الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خوارزمية الجسور

امل عجيل ابراهيم

2023 / 9 / 27
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات


كان اجمل شيء في طفولتها هو ذلك الجسر الذي يقطع مدينتها الى شطرين ، الاول يقع فيه السوق الكبير والمناطق الشعبية بدرابينها الضيقة وتعرجاتها المتشعبة ، والثاني للاحياء الراقية حيث الشوارع العريضة والبيوت المليئة برائحة الرازقي واغصان النارنج وعرائش العنب .. شكل عبور الجسر اعظم متعة بالنسبة لها حيث انعكاس الوان غروب الشمس على صفحة الماء وتلك الجزرة على جانب النهر التي جربت النزول اليها وارعبها غوص قدميها في الطين .
الجسر، هو انطباع الصورة الابدية في ذاكرة طفولتها ، بأقواسه واعمدته ورصيفه ، وحشود المشاة واصوات السيارات وكل التفاصيل الاخرى . حتى بعد ان غادرت المكان (سأظل عالقة دوما في مدينة تسكنني ولا اسكنها ) هكذا كانت تشعر وتردد في داخلها رغم ان المدينة الجديدة التي سكنتها مليئة بالجسور التي يتوجب ان تجتاز بعضها في طريقها الى العمل ولكنها لم تعتبرها جسورا بل مرتفعات كونكريتية بشعة تصيبها بالدوار. فالجسر بنظرها هو من يجعلك تقطع نهرا وانت تسير عليه وتمتع نظرك برؤية المياه الرقراقة وزوارق الصيد الخشبية الصغيرة .
ارعبتها الجسور التي لاتحمل روح النهر في داخلها واخذت تختار طرقا بعيدة جدا للوصول الى عملها حتى لاتضطر الى ان تقطع اي جسر ، حتى صعد هو الى جانبها ذات صباح خريفي دافيء وقال : الامر بسيط ولا يدعو للخوف . لم يكن الامر بسيطا بالنسبة لها بل كان هاجسا مرعبا ، لكن وجوده معها هو من جعله كذلك واخذت تقطع الجسور واحدا تلو الاخر بأطمئنان وهي تسترق النظر الى عينيه المليئة بالحب والتقدير فيدخل الامان والهدوء اليها ، وقد اطلقت المرأة (تسميات خاصة) على تلك الجسور لم تخبره بها ،،،عبرا معا ,,,, جسور المدينة كلها ،، تلاشى الخوف بلمسة يد ,,ونظرة عين.
كانا ينتظران بعضهما في نهاية وقت عمله وعملها، فيقود سيارته امامها وتقود سيارتها خلفه دون تدبير او تخطيط منهما ويسيران في طريقهما المشترك ، قاطعين ثلاثة جسور ، آخرها جسر ( الفراغ ) كما اطلقت عليه ، حيث تنحرف يمينا لتدخل في الشارع المؤدي لبيتها بينما يكمل هو طريقه البعيد بعد ان يلوح لها بيده وابتسامته ، فتشعر ان كونها فارغ تماما بدونه .
امتد بينها وبينه جسرا فريدا من الشعور الانساني ،، هناك ود ،، وهناك قرب ،، وحب وصداقة ،، وهناك في النادر جدا : شعور اعمق من كل ذلك يخرج عن نطاق التسميات المعروفة للمشاعر، يأتي من دون اسباب ،، وليس له شروط ،، هو الحياة نفسها,, ولهذا حين غادرها فجأة ، غادرتها الحياة معه ، وأصبح الكون يخلو من الالوان والموسيقى والعطر ،،، باهت وبلا طعم ،، كحساء بارد في فم محموم .
غادرها في وقت كانت احوج ماتكون فيه اليه وكأنه تآمر مع القدر ضدها فأصبحت لاتعرف اي وجع تداوي؟ غيابه الصادم ، ام الشلل الذي اصاب والدتها ،ام انقطاع اخبار اخاها الوحيد بعد هجرته بعيدا ،،، والمشاكل المتراكمة في محيط عملها.
ووجدت نفسها تخوض حربا دون سلاح وعلى عدة جبهات دون رحمة او هدنة وكانت تستحضر مقولة نيتشه (كن حريصا وانت تقاتل الوحوش كي لا تصبح واحدا منهم) فكيف اذا كان اشرس تلك الوحوش هو من كانت تظنه حبيبها .
كان خذلانه مضاعفا كمن يحمل سكينا مسننا يعاود الطعنات فيها على جرح مفتوح .لم يفزعها رحيله بقدر ما أوجعها ان تضيع مشاعر عظيمة دون مبرر حقيقي وان يتحول من كان اقرب اليها من نبضها ومن الدم الذي يتدفق في شرايينها الى مجرد (غريب) قد تلتقيه صدفه ،، فتنظر في عينيه ثم تمضي هانت عليها نفسها لانه اختفى دون مبرر او حجة ، ولم يكلف نفسه حتى كلمة وداع يضع فيها نهاية لعلاقتهما كما قد يفعل اي انسان سوي . هل كانت لا تعني له شيئا الى تلك الدرجة ؟ هو الذي تظاهر بالعشق والتفاني من اجلها . أم انه كان لايحمل من صفات الرجولة الا اسمها وكان عامدا ان يجعلها معلقة بين ارض وسماء غير متناهية؟
كان اصعب تحدياتها : ان تتقبل حقيقة ان كل ماحدث خلال سنوات ، من كلام ومواقف ونظرات وحوارات وابتسامات ودموع وعاطفة ، مجرد كذبة بشعة ، وان علاقتها به مجرد ارتباط شريان امرأة نقية ، بوريد رجل ملوث متلاعب ومخادع .
هل من الممكن ان يصل الزيف الى : الدمعة ،، والآهة ،، وارتعاشة اليد ،، ولمعة العين ؟؟ كيف لها ان تثق بعد ذلك بوجود اشياء حقيقية في فوضى الاقنعة التمثيلية تلك ؟
قضت السنوات وهي تبني الجسور بمن تحبهم (هو ، زملاءها في العمل، اخوها الذي هاجربعيدا ) ثم استيقظت على صوت انهيارها بمعاولهم و فوؤسهم .
كل الاحجار التي انهالت فوق رأسها : عن غدر ،،عن خيانة ،، عن كذب وخديعة ،، مع سبق الاصرار ، او من دون قصد (وأدمتها وفشختها) .. جمعتها حجرا حجرا وصنعت منها جسرا واحدا يمتد الى داخلها هي فقط .
واصبحت علاقتها بالاخرين دون اي جسر رابط سوى سوء الظن مع انها كانت تؤيد مقولة مايا انجلو (الحكم المسبق عبء .. يجعل الماضي مظلما .. يهدد المستقبل ويجعل الحاضر عصيا على الامساك به ) .
يقولون ان عقوبة القتل بالسم هي الاعدام وهي من اشد العقوبات لان فيها ظرفا مشددا اذ ان من تطعمه السم لابد ان تكون مصدر ثقته واطمئنانه فهو غدر مضاعف ،،، الحل ليس في اعدامه ولا في موت ضحيته .
الاجدى ان لا نثق ابدا ،، ان تكون الايادي كلها مصدر شك وقلق ،،والقلوب باجمعها جهات توجس وريبة ،، لقد شربت كأس السم الزعاف من يديه كاملا لانها بريئة وتنظر الى الاخرين وكأنهم بنفس برائتها وعليها اذن ان تدفن تلك البراءة والعفوية الى الابد .
كيف تميز اللون الابيض في فوضى الوجوه المتلونة ؟ بعد كل الاذى الذي الحقه بها وكأنه يطلبها ثأرا عظيما ، هي التي تجاوزت عاطفتها تجاهه حنان أم ، لطفل وحيد جاء بعد عقم طويل .
هذا مافعله بها : قطع جسورها بالكون ،، فأنكفأت على ذاتها لا ترى احد ، ولا تثق بأحد ، عاجزة عن التعايش مع البشر, تجلس القرفصاء في طرف الارض تنتظر لحظة الخلاص والمغادرة .
كانت تقاوم لتعود الى طبيعتها الطيبة النقية دون ان تنجح بذلك ففي كل وقت يظهر غدره بها فجأة من ذاكرتها ليملأ افكارها بالقبح والتشوه فتعود الى شرنقتها خائفة وجلة من صدمة جديدة ولهذا اخذت ترفض كل من يتودد اليها دون سبب فيه ، بل لخوفها ان يكون نسخة مكررة من ذاك الذي وهبته مشاعرها البكر دون مقابل فجازاها بالخذلان والتخلي .
مرت بمراحل الفقد جميعها : عدم التصديق والنكران ,, البكاء المستمر ،، الوحشة والتقبل ,, الضياع والتشتت ,,الندم وجلد الذات ،، مرحلة الموت الحي ،، والليلة المظلمة للنفس . وكانت الاماكن التي جمعتهما معا تستثير ألمها والجسور التي قطعوها تلتف كأفاعي سامة حول رقبتها وهي مع كل تلك المراحل حريصة على ارتداء قناعها الباسم امام الجميع حتى تحول القناع بمرور الوقت الى وجه حقيقي لايفارقها واغرقت نفسها في العمل هربا من افكارها ثم قررت ان تدخل الامتحان التنافسي لاكمال دراستها وكان ان وضعتها الحياة امام اختبار آخر فتوفيت أمها قبل موعد امتحانها بيومين وتوقع الجميع انها لن تدخل الامتحان او على الاقل ستؤجله الى عام آخر وربما لو لم تكن عانت وتخطت خيبتها به لفعلت ذلك ولانهارت تماما لكنها اليوم امرأة اخرى غير التي كانت عليها في الامس ولن تضيع ثانية من عمرها وأثمر تحديها ان تنال التسلسل الاول على منافسيها .
كي تقوى ، لابد ان تعيش وجع الكسر وتتغلب عليه جامعا اجزاءك المهشمة من الزوايا والاماكن لتعود صورتك أبهى واجمل . الفسيفساء اكثر جمالا وجاذبية من اللوحة المتماسكة، الباردة ، ذات الاطار المعدني الصدىء.
بعض الشدائد علاج ،، تنزع ريشك الزغبي بقسوة من اجل ان تنبت لك جناحان قويان ،، وهاهي قد حلقت دون الحاجة الى من يعلمها كيف تطير وتسمو وتترفع .
لم تحرقها نيران القسوة بل صقلتها فخرجت كقطعة ذهبية تخلصت من شوائبها ، وادركت ان الحياة لاتقف عند شخص او حدث او موقف او قدر ، وان قطارها يسير بسرعة خيالية واذا ما ارادت اللحاق به فعليها ان تتخلص من اي ذكرى مؤلمة وكلمة مسمومة حفرت وشما في خلايا روحها .
وانها ارقى من ان تقارن نفسها ب (شبه رجل) افتقد الى ادنى درجات الانسانية في التعامل معها واقوى من ان تهزمها مشكلة او تقضي عليها خيبة وان بستان الورد لايمكن ان تفسد رائحته (عاقولة ) رديئة وبشعة وان الصعوبات تواجه بالتحدي والصلابة ، لقد استوعبت خوارزمية الجسور الانسانية وفهمتها جيدا .
أمل عجيل ابراهيم








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الدول العربية الأسوأ على مؤشر المرأة والسلام والأمن


.. إحدى الطالبات التي عرفت عن نفسها باسم نانسي س




.. الطالبة التي عرفت عن نفسها باسم سيلين ز


.. الطالبة تيا فلسطين




.. الطالبة نورهان الحسنية