الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من أجل ثقافة جماهيرية بديلة 66

عبدالرحيم قروي

2023 / 10 / 8
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الحقيقة الغائبة لشهيد العلمانية الدكتور فرج فوذة
الحلقة التاسعة عشر
تابع

وهكذا ، أدرك الشعراء فقط بعد موت الأمين ، أنه لم يكن يصلح ، وتنادوا بأنه لم يبايع بالطاعة من العرب ، على خلاف الحقيقة ، وتذكروا أنه كان يترك الصلوات الخمس ، وكان متفرغاً للطرب ولماء العنب ، وليس هذا بغريب علينا ، فحتى في عصرنا هذا لا يتذكر البعض مثالب الحكام إلا بعد وفاتهم ، واستقرار الحكم لمن يليهم ، ولعل القارئ يشاركني في أن حكامنا أرحم ، فليس بين مستشاريهم كوثر أو شنيف ، أو مهج أو وصيف ، وليس في أقوالهم وصل للغلمان ، أو وصف لبنت الحان ، وليس في علاقتهم بوزرائهم والمشيرين عليهم ما شاب علاقة الخلفاء العباسيين بوزرائهم ومستشاريهم ، ومعذرة لهذا القاموس الكريه ، فإناء الخلافة ينضح على أوراقنا بما فيه ، بل إن شئنا الدقة إناء العصر ، ويكفينا أن نذكر أن الأمين كان متبعاً ولم يكن مبتدعاً .
" فأبو حيان التوحيدي يحدثنا أنه كان في بغداد خمسة وتسعون غلاماً جميلاً يغنون للناس ، وأنه كان صاحب صبي موصلي مغن ، ملأ الدنيا عيارة وخسارة ، وافتضح أصحاب النسك والوقار ، وأصناف الناس من الصغار والكبار ، بوجهه الحسن ، وثغره المبتسم ، وحديثه الساحر ، وطرفه الفاتر ، وقده المديد ، ولفظه الحلو ، ودله الخلوب .. يسرقك منك ، ويردك عليك .. فله حالات ، وهدايته ضلالات ، وهو فتنة الحاضر والبادي " .
كما يحدثنا عن علوان غلام ابن عرس ، فإنه إذا حضر وألقى إزاره ، وحل أزراره ، وقال لأهل المجلس : اقترحوا واستفتحوا فإني ولدكم ، بل عبدكم لأخدمكم بغنائي ، وأتقرب إليكم بولائي ،... لا يبقى أحد من الجماعة إلا وينبض عرقه ، ويهش فؤاده ، ويذكو طبعه ، ويفكه قلبه ، ويتحرك ساكنه ، ويتدغدغ روحه الخ "
وتفننوا في أسماء الغلمان بما يدل على مقصدهم، فسموا بـ " فاتن " و" رائق " و " نسيم " و " وصيف " و " ريحان " و " جميلة " ، ( هكذا بأداة التأنيث ) ، و " بشرى " ( ظهر الإسلام – أحمد أمين الجزء الأول – ص132 نقلاً عن الامتناع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي )
أحسب أن ما سبق يغني عن التعليق ، بل لعله يغري بالتعليق ، ولو لم نوثـقه لعجز الكثيرون عن التصديق فهذا غلام اسمه ( جميلة ) ، وذاك غلام اسمه ( فاتن ) ، وهذا يلقي إزاره ، وذاك يحل أزراره ، وأصحاب النسك والوقار يفتضحون ، وينبض عرقهم ، ويتحرك ساكنهم ، وهو يداعب شذوذهم ، فيناديهم يا أسيادي ، أنا عبدكم وولدكم ، وكلما زاد في مداعبته زاد نبض عروقهم ، وزاد تحرك ساكنهم ، لهذا الذي حاله حالات ، وهدايته ضلالات ، ولا حول ولا قوة إلا بالله القادر على كل شيء ، ولعل من المستحسن هنا أن نذكر أن الأمين وغيره من الخلفاء ، فعلوا ما فعلوا بتشجيع الفقهاء ، الذين أنزلوهم منازل من يستخلفهم الله في أرضه ، ويجعل لهم نوراً يضيء ويبين لهم ( لاحظ أن الذي يبين لهم هو الله جل جلاله ) ما يشتبه عليهم ، ومثل هذا الخليفة الذي ينير الله له طريقه ، ويوحي إليه بالحق ويرشده سواء السبيل ، يصعب على فرد من الرعية أن يذكر شيئاً مما سبق عنه ، أو يصدق شيئاً مما سبق منقولاً عن الرواة ، أو يستمع إلى شيء مما سبق دون أن يستغفر الله ، نافياً أنه جل شأنه يهدي خليفته إلى شيء من هذا أو بعض من ذاك ، فالله أجل وأعز ، والخليفة أعلى وأرفع ، ومن يا ترى يتصدر لرفع الخلفاء إلى موضع ( من لا يسأل عما يفعل ) ( العبارة بين القوسين مقصودة ، ولعل البعض يتذكرها تحت قبة مجلس الشعب المصري منذ سنوات . )
المفزع أن من يتصدر لذلك دائماً أعلى الفقهاء شأناً ، وأكثرهم علماً وأفقههم في الدين ، فقد ذكر ( أبو يوسف ) أشهر تلاميذ أبي حنيفة وأنبغهم وفقيه عصره بلا مراء ، في مقدمة كتابه الشهير ( الخراج ) موجهاً حديثه إلى الرشيد ( أن الله بمنه وعفوه جعل ولاة الأمراء خلفاء في أرضه ، وجعل لهم نوراً يضيء للرعية ما أظلم عليهم من الأمور فيما بينهم ، ويبين ما اشتبه من الحقوق عليهم ) ( مقدمة كتاب الخراج – أبو سيف.)
وهي عبارات تذكرنا بالمثل الشعبي السائر ، ( يا فرعون من فرعنك ) ، وهي عبارات نهديها لمن يردون علينا بأن من سبق من الخلفاء ، إنما خرجوا على الدين ، وبالتالي فلا علاقة بين ما فعلوه وبين الدين أو الحكم بالدين ، فلعلهم يدركون الآن أن من خرج على الدين إنما خرج بفتوى رجال الدين ، وأن وطد الأمر إنما كان الحكم بالدين .
هنا أتوقف مضطراً تحسباً من الملل وتخوفاً من الإطالة ، بل لعلي أطلت بالفعل ولسبب آخر هو أن استطرادي بعد ذلك في حديث الخلفاء في العصر العباسي الثاني سوف يستنكره الكثيرون ، لأنه حديث خلفاء إمعات ، لا يملكون من أمرهم شيئاً ، وقد يفسره البعض بأنه تصيد للأخطاء أو اصطياد في الماء العكر ، وهو ما ليس في طبعنا أو من طبيعتنا ، ويكفي أن ثلاثة منهم ، خلعوا وسلمت أعينهم وعاصروا بعضهم البعض ، ( وهم القاهر والتقي والمستكفي ) .
ووصل الأمر أن شوهد أحدهم ( القاهر ) وهو يشحذ على باب أحد المساجد ، مسمول العينين ، منادياً : ( تصدقوا علي فأنا من عرفتم ) ، وهو نفسه من ( أمر بتحريم القيان والخمر، وقبض على المغنين ، ونفى المخانيث ، وكسر آلات اللهو وأمر ببيع المغنيات من الجواري على أنهن سوادج ، وكان مع ذلك لا يصحو من السكر ، ولا يفتر عن سماع الغناء ) ( تاريخ الخلفاء للسيوطي ص387 ) .
ومن أطرف ما حدث لأحدهم ( الطائع ) أن وزيره بهاء الدولة دخل عليه ، وقبل الأرض بين يديه ، فمد الطائع يده إليه مسلماً فجذبه من على كرسي الخلافة وأعلن خلعه ، ومع أمثال هؤلاء لا يجدي الحديث ، وإنما يجدي البكاء ، ويحمد الله على البلاء .
وأخيراً ، وبعد ما سبق كله ، وعلى الرغم مما سبق كله ومع علم بعضهم به ، ولجهل البعض الآخر بأمره ، يتنادون بالخلافة !!
* * * * * *
ونوجز ما توصلنا إليه من نتائج فيما يلي :
أولاً :
أن الخلافة التي نعتوها بالإسلامية هي في حقيقتها خلافة عربية قرشية ، وأنها لم تحمل من الإسلام إلا الاسم ، وأن دعوى إحيائها من جديد تبدو أكثر تناسقاً مع منهج القومية العربية والدعوة للوحدة بين أقطار العرب ، منها إلى الدعوة لدولة دينية إسلامية ، وبهذا المنطق نقلبها على أساس كونها دعوة سياسية بحتة ، إن استهدفت التوحد فعلى أساس المصلحة ، وإن توجهت للتكامل فعلى أسس حضارية عقلانية ، وإن استلهمت التاريخ فعلى أساس وطيد من ( الجغرافيا ) .
ثانياً :
أن الإسلام دين لا دولة ، وعلى المحتج علينا بالعكس ، أن يرد علينا بحجة التاريخ ، وليس أقوى من التاريخ حجة ، أو أن يعرض علينا منهجه في إقامة الدولة على أساس الإسلام ، وليس أقوى من تهافت ما قدم إلينا حتى الآن من أفكار حجة على المدعين أن الإسلام دين ودولة ، ومصحف وسيف ، ليس هذا فحسب بل أننا نعتقد أن الدولة كانت عبئاً على الإسلام ، وانتفاضاً منه وليست إضافة إليه ، ولسنا في حاجة بعد الصفحات السابقة إلى دليل .
ثالثاً :
إن الفرق بين الإنسان والحيوان ، أن الأول يتعلم من تجاربه ، ويختزنها مكوناً ما نعرفه باسم ( الثقافة ) ويبدو أن المنادين بعودة الخلافة يسيئون بنا الظن كثيراً ، حين يدعوننا إلى أن نجرب من جديد ما جربناه من قبل ، وكأن تجربة ثلاثة عشر قرناً لا تشفع ، أو كأنه يفزعهم أن تسير على قدمين ، فيطالبونا بالسير على أربع .
رابعاً :
إن الثابت لدينا من قراءتنا للتاريخ الإسلامي أننا نعيش مجتمعاً أرقى بكل المقاييس ، وعلى رأسها مقاييس الأخلاق ، وهو مجتمع أكثر تقدماً وإنسانية فيما يختص بالعلاقة بين الحاكم والرعية ، وأننا مدينون في ذلك كله للثقافة الإنسانية التي لا يرفضها جوهر الدين ، ولحقوق الإنسان التي لا تتناقض مع حقوق الإسلام .
خامساً :
إن التاريخ يكرر نفسه وكأنه لا جديد ، غير أننا لا نستوعب دروسه ، ونركز في دراستنا له على أضعف جوانبه ، وهو جانب الفكر الديني ، ونحن في دعوتنا لدراسة التاريخ والاستفادة من دروسه ، لا نكرر خطأ المتطرفين حين يدعوننا إلى منهج النسخ الكربوني وإنما ندعو إلى ترجمة حوادث التاريخ بمصطلحات الحاضر ، وإلى الاستفادة من دروسه بأسلوب العصر، ولكي نؤكد للقارئ أن التاريخ يعيد نفسه، ندعوه إلى قراءة ما ذكره ابن الأثير تحت عنوان ( ذكر فتنة الحنابلة ببغداد ) حيث قال ( الكامل في التاريخ – ابن الأثير – الجزء السادس ص248)
( وفيها – يقصد سنة 323هـ في خلافة الراضي – عظم أمر الحنابلة وقويت شوكتهم وصاروا يكبسون من دور القواد والعامة ، وإن وجدوا نبيذاً أراقوه ، وإن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء ، واعترضوا في البيع والشراء ، ومشى الرجال مع النساء والصبيان ، فإذا رأوا ذلك سألوه عن الذي معه من هو ؟ فإن أخبرهم وإلا ضربوه وحملوه إلى صاحب الشرطة وشهدوا عليه بالفاحشة فأرهجوا بغداد ) .
ولنا أن نسأل القارئ : ماذا لو استبدلنا بغداد بأسيوط ، والحنابلة بالجماعات الإسلامية ، وعام 323هـ بعام 1986 ، ثم قرأناه من جديد ؟ ، غير أن ذلك كله كان في خلافة الراضي ، حين اهتزت هيبة الحكم ، وعجز عن استخدام أدواته ، التي كانت نطعاً وسيفاً في عصره . بينما أدواتنا اليوم هي الدستور والقانون والديمقراطية الكاملة ، وهي أدوات لا يعيبها إلا عدم الاستخدام في أغلب الأحيان .
سادساً :
إن تنامي الجماعات الإسلامية وتيارات التطرف السياسي الديني في مصر ، يعكس تأثير التربية والتعليم والإعلام في مجتمعاتنا ، حيث التفكير دائماً خاضع للتوجيه ، والمنهج دائماً أحادي التوجه والاتجاه ، والوجه الواحد من الحقيقة هو الحقيقة كلها ، وما سبق عرضه في هذا الكتاب لا يزيد عن محاولة لعرض الحقيقة المتكاملة ، الأمر الذي يدعو إلى التفكير ، وهو أمر جد مختلف عما يدفع إليه المنهج السائد إعلامياً ، والذي لا يعرض من الحقيقة إلا الجانب المضيء ، ولا يعلن من الآراء إلا رأياً واحداً ، ولا يدفع المواطنين إلا إلى اتجاه واحد ، وهو من خلال ذلك كله يهيء الوجدان لقبول التطرف ، ويغلق الأذهان أمام منطق الحوار.
سابعاً :
إن الإسلام على مفترق طرق ، وطريق منها أن نخوض جميعاً في حمامات الدم ، نتيجة للجهل وضيق الأفق وقبل ذلك كله نتيجة لانعدام الاجتهاد المستنير، وطريق آخر أن يلتقي العصر والإسلام ، وذلك هين يسير ، وسبيله الوحيد هو الاجتهاد المستنير ، والقياس الشجاع ، والأفق المتنور ، ولست أشك في أن البديل الثاني هو الوحيد ، وهو الذي سيسود رحمة من الله بعباده ، وحفظاً منه لعقيدته ، غير أن أخشى ما أخشاه أن يطول الانتظار ، وأن يحجم الأخيار ، وأن يجبن القادرون ، وأن ينجح المزايدون في دفع العجلة إلى الوراء ، ولو إلى حين ، لأن المجتمع كله سوف يدفع ثمن ذلك ، وسوف يكون الثمن غالياً .
ثامناً :
إن ما عرضناه من تفاصيل وما ناقشناه من وقائع لم يكن هو القصد ، بل كان قصدنا أن نعرض منهجاً للتفكير ، يسمح باستخدام العقل في التحليل ، والنطق في استخلاص النتائج ، والشجاعة في عرض الحقيقة دون زيادة أو نقصان ، ولا نحسب أننا في هذا مبتدعون بل نحن متبعون لما أملاه علينا إخلاصنا للعقيدة وولاؤنا للوطن ، وانتماؤنا للمستقبل .
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية من قوات الاحتلال


.. لايوجد دين بلا أساطير




.. تفاصيل أكثر حول أعمال العنف التي اتسمت بالطائفية في قرية الف


.. سوناك يطالب بحماية الطلاب اليهود من الاحتجاجات المؤيدة للفلس




.. مستوطنون يقتحمون بلدة كفل حارس شمال سلفيت بالضفة الغربية