الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطاقة الذكية الأزلية بين العلم والفلسفة 3/4

ضياء الشكرجي

2023 / 10 / 6
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


إني في هذا البحث لست الآن بصدد نقد الدين، إنما بصدد عرض فهمي لله، أو للطاقة الذكية الأزلية الخالقة، والتي بالرغم من كون الأدلة التي أؤمن بها بالنسبة قطعية، فهناك ثغرات في أدلة وجود الله، أهمها ثغرتان؛ الأولى الأزلية، التي هي ليست بثغرة حقيقية، بقدر ما تمثل عجز الإنسان عن تصور الأزلية، أي تصور اللابداية، بعكس قدرته على تصور الأبدية، أي اللانهاية، لكننا أصبحنا نعلم أن من العلماء فريق يقولون اليوم بأزلية الكون، أو يفترضون إمكانية أزليته. وأكثرنا يتقبل فكرة أزلية الكون، ولو على نحو الفرضية الممكنة، فلماذا نعتبر أزلية الطاقة المصممة الذكية الأزلية فكرة سخيفة، ويجزم بعضنا على أن الإيمان بثمة كائن ذكي أزلي - هو الله – ليس إلا وهما وخرافة؟
أزلية الذكاء الأعلى لها علاقة باستحالة تسلسل العلل إلى ما لا بداية، فكما مر قسم علماء الكلام والفلاسفة والمناطقة الوجود (الكؤون) إلى ممكن وواجب، وليس من نوع ثالث هو وجود ممتنع، لأن الممتنع هو عدم بالضرورة. وأمثلة الوجود الممكن لا عدّ ولا عدد لها. مع العلم إن الواجب بما أنه ممتنع العدم، فهو موجود (كائن) بالضرورة، أما الممكن فمثلا (أنا) ممكن، لكني موجود (كائن) فعلا، لكن توأمي الممكن أيضا، هو عدم، لأن ليس لي شقيق توأم، لكنه كان من الممكن أن يكون. إذن الممكن إما كائن أو معدوم، وهو حادث خلاف الأزلي أو القديم كما يسمى في علم الكلام، وهومحتاج (مُحتَئِج) أي فقير إلى علة، أما الواجب فكونه واجب الكؤون، يجعله كائنا في كل لحظات الزمن الممتد إلى الوراء حتى الأزل، وإلى الأمام حتى الأبد، لأن واجب الكؤون هو ممتنع العدم، وكل من الوجوب والامتناع لا يتحددان بزمن لوجوب الأول وامتناع الثاني، فالزمن هو حدود الممكن الحادث وحده.
الله كما كررت أبدا لا مشكلة عنده أن يكون أحدنا غير مقتنع بوجوده، فكأني به يقول للإنسان: آمن كيفما تؤمن أو لا تؤمن، لا مشكلة لي معك أبدا، لكن كن إنسانا ما اتطعت تكن محبوبا عندي. كن ملحدا وإنسانا يحببك الله أكثر من المتدين العابد المطيع لشكليات الدين، لكنه يمثل في سلوكه مع الآخر اللاإنسان، الذي يغش، يكذب، يحتال، يؤذي، يأكل حقوق الآخرين يرخصة شرعية.
بعدما بينت إحدى الثغرتين الأساسيتين حسب قناعتي بوجود الله، ألا هي ثغرة الأزلية، التي قلت أنها ليست بثغرة حقيقية، بقدر ما تمثل عدم قدرة أكثر الناس على تصورها، آتي إلى الثغرة الأهم، ألا هي ما يسمى بالشرور (جمع شر) حيث شَرَّقَ وَغَرَّبَ وَشَمَّلَ وَجَنَّبَ علماء الكلام لتبرير الشرور، دون قدرتهم على إعطاء تفسير مقنع للعقلاء، إذ قدموا لها تفسيرات في منتهى السذاجة، عكس ما أبدعوا فيه بدليل واجب الوجود المقتبس من الإغريق، فمنهم من قال لا وجود للشر، إنما الشر أمر عدمي (لاكائن)، فما المرض إلا عدم الصحة، وما العمى إلا عدم البصر، وهكذا. نقول لهم إن هذا العدم تترتب عليه معاناة، ويترتب عليه وجع وشعور بالكآبة. فمن السذاجة نفي وجود الظلم، والقول ليس الظلم إلا عدم العدل، فالظلم معاناة وقهر، فهناك القتل وأنواعه التي لا تعد ولا تحصى، من قطع للرؤوس بالسيف أو المقصلة، وشنق وحرق وصلب، وهناك الاغتصاب واغتصاب الأطفال، والفقر والجوع، وافتراس الحيوان للحيوان، والكوارث الطبيعية. أين الله إذن؟ أين الله؟ أين هو الله من كل ذلك؟ أزعم أني وجدت ثمة جوابا، ولا أدري ما إذا كان هذا فعلا ما يمثل الجواب، بل هو مجرد افتراض أو محاولة فهم لما لايفهم. فأنا من جهة ورغم الثغرات أؤمن بالله، لأني أجد الثغرات في عدمه أضعاف أضعاف أضعاف الثغرات في أدلة وجوده. لذا لا أستطيع إلا أن أؤمن، ولو إن البعض يتصور إن إيماني ليس إلا تمنيا، إذ رسمت لنفسي الصورة التي أتمناها لله، وفقا للأخلاق التي أؤمن بها وأفترض وجوب اتصاف الله بها. أقول لو كانت هذه ليست إلا رغبة أو حاجة مني، فكيف عشت لما يقارب الخمسة عشر عاما ملحدا، ولم أحتج إلى الإيمان، ولم أفتقد الإيمان في حياتي في العقد ونصف العقد من عمري؟ أؤكد إن قضية الله ليست قضية روحية عندي حاليا، بل قضية معرفية، مثل المعرفة بالحقائق العلمية، مع الفارق، أما أن أتفاعل أو لا أتفاعل مع هذه المعرفة، فلا علاقة لها بموضوعة المعرفة، وتتفاوت من شخص إلى آخر، بل تتفاوت عند الشخص ذاته من مرحلة إلى مرحلة من تجربته الإيمانية. ولنضر مثلا لتقريب الفكرة، فلو وجدنا – نحن الرجال بشكل خاص - امرأة شابة ذكية مثقفة ذات أخلاق وتجربة ووعي، فتشخيصنا لهذه الصفات شيء، وأن يقع أحدنا في غرامها شيء آخر.
أرجع إلى الشرور، فوجود الشرور يتنافى بكل تأكيد مع العدل الإلهي، والجواب بأن ذلك سيجبر عبر الجزاء في الحياة ما بعد هذه الحياة لا يمكن أن يقنع أكثر الناس. فماذا عن طفلة بريئة، يأتي مجرم حقير قذر مجرد من أدنى درجات الإحساس الإنساني، يختطفها، يرعبها، يفعل بها ما لا تستطيع أن تفهمه، يغتصبها، يوجعها، ثم يقتلها، ثم يقال إنها ستعوض في الحياة الأخرى، وهو سيعاقب في تلك الحياة. وهكذا الأسئلة المطروحة عن كل ألوان الشرور، من قتل وتعذيب ومجاعة وحروب وقمع.
الجواب الذي أحتمله هو كالآتي: الله، أو الطاقة الذكية الأزلية، تتمتع أو يتمتع الله بثلاث صفات أساسية، فهو خالق وإله ورب. هو الخالق، بمعنى مطلق بذرة الوجود عبر الانفجار الأول المزود لها ببرمجة مفصلة، فهو الذكاء الأزلي، والمصمم والمبرمج وواضع القوانين، أو خالق القوانين كما يعبر ميشيو كاكو. أما الله كإله، فلا أدري ما إذا كان معناه أن يعبد، إلا إذا فهمنا العبادة مجازا وبالمعنى الذي سأبينه، أن أن يكون قد خلقنا لا لشيء إلا لنعبده، حسب فهم النص القرآني "وَما خَلَقتُ الإِنسَ وَالجِنَّ إِلّا لِيَعبُدونِ[ـي]"، فالله يتنزه عن أن يكون خلقه لنا لهذا الغرض حصرا. فما ينتظره الله من الإنسان لا أن يصلي ويصوم ويدعو ويحج ويعتكف ويترهبن، بل أن يسعى الإنسان أن يكون إنسانا، أن نستقيم، أن نعدل، أن يحب أحدنا للآخر ما يحب لنفسه. إذن العبادة حق العبادة أن تستقيم في حياتك ما استطعت، أن تكون صالحا عادلا تحب الخير للناس. هذه هي العبادة الحقيقية، وليست العبادة صلاة وصوما، إلا من شاء أن يزاول طقوس عبادة كما يشاء، كأي طقس آخر، مثل طقس الشاعر العاشق، عندما يخاطب أطلال بيت حبيبته، أو طقس احتساء قهوة الصباح على صوت فيروز، أو طقس سماع أم كلثوم على مائدة العرق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الـLBCI ترافقكم في قداس أحد الشعانين لدى المسيحيين الذين يتب


.. الفوضى التي نراها فعلا هي موجودة لأن حمل الفتوى أو حمل الإفت




.. مقتل مسؤولَين من «الجماعة الإسلامية» بضربة إسرائيلية في شرق


.. يهود متطرفون يتجولون حول بقايا صاروخ إيراني في مدينة عراد با




.. كاهن الأبرشية الكاثوليكية الوحيد في قطاع غزة يدعو إلى وقف إط