الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من أجل ثقافة جماهيرية بديلة65

عبدالرحيم قروي

2023 / 10 / 7
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الحقيقة الغائبة لشهيد العلمانية الدكتور فرج فوذة
الحلقة الثامنة عشر
تابع

لولا أنني مؤمن بأن الإسلام على مفترق طرق ، وأنه لابد سائر إلى حيث يريد الله الرحمة لعباده ، والانتصار لإسلامه والاستمرار لعقيدته ، وأن الإسلام لن يضار بالمتعصبين إلا إلى حين ، ولن يختلف بالجامدين إلا إلى حين ، ولن يشارك في الحياة أبداً بالمرتعدين عن قصور في الفهم أو عجز في الاجتهاد أو جمود في التفكير، وأننا في حاجة إلى أن نقبل على الحياة بالإسلام ، لا أن نهوى عليها بالإسلام ، وأننا في حاجة إلى أن نحافظ على الإسلام العقيدة ، لا أن نكتفي بحفظ الإسلام النصوص ، وأننا في حاجة إلى أن نخترق الحياة بالإسلام ، لا أن نخترق الحياة بالإسلام ، والإسلام بحمد الله أقرب إلى الحياة من يبتعدون عنها بالقول ، وينهلون منها بالفعل ، ويحلمون بها طوع بنانهم بالحكم ، ويفزعونها ويفزعون إليها بخلط أوراق الدين بالسياسة ، والسياسة بالدين ، والعنف بالموعظة ، والموعظة بالطمع ، والطمع بالمزايدة ، والمزايدة بشراء الذمم ، وأبواب شراء الذمم في حياتنا شتى ، فقد عرفنا في السنوات الأخيرة مناصب المستشارين للبنوك ( الإسلامية ) ، والشركات ( الإسلامية ) ، ورحلات الشتاء والصيف للدول ( الإسلامية ) ، للتعرف على مسار التجربة ( الإسلامية ) ، وللحصول على بعض الأموال الزكاة لتوزيعها على ( المسلمين ) في مصر ، أو إنفاقها على أمور الدعوة ( الإسلامية ) .
ونحن في هذا لا نتحدث من فراغ ، أو عن هين من المال أو يسير، ودليلنا نأخذه من ألسنتهم ، فقد صرح حافظ سلامة للصحف بأنه جمع لبناء مسجد النور مليون ونصف مليون جنيه من تبرعات ( المسلمين ) في الخليج في رحلة له إلى هناك لمدة أسبوع ، واستنكر أحد كبار رجال الدعوة ما نشره الأهرام الاقتصادي عن أنه حصل على عشرين ألف دولار سنوياً كمكافأة استشارية وطالب بتصحيح ما نشر لأن المبلغ ثلاثون ، وإذا أمطرت سماء ( الدعوة ) ألوفاً بالعشرات في الداخل ، وبالمئات في الخارج ، فلا جناح عليهم إن هاجمونا ، ولا تـثريب عليهم إن كفرونا ، ولا بأس عليهم إن قاتلونا ، ولا غرابة إن خرج علينا بعض الساسة بالنقد تملقاً ومزايدة ، ولو شئنا الاستطراد في هذا الباب لأفضنا ، لكنا نشعر أننا أرهقنا القارئ وربما أصبناه بالملالة ، فقد أطلنا في قراءتنا الجديدة للأوراق القديمة ، ووجدنا أنها وثيقة الصلة بما نراه في أيامنا المعاصرة .
ولعلنا نمسك عن الاستطراد على وعد بكتابات قادمة ، نتحدث فيها عن الرشيد وما أدراك ما الرشيد ، وعن المأمون وما أدراك ما المأمون ، وعن المعتصم وما أدراك ما المعتصم ، أما الواثق ، وهو آخر خلفاء العصر العباسي الأول ، فلا أحسب أنني أستطيع مع سيرته صبراً ، ولا أحسب أن القارئ سوف ينسى بسهولة ما سأذكره عنه ، فقد فتح باباً جديداً من أبواب الخلافة ( الإسلامية ) ، وسلك مسلكاً فريداً من مسالك الخلفاء أو أمراء المؤمنين ، وخلد سيرته نثراً وشعراً ، وحكم قرابة الست سنوات منتقلاً من غلام إلى غلام ، ونعيدها حتى لا يشك القارئ في صحة ما ذكرناه أو يتصوره خطأ مطبعياً نقول :
من غلام إلى غلام ، فقد كان عاشقاً صباً للغلمان ، ملكوا وجدانه ، وأذابوا مشاعره تولهاً وصبابة ، وكان منهم غلام ( مصري للأسف ) ، اسمه ( مُـهَج ) ، لعب بعواطف الواثق كما شاء ، وتملك مشاعره وتلاعب بوجدانه كما يريد ، إن رضى عنه استقامت أحوال الدولة واستقر شأن الحكم ، وإن تدلل عليه أو صده فالويل كل الويل للمسلمين ، والثبور وعظائم الأمور لمن يشاء حظه العاثر أن يلقي الواثق أو يقف أمامه أو يحتكم إليه .
ولعل من يرددون دون وعي أو ملل، أن حضارة الغرب قد أباحت الشذوذ الجنسي ، يتيهون الآن بأن دورنا لم يقتصر أبداً على النقل من الغرب ، لأنه لو صح ما يدعون ، وهو غير صحيح ، لانعقدت لنا الريادة ، وكان لنا قصب السبق دون شك ، وهل لدى الغرب حاكم مثل الواثق ، وهل في تاريخهم كله خادم مثل مهج ، يخلب لب الخليفة ، فيصرفه عن شئون الدنيا ، ناهيك عن شئون الدين ، فينصرف إليه ، وتجود قريحته بالشعر عليه ، فيردد على إيقاع أيدينا وهي تضرب كفاً بكف :
مهج يملك المهج بسجي اللحظ والدعج
حسن القد مخطف ذو دلال وذو غنج
ليس للعين إن بدا عنه بالحظ منعرج
( تاريخ الخلفاء للسيوطي. ص342 )
ويعرف مهج قدر نفسه عند الخليفة الواثق ، فيبتدره يوماً في الصباح ، وهو جالس بين حاشيته ، ويمضي إليه متـثـنياً ، منكسر النظرة ، مترنح الخطوة ، مترجرج الأعطاف ، ويناوله ورداً ونرجساً ، وتصور أنت أيها القارئ حال الواثق أمام كل هذا الهول ، واعذره إن استخف به الطرب فنسى الحاشية والمجلس ، وأنشد وعيناه ترنوان إلى مهج :
حياك بالنرجس والورد معتدل القامة والقد
فألهبت عيناه نار الهوى وزاد في اللوعة والوجد
أملت بالملك له قربه فصار ملكي سبب البعد
ورنحته سكرات الهوى فمال بالوصل إلى الصد
إن سئل البذل ثنى عطفه وأسبل الدمع على الخد
غر بما تجنيه ألحاظه لا يعرف الإنجاز للوعد
مولى تشكي الظلم من عبده فأنصفوا المولى من العبد
ويا سبحان الله ؛ ما أشعر الواثق وما أرق ألفاظه وما أدق وصفه للحظة العشق العظيم ، حين يسيل دمع مهج علي خده ، فلا يدري الواثق أهو دمع الهوى أم دمع الصد ، وماله لا يفعل ذلك ، وهو صاحب القد المعتدل ، المترنح في خطوة بسكرات الهوى ، ذلك الذي يعرف وصله من صده ، الظالم لعبده ( خليفة المسلمين ) ذلك الذي يستنجد بالرعية أن تنصفه من مولاه ( مهج ) ، المغرور بسهام ألحاظه ، المنكر للوعد دائماً ، أما الوعد فيسير إدراكه على خيال القارئ ، وعسير إدراكه على الأتقياء المصدقين للمتنادين بعودة الخلافة ، الخالطين بين حلم رائع في خيالهم ، بثـته عقيدة عظيمة ، وبين حقيقة مفزعة تكشفها لهم صفحات التاريخ ، وألحاظ مهج ، وخلاعة الواثق ، وفقه معاصريه من الجبناء وجبن معاصريه من الفقهاء .
هذا عن مهج حين يرضى ، فماذا عنه إن غضب .. يا ألطاف الله ، حدث ذلك يوماً ، حين فقد الواثق عقله فأغضب مهج ، وفي اليوم التالي طار لب الواثق ، وتعطلت مصالح الدولة ، وخشي كبار الدولة أن يدخلوا على الواثق في حالته تلك ، ولم يكن لأحد أن يتوقع خيراً إن لاقاه أو حاكاه ، وأدرك الجميع أن السر لدى مهج ، فدسوا عليه بعض الخدم ليسألوه فأجابهم ( والله إنه – يقصد الواثق – ليروم أن أكلمه من أمس ، فما أفعل ) .
يا للكارثة ، ويا لصعوبة ما أعانيه بحثاً عن ألفاظ تليق بجلال الموقف ورهبته ، وعذاب الواثق وغضبته ، وقد نقل إليه حديث مهج فأنشد من جديد قائلاً :
يا ذا الذي بعذابي ظل مفتخرا ما أنت إلا مليك جار إذ قدرا
لولا الهوى لتجارينا على قدر وإن أفق منه يوما ما فسوف ترى
ولحسن حظ مهج ، وسوء حظ الطالبين بعودة الخلافة لم يفق الواثق أبداً ، بيد أن البعض قد يتصور أن عمر خلافة الواثق قد ضاع على مهج وأمثاله ، لكن ذلك لم يكن صحيحاً ، فقد كان للواثق وجه آخر ، يحلو له أن يخرج به على الرعية ، ويبدو فيه حامياً لذمار العقيدة ، ومناضلاً من أجل صحيح الدين ، فقد انتصر للمعتزلة كما فعل والده المعتصم ، الذي عذب ابن حنبل لقوله بأن القرآن ليس بمخلوق ، ويروي عن الواثق أنه أحضر أحمد بن نصر الخزاعي أحد كبار رجال الحديث في التاريخ الإسلامي ، من بغداد إلى سامرا ، مقيداً في الأغلال ، وسأله عن القرآن فقال : ليس بمخلوق ، وعن الرؤية في القيامة فقال : كذا جاءت الرواية ( فثار الواثق ودعا بالسيف ، وقال : إذا قمت فلا يقومن أحد معي ، فإني أحتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد رباً لا نعبده ، ولا نعرفه بالصفة التي وصفه بها ، ثم أمر بالنطع فأجلس عليه وهو مقيد ، فمشى إليه ، فضرب عنقه ، وأمر بحمل رأسه إلى بغداد ، فصلب بها وصلبت جثته في ( سر من رأى ) ، واستمر ذلك ست سنين إلى أن ولي المتوكل ، فأنزله ودفنه ولما صلب كتبت ورقة علقت في أذنه ، فيها : هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك ، دعاه عبد الله الإمام هارون إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه ، فأبى إلا المعاندة ، فعجله الله إلى ناره ) .
وتأملوا معي التناقض بين حديث مهج وحديث الخزاعي ، وفاضلوا بين مصير مهج ومصير الخزاعي ، وقارنوا بين الواثق وبين كثيرين ممن نعرفهم ونسمع منهم ، ونرى لهم كما رأينا للواثق وجهين لا صلة بينهما ولا رابطة ، فهم يقضون ليلهم بين الكأس والندماء ، وما أن يسفر الصبح حتى ينطلقوا إلى صفحات الصحف ومنتديات السياسة ، ينادون بالتطبيق الفوري للشريعة ، فإذا سألتهم ابتسموا ، وأنكروا عليك جهلك بالسياسة وفعال الساسة ، وكتموا في أنفسهم رأيهم فيك ، وهو أنك غر حديث التجربة ، لن تتعلم بعد كيف تتعامل مع الشارع المصري ، فتقول شيئاً وتعني شيئاً ثانياً وتفعل شيئاً ثالثاً ..
وإذا كان الواثق قد تألق في صولاته بين الغلمان ، وإذا كان يستحق بجدارة أن يوصف في جولاته بأنه فارس الميدان ، فإنه – إنصافاً له لم يكن فارس الميدان الوحيد ، فقد ذكرنا طرفاً عن التلوط في عهد الوليد بن يزيد ، ولم نذكر شيئاً عن عهد الأمين( ابن الرشيد ) الذي ( ابتاع الخصيان وغالى بهم وصيرهم لخلوته ورفض النساء والجواري ) ( تاريخ الخلفاء للسيوطي – ص301 ) ، وكما تعلق قلب الواثق بمهج تعلق قلب الأمين بكوثر ، وقال بعض الشعراء عن عصره :
أضاع الخلافة غش الوزير وفسق الأمير وجهل المشير
لواط الخليفة أعجوبة وأعجب منه خلاق الوزير
فهذا يدوس وهذا يداس كذاك لعمري خلاف الأمور
ولما هاجم المأمون الأمين ، ( خرج كوثر خادم الأمين ليرى الحرب ، فأصابته رجمة في وجهه ، فجعل الأمين يمسح الدم عن وجهه ثم قال :
ضربوا قرة عيني ومن أجلي ضربوه
أخذ الله لقلبي من إناس حرقوه
ولم يقدر على زيادة فأحضر عبد الله التيمي الشاعر فقال له : قل عليهما ، فقال :
ما لمن أهوى شبيه فبه الدنيا تتيه
وصله حلو ، ولكن هجره مر كريه
من رأى الناس له الفضل عليهم حسدوه
مثل ما قد حسد القائم بالملك أخوه
فأوقر له ثلاثة بغال دراهم . وهكذا انشغل الأمين عن الحرب ، وعن سقوط حكمه ، بجرح حبيبه وخليله كوثر ، ذي الوصل الحلو ، والصد المر ، والهجر الكريه ، وماله لا يفعل ذلك وهو قائل في وصف كوثر :
ما يريد الناس من صب بما يهوى كثيب
كوثر ديني ودنياي وسقمي وطبيبي
أعجز الناس الذي يلحي محبا في حبيب

يا حبيبي !! يا أمير المؤمنين ، ما أرقك وما أطيب وصلك ، لولا أنها خلة تشين في أي عرف ، ناهيك عن أي دين ، ولولا أن عشق الغلمان ، يقود إلى بنت الحان ، وإلى الطرب بالألحان ، وإلى القول بما نمسك عنه ، ونفزع منه ، غير أن رحمة الله قد وسعت الأمين في دنياه من باب آخر فلم تذكر لنا صفحات التاريخ أن فقيها أفتى بحل قتله ، أو حرمة ما أتاه ، أو إفك ما فعله ، غاية ما في الأمر أنهم قالوا عنه شعراً بعد وفاته ، ربما بعد تيقنهم من سيرة المأمون المختلفة ، وإتيانه للأمور من قبل ، واهتمامه بشئون الحكم وعمارة البلدان ، وليس بالخمر والغناء والغلمان ، فقالوا في الأمين غداة وفاته :
لم نبكيك ؟ لماذا ؟ للطرب يا أبا موسى وترويج اللعب
ولترك الخمس في أوقاتها حرصا منك على ماء العنب
وشنيف أنا لا أبكي له وعلى كوثر لا أخشى العطب
لم تكن تصلح للملك ولم تعطك الطاعة بالملك العرب
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاصيل أكثر حول أعمال العنف التي اتسمت بالطائفية في قرية الف


.. سوناك يطالب بحماية الطلاب اليهود من الاحتجاجات المؤيدة للفلس




.. مستوطنون يقتحمون بلدة كفل حارس شمال سلفيت بالضفة الغربية


.. 110-Al-Baqarah




.. لحظة الاعتداء علي فتاة مسلمة من مدرس جامعي أمريكي ماذا فعل