الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة موجزة لفلسفة العلوم الفيزيائية من منظور المنطق الوضعي

مصطفى سلام

2023 / 9 / 15
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


دائما ما يطرح السؤال حول إشكالية العلم الطبيعي، و هل هناك أصلا إشكاليات متعلقة بالعلوم الطبيعية، فنحن نعلم أن العلم التجريبي حقق إنجازات ونتائج مبهرة في فهمنا للواقع لا من الناحية المعرفية و لا من الناحية البراغماتية.
من هذا الطرح، يمكن القول أن العلم الطبيعي ليس به أي إشكال متعلق بمنهجه أو لغته أو منطقه، حسنا، خذ معي جملتين، الأولى لنرمز لها ب A و الثانية B بحيث:
A: كل المعادن تتمدد بالحرارة
B: من دخل تلك الغرفة يرتدي بدلة سوداء
الجملة A هي قانون طبيعي في فيزياء المواد الصلبة، أما الجملة B فهي تعميم عارض و ليست قانون طبيعي، لكن أليس لهم نفس الصيغة المنطقية، إذن كيف نفرق بين القوانين الطبيعية و التعميمات العارضة.
خذ معي المثال الثاني :
في علم الديناميكا الحرارية فإن أي تغير في طاقة النظام المغلق يكافئ الإنتقال الحراري المتبادل مع الشغل الميكانيكي، نسميه بالمبدأ الأول للديناميكا الحرارية، و نعبر عنه رمزيا:
E = W + Q∆
تم التوصل إلى هذا المبدأ عن طريق الإستقراء، أي فحص مجموعة من الأنظمة المغلقة ثم التوصل إلى النتيجة النهائية، لكن مهلا هنا يطرح السؤال، هل قمنا بفحص كل الأنظمة المغلقة الموجودة في الكون؟ أكيد لا، فقط إنتقلنا فقط من جزئيات لنصيغ قانون أو مبدأ كلي في الطبيعة!!!، تعرف هذه الإشكالية في مجال البحث الإبستمولوجي بمشكلة الإستقراء.
خذ معي المثال الثالث :
العلوم التجريبية قائمة على منهج الإستقراء لصياغة مجموعة من القوانين التجريبية و التي قائمة على الملاحظة و الوصف و التحليل، لنأخذ مفاهيم مثل الإلكترون و الجزيئة و الزمكان و الكوارك و المجالات الكهربائية و المغناطيسية، فقد تمت صياغة قوانين في الفيزياء تنظم هذه المفاهيم، لكن تلك المفاهيم غير قابلة للقياس المباشر و لا للملاحظة المباشرة كاللون و المعدن و الجسم البارد و الجسم الساخن، إذن كيف يمكن أن ندعي بأن العلم التجريبي منحصر فقط بالعالم الحسي كما يرى السيد [إرنست ماخ]، في حين يوجد مجموعة من المفاهيم العقلية و المجردة بمثن الفكر التجريبي، تعرف هذه الإشكالية بمشكلة الأفاهيم النظرية بالعلم الطبيعي، و قد عالجها السيد [كارناب] و السيد [فرانك رامسي].
توضح هذه الأمثلة، أن هناك مجموعة من الإشكاليات تتعلق بلغة العلم و منطقه، لكن هذه المشكلات ليست علمية أي بمعنى يمكن حلها بالمنهج العلمي، بل بواسطة المنطق الرمزي و العلم التحليلي أو ما يطلق عليه بمنطق العلوم أو فلسفة العلوم.
هنا سنضيف تعليق بسيط، أشار له. السيد [ريتشارد فاينمان]، بقوله أن الفائدة من فلسفة العلوم للعلم كفائدة علم الطيور للطائر، أي بمعنى آخر فالعلم يحقق إنجازات و نتائج بغض النظر عن هذه الإشكاليات، فمثلا يرى السيد [ستراوسون] أن مشكلة الإستقراء لا تؤثر على التطور العلم، و نحن نوافقه الرأي، لكن هنا سنقع في الطابع اللاعقلاني لعقلانية العلم، لذلك نحن بحاجة لفلسفة العلوم و البحث الإبستيمولوجي.

1- تعريف فلسفة العلوم :

يرى السيد [كارناب] في كتابه الشهير [الأسس الفلسفية للفيزياء]، أن فلسفة العلوم هي دراسة تتعلق بالتحليل اللغوي و المنطقي لبناء المفاهيم العلمية و النظريات العلمية.
أما التعريف الشامل نجده في [معجم لالاند] كما ذكره الدكتور و أستاذنا الكبير [محمد عابد الجابري] في كتابه مدخل إلى فلسفة العلوم :
[دراسة نقدية لمبادئ العلوم المختلفة و فروعها و نتائجها بهدف الوصول إلى إرساء أساسها المنطقي].
سنتناول هنا فلسفة العلوم من وجهة نظر المنطق الوضعي فقط، أي حلقة فيينا.

2- حلقة فيينا :

مجموعة من العلماء و المناطقة، و يمكن القول حتى الفلاسفة لكن بالمعنى الفلسفي التحليلي-العلمي، و من أبرز روادها نجد مؤسسها [موريس شليك] و طلبته [فيليب فرانك] الذي كان يعمل في قسم الفيزياء بالجامعة، و [هانز هان] بمجال الرياضيات و [أوتو نيوراث] الذي إشتغل بالإقتصاد و علم الإجتماع.
توسعت هذه المجموعة عن طريق كبار روادها العمالقة وهم على التوالي [رودولف كارناب] و [كارل غوستاف همبل] و [إرنست ناجل] بالإضافة إلى السيد [رايشنباخ]، و كان هدفهم من إنشاء هذه الحلقة مناقشة مشكلات العلم، لا سيما المتعلقة بلغته و منطقه و ذلك من أجل إخراج الفكر الميتافيزيقي من ساحة المعرفة الإنسانية.

2- تصور حلقة فيينا للبناء المنطقي للعالم :

تنطلق الوضعية المنطقية من إستحالة معرفة العالم في ذاته، أي حقيقته و جوهره، و هي مقدمة كانطية نسبة إلى سيد الفلاسفة [إيمانويل كانط].
بحسب هذه المقدمة، فإنه لا توجد أي لغة تخبرنا بحقيقة العالم في ذاته.
من هاتين المقدمتين، فإنه ما يمكن التعامل معه، هو العالم الحسي، أي العالم الخاضع لي حواسنا الخمس، فكل ما ندركه و نحسه هو ما نستطيع تكوين حوله لغة لكشف صورته المنطقية، هنا نلاحظ تأثير المناطقة الوضعيين بعمالقة الفكر المعاصر و الكلاسيكي أمثال السيد [هيوم] و السيد [باركلي] و عبقري التحليل [لودفيغ فيتنغشتاين].
إذن العالم عند الوضعية المنطقية هو العالم الإمبريقي، أي ذلك العالم المركب من مجموعة من الإحساسات و الإدراكات، تعرف هذه الرؤية بالظاهراتية الماخية، نسبة إلى الفيزيائي و الإبستيمولوجي السيد إرنست ماخ.

3- التصور السانتاكسي النظريات العلمية :

بحسب هذا التصور، تعرف النظرية العلمية باعتبارها بنية لغوية تتركب من مجموعة من الأكسيومات و المسلمات و الفرضيات و المبادئ، سنرمز لهذه المجموعة ب G، بحيث عن طريق G سنشتق مجموعة من النتائج لنرمز لها ب R، هنا نقول أن G و R تشكل نسقا أو بنية متراصة منطقيا و لغويا، نسمي هذه البنية بالنظرية T، و من هنا أصبح بإمكاننا كتابة اللغة الرمزية التالية:
T : G ----> R
هذه الكتابة تعني أن النظرية T هي بناء منطقي لغوي، يتكون من مسلمات و أكسيومات و مبادئ، و بواسطة قواعد المنطق الرمزي و الرياضي نشتق مجموعة من النتائج R ( الرمز -----> يعني الإشتقاق)، و يسمى هذا البناء بسانتاكس النظرية T.

4- تحليل اللغة العلمية في الفكر المنطقي الوضعي :

يقسم السيد [كارناب] في كتابه "الأسس الفلسفية للفيزياء" اللغة الفيزيائية إلى ثلاثة أقسام :
- القسم الأول : اللغة النظرية و هي كل القضايا و كل الألفاظ و الحدود الغير قابلة للملاحظة و الرصد المباشر، بل هي لغة تأتي من تخمين الباحث أو العالم، و تكون مجردة و عقلية، و نرمز للغة النظرية في الفكر الوضعي ب L(T)، أي كل ما هو نظري.
لنأخذ مثال من لغة الفيزياء:
" تتكون الذرة من نواة تدور حولها الإلكترونات بمدارات مكممة"، هذه الجملة الفيزيائية تسمى نموذج بوهر للذرة (هذا النموذج صالح فقط لذرة الهيدروجين و الهيدروجانات)، كتحليل بسيط لهذه الجملة، نجد أنها تتكون من مجموعة من الألفاظ و الحدود الغير قابلة للملاحظة (الذرة، المدارات، الإلكترونات، التكميم)، فهي أفاهيم عقلية و مجردة.
- القسم الثاني: يسمى اللغة الإمبريقية أو التجريبية، و هي كل القضايا و الألفاظ و الحدود القابلة للملاحظة و الرصد المباشر، مثل اللون و الحديد و الأجسام الملموسة، ففي فيزياء المواد الصلبة يعرف قانون التمدد الحراري للأجسام الصلبة بكونه قانون تجريبي، لأن جملته تحتوي على كل الحدود القابلة للملاحظة، فالمعدن و التمدد و الحرارة كلها أفاهيم قابلة للرصد و القياس المباشر.
- القسم الثالث: اللغة المنطقية و هي الحدود و الألفاظ و الجمل التحليلية، فهي أداة فقط، و لا تشير إلى أي معنى أو مدلول فيزيائي، كعلاقة المساواة و القياس الأكبر و الأصغر و إشتقاق الجمل الثانوية من الجمل الأساسية ... الخ، تم إختزال اللغة الرياضية إلى اللغة المنطقية عن طريق السيد [برتراند راسل] و السيد [ألفرد وايتهايد] في كتابهم العظيم "مبادئ الرياضيات".
لكن هناك سؤال حول اللغة النظرية، يتمحور حول علميتها، و إعطائها معنا فيزيائيا أو سيمانطيقيا أو إجرائيا، كيف نبرر اللغة النظرية ؟
في هذه النقطة بالضبط، صاغ السيد [رودولف كارناب] المنطقي العظيم، و السيد [ويليام بيرسي بريدغمان] الفيزيائي الكبير، قواعد في دلالة الألفاظ الفيزيائية و الأفاهيم النظرية، نطلق عليها قواعد المطابقة أو قواعد الإجراء أو القاموس بحسب الفيزيائي المرموق السيد [كامبيل]، وهي عمليات منطقية تربط بين القضايا اللغوية النظرية و القضايا اللغوية التجريبية، نرمز لقاعدة المطابقة ب TC، و لفهم هذه القاعدة، دعونا نأخذ مثال في أحد أعظم النظريات الفيزيائية، وهي النظرية الحركية للغازات، تنطلق من فرضية أن الغازات تتكون من جسيمات ذات كتلة m و سرعة v، بحيث حركيتها ينتج عنه المتوسط الطاقي الحركي للجسيمات E، هذا الأفهوم هو نظري فنحن لا نرى الجسيمات ككيانات واقعية بل فقط نفترض وجودها لغويا و ليس أنطولوجيا من أجل فهم السلوك التجريبي للغازات، و لإعطاء هذا الأفهوم النظري معنا سيمانطيقيا، يجب ربطه مع أفهوم تجريبي، و فعلا فقط حاول الفيزيائي العظيم [لودفيغ بولتزمان] و الفيزيائي الكبير [جيمس كلارك ماكسويل] ربط هذا المتوسط الطاقي بدرجة الحرارة الترموديناميكية، بحيث نكتب:
E = 3/2 K T
هذه الجملة الفيزيائية هي قاعدة مطابقة بين المتوسط الحركي الطاقي للجسيمات E كأفهوم التجريبي، و درجة الحرارة الترموديناميكية كأفهوم تجريبي T.

5- المبدأ الأساسي للفكر الوضعي المنطقي :

صاغوا المناطقة الوضعيين مبدأهم الأساس لنظرية المعنى، أي إضفاء المعنى على القضايا اللغوية العلمية، و حصروا ذلك في مبدأهم الشهير "مبدأ التحقق التجريبي" لكن بعد النقد الصارم الذي قدم لهم، إستبدل محله السيد [ألفرد آير] أحد أعظم رواد حلقة فيينا، مبدأ التأييد أو التأكيد، فيما سنشتق منه نظرية التأكيد التي طورها السيد [غوستاف كارل همبل].

6- خاتمة :
كانت هذه قراءة موجزة حول الفكر المنطقي الوضعي، لأهم أسسه و مبادئه، لكن للإشارة فقط، فالمنطق الوضعي الذي تأسس لتحليل اللغة العلمية، هدفه بالأساس إخراج الميتافيزيقا من ساحة الفكر الإنساني، و ذلك نوعا ما مخاطرة فكرية، لأن الفكر العلمي التجريبي، مهما تطرف في تجريبيته، فإن هناك أسس قبلية يسلم بها، كمبدأ السببية و المصادرات الخمس للبحث العلمي التي صاغها الفيلسوف و الرياضي العظيم [برتراند راسل]، و أختم قولي بما قاله الفيلسوف العظيم و عملاق الفكر الألماني [إدموند هوسرل] في كتابه [مقدمات في المنطق الخالص] : "هناك عناصر عقلية و قوانين قبلية في حقل التفكير التجريبي".

المراجع المعتمدة :
- الأسس الفلسفية للفيزياء : رودولف كارناب، ترجمة السيد النفاذي.
- مدخل إلى فلسفة العلوم : محمد عابد الجابري.
- المنطق عند إدموند هوسرل : يوسف سليم سلامة.
- فلسفة العلوم مقدمة معاصرة : أليكس روزنبرغ، ترجمة: فتح الله الشيخ-أحمد عبد الله السماحي
- فلسفة كارل بوبر، منطق العلم - منهج العلم : يمنى طريف الخولي.
- النظرية المنطقية عند كارناب : رشيد الحاج صالح.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تقارير تتوقع استمرار العلاقة بين القاعدة والحوثيين على النهج


.. الكشف عن نقطة خلاف أساسية بين خطاب بايدن والمقترح الإسرائيلي




.. إيران.. الرئيس الأسبق أحمدي نجاد يُقدّم ملف ترشحه للانتخابات


.. إدانة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب توحد صف الجمهوريين




.. الصور الأولى لاندلاع النيران في هضبة #الجولان نتيجة انفجار ص