الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من أجل ثقافة جماهيرية بديلة 78

عبدالرحيم قروي

2023 / 10 / 25
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


مؤلف جناية البخاري إمام المحدثين
لزكريا أوزون
الحلقة التاسعة

الفصل الخامس
البخارى والحكم والصحابة
توطئة: ما جاء فى صحيح البخارى يؤكد أن الرسول أوصى بأمور الحكم لقريش وجعل الناس تابعين لها، وحسب السنة النبوية فإن قيام وانتشار الأمة الإسلامية اليوم يتطلب رجلاً قرشيًا يتولى أمر (الحكم) فيها.
أما الصحابة فإنهم لم يكونوا ملائكة-كما صورهم البعض اليوم-وهم كغيرهم من الناس يتحابون ويتباغضون، يتفقون ويختلفون، ويتقاربون ويتباعدون.
وسيتم بحث الموضوعين الرئيسيين التاليين فى هذا الفصل:
أولاً: الحكم فى الإسلام وطاعة الحاكم وحرمة المدينة.
ثانياً: أحوال بعض الصحابة.
أولاً: الحكم فى الإسلام وطاعة الحاكم وحرمة المدينة:
ورد فى صحيح البخارى أحاديث تؤكد على حق قريش فى الحكم وعلى وجوب طاعة الحاكم كما يلي:
متن الحديث (1):
حديث أبى هريرة، أن النبى (ص)، قال: " الناس تَـبعٌ لقريش فى هذا الشأن؛ مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم " (أخرجه البخارى في: 61-كتاب المناقب: 1-باب قوله تعالى-{ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى }).
الشرح والمناقشة (1):
الحديث يظهر تماما أن قريشًا صاحبة الحق فى الإمرة والخلافة (هذا الشأن) فى الإسلام تمامًا كما كانت قبل ذلك فى الجاهلية (كافرهم تبع لكافرهم) حيث كانت مكة مركز عبادة الأصنام. وعليه فإن أبا هريرة يثبت ما كان لقريش من مكانة قبل الإسلام لتصبح مكانة عالمية وأبدية.

متن الحديث (2):
حديث عبدالله بن عمر؛ عن النبى (ص)، قال: " لا يزال هذا الأمر فى قريش ما بقى منهم اثنان ". (أخرجه البخارى في: 61-كتاب المناقب: 2-باب مناقب قريش).
الشرح والمناقشة (2):
سأورد هنا ما ورد فى الأثر عن شرح ذلك الحديث، تاركًا للقارئ التوصل إلى الاستنتاج الملائم مع ضرورة الانتباه إلى أن الحركات الإسلامية الأصولية الملتزمة بسنة رسول الله المبيّنة فى صحيح البخارى عليها أن تأتمر بخليفة عربى قرشى لتضمن تطبيق أوامر الرسول فى أهم أمور دنياها وآخرتها!!
لا يزال هذا الأمر: أى الخلافة فى قريش: يستحقونها ما بقى منهم اثنان: قال النووى فيه دليل ظاهر على أن الخلافة مختصة بقريش، لا يجوز عقدها لغيرهم، وعلى هذا العقد الإجماع فى زمان الصحابة ومن بعدهم، ومن خالف فيه من أهل البدع فهو محجوج بإجماع الصحابة؛ وقد بيّن (ص) أن الحكم مستمر إلى آخر الزمان ما بقى فى الناس اثنان، وقد ظهر ما قاله، صلوات الله وسلامه عليه، من زمنه وإلى الآن، وإن كان المتغيبون من غير قريش ملكوا البلاد وقهروا العباد، لكنهم معترفون بأن الخلافة فى قريش، فاسم البلاد باق فيهم، فالمراد من الحديث مجرد التسمية بالخلافة لا الاستقلال بالحكم (ا. هـ.)
أخيرًا يبدو أن أحد العبادلة الأربعة-عبدالله بن عمرو بن العاص قد خالف الحديث السابق، مما دعا الخليفة معاوية إلى الغضب والتأكيد على ما جاء فى الأحاديث السابقة حسب ما يلي: عن معاوية، وقد بلغه أن عبدالله بن عمرو بن العاص يحدث: " أنه سيكون ملك من قحطان، فغضب معاوية فقام فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد،فإنه بلغنى أن رجالا منكم يتحدثون أحاديث ليست فى كتاب الله تعالى، ولا تؤثر عن رسول الله (ص) فأولئك جهالكم، فإياكم والأمانى التى تضل أهلها، فإنى سمعت رسول الله (ص) يقول: "أن هذا الأمر فى قريش، لا يعاديهم أحد إلا كبّه الله على وجهه، ما أقاموا الدين ". (أخرجه البخارى-كتاب المناقب. لم يرد فى مسلم-)
متن الحديث (3):
حديث أبى هُرَيْرَةَ، ‏أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ‏‏(ص) ‏‏قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِى فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِى فَقَدْ أَطَاعَنِى، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِى فَقَدْ عَصَانِي (أخرجه البخارى في: 93-كتاب الأحكام: 1-باب قول الله تعالى-{أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم}).
الشرح والمناقشة (3):
الحديث يبيّن بوضوح تام أن طاعة الأمير تؤدى إلى طاعة الرسول التى تؤدى بدورها إلى طاعة الله، وكذلك فإن معصية الأمير تؤدى إلى معصية الرسول التى تؤدى بدورها إلى معصية الله. إذاً، فمن أراد أن يطيع الله عليه طاعة أميره ومن يعصى أميره فإنه يعصى الله. وبالتالى فإن قدَر الحاكم هو قدَر الله ولا مجال لرده؛ هذا ما يؤكده الحديث اللاحق:
متن الحديث (4):
عَنْ ‏عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ النَّبِى ‏‏(ص)، ‏‏قَالَ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلا سَمْعَ وَلا طَاعَةَ. (أخرجه البخارى في: 93-كتاب الأحكام: 4-باب السمع والطاعة للإمام مالم تكن معصية).
والاستثناء من الطاعة والسمع يقع عندما يؤمر بمعصية، وهى كما يوضحها حديث عبادة بن الصامت فى موضع آخر من صحيح البخارى (أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فى برهان) (1).
والكفر البواح هو الكفر الظاهر الذى يُجهر ويصرح به، أما البرهان فهو النص من القرآن أو الخبر الذى لا يحتمل التأويل. ويضيف الإمام النووى تفصيلاً للشرح السابق فيقول: ومعنى الحديث لا تنازعوا ولاة الأمور فى ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرًا محققًا تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم؛ وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين(ا. هـ.)
وكما ترى فإن شرح الإمام النووى ينسجم تمامًا مع فهمه للحديثين التاليين اللذين ننهى بهما موضوع طاعة الحاكم دون تعليق آخر:
متن الحديث (5):
عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، ‏عَنْ النَّبِى (ص)، قَالَ: ‏سَتَكُونُ ‏أَثَرَةٌ ‏‏وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِى عَلَيْكُمْ، وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِى لَكُمْ. (أخرجه البخارى في: 61-كتاب المناقب: 25-باب علامات النبوة فى الإسلام).
مع الإشارة إلى أن الأثرة-حسب الأزهرى-هو الاستئثار؛ أى يستأثر عليكم بأمور الدنيا ويُفضل عليكم غيركم!
متن الحديث (6):
حديث ابْنَ عَبَّاسٍ، ‏عَنْ النَّبِى ‏(ص) ‏قَالَ: ‏مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ خرج من السلطان شِبْرًا، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً. (أخرجه البخارى في: 92-كتاب الفتن: 2-باب قول النبى (ص) سترون بعدى أمورًا تنكرونها).
بعد البحث فى الإمارة وطاعة الحاكم نأتى إلى استعراض بعض الأحاديث الواردة فى صحيح البخارى والمتعلقة بحرمة المدينة المنورة (يثرب) ومكانتها عند الرسول الكريم؛ كما تبين الأحاديث اللاحقة:
متن الحديث (7):
عَنْ ‏‏عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، ‏عَنْ النَّبِى ‏(ص): ‏‏أَنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ ‏‏مَكَّةَ وَدَعَا لَهَا وَحَرَّمْتُ ‏الْمَدِينَةَ ‏كَمَا حَرَّمَ ‏‏إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ وَدَعَوْتُ لَهَا، فِى وُدِّهَا وَصَاعِهَا مِثْلَ مَا دَعَا إِبْرَاهِيمُ ‏‏عَلَيْهِ السَّلام لِمَكَّةَ. (أخرجه البخارى فى: 34-كتاب البيوع: 53-باب بركة صاع النبى (ص)).
متن الحديث (8):
حَدَّثَنَا ‏‏عَاصِمٌ ‏‏قَالَ: قُلْتُ ‏‏لأنَسٍ أَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ‏‏(ص) ‏‏الْمَدِينَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ! مَا بَيْنَ كَذَا إلى كَذَا، لا يُقْطَعُ شَجَرُهَا، مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. قَالَ ‏عَاصِمٌ: ‏فَأَخْبَرَنِى ‏‏مُوسَى بْنُ أَنَسٍ ‏أَنَّهُ قَالَ: أو آوَى مُحْدِثًا. (أخرجه البخارى فى: 34-كتاب الاعتصام: 6-باب اثم من آوى محدثا).
متن الحديث (9):
عَنْ ‏أَبِى هُرَيْرَةَ، ‏أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: ‏لَوْ رَأَيْتُ الظِّبَاءَ ‏‏بِالْمَدِينَةِ تَرْتَعُ مَا ‏‏ذَعَرْتُهَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏(ص): ‏مَا بَيْنَ ‏‏لابَتَيْهَا‏‏ حَرَامٌ. ‏(أخرجه البخارى فى: 29-كتاب فضائل المدينة: 4-باب لابتى المدينة).
الشرح والمناقشة (7)-(8)-(9):
تبين الأحاديث الثلاثة السابقة بوضوح أن الرسول الكريم قد حرم المدينة تماما كما حرم من قبل قبله إبراهيم عليه السلام مكة المكرمة. ويبدو أن تلك الأحاديث قد وصلت الإمام البخارى ولم تصل إلى من سبقه من خاصة الأمة وعلى رأسهم الخلفاء ولاة أمور المسلمين فى الأرض؛ حيث تم رمى الكعبة مرتين بالمنجنيق وتم تحريقها وصُلب ابن الزبير حفيد أبى بكر وابن أخت السيدة عائشة زوج النبى (2).
أما فى المدينة المنورة فقد هاجم جيش يزيد بن معاوية أهلها فى موقعة (الحرة) واستباح قائد جيش أمير المؤمنين آنذاك مسلم بن عقبة المدينة ثلاثة أيام قيل إنه قتل فيها أربعة آلاف وخمسمائة وإنه قد فـُضّت فيها بكارة ألف بـِكر(3)!! ولم يكن عندئذٍ لقول الرسول فى أهل المدينة:" الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحب الله، ومن أبغضهم أبغضه الله "-(63-كتاب مناقب الأنصار)-أى وجود عند الخليفة وقائده!
النتيجة:
جاء فى صحيح البخارى كثير من الأحاديث التى تحصر أمور المسلمين بقبيلة قريش التى لا نعلم كيف نجد أفرادها فى أيامنا المعاصرة لنختار منهم من يحكم البلاد الإسلامية العربية وغير العربية التى يطالب بعضها بالعودة إلى نظام الخلافة الإسلامية!
وإذا كان الإمام البخارى قريب عهد، بل عاش فى ظل أحفاد قبيلة قريش من الخلفاء، ولم يستبعد تلك الأحاديث أو إنه غض الطرف عنها وأثبتها كأمر من الله ورسوله؛ فإن رائحة القبيلة والعصبية والطائفية والبداوة تخرج من تلك الأحاديث التى لا يمكن أن تأتى من رسول المحبة والرحمة للعالمين جميعًا وقد ذهب الإمام البخارى فى صحيحه إلى أبعد من ذلك فمنع-على لسان الرسول-الناس من الخوض أو محاولة طلب الإمارة أو الحكم(4)؛ وهو مالا يقبله عاقل فى أيامنا المعاصرة التى يفترض فينا أن نمنع مرشحى الرئاسة والانتخابات اليوم من منازعة الأمر أهله لأن الحكم فى قريش. أما ما يتعلق بربط طاعة الأمير (الحاكم) وظلمه بالله-عزّ و جلّ-فهو أمر بعود ببساطة إلى الذين حاولوا فرض الشرعية الإلهية على حكمهم بغية محاسبة المعترض والخارج عنهم وكأنه كافر خارج عن شرع الله ومنهجه.
أخيرًا فإن ولاة أمر المسلمين وخلفاء الله فى الأرض الذين أوصى رسول الله بانتقال الأمر إليهم-حسب البخارى-هم أول من انتهك حرمة مكة والمدينة من دون أية مبالاة بما ورد عن الرسول ومن دون أن يمسهم العذاب الذى توعدهم به فى الدنيا الإمام البخارى فى صحيحه حسب ما جاء من حديث سعد بن أبى وقاص، قال: سمعت النبى (ص) يقول: " لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انماع كما ينماع الملح فى الماء " (5).
ثانياً: أحوال بعض الصحابة:
توطئة: كانت غالبية صحابة النبى (ص) من المهاجرين، الذين هاجروا من مكة إلى المدينة ومعظمهم من قريش والأنصار الذين ينسبون إلى قبيلتى الأوس والخزرج فى المدينة المنورة.
ولقد بالغ التابعون والأئمة والعلماء الأفاضل بمكانة وصفات الصحابة فجعلوهم كالملائكة-أن لم يكن أفضل منهم.
وفى حقيقة الأمر فإن الصحابة كغيرهم من الناس؛ فمنهم المذنب ومنهم التائب ومنهم الصالح ومنهم الطالح ومنهم البخيل ومنهم الكريم ومنهم الحكيم ومنهم الساذج ومنهم الشجاع ومنهم الجبان... وإلى غير ذلك من صفات الناس اليوم. وسأستعرض هنا بعض الأحاديث حول الصحابة محاولاً مناقشتها والنظر إليها بشكل مخالف للمألوف.
متن الحديث (1):
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ‏‏، ‏أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ‏ ‏(ص)‏ ‏عَلَى الإسلام، فَأَصَابَهُ‏ ‏وَعْكٌ‏ ‏فَقَالَ‏: ‏يا رسول الله! أَقِلْنِى‏‏ بَيْعَتِى. فَأَبَى؛ ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ‏: ‏أَقِلْنِى‏‏ بَيْعَتِى، فَأَبَى؛ فَخَرَجَ الأَعْرَابِى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ‏ ‏(ص)‏: ‏الْمَدِينَةُ‏ ‏كَالْكِيرِ‏ ‏تَنْفِى‏ ‏خَبَثَهَا ‏‏وَيَنْصَعُ‏ ‏طِيبُهَا. (أخرجه البخارى فى: 93-كتاب الأحكام: 47-باب من بايع ثم استقال البيعة).
الشرح والمناقشة (1):
يبيّن الحديث أن الرسول قد منع الأعرابى من ترك المدينة بعد مبايعته على الإسلام بالرغم من مرضه (وعكه) وهو ليس موضع بحثنا هنا؛ وإن ما يهمنا هو قوله (ص): إنما المدينة كالكير تنفى خبثها وينصع طيبها! ومعنى ذلك-حسب ما ورد فى الأثر-إنه يخرج من المدينة من لم يخلص إيمانه ويبقى فيها من خلص إيمانه، وعليه فإن المدينة تحتفظ بالصالحين من الناس فقط! وهو ما يؤكده الحديث التالي:

متن الحديث (2):
حديث زيد بن ثابت، عن النبى (ص)، قال: " إنها طيبة تنفى الخبث كما تنفى النار خبث الفضة ". (أخرجه البخارى فى: 65-كتاب التفسير: 4-سورة النساء: 15-فما لكم من المنافقين فئتين).
الشرح والمناقشة (2):
الحديث يؤكد على فضل البقاء فى المدينة، ويبدو أن ذلك وصل الإمام البخارى إلا أنه لم يصل الخليفة الإمام علىّ الذى خرج مع بعض الصحابة من المدينة واتخذ بلاد الرافدين (العراق) مركزًا للخلافة الإسلامية؛ فهل نفته المدينة الطيبة كما تنفى النار خبث الفضة؟!
أم أن ذلك الحـديث برمـتة لم يـكن سـوى الوهم؟ أو أنه تحدث عن رجل بعينه فى زمن محدد، ولا ينبغى للإمام البخارى ولغيره اعتباره سنة ثابتة لرسول الله.
وهنا يطرح سؤال هام عن المنافقين الذين كانوا فى المدينة وعلى رأسهم عبد الله بن أبى سلول؛ كيف بقوا فى المدينة ودفنوا فيها؟!
متن الحديث (3):
حديث أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ‏، ‏قَالَ‏: جَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ‏‏ الأنْصَارِ‏ ‏إِلَى رَسُولِ اللَّهِ‏ ‏(ص)‏ ‏وَمَعَهَا صَبِى لَهَا. فَكَلَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ‏ ‏(ص) ‏‏فَقَالَ: "وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ‏ ‏إِنَّكُمْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى" مَرَّتَيْنِ، وفى رواية قالها ثلاث مرار. (أخرجه البخارى فى: 63-كتاب مناقب الانصار: 5-باب قول النبى (ص) للأنصار أنتم أحب الناس إلى).
الشرح والمناقشة (3):
يبين الحديث مكانة الأنصار الرفيعة ومحبة الرسول لهم، وقد وردت فى صحيح البخارى أحاديث كثيرة فى ذلك؛ حيث خصص باب لمناقبهم، وقد عظمهم الرسول الكريم حيث قال: "لو سلكت الأنصار واديًا أو شِعبًا لسلكت وادى الانصار أو شِعبهم" (6). ومع ذلك كله فان الإمام البخارى لم يجد أى تناقض فى ذلك مع ما جاء فى بعض كتب صحيحه حيث استبعد الرسول الأنصار من الإمارة أو حتى طلبها وتنبأ لهم بظلم وإثرة وعذاب قادم فى الدنيا، وحرمهم من العطايا والغنائم التى كانت توزع للمهاجرين من قريش. أكثر من ذلك فان العشرة المبشرين بالجنة جميعهم من المهاجرين من قريش!!
أخيرًا عندما اختلف أبو بكر وعمر بن الخطاب مع سعد بن عبادة زعيم الخزرج (الأنصار) على أمور البيعة فى سقيفة بن ساعدة فى المدينة، لم يورد سعد أحاديث فضائل الأنصار كحجة لوصوله إلى الإمارة، كما أن أبا بكر وعمر لم يوردا أحاديث الإمارة فى قريش التى تعطى الحق فى الإمارة!! مما يدل على أن هذه الأحاديث لم تكن تعتمد كحجة فى وقتها-هذا أن كانت موجودة أصلا-حيث أخذت مكانتها ودورها بعد أن أثبتت فى صحيح البخارى وغيره.
متن الحديث (4):
حديث ‏عَائِشَةُ، ‏‏قَالَتْ: ‏لَمَّا ثَقُلَ النَّبِى‏ ‏(ص)‏‏، فَاشْتَدَّ وَجَعُهُ، اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أن يُمَرَّضَ فِى بَيْتِى. فَأَذِنَّ لَهُ. فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ تَخُطُّ رِجْلاهُ الأرض، وَكَانَ بَيْنَ‏ ‏الْعَبَّاسِ‏ ‏وَبَيْنَ رَجُلٍ آخَرَ‏؛ ‏فَقَالَ‏ ‏عُبَيْدُ اللَّهِ (راوى الحديث)‏ ‏فَذَكَرْتُ‏ ‏لابْنِ عَبَّاسٍ ‏‏مَا قَالَتْ‏ ‏عَائِشَةُ؛‏ ‏فَقَالَ لِى: وَهَلْ تَدْرِى مَنْ الرَّجُلُ الَّذِى لَمْ تُسَمِّ‏ ‏عَائِشَةُ؟‏ ‏قُلْتُ: لا. قَالَ: هُوَ‏ ‏عَلِى بْنُ أَبِى طَالِبٍ. (أخرجه البخارى فى: 51-كتاب الهبة: 14-باب هبة الرجل لامرأته والمرأة لزوجها).
الشرح والمناقشة (4):
يلاحظ أن الإمام البخارى قد أورد ذلك الحديث فى باب هبة الرجل لامرأته والمرأة لزوجها؛ علما أنه من أخطر الأحاديث التى تبين بوضوح جفاء السيدة عائشة للإمام على لدرجة أنها لم تذكر اسمه لتنفى وجوده ومساعدته لرسول الله أيام مرضه! وهو ما أكده ابن عباس عند ذكر تصحيحه للحديث عمدا؛ ولا عجب فى ذلك فقد كان للإمام على مواقف سلبية فى حادثة الإفك حيث قال بشأن عائشة "يا رسول الله! لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير"(7). ومهما يكن من جفاء وخلاف بين أهم شخصيتين فى ذلك الوقت (زوج النبى-وصهره وابن عمه)، فقد ترجم على أرض الواقع فى موقعة الجمل التى راح ضحيتها العديد من كبار الصحابة.
متن الحديث (5):
أَخْبَرَنِى‏ ‏مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ النَّصْرِى،‏ ‏أَنَّ‏ ‏عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ‏دَعَاهُ إِذْ جَاءَهُ حَاجِبُهُ‏ ‏يَرْفَا‏، ‏فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِى‏‏ عُثْمَانَ‏‏ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ‏‏ وَالزُّبَيْرِ‏‏ وَسَعْدٍ‏ ‏يَسْتَأْذِنُونَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَأَدْخِلْهُمْ. فَلَبِثَ قَلِيلا ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِى‏ ‏عَبَّاسٍ‏ ‏وَعَلِى‏ ‏يَسْتَأْذِنَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَلَمَّا دَخَلا قَالَ‏ ‏عَبَّاسٌ‏: ‏يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! اقْضِ بَيْنِى وَبَيْنَ هَذَا، وَهُمَا يَخْتَصِمَانِ فِى الَّذِى‏ ‏أَفَاءَ‏ ‏اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ‏ ‏(ص)‏ ‏مِنْ‏ ‏بَنِى النَّضِيرِ، ‏‏فَاسْتَبَّ‏ ‏عَلِى‏ ‏وَعَبَّاسٌ.‏ ‏فَقَالَ الرَّهْطُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! اقْضِ بَيْنَهُمَا وَأَرِحْ أَحَدَهُمَا مِنْ الآخَرِ. فَقَالَ ‏‏عُمَرُ: ‏‏اتَّئِدُوا، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِى بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأرض! هَلْ تَعْلَمُونَ أن رَسُولَ اللَّهِ‏ ‏(ص) ‏‏قَالَ: ‏‏لا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ. يُرِيدُ بِذَلِكَ نَفْسَهُ؟ قَالُوا: قَدْ قَالَ ذَلِكَ. فَأَقْبَلَ‏ ‏عُمَرُ‏ ‏عَلَى‏ ‏عَبَّاسٍ‏ ‏وَعَلِى، ‏‏فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ! هَلْ تَعْلَمَانِ أن رَسُولَ اللَّهِ‏ ‏(ص)‏ ‏قَدْ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالا: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنِّى أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الأمْرِ، إن اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَانَ خَصَّ رَسُولَهُ‏ ‏(ص)‏ ‏فِى هَذَا الْفَيْءِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ، فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ:-وَمَا‏ ‏أَفَاءَ‏ ‏اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا‏ ‏أَوْجَفْتُمْ‏ ‏عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ‏... ‏إِلَى قَوْلِهِ‏ ‏قَدِيرٌ‏-‏فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ‏ ‏(ص). ‏‏ثُمَّ وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ، وَلا اسْتَأْثَرَهَا عَلَيْكُمْ، لَقَدْ أَعْطَاكُمُوهَا وَقَسَمَهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِى هَذَا الْمَالُ مِنْهَا، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ‏‏(ص) ‏‏يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِى فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ. فَعَمِلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ‏‏(ص)‏ ‏حَيَاتَهُ. ثُمَّ تُوُفِّى النَّبِى‏ ‏(ص)‏، ‏فَقَالَ‏ ‏أَبُو بَكْرٍ‏ ‏فَأَنَا وَلِى رَسُولِ اللَّهِ‏ ‏(ص).‏ ‏فَقَبَضَهُ‏ ‏أَبُو بَكْرٍ‏ ‏فَعَمِلَ فِيهِ بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ‏‏(ص)، ‏وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ. فَأَقْبَلَ عَلَى‏ ‏عَلِى‏ ‏وَعَبَّاسٍ،‏ ‏وَقَالَ: تَذْكُرَانِ أن‏ ‏أَبَا بَكْرٍ‏ ‏فِيهِ كَمَا تَقُولانِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُ فِيهِ لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ. ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ ‏‏أَبَا بَكْرٍ، ‏‏فَقُلْتُ أَنَا وَلِى رَسُولِ اللَّهِ‏ ‏(ص)‏ ‏وَأَبِى بَكْرٍ‏، ‏فَقَبَضْتُهُ سَنَتَيْنِ مِنْ إِمَارَتِى أَعْمَلُ فِيهِ بِمَا عَمِلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ‏ ‏(ص)‏ ‏وَأَبُو بَكْرٍ،‏ ‏وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّى فِيهِ صَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ. ثُمَّ جِئْتُمَانِى كِلاكُمَا وَكَلِمَتُكُمَا وَاحِدَةٌ. وَأَمْرُكُمَا جَمِيعٌ، فَجِئْتَنِى‏ (‏يَعْنِى‏ ‏عَبَّاسًا‏) ‏فَقُلْتُ لَكُمَا: أن رَسُولَ اللَّهِ‏ ‏(ص)‏ ‏قَالَ: لا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ. فَلَمَّا بَدَا لِى أن أَدْفَعَهُ إِلَيْكُمَا، قُلْتُ: إن شِئْتُمَا دَفَعْتُهُ إِلَيْكُمَا، عَلَى أن عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ، لَتَعْمَلانِ فِيهِ بِمَا عَمِلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ‏ ‏(ص)‏ ‏وَأَبُو بَكْرٍ‏، ‏وَمَا عَمِلْتُ فِيهِ مُنْذُ وَلِيتُ، وَإِلا فَلا تُكَلِّمَانِى. فَقُلْتُمَا: ادْفَعْهُ إِلَيْنَا بِذَلِكَ، فَدَفَعْتُهُ إِلَيْكُمَا. أَفَتَلْتَمِسَانِ مِنِّى قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ؟ فَوَاللَّهِ الَّذِى بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأرض، لا أَقْضِى فِيهِ بِقَضَاءٍ غَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهُ فَادْفَعَا إِلَى، فَأَنَا أَكْفِيكُمَاهُ. (أخرجه البخارى فى: 64-كتاب المغازى: 14-باب حديث بنى النضير).
الشرح والمناقشة (5):
يلاحظ طول متن ذلك الحديث نسبيا، وموضع الشاهد فيه هو خلاف الإمام على مع عمه العباس لدرجة أنهما وصلا لمرحلة السب والشتم بينهما مما دعا كبار الصحابة-آنذاك-لسؤال الخليفة عمر بن الخطاب للقضاء بينهما لإراحة أحدهما من الآخر-كما جاء فى الحديث.
ويبدو جلــيًا فى الحديث أنهـما كانا يختلـفان على أمـر مـادى دنـيوى بحت،وأنهما لم يوافقا الخليفة أبا بكر فى تصرفه بتركة رسول الله التى طالبا فيها مرارًا إلى أن حصلا عليها زمن الخليفة الفاروق الذى خالف بذلك حديث رسول الله أو خليفته الصديق!
متن الحديث (6):
حديث البراء، قال: قال النبى (ص) لحسان: "اهجهم أو هاجهم وجبريل معك". (أخرجه البخارى فى: 59-كتاب بدء الخلق: 6-باب ذكر الملائكة).
الشرح والمناقشة (6):
أن يأمر الرسول بهجاء المعارضين له هو أمر فيه شك لأن البارى-عز وجل-قال فيه: {وإنك لعلى خلق عظيم}. ولكن أن يكون جبريل الوحى الأمين مع الشاعر حسان فى هجائه بحيث يصبح شعره مؤيدًا من السماء فهذا أمر لا يمكن قبول نسبه إلى الرسول الكريم.
ويحق للمرء هنا أن يتساءل عن حال جبريل عندما كان حسان يخوض فى حديث الإفك الذى أنزل الله بعده قرآنًا يتوعده فيه بالعذاب العظيم عبر وحيه جبريل-عليه السلام!؟ وهنا لابد من الاشارة إلى أن السيدة عائشة-حسب صحيح البخارى-قد سامحت الشاعر حسان بن ثابت بعد تورطة الكبير فى حديث الإفك وتقبلت شعره فيها بقوله:
حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم القوافل
الا إنها لم تغفر للإمام على موقفه البسيط إذا ما قورن بموقف حسان فى تلك الحادثة.
متن الحديث (7):
حديث‏‏ أبو هُرَيْرَةَ‏، ‏قَالَ: إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أن‏‏ أَبَا هُرَيْرَةَ‏‏ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ‏‏(ص)‏‏. وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ. إِنِّى كُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا، أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ‏ ‏(ص)‏ ‏عَلَى مِلْءِ بَطْنِى، وَكَانَ‏ ‏الْمُهَاجِرُونَ‏ ‏يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ بِالأسْوَاقِ. وَكَانَتْ ‏‏الأنْصَارُ‏ ‏يَشْغَلُهُمْ الْقِيَامُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ. فَشَهِدْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ‏ ‏(ص) ‏‏ذَاتَ يَوْمٍ، وَقَالَ:‏ ‏مَنْ يَبْسُطْ رِدَاءَهُ حَتَّى أَقْضِى مَقَالَتِى، ثُمَّ يَقْبِضْهُ فَلَنْ يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنِّى. فَبَسَطْتُ بُرْدَةً كَانَتْ عَلَى. فَوَالّـَذِى بَعـَثَهُ بِالْـحَقِّ! مَا نَسِـيتُ شَـيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْهُ. (أخرجه البخارى فى: 96-كــتاب الاعتــصام: 22-بــاب الحــجة عــلى مـن قـال أن أحــكام النــبى (ص) كانت ظاهرة).
الشرح والمناقشة (7):
الحديث الوارد يبين اهتمام وحفظ أبى هريرة لحديث الرسول الكريم بعد أن ملأ الرسول رداء أبى هريرة بكلامه وحكمته! والشاهد على ذلك الحدث هو أبو هريرة نفسه حيث أكد ذلك بقسمه بالله الموعد. وتجدر الإشارة هنا إلى تراجع أبى هريرة عن معلوماته (حديث إدراك الفجر جنبا) حيث نسبه إلى الفضل بن العباس عوضًا عن الرسول الكريم.
ومهما يكن من أمر حفظ أبو هريرة-حيث تم الحديث عنه سابقا-فإن ما يهمنا من هذا الحديث هو وصفه للصحابة من المهاجرين والأنصار؛ فالمهاجرون يشغلهم (الصفق) وهو كناية عن التبايع، لأنهم كانوا إذا تبايعوا تصافقوا بالأكف أمارة لالتزام البيع، فإذا تصافقت الأكف انتقلت الأملاك واستقرت يد كل منهما على ما صار لكل واحد منهما من ملك صاحبه.
أما الأنصار فتشغلهم الزراعة والمحاصيل؛ وعليه فكان هم المهاجرين والأنصار التجارة وجمع المال والمصالح الدنيوية، حيث تركوا العبادة والاقتداء بالرسول الكريم ليتصدى لها أبو هريرة.
أخيرًا فإن الإمام البخارى لم يجد فى ذلك الحديث إلا أن يضعه فى باب الحجة على من قال أن أحكام النبى (ص) كانت ظاهرة!!
متن الحديث (8):
حديث أبى بكرة. عَنْ‏ ‏الأحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ‏ ‏قَالَ‏: ذَهَبْتُ لأنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ (يعنى عليًا)، فَلَقِيَنِى‏ ‏أَبُو بَكْرَةَ‏، ‏فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أَنْصُرُ هَذَا‏‏ الرَّجُلَ. ‏‏قَالَ: ارْجِعْ فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ‏ ‏(ص)‏ ‏يَقُولُ:‏ ‏إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا، فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِى النَّارِ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا الْقَاتِلُ. فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ. (أخرجه البخارى فى: 2-كتاب الايمان: 22-باب المعاصى من أمر الجاهلية).
الشرح والمناقشة (8):
نظرًا لأهمية ذلك الحديث سأورد شرحه حسب ما جاء فى كتب الأثر لأعود وأعلق عليه بعد ذلك: حيث نجد أن المقصود بقوله: لأنصر هذا الرجل: هو على بن أبى طالب. إذا التقى المسلمان بسيفيهما: فضرب كل واحد منهما الأخر. فالقاتل والمقتول فى النار. أما كون القاتل والمقتول من أهل النار فمحمول على من لا تأويل له، ويكون قتالهما عصبية ونحوها. ثم كونه فى النار معناها مستحق لها، وقد يجازى بذلك، وقد يعفو الله عنه. هذا مذهب أهل الحق. قال الإمام النووى (واعلم أن الدماء التى جرت بين الصحابة رضى الله عنهم، ليست بداخلة فى هذا الوعيد. ومذهب أهل السنة والحق أحسنوا الظن بهم، والإمساك عما شجر بينهم، وتأويل قتالهم، وأنهم مجتهدون متأولون لم يقصدوا معصية ولا محض الدنيا. بل اعتقد كل فريق أنه المحق ومخالفه باغ. فوجب عليه قتاله ليرجع إلى أمر الله. وكان بعضهم مصيبًا وبعضهم مخطئا معذورًا فى الخطأ، لأنه اجتهاد. والمجتهد إذا أخطأ لا إثم عليه وكان على (رض) هو المحق المصيب فى تلك الحروب. هذا مذهب أهل السنة). إنه كان حريصًا على قتل صاحبه: مفهومه أن من عزم على المعصية بقلبه، ووطن نفسه عليها، أثم فى اعتقاده وعزمه.
بعد إيراد الشرح والعودة إلى نص الحديث نجد أنه لا يحتاج إلى ذلك التأويل الوارد فى الشرح المبين. وأن المجتهدين-حسب قول الإمام النووى-لا يوصلهم اجتهادهم وحكمتهم وعلمهم إلى قتل من يخالفهم الرأى بالسيف وسفك دمه!! إلا إذا كانوا مخطئين فى فهم الدين الحنيف، وفيهم الكثير من العصبية والجاهلية. ثم ما فائدة الاجتهاد إذا كان يؤدى إلى القتل والاقتتال؟ فالاجتهاد وعى وعلم وحلم وأناة والسيف بطش ودم وغريزة بدائية ولا يمكن لهما أن يلتقيا.
والوعيد جاء من الرسول لمن سل السيف وفضل سفك الدماء على الحوار وتقبل الآخر؛ أما تنفيذ ذلك الوعيد فأمره متروك لله-عز وجل-الذى يغفر لمن يشاء ويعاقب من يستحق العقوبة. ولعل ما جاء عن الرسول فى مواضع أخرى من صحيح البخارى يؤكد المعنى السابق للحديث وينفى تأويل وشرح أهل المذاهب المختلفة؛ حيث يسأل الرسول عن أصحابه فى الدار الآخرة فيجاب: "لا تدرى ما أحدثوا بعدك" (8).
النتيجة:
أقوال وأفعال الصحابة هى أعمال إنسانية بشرية لا تمثل شرعًا ولا دينًا ولا قدسية لها، وهم كغيرهم من الناس يخطئون ويصيبون، ينجحون ويفشلون، وأمرهم كغيرهم مفوض لله-عز وجل. وإن محاولة تقديس أقوالهم وأفعالهم وتخصيص أبواب لهم فى الفضائل تجعل الإسلام والمسلمين فى مأزق حقيقى فى أيامنا المعاصرة.
ولقد رأى الصحابة أنفسهم فى أقوال النبى-التى صحت وقالها فعلا-أوامر وآراء وقتية تصلح لحالهم وزمنهم ومكانهم ولا يمكن إسقاطها وقبولها فى كل زمان ومكان.
ولعل الحديث التالى الذى سأختم به هذا الفصل يبين أنهم عندما شعروا بدنو أجل الرسول الكريم لم يفكروا فى جمع حديثه وكلامه لأنه ترك فيهم مالا يأتيه الباطل أمامه أو خلفه. ترك فيهم كتاب الله-عز وجل.
وبعيدًا عن فهم واتهامات المذاهب الإسلامية المختلفة من سنة وشيعة وغيرها التى تتعلق بذلك الحديث، فإن تصرف الصحابة آنذاك كان تصرفًا إنسانيًا عاديًا طبيعيًا قد يحتمل الصواب وقد يحتمل الخطأ،ولا يحق لأى إنسان أن يبشر غيره من الناس بالجنة أو يتوعدهم بالنار لأن فى ذلك تعديًا على حقوق الله وعلمه ورحمته التى نأمل أن تشمل الناس أجمعين فى كل زمان ومكان.
متن الحديث (9):
عَنْ‏ ‏ابْنِ عَبَّاسٍ‏ ‏قَالَ‏: يَوْمُ الْخَمِيسِ، وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ! ثُمَّ بَكَى حَتَّى‏ ‏خَضَبَ‏ ‏دَمْعُهُ الْحَصْبَاءَ، فَقَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ‏ ‏(ص)‏ ‏وَجَعُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، فَقَالَ:‏ ‏ائْتُونِى بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا فَتَنَازَعُوا، وَلا يَنْبَغِى عِنْدَ نَبِى تَنَازُعٌ. فَقَالُوا: هَجَّرَ رَسُولُ اللَّهِ‏ ‏(ص)‏. ‏قَالَ: دَعُونِى فَالَّذِى أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِى إِلَيْهِ. وَأَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلاثٍ: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ‏ ‏جَزِيرَةِ الْعَرَبِ‏، ‏وَأَجِيزُوا‏ ‏الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ‏ ‏أُجِيزُهُمْ‏، ‏وَنَسِيتُ الثَّالِثَةَ. (أخرجه البخارى فى: 56-كتاب الجهاد: 176-باب هل يستشفع إلى أهل الذمة ومعاملتهم).

الهوامش
(1) راجع صحيح البخارى فى 92، كتاب الفتن.
(2) راجع ما فعله الحصين بن نمير المسكونى والحجاج بن يوسف الثقفى فى كتب التراث.
(3) الكامل لابن الاثير، جزء 5.
(4) راجع صحيح البخارى، كتاب الايمان والنذور،1.
(5) راجع صحيح البخارى،29، كتاب فضائل المدينة.
(6) راجع صحيح البخارى فى (63-64 كتابى مناقب الانصار والمغازى).
(7) راجع صحيح البخارى 65 كتاب التفسير، (سورة النور).
(8) راجع صحيح البخارى فى.
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية من قوات الاحتلال


.. لايوجد دين بلا أساطير




.. تفاصيل أكثر حول أعمال العنف التي اتسمت بالطائفية في قرية الف


.. سوناك يطالب بحماية الطلاب اليهود من الاحتجاجات المؤيدة للفلس




.. مستوطنون يقتحمون بلدة كفل حارس شمال سلفيت بالضفة الغربية