاف، وانطلاقاً منا في عدم وضع اللوم على الآخر، وجب علينا أن نشير إلى العديد من الحقائق الموضوعية:
1- أن الوضع المتخلف والمتردي للواقع العربي، قد ساهم إلى حد ما في تعزيز مواقع رؤية المركزية الأوربية في نظرتها الخاصة بما يخص الشؤون العربية. وأن الكثيرين من المفكرين في بلادنا قد تبنوا نمطاً معيناً من هذا المنظور، ذلك الذي يتمثل بجعل الدين - لا الإنسان - أساس الحضارة، اعتقاداً منهم بكونه يضفي على الدين تمجيداً خاصاً، في حين أنه لا يضير الدين في شيء، ولا يخفض من قيمته، إذا ما تم الإعلان عن كون جهد الإنسان أساس الحضارة والتاريخ وبانيهما..
2- ودليلنا في هذا: أنه قد تم الكثير من إنجازات هذه الحضارة وتلك، قبل وجود الدين حيناً وحيناً آخر بغياب دوره.. بل وأن التاريخ يعلن لنا على الدوام وبوضوح كلي، في كون حملة تلك الرسالة الدينية وأداتها هم سبب انتصارها، وفي المقابل، كون التقهقر في المحتوى النوعي لهؤلاء الحملة وتلك الأداة، قد أدى إلى تقهقر الدور التاريخي للدين وخمود جذوته وتحوله إلى نصوص وطقوس جامدة.
3- يسود في بلادنا نمط من الرفض الشكلي لمنظور الفكر الغربي الرسمي الخاص، بالأسس المنهجية التي يعتمدها في تناول قضايا الحضارة والتاريخ العربي، في حين أنه على مستوى الممارسة يجري تطبيق هذا المنظور بطريقة محرّفة مموهه خادعة للذات - من قبل حشد كبير من النخب القيادية السياسية والفكرية العربية.
4- من الملاحظ أنه يجري رفع لواء الأصالة والخصوصية فقط أمام النظريات والأفكار والمنهجيات التي تحمل قدراً كبيراً من محرضات آليات التقدم والرقي، في حين يجري تناسي هذه الأصالة والخصوصية أمام كل الفعاليات ذات التأثير السلبي في مصيرنا القومي.
فإذا كان حسب المنظور الماركسي - في مجرى التطوّر الاقتصادي والسياسي ينبثق التكوين النفسي المشترك، الذي يظهر في التقاليد التاريخية للأمة وفي خصائص ثقافتها وأسلوب معيشتها، وإذا كان هذا المنظور قد انطلق من رؤيته للأمم الأوربية، فأنه يصلح ذات الوقت بشكل ما لتوضيح المسار التاريخي لتكوين الهوية القومية العربية، الأمر الذي قد غاب عن كثير من المنظرين الذين ينتمون لذات المدرسة.
١








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رئيس كولومبيا يعلن قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل ويعتب


.. -أفريكا إنتليجنس-: صفقة مرتقبة تحصل بموجبها إيران على اليورا




.. ما التكتيكات التي تستخدمها فصائل المقاومة عند استهداف مواقع


.. بمناسبة عيد العمال.. مظاهرات في باريس تندد بما وصفوها حرب ال




.. الدكتور المصري حسام موافي يثير الجدل بقبلة على يد محمد أبو ا