الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من أجل ثقافة جماهيرية بديلة61

عبدالرحيم قروي

2023 / 10 / 3
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الحقيقة الغائبة لشهيد العلمانية الدكتور فرج فوذة
الحلقة الرابعة عشر
تابع
هكذا بدأ أمر العباسيين ، وهكذا يبدأ أي أمر للحكم الديني وتحت نفس الدعاوي البراقة ، التي نسمعها كما سمعها الكوفيون بالأمس .. الحكم بما أنزل الله .. السير بسيرة رسول الله .. تطبيق شرع الله .. العدل .. البركة .. وهكذا كان ينتهي الأمر دائماً .. كما رأينا في أول عهد السفاح ثم كما سنرى بعد عهد السفاح ، ذلك الذي لا ينتهي الحديث عنه ، إلا بذكر سنة استنها ، ثم أصبحت قاعدة لمن تلاه من خلفاء بني العباس ، ونقصد بها عدم احترام العهود والمواثيق ، والفتك بالأنصار قبل المناهضين .
وقد فعل السفاح ذلك في واقعتين شهيرتين الأولى حين أعطى ابن هبيرة قائد جيوش مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين ، كتاباً يحمل إمضاءه ويتعهد له بالأمان ، ثم قتله بعد أيام من استسلامه ، والثانية حين قتل وزيره أبا سلمة الخلال أحد مؤسسي الدولة العباسية في الكوفة ، وتعمد أن يتم ذلك على يد أبي مسلم الخراساني ، المؤسس الأول للدولة ، حيث لا يعرف تاريخ الدولة العباسية في عهد السفاح فضلاً إلا لرجلين ، أولهما أبو مسلم الذي أسس الدولة في خراسان وسلم الخلافة إلى السفاح ، وثانيهما عبد الله بن علي عم السفاح وقائد جيوش العباسيين في موقعة الزاب التي انتصر فيها على الأمويين انتصاراً نهائياً ، ويقال أن السفاح كان يسعى لقتل الاثنين ، وهو ما لا نجد دليلاً عليه في كتب التاريخ . غير أن أبا جعفر المنصور ، ثاني الخلفاء العباسيين ، والمؤسس الحقيقي للدولة العباسية ، والذي يحتل فيها موقعاً مناظراً لموقع معاوية في دولة الأمويين ، قام بذلك الواجب خير قيام ، فسلط أولاً أبا مسلم الخراساني لقتل عبد الله بن علي ، ثم تولى هو بنفسه قتل أبي مسلم ، ولم يشفع له صياح أبي مسلم : استبقني يا أمير المؤمنين لعدوك ، بل رد عليه : وأي عدو لي أعدى منك ؟ وليس للقارئ أن يتعجب حين يعلم أن أبا مسلم لم يفعل للسفاح ثم للمنصور إلا ( كل الخير ) ، وأنه كان صاحب الفضل الأول عليهما وعلى دولتهما ، لكن ذلك بالتحديد كان سبب قتل المنصور له ، فقد دخل عليه ولي عهده ( عيسى بن موسى ) فوجد أبا مسلم قتيلاً ، ( فقال : قتلته ؟ قال : نعم ، قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، بعد بلائه وأمانته ؟ فقال المنصور : خلع الله قلبك ! والله ليس لك على وجه الأرض عدو أعدى منه ، وهل كان لكم ملك في حياته ؟ )
هذا نموذج مثالي لما عرف باسم الميكيافيلية ، نسبة إلى ( ميكيافيلي ) ، والتي نوجز في تبرير الوسيلة بالغاية ، وتفصل في تطبيق ذلك على شئون الحكم وسيرة الحكام ، وتبدو جلية على يد المنصور ، الذي وطأ بأقدامه أعناق الرجال ، وتفرد بأسلوبه المميز في الحكم ، فهو يبدأ أولاً بالتخلص من أصحاب الفضل عليه ثم يتحول إلى المعارضين وهو لا يعرف إلا القتل وسيلة للقضاء على معارضيه ، ولا يعرف للعواطف سبيلاً ، ولا تعرف العواطف إليه طريقاً .
ولأنه قوي لم يحترم إلا القوة ، ولعل هذا ما يفسر إعجابه بهشام بن عبد الملك ، ووصفه له بأنه ( رجل بني أمية ) ، ثم إعجابه الشديد بعبد الرحمن بن معاوية بن هشام ، والخليفة الأموي في الأندلس ، وعلى الرغم من هزيمة جيشه على يديه في أشبيليه ، بل ربما يسبب هذه الهزيمة التي لم تردعه ، ولم تمنعه من محاولة استمالته بالهدايا ، ووصفه قائلاً : (.. اقتحم جزيرة شاسعة المحل ، نائية المطمع ، عصبية الجند ، ضرب بين جندها بخصوصيته ، وقمع ببعض قوة حيلته ، واستمال قلوب رعيتها .. إن ذلك لهو الفتى الذي لا يكذب مادحه ) .
بل يقال أن المنصور هو الذي سمى عبد الرحمن بصقر قريش ، ولما فشل في استمالته بالتودد أظهر وجهاً آخر لأسلوبه السياسي ، وهو الوجه الذي أظهره تشرشل في الحرب العالمية الثانية عندما أعلن أنه مستعد للتحالف مع الشيطان لهزيمة النازية ، وهو نفس ما فعل أبو جعفر ، حين تحالف مع ( شارلمان ) ثم مع ( ببين ) ملكي الفرنجة ، ضد عبد الرحمن الخليفة الأموي المسلم ، وهو التحالف الذي فشل في هزيمة عبد الرحمن ، ونجح في ذات الوقت في اقرار القاعدة المنصورية :
افعل أي شيء .. اسلك أي سبيل .. تحالف مع أعدى الأعداء .. المهم أن تصل إلى غايتك .. وتنتصر على عدوك ، وخلال ذلك كله انس الإسلام ، وتغافل عن أحكام القرآن ، وتجاهل السنة ، وابتعد بقدر ما تستطيع عن سيرة الراشدين ، وتذكر فقط أنك ( سلطان الله في أرضه ) ( وصف المنصور لنفسه في خطبة شهيرة بالمدينة ) ( وظل الله الممدود بينه وبين خلقه ) ( التعبير الأدبي الشائع عند وصف الخلفاء في العصر العباسي الأول ) ، واستند في حكمك إلى حق بني العباس في الخلافة ، وليس إلى حق الرعية في الإختيار .
ولعل هذا المنهج هو ما قاد العلويين إلى مناهضة المنصور ، فما دام النسب هو الفيصل ، فهم أقرب إلى الحكم ، وأحق بالخلافة ، وقد دار حوار طريف بين المنصور من ناحية ، ومحمد العلوي المشهور باسم ( النفس الزكية ) وأخيه إبراهيم من ناحية أخرى ، ومبعث الطرافة أن الحوار كله يدور حول إثبات أحقية الخلافة بالنسب ، مع تجاهل كامل لما يسمى بالشعب ، أو ما كان يطلق عليه وقتها اسم الرعية ، فمحمد ( النفس الزكية ) وأخوه إبراهيم ، يريان أنهما من نسل علي وفاطمة ، وأنهما حفيدا الرسول ، وأنهما بهذا ولهذا أحق ، والمنصور يرى أن العم أقرب من ابن العم ، وأنه بذاك ولذاك أحق ، وأنا – بعد استئذان القارئ – أرى أنها مأساة أن أبايع حاكماً لمجرد أنه من نسل علي ، أو أناصر حاكماً آخر لأنه من نسل العباس ، وأتجاوز فأقول : أنه لو عاش للرسول من نسله ذكور ، ما بايعت حفيداً من أحفاده لمجرد انتسابه إليه ، فالنبوة لا تورث ، والصلاح لا ينتقل بالضرورة للأبناء ، ولا مانع أن يكون ( نوح ) نبياً ، وأن يكون ابنه في ذات الوقت ( عمل غير صالح ) .
غير أن الطريف في حوار المنصور والنفس الزكية ، أنه انتقل إلى الغمز، فالنفس الزكية يرد على عرض المنصور بالأمان بغمزة موجعة حين يذكر ( أي الأمانات تعطيني ؟ أمان ابن هبيرة ؟ أم أمان عمك عبد الله بن علي ؟ أم أمان أبي مسلم ؟ ) ، فيرد عليه المنصور غامزاً في الحسن " جد النفس الزكية " قائلاً : ( ثم كان الحسن فباعها معاوية بخرق ودارهم ، ولحق بالحجاز وأسلم شيعته بيد معاوية ، ودفع الأمر إلى غير أهله ) .
والمنصور يشير إلى مبايعة الحسن لمعاوية أو بمعنى أدق إلى الصلح بينهما ، ذلك الصلح الذي أثار مشكلة بسبب بطء ( وسائل الاتصال ) في تلك الأيام ، فقد أرسل الحسن إلى معاوية يصالحه على شروط مالية . وفي نفس الوقت كان معاوية قد ارسل إلى الحسن صحيفة بيضاء ختم أسفلها وترك للحسن أن يشترط فيها ما يشاء ، ووصلت الرسالتان في وقت واحد ، وطمع الحسن فكتب في صحيفة معاوية شروطاً جديدة طلب فيها أضعاف ما طلب في رسالته ، وعندما التقيا تمسك معاوية بخطاب الحسن وتمسك الحسن بخطاب معاوية ثم تصالحا على خمسة ملايين هي أموال بيت مال الكوفة ( تاريخ الأمم والملوك للطبري، ج4 – ص121 – 125 ) .
ولسنا في مجال تقييم فعل الحسن ، وحسبنا أن نذكر أنه استراح وأراح ، أراح المسلمين من القتال ، وأراح عبد الله بن عباس ( الذي ما أن علم بالذي يريد الحسن عليه السلام أن يأخذه لنفسه حتى كتب إلى معاوية يسأله الأمان ويشترط لنفسه على الأموال التي أصابها فشرط ذلك له معاوية ) .
وسوف يهنأ ابن عباس بما حصل عليه من مال البصيرة حتى نهاية حياته ، فقد قتل علي وتنازل الحسن وسمح معاوية ، وسوف يهنأ أيضاً الحسن بمال الكوفة حتى حين ، فسوف يتخلص منه معاوية بدس السم له حين يرشح يزيداً لخلافته ، ونعود إلى المنصور ، الذي لم يتحمل محاورة محمد طويلاً ، فقبض على أبيه وعمومته وكثير من أهله وحبسهم معذبين حتى الموت ، وهاجم محمداً بالمدينة وقاتله حتى قتله ، ثم هاجم أخاه إبراهيم في البصرة وقاتله حتى قتله ولم يكن المنصور في ذلك كله مدافعاً إلا عن الملك ، فقد ( ذكر أن المنصور هيئت له عجة من مخ وسكر فاستطابها ، فقال : أراد إبراهيم أن يحرمني هذا وأشباهه ) ( مروج الذهب للمسعودي – ج3 ص309 ) .
والشاهد هنا أن أحد الطرفين كان يدافع عن ( النسب ) ، وأن الطرف الآخر كان يدافع عن ( العجة ) ، وإن المسلمين في الفريقين كانوا يعتقدون أنهم يدافعون عن صحيح الإسلام ، دليلنا على ذلك ما حفلت به خطب الفريقين من آيات وأحاديث ووعد بالجنان ووعيد بسقر ، ولم يكن الأمر عسيراً بالنسبة لمحمد وإبراهيم فآيات الحكم بما أنزل الله موجودة وما أيسر أن ينتقل منها إلى الحديث عن شمائل الرسول ، وفضائل علي ، ولم يكن الأمر عسيراً أيضا على المنصور ، فما أكثر الأحاديث عن شق عصا الطاعة ، ومفارقة الجماعة ، وما أيسر الاستشهاد بآيات الإفساد في الأرض ، فقد روي عن المنصور أنه عندما تسلم كتاب انتصار جيشه على إبراهيم ، تلا هذه الآية :
( والقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، ويسعون في الأرض فساداً ، والله لا يحب المفسدين ) . ثم صعد إلى المنبر وقال : السعيد من وعظ بغيره ، اللهم لا تكلنا إلى خلقك فنضيع ولا إلى أنفسنا فنعجز، فلا تكلنا إلا إليك .
وهكذا أقنع أفراد جيش المنصور أنفسهم بأن الله نصر الحق بهم ، وسيجزي الله الشاكرين ، وأقنع من تبقوا من جيش محمد وإبراهيم أنفسهم بأنه اختبار من الله ، وبلاء إلى حين ، وسيجزي الله الصابرين ، وانطلق كل فريق قانعاً بما اعتقد أنه جزاؤه من عند الله ، ولم تنقل لنا كتب التاريخ خلال ذلك كله موقفاً مشهوداً لفقيه ، أو دفاعاً طلياً عن الحق من إمام من أئمة المسلمين ، وما أكثرهم في عهد المنصور ، فقد عاصره أبو حنيفة ، ومالك ، والأوزاعي ، وعمرو بن عبيد ، وسفيان الثوري ، وعباد بن كثير ، وجعفر بن محمد الصادق ، وغيرهم ، وما كان تعذيب المنصور لأبي حنيفة وحبسه وجلده ودس السم له في النهاية إلا لرفضه ولاية القضاء ، وما كان جلد المنصور لمالك وهو عاري الجسد غير مستور العورة تشهيراً به إلا لذكره حديثاً عن الرسول لم يعجبه ، وكلا الموقفين لا يصلحان نموذجاً للجهاد ، أو مثالاً على مناوأة الحاكم إن حاد ، أو دليلاً على أن الحق يعرف بالرجال ، وينصر بالرجال ، وينبري للدفاع عنه الرجال ..
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية من قوات الاحتلال


.. لايوجد دين بلا أساطير




.. تفاصيل أكثر حول أعمال العنف التي اتسمت بالطائفية في قرية الف


.. سوناك يطالب بحماية الطلاب اليهود من الاحتجاجات المؤيدة للفلس




.. مستوطنون يقتحمون بلدة كفل حارس شمال سلفيت بالضفة الغربية