الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ملامح الهوية الدينية العراقية تأريخيا ح1

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2023 / 10 / 3
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


من العمق التأريخي للعراق كأرض والتي شهدت أقدم الممارسات الدينية بصورتها الجمعية المنظمة، والتي دونها العراقي في ألواح الطين والنقوش على الأختام والرقم والتماثيل والنصب والألواح، نجد أن العراقي فطريا إنسان متدين وعارف ومؤمن بحقيقة أن الكون محكوم بقوة متفردة غائبة وعلية، ولا يمكن لأحد أن ينكر حقيقة أن الدين والتدين المنظم عبر مؤسسات وهيكلية معروفة وواضحة ومنظمة لا بد لهذا المجتمع أن يملك وعيا بهويته، ووعيا أكبر بما يؤمن به ويعتقده، فهو إذا شخص يحمل سمات حضارية ومعرفية وغير جاهل لا بحاله ولا متقلب في عقيدته وفقا لتغيرات فوقية سلطوية أو قهرية تتنافى مع وعيه.
الباحث في التاريخ الديني الأجتماعي محمد بن جماعة يقول في موضوع تعريف الدين والهوية (تتكوّن الهوية الدينية لدى الفرد كحالة نفسيةSubjective Status بمعنى التدين، حين يعتقد بوجود ذات –أو ذوات- غيبية/علوية، لها شعور واختيار، ولها تصرّف وتدبير للشئون التي تعني الإنسان، اعتقادًا من شأنه أن يبعث على مناجاة تلك الذات السامية في رغبة ورهبة، وفي خضوع وتمجيد. وبعبارة موجزة، يمكن القول إن الهوية الدينية تتكوّن من خلال الإيمان بذات إلهية، جديرة بالطاعة والعبادة) ، هنا يركز الباحث على مسألة قد لا تبدو واضحة من هذا العرض وهي أن المعرفة تسيق الوعي وتؤسس له، ويدون معرفة لا يمكن تحديد ماهيته الوعي ولا ماهية الهوية الواعية ولا تمثيلها للشخصية كمحدد منفصل ومستقل ومنتمي في ذات الوقت، إذا كان العراقي القديم الواعي والعارف لهويته الدينية المرتكزة على العوامل الفطرية المتطورة بالتجربة، يمثل مرحلة كاملة في زمنه للمؤمن القادر على تبني المعقول والمنطقي في علاقة السماء والأرض.
والأحتلاف الذي يمنعني من موافقة الباحث بن جماعة كليا هو أن رؤيته تقوم على أفتراض جازم وهو (تماما مثل “تصور الذات” الذي تحدثنا عنه سابقا، تعتبر الهوية الدينية غير مستقرة، بحيث تتغير وتتطور عبر مراحل مختلفة من النمو المعرفي المتأثرة بعاملين: عامل النضج الذاتي، وعامل البيئة الاجتماعية) ، فهو يصر على أن الهوية الدينية غير مستقرة وهذ أكيد لكن من غير المؤكد أنها كقانون عام تتغير تحت عوامل النضج الذاتي وعامل البيئة، السبب الذي يقف أمام هذا الأفتراض أن الدين بأعتقاد المؤمنين به والمتدينين يقوم على ثوابت قاطعة وملزمة بخلافها قد يشكل التمرد أو التغير عليه خروجا حقيقيا من الدين، لذا مثلا نجد أن الأديان والهوية الدينية في تطور بطيء جدا وأحيانا غير ملحوظ، والسبب أن الثوابت تقيد الحركة الرئيوية داخله إلا لأفراد محدودين لا يشكلون مثلا ظاهرة كبرى.
الهوية الأجتماعية الدينية في العراق لم تتغير في قواعدها الرئيسية ولكنها تطورت بطيئا وليس تفصيليا، فقد عرف سكان بلاد ما بين النهرين التوحيد مبكرا وإن مرت فترات تأريخية أختلط فيها مفهوم التوحيد المطلق إلى التوحيد الرمزي نتيجة صراعات سياسية بالغالب على رأس الهرم السلطوي، ولكن بقيت حالة التوحيد موجودة وثابتة في الهوية الفردية والجمعية، لم يحدث أنتقال كامل ولا تغيير كامل لهذه الصورة للوجه الأخر، ولم يتبنى العقل الديني العراقي الثنيوية المتضادة أوإنقسام تكاملي داخل الواحد، ولم يتبنى مطلقا عبادة الطوطم الأرضي حسب الوثائق المدونة أركولوجيا، هذا جانب مهم في أصل الهوية وأساسها الكامل ويحدد مدة ثبات هذه الهوية وأصالتها.
تتشكّل الهوية الدينية طبيعيا من خلال العلاقة مع “الآخر” ومدى وضوح أو ثبات هذه العلاقة يعطي للهوية صفة العموم بين الحامل والمختلف والموافق، هذا يعني أن هوية الأخر الدينية أيضا تلعب دور في توثيق هذه الهوية وبيان ماهيتها، عندما يكون مجتمع مغلقا على عقيدة ما أو هوية دينية واحدة فإنه من غير المجدي أن نبحث عن تميز ما لهوية مميزو مستقلة ومنتمية، هذا ما يسميه البعض من المعرفيين بهوية القطيع، فمواجهة حقيقة وجود “آخر متديّن” تكشف للمؤمن الحاجة لتعريفٍ الحصري، هنا لا يكتفي بذكر الصفات الذاتية التي تجعل منه “فردا متدينا” بل يتجاوز ذلك لتحديد ما يجمعه أو يفرقه بالآخر، أو يميزه عنه في الاعتقاد والممارسة الدينية بحدود معلومة، فيكتشف الفرد من خلال هذه العملية عن وجود أشخاص أخرين من حوله قد يحملون وعيا مشابها أو مختلفا بالانتماء لنفس المميزات التي يحملها.
لعل وجود هويات دينية مشابهة مع الأمتداد الأجتماعي والديني والحضاري اللغوي الطبيعي المجاور للعراق، قد يكون سبب بترسيخ هذه الهوية الدينية العراقية حتى قبل نزول الأديان الإبراهيمية من اليهودية في أول الأمر حتى نزول الإسلام، كما أن الوحدة اللغوية العراقية التي أنتشرت في المد الجغرافي الطبيعي للعراق جنوبا وغربا قد ساهم في نقل أجزاء مهمة وأساسية من هذه الهوية، ورسخ أيضا قدرتها على التأثير على الأخر المختلف، فديانة التوحيد المطلق والتوحيد الرمزي التي أنتقلت من العراق بأتجاهات عدة تمثل قوة وقدرة هذه الهوية على التأثير، هناك أدلة تأريخية موثقة حول تأثير هذه الهوية على التاريخية لشعوب أخرى، فشرقا أقتبس العيلاميون ومنهم ما بعد الشرق العراقي الكثير من مفردات هذه الديانة أو هذه الهوية الدينية، كذلك في الغرب والجنوب قد تكون الهوية الدينية العراقي بشكل عام تشكل جزء من هوية هذه المناطق وصولا حتى لمصر ولغيرها من البنى الأجتماعية والحضارية التي تشاركت في بناء الحضارة الإنسانية عموما.
العامل الأساس الذي يجعل الفرد العراقي كمثال للهوية الأجتماعية والدينية أنه مدرك لخصائص انتمائه الفردي والجمعي والمتمثل في وحدة الشعور الديني الجوهري والإيمان بالمعتقدات التي يصيفها الدين والواقع معا بما فيها الشعائر التعبدية والقيم الضابطة والأخلاقيات الموافقة التي تعبر عنها السلوكيات والممارسات الدينية، ويضاف إلى ذلك جملة الاختيارات والتصورات التي يعتمدها الفرد بناءً على تاريخه الذاتي والأسري والنفسي والثقافي بمعنى التجربة الدينية والأجتماعية للفرد والمجتمع، وترى الباحثة دانيال هارفيو ليجير (Danièle Hervieu-Léger) أن الهويات الدينية إنما هي “محصّلة مسارات متعددة ومتراكمة على امتداد الزمن، والفرد هو الذي يعطي للتجارب المتتالية والمتباينة التي يعيشها القيمةَ التي تصيّرها مسارا ذا معنى” .
إذا ليس الدين وحده وفقا للرؤية أعلاه هو المسئول عن تشكيل الهوية الدين، الواقع والتجربة والخبرة عوامل أساسية مهمة في بناء وإعادة تشكيل هذه الهوية، لذا أنا أميل إلى التفسيرات التي تعلل سبب أختلاف الهوية الدينية المبنية على عقيدة واحدة من مجتمع لمجتمع، الفارق الجغرافي والتاريخي ومحصل التجربة وتراكم الإرث الواقعي أسباب ذا جدوى وأثر في هذه الصياغة بشكل حازم وجاسم، فالهوية الدينية أحيانا تأخذ الأسم بشكل مبسط ومن الدين الضروري جدا، أما تفاصيل وتفرعات وإحداثيات الهوية فمتعلقة بما هو خارج الظاهرة الدينية كجوهر وهو ما يطلق عليه التدين أو الأداء التعبدي الخاص والعام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلسطينيون يرحبون بخطة السداسية العربية لإقامة الدولة الفلسطي


.. الخارجية الأميركية: الرياض مستعدة للتطبيع إذا وافقت إسرائيل




.. بعد توقف قلبه.. فريق طبي ينقذ حياة مصاب في العراق


.. الاتحاد الأوروبي.. مليار يورو لدعم لبنان | #غرفة_الأخبار




.. هل تقف أوروبا أمام حقبة جديدة في العلاقات مع الصين؟