الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما هو الانتخاب الثقافي؟ (2)

داود السلمان

2023 / 10 / 1
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الفن.. وهو موضوع الفصل العاشر
(1)وظيفة الفن
بداية يطرح المؤلف تساؤلات: لماذا يحب الناس الفن؟ لماذا نقضي وقتًا طويلًا ونبذل طاقاتٍ كثيرةً من أجل عمل صورة أو كتابة دراما أو أغنية أو إعداد وأداء رقصة … إلخ، لنا وللآخر؟ هل كل هذا لهوٌ لا طائل من ورائه أم أن للفن وظيفة؟ مهما بدا لنا غيرَ ذي جدوى يجب أن نسلِّم بأنه قائم في كل المجتمعات المعروفة، دون اعتبار لما يتعين على الناس توفيرُه من وقت وجهد لأعمال أخرى. ثمة سؤال مهم يستلزم إجابة هنا: هل ذلك الميل القوي لدى الناس لإنتاج الفن والاستمتاع به مجردُ نزوة عفوية، أم أنه ظهر نتيجة نوع من الانتخاب الطبيعي؟. وإذا كان الفن مضيعة للوقت وتبديدًا للطاقة دون إنتاج إذن لماذا لم يَذوِ وينقرض بفعل هذا المِعْول الذي لا يرحم، أعني الانتخاب الطبيعي؟ إذا أردنا إجابةً عن هذه الأسئلة علينا أن ندرس ما إذا كان للفن وظيفة، وإذا كان كذلك فما عساها أن تكون هذه الوظيفة.
فيرى صاحب كتاب "الانتخاب الثقافي" إن غرائز البشر تعمل عن طريق اللذة والألم. إننا نشعر باللذة عند أداء أعمال تتفق مع غرائزنا مثل الأكل، بينما نشعر بالألم أو الخوف إزاء أعمال ضد غرائزنا؛ مثل اقتراب ثعبان خطر. ويبدو طبيعيًّا في ضوء هذه النظرية أن نفترض أن الوِجدان البشري إزاء الفن له أساس جيني؛ ومن ثم لا بد وأن نلتمس العلة النهائية الأساسية للفن في نظرية توضح لنا كيف ظهر هذا النزوع الجيني، وما نوع الوظيفة التكيفية للفن الآن وفي الماضي.
وبعد شرح مستفيض، يصل المؤلف الى نتيجة مفادها، أن الفن خضع لانتخاب ثقافي على أساس تفضيلات وتذوق البشر. وجدير بالذكر أن عالم النفس كولن مارتيندال درس التطور الثقافي للفن، وحاول الكشف عن مظاهر انتظام لعمليات التغيير. والملاحظ أنه لم يولِ أهمية كبيرة للعلاقة بين الفن والظواهر الاجتماعية الأخرى، وإنما وجَّه كل اهتمامه إلى الفن كظاهرة مستقلة ذاتيًّا؛ وذلك بأن درس كيفية اعتماد الفن الجديد على الفن الأسبق من حيث التاريخ. وذهب مارتيندال إلى أن الفن يخضع لضغوط انتخابية في اتجاه الجدَّة والتباين اللذين يؤديان على المدى الطويل إلى تباين دوري في التمثيل الفني (مارتيندال، ١٩٩٠م).
وعليه يؤكد على إن أحد العناصر المهمة التي تنطوي عليها الرسائل التي يوصلها الفن عنصرٌ لاشعوري، وهذه هي اللغة الرمزية ذاتها التي نراها في أحلامنا، وإن هذه اللغة أيضًا يمكن أن تكون أقدم كثيرًا من اللغة المنطوقة. ويستلزم أي نشاط ذهني ذكي رموزًا لتمثيل الموضوعات التي نفكر فيها، وتؤدي كلمات اللغة المنطوقة دورًا مهمًّا كرموز في الفكر الواعي للبشر المحدثين، ولكن قبل ظهور اللغة المنطوقة لا بد وأن أسلافنا استخدموا رموزًا أخرى؛ مثل الصور والأشكال والألوان والإيماءات والأصوات … إلخ؛ باعتبارها الرموز الضرورية للنشاط الذهني. ولا تزال هذه اللغة الرمزية البدائية تعيش في لاشعورنا، وتغدو مرئيةً للعقل الواعي عند التعبير عنها في الأحلام وفي الفن.
وينتهي الباحث بالخلاصة التي توصل اليها، وهي أن الفن التصويري والأدب والدراما والموسيقى والغناء والرقص وغير ذلك من أشكال الفن؛ هي وسائل توصيل تشتمل على رسالة اجتماعية قد تكون شعورية أو لاشعورية لدى الراسل والمتلقي على السواء. ويمكن انتقال هذه الرسائل داخل مجتمعٍ ما عبر أجيال كثيرة؛ ومن ثم تخضع للانتخاب الثقافي. وتأسيسًا على هذه الفرضية سوف تدرس الفقرات التالية كيف يؤثر الانتخاب الثقافي في فروع الفن المختلفة، مع الاهتمام بوجه خاص بكيفية انعكاس البعد R/K الثقافي في الفن.
(٢) الأساليب والتقسيم الطبقي الاجتماعي
يقول: الطبقة العليا ذات السطوة والسلطان في مجتمع مقسَّم طبقيًّا لها مصالحها الأنانية في الحفاظ على هيكل اجتماعي تسلطي ريجالي؛ إذ إن هذا سبيلها لدعم سلطتها، بينما أبناء الطبقة الأدنى المقهورة ربما تكون مصلحتهم في إضفاء طابع كاليبتي على المجتمع، ما لم يكونوا معتمدين على حماية الطبقة العليا لهم. ويتجلى صراع المصالح هذا في الغالب في صورة اختلاف في التذوق الجمالي وتباين الأساليب.٤ ونظرًا لأهمية هذه الاختلافات في الأسلوب للناس، فسوف تكون للأساليب المختلفة مسمياتُها، مع صوغ منظومة تصنيفية لها. ودرس عالم الاجتماع بول ديماجيو المنظومات التصنيفية للفن في المجتمعات المختلفة، ووجد أنه كلما كان التقسيم الطبقي الاجتماعي أكثر بروزًا ووضوحًا، كانت المنظومة التصنيفية للفن أكثر تباينًا واختلافًا.
لذلك، كما يوضح، إذا خضع الفن لآليات السوق الحرة للاقتصاد، فإن هذه الآليات سوف تناهض في الغالب التصنيف التراتبي الهرمي للفن؛ وذلك لأن منتجي الفن لهم مصلحة في خلق شعور بالاحترام والتقدير لمنتج يستهوي أوسع قطاع من السكان (ديماجيو، ١٩٨٧م). وهكذا يمكن أن ينشأ صراع بين المنظومة التصنيفية المختلفة للفن.
(٣) الفن البصري
أجنر فوج يعتقد أنّ لدى بعض المجتمعات نظرة عامة مشتركة تفيد أن البشر بطبيعتهم أخيار، وتتجلى هذه النظرة في الفن في تصوير واقعي طبيعي للبشر، ولكن إذا كانت نظرة المجتمع أن البشر أشرار فإن هذا يتجلى في صورة شائهة عن البشر، كذلك فإن فكرة أن العالم غير متناغمٍ أو متنافرٌ وأن الشر موجود كقوة لها استقلالها الذاتي؛ تتجلى في تصوير الواقع تصويرًا تعبيريًّا شائهًا.
يقول أن تقرأ من خلال الفن مفهوم الناس عن الزمن، فالمجتمع المتجه إلى الماضي ويعبد أسلافه ينتج تحديدًا صورًا ثلاثية الأبعاد ذاتَ منظور عميق؛ بينما الشخصيات المهمة تحتل الخلفية. هذا بينما الناس الذين يعيشون في الحاضر فإنهم ينتجون صورًا غير منظورية، بدون أفق أو عمق. ونلحظ أن المجتمع النامي المتجه نحو المستقبل ينتج صورًا تعبيرية غير منتهية وديناميةً، والتي تخرج أحيانًا عن الإطار.
ويقرر أخيرًا أنّه يختلف الفن تمامًا عن ذلك في المجتمع القائم على المساواة أو الديمقراطية؛ إذ تحظى التلقائية الفردية وغير الشكلية بالسيادة الحرة على العمل الفني، وتنتفي مظاهر الزخرفة المثقلة بالتفاصيل، كما تنتفي مظاهر المبالغة في التقدير أو التمجيد لعناصر معينة على حساب تفاصيل أقلَّ أهمية، وتكون للألوان أهمية أكبر من الخطوط.
(٤) الموسيقى والغناء
يعبّر الباحث عن الموسيقى على أنها شكل من أشكال الاتصال الموجودة في جميع الثقافات، إنها توصل قيَمًا ثقافية وجمالية من شأنها أن تحقق وظيفة المشاركة الاجتماعية (لول، ١٩٨٥م). والموسيقى، كما يرى، عامل تنشيط، إنها توحي بالرقص والغناء والإيقاع النغمي وغير ذلك من مظاهر المشاركة النشطة. وإنتاج الموسيقى والغناء طقس اجتماعي له تأثيره الانفعالي على العازفين من الموسيقيين، وكذلك على جميع المشاهدين والمستمعين.
يقول: وقد يكون عسيرًا تأويل الرسالة الكامنة، لنقل، في مقطوعة موسيقية وترجمتها في كلمات وعبارات. ومع هذا فإن الموسيقى والغناء والرقص أعمال شائعة يعرفها كل إنسان، ونُنصت لها باهتمام شديد، ونحن نشعر حدسيًّا أننا نفهم الموسيقى لأنها تتحدث إلينا بلغة اللاشعور.
ويتساءل: ما هي الرسائل التي تنقلها إلينا هذه الفروع المختلفة من الفن؟ عِشنا جميعًا تجربة الموسيقى وكيف تنقل إلينا مشاعرَ وانفعالاتٍ مختلفة؛ مثل السعادة والبهجة والحب والأسى والحزن والكبرياء الوطني والرهبة الدينية. وإن وظيفة مثل هذه الانفعالات التحكم في أفعالنا، ولكن الشيء الأقل وضوحًا هو أن الموسيقى قادرة أيضًا على توصيل ضروب متباينة من المعلومات عن الهيكل الاجتماعي ومعايير القيم، ويبدو هذا واضحًا من خلال البحوث التي تكشف لنا عن رابطة مذهلة بين الهيكل الاجتماعي وهيكل الغناء والرقص. إن توصيل المعلومات عبر الموسيقى هو نقل معلومات من العقل اللاشعوري لشخصٍ ما إلى العقل اللاشعوري لشخصٍ آخر. وعادةً لا يكون الراسل ولا المتلقي مدركًا عن وعي بأن ثمة عمليةَ توصيل جارية.
وعليه يفرض المؤلف أن الموسيقى لها دور اجتماعي بيولوجي؛ إذ تُسهم في خلق التضامن الاجتماعي والهوية الجمعية داخل قبيلة أو مجتمع. إنها أيضًا، وكما سوف أوضح فيما بعد، توصل إلينا معاييرَ عن كيفية صياغة هيكل المجتمع وكيف تتشكل العلاقة بين الناس وبعضهم البعض.
ويتصور الكاتب أن كل إنسان في مجتمع ما يعبر من خلال ذوقه أو أسلوبه الفني عن رأيه الشخصي بشأن الحالة التي يكون عليها هيكل المجتمع، أو الحالة التي ينبغي أن يكون عليها هذا الهيكل. إن الغناء والرقص الجمعي في مجتمع قبَلي يُسهم في بيان أساليب الأفراد في التقارب بين بعضهم بعضًا، وبذا يكون تعبيرًا عن نوع من توافق الآراء حول كيفية هيكلة ذلك المجتمع، أو لنقل بعبارة أخرى: إن ذلك النوع من عملية التفاوض اللاشعوري، والتي تشبه الطريقة التي توصل بها قطيع من قردة البابون إلى اتفاق بشأن كيفية الخروج بحثًا عن الطعام.
ويفترض، أخيرًا، أن الغناء والرقص على نحو جمعي وغيرَهما من التعبيرات الفنية المختلفة في قبيلة أو في مجتمع؛ إنْ هي إلا وسائلُ تعبيرية لخلق توافق آراء بشأن استراتيجيات R/K− وغيرها من جوانب الهيكل الاجتماعي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -أمام إسرائيل خياران.. إما رفح أو الرياض- | #مراسلو_سكاي


.. استمرار الاعتصامات في جامعات أميركية.. وبايدن ينتقد الاحتجاج




.. الغارديان: داعمو إسرائيل في الغرب من ساسة وصحفيين يسهمون بنش


.. البحرين تؤكد تصنيف -سرايا الأشتر- كيانا إرهابيا




.. 6 شهداء بينهم أطفال بغارة إسرائيلية على حي الزهور شمال مدينة