الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من أجل ثقافة جماهيرية بديلة 70

عبدالرحيم قروي

2023 / 10 / 16
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


مؤلف جناية البخاري إمام المحدثين
لزكريا أوزون
الحلقة الثالثة

الفصل الثانى
البخارى والقرآن الكريم
لن يتم التعرض فى هذا الفصل إلى تفسير القرآن الكريم بواسطة بعض الأحاديث الواردة فى صحيح البخارى لأن تفسير وشرح ما يزيد على ستة آلاف آية لا يمكن أن يتم بما يقارب من (2762) حديثًا وهو مجموع ما ورد فى صحيح البخارى بعد استثناء المكرر منها(1).
وعليه فإنه سيتم فى هذا الفصل بحث بعض الأحاديث المتضمنة لما يلى:
أولا: أسباب النزول.
ثانيا: النسخ فى آيات الكتاب.
ثالثا: الأحاديث القدسية.
أولا: أسباب النزول (نزول آيات الكتاب):
قبل البحث فى هذا البند لابد من التصويب والتصحيح لمصطلح أسباب النزول ذاته المستخدم فى معظم كتب التفسير والفقه، لما فى ذلك من تطاول على معرفة الله-عز وجل-الذى لا يحتاج وهو العالم العليم لأى سبب مادى فى إنزال كتابه الكريم، ولعل مصطلح مناسبات النزول الذى ينسبه البعض إلى الإمام على هو الأنسب والأجدر بالاستخدام.
وهنا لابد من الإشارة إلى أن معظم الأحاديث الواردة فى أسباب النزول ماهى إلا أقوال الصحابة وآراؤهم وفهمهم ولم تنسب بالقول إلى الرسول الكريم(ص).
1ـ الموضوع الاول: أول آيات التنزيل الحكيم:
توطئة: القرآن الكريم هو الكتاب المنزل الذى يقدسه المسلمون ويعتبرونه المرجع الرئيسى الأول على اختلاف الزمان والمكان، فإذا كان نزول أول آياته على الرسول الكريم-وهو دون أى شك أمر جلل وخطب عظيم-موضع خلاف عند البخارى، أفلا يكون فى ذلك غياب لدقة المتابعة ومصداقية البحث والتحرى والتمحيص.

متن الحديث (1):
‏عَنْ‏ ‏عَائِشَةَ، أم الْمُؤْمِنِينَ، ‏أَنَّهَا قَالَتْ: ‏أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ‏‏(ص) ‏‏مِنْ الْوَحْى الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِى النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلا جَاءَتْ مِثْلَ ‏فَلَقِ ‏الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاءُ، وَكَانَ يَخْلُو ‏بِغَارِ حِرَاءٍ ‏فَيَتَحَنَّثُ ‏فِيهِ، ‏‏وَهُوَ التَّعَبُّدُ، ‏اللَّيَالِى ذَوَاتِ الْعَدَدِ ‏قَبْلَ أن ‏يَنْزِعَ ‏إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلى ‏‏خَدِيجَةَ ‏فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِى ‏غَارِ حِرَاءٍ؛ ‏‏فَجَاءَهُ ‏‏الْمَلَكُ ‏فَقَالَ ‏اقْرَأْ، قَالَ: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ"، قَالَ: "فَأَخَذَنِى‏ ‏فَغَطَّنِى ‏‏حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ ثُمَّ ‏‏أَرْسَلَنِى ‏‏فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِى ‏فَغَطَّنِى ‏الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ ثُمَّ ‏أَرْسَلَنِى ‏‏فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِى ‏فَغَطَّنِى ‏الثَّالِثَةَ ثُمَّ ‏‏أَرْسَلَنِى ‏‏فَقَالَ: {‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ‏ ‏عَلَقٍ‏ ‏اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ}. ‏فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ‏(ص) ‏يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى ‏خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ ‏‏رَضِى اللَّهُ عَنْهَا ‏فَقَالَ: ‏"زَمِّلُونِى ‏زَمِّلُونِى" ‏فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ ‏‏الرَّوْعُ، ‏‏فَقَالَ ‏‏لِخَدِيجَةَ، ‏‏وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ "لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِى" فَقَالَتْ ‏خَدِيجَةُ ‏كَلا وَاللَّهِ، ‏مَا يُخْزِيكَ ‏‏اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ ‏‏الْكَلَّ، ‏وَتَكْسِبُ ‏‏الْمَعْدُومَ، ‏‏وَتَقْرِى ‏الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى ‏نَوَائِبِ ‏‏الْحَقِّ.
فَانْطَلَقَتْ بِهِ ‏خَدِيجَةُ ‏حَتَّى أَتَتْ بِهِ ‏‏وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ‏‏ابْنَ عَمِّ ‏‏خَدِيجَة،َ ‏وَكَانَ امْرَأً قَدْ ‏تَنَصَّرَ ‏فِى الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِى فَيَكْتُبُ مِنْ الإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أن يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِى. فَقَالَتْ لَهُ ‏‏خَدِيجَةُ: ‏يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ.
فَقَالَ لَهُ ‏‏وَرَقَة:ُ ‏يَا ابْنَ أَخِى مَاذَا؟ تَرَى فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ‏‏(ص) ‏‏خَبَرَ مَا رَأَى. فَقَالَ لَهُ ‏‏وَرَقَةُ: ‏‏هَذَا ‏‏النَّامُوسُ ‏‏الَّذِى نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى ‏‏مُوسَى، ‏يَا لَيْتَنِى فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِى أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏(ص): ‏‏أَوَمُخْرِجِى هُمْ؟ قَالَ نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلا عُودِى، وَإِنْ يُدْرِكْنِى يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا ‏‏مُؤَزَّرًا. (اخرجه البخارى فى: 1ـ كتاب بدء الوحى: 3ـ باب حدثنا يحيى بن بكير)
الشرح والمناقشة (1):
الحديث الوارد مألوف ومعروف عند كثير من الناس لكثرة تكراره فى الكتب والمساجد وعلى شاشات التلفزة والمحطات الإذاعية والفضائية، وعليه فاننى هنا سأشير سريعًا إلى شرح بعض المفردات الواردة فيه: حيث يقال (فلق الصبح) فى الشئ الواضح البين، أما (غار حراء) فهو نقب فى جبل بينه وبين مكة نحو ثلاثة أميال على يسار الذاهب إلى منى، أما فعل (يتحنث) فيعنى تجنب الذنب والإثم، والفعل (ينزع) يستخدم لمن يحن ويشتاق ويرجع لأهله، بينما يعنى الفعل (غطنى) الضم مع العصر، أما قوله (ص) (زمِّلونى) فهو من التزميل وهو ما يوازى التلفيف فى المعنى بينما تفيد (تحمل الكل) بعدم الاستقلال بالأمر، أخيرًا فان (الناموس) هو صاحب السر حسب تعريفهم.
وعلى الرغم من التساؤل المشروع حول إمكان السيدة عائشة فى نقل عين الحوار الدائر بين الرسول الكريم وزوجته السيدة خديجة-وكأنها كانت موجودة معهما-والذى جرى قبل ولادتها بأكثر من سنة من الزمن، فإنه يمكن أن نوجز معنى الحديث: بأن الرسول الكريم (ص) بعد تعبده وخلوته فى غار حراء قرب مكة جاءه الملك بأول كلمات التنزيل الحكيم وهى كلمة (اقرأ) معلنًا بذلك بداية نزول أول آيات القرآن الكريم، وقد فزع الرسول (ص) من ذلك وذهب إلى زوجته خديجة التى طمأنته وهدأته وتبينت أمره من ابن عمها النصرانى ورقة بن نوفل الذى رأى فى ذلك بداية للرسالة السماوية وأن الرسول سيلقى من أهله-قريش-العداء والإبعاد عن الديار.
بعد ذلك العرض ننتقل إلى الحديث المخالف التالى:
متن الحديث (2):
حديث ‏جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأنصاري. عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِى كَثِيرٍ، ‏‏سَأَلْتُ ‏‏أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ‏عَنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ-‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر-‏قُلْتُ يَقُولُونَ-‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ-‏فَقَالَ ‏أَبُو سَلَمَةَ ‏‏سَأَلْتُ ‏‏جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ‏‏رَضِى اللَّهُ عَنْهُمَا ‏عَنْ ذَلِكَ، وَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ الَّذِى قُلْتَ، ‏‏فَقَالَ ‏جَابِرٌ ‏‏لا أُحَدِّثُكَ إِلا مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ ‏(ص)، ‏قَالَ: ‏"جَاوَرْتُ ‏‏بِحِرَاءٍ ‏فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِى هَبَطْتُ فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِى فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ عَنْ شِمَالِى فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ أَمَامِى فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ خَلْفِى فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِى فَرَأَيْتُ شَيْئًا، فَأَتَيْتُ ‏‏خَدِيجَةَ ‏فَقُلْتُ ‏دَثِّرُونِى ‏‏وَصُبُّوا عَلَى مَاءً بَارِدًا، قَالَ فَدَثَّرُونِى وَصَبُّوا عَلَى مَاءً بَارِدًا، قَالَ فَنَزَلَتْ-‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. ‏(أخرجه البخارى فى: 65ـ كتاب التفسير: 74ـ سورة المدثر: باب حدثنا يحيى).
الشرح والمناقشة (2):
يتضح من ذلك الحديث أن أول ما نزل القرآن الكريم هو-يا أيها المدثر-وهذا ما يعارض حديث السيدة عائشة السابق إضافة لاختلاف التفاصيل بينهما حيث لم يقم هنا الملك-جبريل-بضم الرسول وعصره أو مقابلته أصلا، وانما سمع الرسول (ص) صوتًا لم يستطع تحديد مصدره معلنًا بذلك بداية الرسالة السماوية.
النتيجة:
توجد روايتان حول نزول أول آيات الذكر الحكيم، وإذا كان السادة العلماء الأفاضل قد اعتمدوا رواية (اقرأ) فى أحاديثهم ودعواتهم أو فى تسمية بعض قنواتهم الفضائية فعليهم أن يزيلوا الرواية الأخرى من صحيح البخارى ليصبح لاعتمادهم مصداقية وموضوعية علمية، علما أن هناك من يرى فى كلمة (اقرأ) معنى الإبلاغ (بلغ)، كقولهم "يقرئك السلام" وهى لا تعنى مفهوم القراءة السائد من كتاب أو صحيفة أو ما شابه ذلك. وعليه فتصبح البداية-يا أيها المدثر-تفيد العمل والجد والمثابرة قبل البدء بالسلام أو القراءة حسب المفهوم السائد!
2-الموضوع الثانى: آخر آيات التنزيل الحكيم:
توطئة: كما سبق ورأينا خلافًا فى نزول أول آيات الذكر الحكيم فإننا سنجد خلافًا فى نزول آخر آياته أيضا. وإذا كان الأمر كذلك فى أهم أحداث النزول وهى بدايتها (بداية الرسالة" ونهايتها (نهاية الرسالة) فما هو حال الآيات الأخرى الباقية فيما بينها؟
متن الحديث (1):
حديث عمر بن الخطاب، أن رجلا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين! آية فى كتابكم تقرؤونها، لو علينا، معشر اليهود، نزلت!! لاتخذنا ذلك اليوم عيدا.
قال: أى آية؟ قال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا}-قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذى نزلت فيه على النبى (ص) وهو قائم بعرفة، يوم جمعة. (أخرجه البخارى فى: 2-كتاب الإيمان: 33-باب زيادة الايمان ونقصانه).
الشرح والمناقشة (1):
يقال أن الرجل المعنى من اليهود فى الحديث هو كعب الأحبار قبل أن يسلم. ويتضح من ذلك الحديث عدم وجود أى قول أو رأى أو تعليق صادر عن الرسول الكريم (ص)، وأن المتحدث هو الصحابى الجليل عمر بن الخطاب، وأن صاحب الرأى حول تلك الآية-التى لا يفتأ السادة العلماء تكرارها-هو كعب الأحبار، حسب كتب الأثر والتفسير السائدة.
وعليه فإذا كانت تلك الآية تكفى معشر اليهود حسب نص الحديث فإن ذلك شأنهم أو شأن حبرهم ولا علاقة لذلك بالمسلمين من قريب أو بعيد.
ومنطق الأمور أن تكون هذه الآية نهاية التنزيل الحكيم لأنها تدل على اكتمال الدين وإتمام نعمة الله-عز وجل-ورضاه ولا يعقل أن ينزل بعدها أية أحكام أو تعليمات أو تشريعات جديدة لتكون ناسخة لها.
بعد ذلك العرض ننتقل إلى الحديث التالى:
متن الحديث (2):
حديث ابن عباس، عن سعيد بن جبير، قال: آية اختلف فيها أهل الكوفة فرحلت فيها إلى بن عباس فسألته عنها. فقال: نزلت هذه الآية {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم}-هى آخر ما نزل وما نسخها شئ. (أخرجه البخارى فى: 65-كتاب التفسير: 4-سورة النساء: 16 باب من يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم).
الشرح والمناقشة (2):
يتضح من ذلك الحديث، كما سبق وذكرنا فى مقدمة الفصل-أن القول والرأى هو للصحابى الطفل أيام حياة الرسول الكريم-ابن عباس الذى يجزم أن آخر التنزيل كان الآية الكريمة رقم (93) الواردة فى سورة النساء، وتكون بذلك ناسخة لكل ما قبلها من أحكام-حسب تعبير مصطلح الفقهاء-ومنها آية اكتمال الدين المشار إليها فى الحديث السابق مباشرة لأنه لا اكتمال مع الزيادة والإضافة الجديدة.
ومع ذلك فإن الإمام البخارى يورد لنا قولا مخالفًا آخر نطلب من الأخ القارئ متابعته معنا فى الحديث التالى:

متن الحديث (3):
حديث البراء: قال: آخر سورة نزلت براءة وآخر آية نزلت-يستفتونك. (أخرجه البخارى فى: 65-كتاب التفسير: 4-سورة النساء: 27 {باب يستفتونكم قل الله يفتيكم فى الكلالة}).
وكما نرى فان هذا الحديث يعارض كلا الحديثين السابقين. فسورة براءة (وهى التوبة) لا علاقة لها بسورة النساء، وآية الكلالة فيها هى آخر التنزيل الحكيم وليس آية-اليوم أكملت-من سورة المائدة أو آية-من يقتل نفسا-حسب جزم بن عباس.
النتيجة:
هناك اختلاف فى تحديد آخر آيات التنزيل الحكيم بين الصحابة الذين يخطئون ويصيبون كغيرهم من الناس، وكان على الإمام البخارى تحرى الأصح والأدق من الحديث واعتماده خصوصًا أنه كان أقرب فى زمانه وعهده إلى الصحابة والسلف الصالح منا اليوم.
واذا كان البعض لا يرى حرجًا فى ذلك الاختلاف ويعتبر ترتيب آيات القرأن الكريم جهدًا إنسانيًا فإن قراءة تلك الآيات يمكن أن تتم بلا تسلسل أو ترتيب فيما بينها فالانسان يسعى دوما للسهولة واليسر ويمكنه أن يتجاوز الجهود الانسانية السابقة دونما خوف أو حرج.
أمـا إذا كان الـترتــيب والتسلـسل لآيـات الكــتاب الكريم وحـيًا مـقدسًا فـان عليـنا إعـادة النظر فى كل ما جاء من أحاديث أسباب النزول من الناحية الشرعية، وإعطاءها صبغة تاريخية بحتة بعد حذف المتناقض منها واعتماد أصحها، إن أمكن.
3-الموضوع الثالث: الاستدراك فى التنزيل الحكيم:
توطئة: لا شك فى أن التنزيل الحكيم قد أعطى إجابات وأحكاما وتشريعات مباشرة لاحداث جرت بين الصحابة فى زمنهم وأصبح بعضها-بعد ذلك-حكما صالحًا لكل زمان ومكان، إلا إنه لا يمكن أن يقبل من الإنسان التدخل وإعطاء السبب للخالق-عز وجل-لتعديل أو إضافة أو تغيير محكم آياته المقدسة لتوافق رغبة الصحابى وحاجته.
متن الحديث (1)
عَنْ ‏سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ‏‏قَالَ: ‏أُنْزِلَتْ-{‏وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ‏‏ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ‏ ‏مِنْ‏‏ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ}-‏وَلَمْ يَنْزِلْ-‏مِنْ الْفَجْرِ-‏فَكَانَ رِجَالٌ إذا أَرَادُوا الصَّوْمَ، رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِى رِجْلِهِ الْخَيْطَ الأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الأَسْوَدَ، وَلَمْ يَزَلْ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدُ-‏مِنْ الْفَجْرِ-‏فَعَلِمُوا أَنَّهُ إِنَّمَا ‏‏يَعْنِى اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ.‏ (أخرجه البخارى فى: 30ـ كتاب الصوم: 16 باب قوله تعالى-{وكلوا واشربوا حتى يتبين}).
الشرح والمناقشة (1):
يبين الحديث تـماما أن الله-عز وجل-لم يـكن دقـيقًا فى اختـيار الكلمات وانه استدرك ذلك حيث أنزل كلمتى-من الفجر-وقد فاته إمكانية استيعاب بعض الصحابة لكلامة المنزل، وعلية فأنا أرى فى ذلك الحديث تطاولا-ربما بدون قصد-على علم الله الأزلى والشمولى والأبدى. ولننتقل بعد ذلك إلى حديث مشابه آخر.
متن الحديث (2):
حديث الْبَرَاءَ ‏‏رَضِى اللَّهُ عَنْهُ قال: ‏‏لَمَّا نَزَلَتْ-{‏لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ}‏- دَعَا رَسُولُ اللَّهِ (ص)‏ ‏زَيْدًا ‏‏فَجَاءَ بِكَتِفٍ فَكَتَبَهَا، وَشَكَا ‏‏ابْنُ أم مَكْتُومٍ‏‏ ضَرَارَتَهُ، فَنَزَلَتْ-{‏لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِى ‏‏ الضَّرَرِ}. (أخرجه البخارى فى: 56-كتاب الجهاد والسير: 31-باب قول الله تعالى: {لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر}).
الشرح والمناقشة (2):
يظهر فى ذلك الحديث أيضًا تداركه-جل وعلا-لحالة ابن أم مكتوم الضرير واستدراكه لذلك بإضافة "غير أولى الضرر" إلى الآية الكريمة لتصبح أكثر شمولية وإرضاء للصحابة-حاشى لله! وسأختم هنا هذا الفصل بحديث للبراء نصه ما يلى:
متن الحديث (3):
حديث الْبَرَاءَ:ُ قال: ‏نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِينَا. كَانَتْ ‏‏الأَنْصَارُ ‏‏إِذَا حَجُّوا فَجَاءُوا، لَمْ يَدْخُلُوا مِنْ قِبَلِ أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ، وَلَكِنْ مِنْ ظُهُورِهَا، فَجَاءَ ‏رَجُلٌ ‏مِنْ‏‏ الأَنْصَارِ ‏‏فَدَخَلَ مِنْ قِبَلِ بَابِهِ، فَكَأَنَّهُ عُيِّرَ بِذَلِكَ فَنَزَلَتْ-{‏وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}. (أخرجه البخارى فى: 26-كتاب العمرة: 18-باب قوله تعالى-"واتوا البيوت من ابوابها").
الشرح والمناقشة (3):
يتضح من ذلك الحديث أن الآية الكريمة نزلت حصرًا فى معشر الأنصار فى المدينة المنورة لتمنعهم من عادة جاهلية وهى دخول البيوت من خلفها فى أيام الحج والعمرة.
واذا كان هناك من يدخل البيوت من خلفها زمن الإمام البخارى فاننا لا نرى فى يومنا هذا أى إسقاط لتلك الآية على واقعنا خصوصًا أن معظمنا يقيم فى شقق سكنية ليس لها إلا باب رئيسى واحد.
النتيجة:
هناك الكثير من الأحاديث-التى أشرنا لبعضها فقط-تظهر فى صحيح البخارى تعديلا للتنزيل الحكيم ليصبح ملائما لمتطلبات وملاحظات الصحابة وهو ما لا يقبل عندما يعتبر القرآن الكريم وحيًا مقدسًا من الله-عز وجل-لرسوله الكريم محمد (ص).
لذلك تتضح لنا ضرورة الابتعاد عن أسباب النزول هذه لأنها تجعل من التنزيل الحكيم نصًا تاريخيًا ماضيًا، وإذا كنا نؤمن بصلاحية القرآن الكريم لكل زمان ومكان فإنه يتوجب علينا محاولة إعادة فهمه بعيدًا عن أسباب البخارى اعتمادًا على أرضيتنا المعرفية الفكرية والعلمية المعاصرة.
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية من قوات الاحتلال


.. لايوجد دين بلا أساطير




.. تفاصيل أكثر حول أعمال العنف التي اتسمت بالطائفية في قرية الف


.. سوناك يطالب بحماية الطلاب اليهود من الاحتجاجات المؤيدة للفلس




.. مستوطنون يقتحمون بلدة كفل حارس شمال سلفيت بالضفة الغربية