الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التكفير كثقافة استئصالية

جمال الهنداوي

2023 / 9 / 11
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يتخذ التكفير مكانة تتسع باضطراد ضمن الفضاء الإعلامي والجدلي وبمناح تتجاوز ثنائيات السبب والنتيجة إلى محاولة فهم الأسس التي استطاعت منها هذه الثقافة المدمرة التسلل إلى المشهد السياسي والأمني للعديد من دول المنطقة، خصوصاً مع التهديدات الجدية -بل الوجودية - التي تفرضها هذه الثقافة مستهدفة الأمة في عمق نسيجها الوطني، ومبشرة بمنظومة علاقات تتعارض تماماً مع مبدأ التعايش بين مكونات المجتمع المبنية على حرية الاعتقاد والتعبير عن المتبنيات والقناعات الآيديولوجية والفكرية التي تشكل الأساس المكين لأي تشكل مجتمعي تجاه بناء الدولة المدنية الجامعة الضامة المستندة إلى العدالة الاجتماعية ومبادىء حقوق الإنسان ..
ولو أردنا مقاربة موضوعة التكفير، مع مراعاة السير بخطى متئدة - وتعفف فكري- على هامش منزلقات الفقه ومتاهاته، نجد أنه يمثل الحكم على أحد ما - ومجموعات كاملة في بعض الأحيان - بالكفر والخروج عن ثوابت عليا معينة توصم صاحبها بالارتداد عن المعلوم بالضرورة من الدين، وهذا ما يشكل في بيئة متخمة بالانغلاق والأمية ومأزومة بالفورانات العاطفية المؤثثة بالأحكام المسبقة، دعوة صريحة إلى القتل وهدر دم الأفراد أو الجماعات المعنية بالأمر، وهذا ما أفضى بالعديد من العلماء والرموز الفكرية في الدعوة إلى التؤدة المحفوفة بالحذر البالغ في التعاطي مع التكفير كونه شأناً في منتهى الخطورة، والاحتراز عن التهاون في رميه على الناس ما استطاع الفقيه إلى ذلك سبيلاً؛ لأنَّ "الخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم واحد". على ما يرى حجة الإسلام، أبو حامد الغزالي الذي دعا والعديد معه من علماء الامة إلى حصر هذا الحكم بيد السلطات الشرعية في أعلى مستوياتها..
ولكن بعض -بل قد يكون جل- هذه السلطات، ولتعشقها المتقادم مع مراكز القرار السياسي أسهمت في تحول موضوعة التكفير إلى سلاح فعال في حسم الصراعات بين القوى السياسية المتلفعة والمتمترسة بخطوط الصد الفقهية المذهبية، بل إنَّ موضوعة التكفير تمددت إلى أن تكون وسيلة بيد الحكم تجاه الأفراد الذين تبدر منهم إشارات ما يمكن تفسيرها- ولو بجهد جهيد- إلى أنها تدعو إلى تقويض سلطة الحكم أو تدعو إلى الحد من سطوته على المجتمع، وهذا ما أنتج لنا قوائم متطاولة من ضحايا التكفير من غيلان الدمشقي وابن رشد والحلاج وابن عربي، إلى طه حسين ومصطفى عبد الرازق وصادق العظم وفرج فودة ونصر حامد أبو زيد والكثير الكثير غيرهم من دعاة الحقيقة والتفكير النقدي الحر.
فالتكفير والتفسيق لم يعد من الأحكام الشرعية التي ترد بالضرورة الى كلام الله "عز وجل" أو إلى سنة نبيه الاكرم" ص" بل هي محض تشوه ينبئ بحالة من السعار الاستئصالي الاقصائي المنفلت تلغي الآخر وتصادر حقه في الاختلاف ولا تعترف بالسنن الكونية التي ترعى حرية الإنسان في التعبير والتصرف والاعتقاد وفق مبادىء الحرية والتعددية وحقوق الانسان. وتحاول إنتاج ثقافة ماضوية ملتبسة ناتجة من اجتهادات فقهية محدودة، ودون مراعاة الاختلاف في السياق الثقافي والإجتماعي والسياسي ما بين واقعنا المعاصر والقرون الماضية التي أنتجت تلك المراجعات.
إنَّ المجتمع الاسلامي، ومن خلال قواه الفكرية والسياسية مطالب بالتصدي الحازم لهذا المد التكفيري الافنائي الجارف من خلال إجراءات حقيقية وفعالة لمواجهة محاولات تكميم الأفواه باسم الدفاع عن الإسلام من خلال التعامل مع مثل هذه التفلتات بإطارها الجنائي بوصفها جريمة تستوجب العقاب لكونها تسيء إلى ركن أساسي من أركان الحرية والعدالة الإنسانية.
وبذل الجهود في تنقية التراث الإسلامي من الفتاوى التي تساهم في إذكاء شعلة التطرف والتشدد. لعدم امكانية التنبؤ بتداعياتها وسط ذلك التبسط بالتأويل والاستنباط والتوظيف السياسي لكل ما من شأنه أن يخدم مشاريع التطرف.
إنَّ دول المنطقة المبتلاة - حد الحصر- بهذه الآفة، مدعوة إلى تحريك المبادرات القانونية اللازمة للتعاطي مع هذا المعضل الثقافي والحضاري لحماية حق الآخر في التعبير والقضاء على أي ممارسة تستهدف التحريض على العنف والقتل تحت أي مسمى من المسميات، والاهم من ذلك هو المضي قدماً نحو الديموقراطية والمدنية وحماية الحريات، وفي مقدمتها حرية التعبير والمعتقد في إطار القوانين والمواثيق الدولية التي تنسجم مع كونية حقوق الإنسان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. العائلات المسيحية الأرثوذكسية في غزة تحيي عيد الفصح وسط أجوا


.. مسيحيو مصر يحتفلون بعيد القيامة في أجواء عائلية ودينية




.. نبض فرنسا: مسلمون يغادرون البلاد، ظاهرة عابرة أو واقع جديد؟


.. محاضر في الشؤؤون المسيحية: لا أحد يملك حصرية الفكرة




.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الأقباط فرحتهم بعيد القيامة في الغربي