الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بعض من الارتجال لا يفسد للعلم قضية (7) أفلام النوار والعقل الباطن

أميرة أحمد عبد العزيز

2023 / 9 / 9
الادب والفن


(هذا الممثل)
(إدوارد روبنسون) ممثل سينمائي أمريكي، ولد 1899 وتوفي 1973، ومن الأفلام التي شارك في بطولتها أو كان له الدور الرئيسي فيها (الغريب من إخراج أورسن ويلز، كلهم أبنائي عن مسرحية أرثر ميلر، والمنزل الأحمر، وشارع سكارليت وأمرأه في النافذة) والفيلمان الأخيران من إخراج النمساوي فريتز لانغز مخرج الفيلم الصامت الشهير (متروبوليس1927).
وهو من الممثلين الذي يقال عنهم ببساطة ذو وجه سينمائي متميز ومعبر ومحب للكاميرا، يوجد في عدد من أدواره نمط وسمة معينة وأعتقد أن مخرجي السينما رأوا فيه نموذج لهذا النمط الذي سأتحدث عنه وإن كان دائما يبدو متجددا في الأداء نظرا لاختلاف رسم الشخصية وطبيعتها، كما أشير أن روبنسون ممثل قوي ومتمكن من أدواته.
سأتحدث إذن عن هذه السمة التي ظهرت على الأقل في أغلب ما شاهدته له، يظهر بسمت الرجل الحكيم أو العالم أو الملتزم والذي لا يخالجك شك فيما ينتهجه من دور الملتزم وإن لمحت بوجهه الطيب الحكيم بعض الغموض ولكن ليس ريبة قطعا، ثم نري انقلاب في حياة الرجل الحكيم الطيب الملتزم بالقواعد والقانون ونراه يتحرك كمجرم وخبيث.
فمثلا في فيلم (شارع سكارليت 1945) وهو فيلم نوار، نراه يؤدي دور موظف ملتزم ووقور وهو أيضا موهوب بفن الرسم وإن لم يعترف له أحد من المحيطين بإمتلاكه تلك الموهبة، حتى زوجته التي كانت تسفه منه دوما، إلا أن موهبته كانت حقيقة وليست وهمًا بل كانت فذة أيضا. يتقابل هذا الرجل مع شابة جميلة يشعر معها بأنه يعود بالزمن للوراء ليحقق ما فاته، ويريد أن يقلب حياته رأسًا على عقب لدرجة أنه فكر في قتل زوجته حتي يستطيع أن يتزوج حبيبته، وينتهي الفيلم بإرتكابه بالفعل جريمة وتلفيقها لآخر، فبعد أن اكتشف وقوعه فريسة عملية احتيال اشتركت فيها الفتاة الشابة التي أحبها مع عشيق لها، قام بقتلها واتهم وأدين في الجريمة بدلا عنه عشيق الفتاة، ولم يعترف بالذنب بل ترك الحقد والغضب والجبن يحركاه.
في فيلم (أمرأة في النافذة 1944) حبكة قريبة مع اختلاف الشخصية، فهو هنا أكاديمي (مدرس بالجامعة) وهو في نهاية الأربعينات ومتزوج ولديه أبناء ونجده في بداية الفيلم محب زوجته ومستقر في حياته معها، ثم في يوم من الأيام وهو يتمشي ليلا يشاهد لوحة لفتاة معلقة في محل، ويصادف أن يلتقي بفتاة شبيهة لها بشكل كبير كأنها خرجت من اللوحة، تتحرك الأحداث سريعا فيذهب معها لبيتها ليشاهد لوحات وأعمالا فنية، ثم يأتي عشيق الفتاة ويحاول التهجم عليه فيقتله بطلنا دفاعا عن النفس، لكن بدلا عن اتخاذ الطريق القانوني بأن يتصل بالشرطة قرر جبنا منه أن يواري علي الأمر ويسلك سلوك المجرم ويأخذ الجثة ويدفنها في الغابة، ثم يظهر من يعرف عن الجريمة ويقوم بابتزاز الفتاة وابتزازه من خلالها وتقرر الفتاة الدفع للمبتز، إلا أن بطلنا يقول للفتاة بأسلوب أكاديمي (هناك ثلاث طرق للتعامل مع المبتز، أما الدفع له حتى تفلس أو الإتصال بالشرطة، أو قتله) ويختار هو الطريقة الثالثة، لما يتعثر قتل المبتز ويشعر بطلنا أنه قد أحكم عليه الخناق يقرر الانتحار بالسم، وفي هذا الفيلم خاتمة لن أحكيها ولكن أوضح فقط أنها تخص العقل الباطن.
وما أود أن أشير له هنا أن هذان النموذجان لشخصية البطل في الفيلمين يعبران عن ما يبدو لنا ظاهريا في الوعي وما يعبر عنه العقل الباطن للشخصية، فقد يكون الوعي ملتزم بالقواعد الأخلاقية الحسنة والطيبة لكن العقل الباطن للشخصية يكمن فيه نوازع شريرة وحاقدة تنتظر التجربة في الوعي ولحظة ضعف البطل لتدفع بسقوطه الأخلاقي، أو أنها تظل ساكنة محلها لا نعرف عنها شيء وقد لا يعرف عنها البطل نفسه شيئا حتى مماته.
تتميز أفلام النوار -وأنا من محبيها- بأنها تعتمد على الفكرة الأمريكية (الفردية) والخلاص الفردي أو الضياع الفردي، مع التأكيد على أن هذا الخلاص أو الضياع يكون في ظل مجتمع غير أخلاقي وضائع.
في الحقيقة أفلام النوار أكثر أنماط الأفلام تعبيرًا عن المجتمع الأمريكي.
أفلام النوار تبدو كالحلم الذي نحلمه ونخرج فيه حقيقة بداخلنا كما هي ممثلة في العقل الباطن، والتي تحجب في ضوء النهار وأثناء الوعي، ولا تظهر ما دمنا لم نجرب في النهار، بل وقد تتواري تلك الحقيقة حتى في النهار والوعي مع التجربة وراء تصرف نفعله لندفع به فكرة سيئة عن أنفسنا أمام الآخرين وحتى أمام ذواتنا، أنها الصفات التي يسوءنا أن نكون عليها مثل (الجبن) فأننا هنا ندفع بالحسنة السيئة لنمحوها على الأقل ظاهريا.

في موضوع أفلام النوار والعقل الباطن أخص بالذكر فيلم أراه يمثل هذه المعضلة، وهو فيلم (الخوف المفاجيء 1952) للممثلة الأمريكية (جوان كراوفورد)، هنا بطلتنا كاتبة مسرحية فهي جيدة في رسم السيناريوهات وتحب أن تقرأ القصص البوليسية، ثم هي صاحبة شخصية حنونة ومعطاءة وطيبة، تتزوج رجل عن حب وهو ممثل ناشيء، ولسبب يتعلق بالوصية بعد وفاتها، تكتشف صدفة أن زوجها وحبيبها له عشيقة ويخطط معها لقتلها، حينها يتملكها مشاعر مضطربة ومتناقضة من خوف حتى الرعب وصدمة ثم حقد يدفعها للفكرة الشائعة (أفضل طريقة للدفاع الهجوم) ولكن هجومها لا يظهر مشروعا، فلم تبلغ عنهم برغم وجود دلائل مادية بل تخطط وتكتب سيناريو دقيق لكي تقتله في شقة الفتاة وتلفق التهمة لها، هذا التفكير الذي يظهر شيطانيا يتناسب مع كاتبة المسرح التي تهوي القصص البوليسية، لكنه يتعارض مع حقيقة أخري كما تظهرها أو كما تريد أن تكون عليها أمام المرآة وضميرها، وهي الشخصية المعطاءة دون مقابل والطيبة النبيلة، لذا في اللحظة الحاسمة تستفيق أمام المرآة وهي تمسك أداة الجريمة فلا ترتكبها بل تحاول أن تحول دون حدوث جريمة.
كل هذا الذي أطرحه كأنه حالة من العبث يبين أنه يصعب علينا فهم حقيقة شخصيتنا بموضوعية، فكيف إذن يدعي أحد أنه يفهمنا؟!. الرائع أورسن ويلز صنع معادلًا موضوعيًا لهذه الفكرة في فيلمي (المواطن كين، والسيد أركادين) وعدد كبير من أفلامه لم يخلو من الإشارة إلي هذه المعضلة.
أحيانا أحلم بتصرف لن أفعله في صحوي، تصرف جبان أو ندل يخلع عني صفة النبل التي أود أن أكون عليها، أظهر في الحلم كمن يريد أن ينجو بنفسه ولو على حساب الآخرين، استيقظ كارهة أن أكون هذا... وأحيانا يكون عقلي الباطن في الحلم أكثر تناسقا مع ما أريده وألتمسه في مرآة الوعي، فأجدني أتصرف كشجاع ومضحي ولو بالروح في سبيل الحق والخير ومن أجل الآخرين. لا يحدث الأمر معا بل يبدو أني كلما كنت أحاول أن أكون صادقة مع نفسي وكلما عملت في اتجاه الاتساق بين عقلي الباطن والواعي جاءت أحلامي معبرة عن هذا الاتساق.
يتحدث "كارل يونغ" (عالم النفس ومؤسس مدرسة علم النفس التحليلي) وهي غير مدرسة (التحليل النفسي لسيجموند فريد) يتحدث عن هذه الفكرة في دراساته عن اللاشعور، فأفهم منه أن علينا أن نواجه الخفي فينا ولا نديره ظهرنا، فكلما أدرنا ظهرنا للخفي فينا كلما كان الظلام أشد، وأن الطريق للاتساق في حياتنا الواعية هو مواجهة العقل الباطن، بالطبع هذا بعكس نظرية أخري لغيره تقول أن مواجهة العقل الباطن قد تسفر عن جنون الشخصية، حيث تشاهد عفاريتك وجها لوجه وتواجه نفسك بدونيتها التي تواريها ثياب المدنية.
أنا أميل لنظرية يونغ، لكني لا استبعد صحة الأخري، وأعتقد أن الأمر كله متعلق بطبيعة الشخصية وصدق رغبتها في أن تتسق واعيتها مع خافيتها من عدمه، مثل المريض الذي يكون الطريق الأول لشفائه هو اعترافه بمرضه، فإن لم يكن هذا الصدق موجودا فأتصور فعلا أن طريق يونغ سيكون طريقا وعرا وخطرا وقد يحدث بالفعل الجنون.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب