الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


آثار مَنسية في محافظة كربلاء

حامد خيري الحيدر

2023 / 10 / 25
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


تُعدّ محافظة كربلاء التي تقع الى الجنوب الغربي من العاصمة بغداد بحدود مئة وخمسة كيلومترات، أحد المحافظات الغنية بالمواقع الأثرية والتراثية، حيث تم استيطان المنطقة التي تمتد عليها حدودها الادارية الحالية منذ فترات مبكرة من التاريخ، لتغدو بموقعها الاستراتيجي هذا عند الحافة الشرقية للهضبة الصحراوية ضمن المنطقة الوسطى من جغرافية العراق، جسراً يربط أرض الرافدين بالجزيرة العربية وبلاد الشام، ومَمراً للهجرات بينها وبين شعوب هذه المناطق. وقد أثبتت الدراسات بأن أسم محافظة "كربلاء" مأخوذ من التسمية البابلية "كربا أيلو" وتعني "مُصلى الإله" أو "قرب الإله"، حيث كانت هذه المحافظة أول مركز استيطان آرامي وعربي في منطقة الفرات الأوسط، وذلك لقربها من مدينة بابل الأثرية، ومُلتقى الطرق البرية الرئيسية عبر منطقة "عين التمر" باتجاه العديد من المناطق الأخرى.
وقد تَم تحديد مئة وأثنين وتسعين موقعاً أثرياً في عموم المحافظة بأقضيتها ونواحيها(1) تعود لفترات تاريخية مختلفة، تم تسجيلها وتثبيتها لدى المؤسسة الآثارية العراقية، وهي موَّزعة ما بين تل أثري وموقع شاخص، معظمها ترجع في بداياتها الى الفترات التي تسبق استيطان العرب المسلمين في هذه المنطقة، حيث أن بعضٌ منها يعود الى فترة العصر البابلي القديم 2000_1595ق.م، وبعضها الآخر ترجع الى فترات تاريخية متأخرة، كما تضمّ كذلك تسعة عشر موقعاً تراثياً مُسجلاً أيضاً، بالإضافة الى المعالم والرموز الدينية الاسلامية من مراقد وأضرحة ومقامات الأولياء وأهل البيت، ولكن للأسف هناك العديد من تلك المعالم التاريخية قد أصابها الخراب نتيجة الظروف المناخية وكذلك بسبب الإهمال وانعدام الصيانة الدورية عليها، أسوة بالعديد من المواقع التاريخية في العراق، وسنتناول بعض من تلك المعالم وشيئاً من تاريخها.
خان العطيشي:
يقع هذا الخان على يمين الطريق الواصل بين بغداد وكربلاء في منطقة "العطيشي" ضمن أراضي ناحية الحسينية، الى الشمال الشرقي من مركز المحافظة بحدود أثني عشر كيلومتراً، ومن المعروف أن هذه المنطقة قد سُميّت بهذا الاسم نسبة الى أحد أجداد عشيرة "المسعود" التي استوطنت هناك منذ فترة مبكرة، وهو الشيخ "عطيش بن شبرم المسعودي". وقد شُيّد الخان بالأساس ليكون حَدّاً إدارياً لبلدية كربلاء، ثم ليصبح مع الأيام من المعالم التاريخية الدالة على منطقة "العطيشي"، ولم يكن الخان ثكنة عسكرية فحسب، بل كان نقطة حراسة واستراحة في الطريق بين بغداد وكربلاء، حين كانت القوافل تمّر من بين البساتين كونها أقصر الطرق الموصلة بين المدينتين، أي أنه كان يجمع بين وظيفته كنقطة حراسة من قطاع الطرق، ومحطة للاستراحة المسافرين خلال ترحالهم في هذه المناطق.
وما يُلاحظ على هذا البناء الكبير خلوه من أية كتابة تذكارية أو زخرفة مُعيّنة يمكن أن تُساعد في تعيين تاريخ بنائه، لكن من المُرّجح أنه شُيّد عام 1793 في زمن الوالي العثماني "سليمان باشا الكبير" 1724_1802، ويُذكر أن الخان قد جُعل منه معسكراً لجيش الوالي العثماني "داود باشا" خلال واقعة "المناخور" عام 1825(2)، كما يُروى عن أهل هذه الناحية بأن "الشيخ ضاري المحمود" خلال ثورة العشرين أنتقل الى هذه المنطقة، ليَتخذ من الخان مقراً ومركزاً لتنظيم فصائل الثورة بالتنسيق مع باقي الثوار، ثم ليصبح خلال تلك الأيام مأوى للعوائل النازحة نتيجة القصف المدفعي البريطاني، كما تجدر الاشارة أيضاً الى حادثة شهيرة وقعت بالقرب من الخان خلال أحداث حركة "رشيد عالي الكَيلاني" عام 1941، وما صاحبها من معارك مع القوات البريطانية، حيث تمّ هناك أسقاط أحدى طائراتها التي كانت تقصف مدينة كربلاء، وتمكن الأهالي على إثرها من قتل أحد طياريها وأسر الآخر.
الخان ذو تخطيط مستطيل طوله بحدود خمسة وستين متراً وعرضه يقارب الخمسين متراً، وزواياه الاربعة الخارجية مُدعّمة بأبراج دائرية كبيرة قطر كل منها تسعة أمتار، كما بلغ ارتفاع جدرانه الخارجية خمسة أمتار وسُمكها متر واحد، زوّد الجزء العلوي منها بمَزاغل للرماية من أجل الدفاع عن الخان وحمايته، بالإضافة الى مرازيب لتصريف مياه الامطار. وللخان مدخل وحيد يبرز عن مستوى الجدار ويتوسط واجهته الجنوبية الغربية، يبلغ ارتفاعه حوالي ثلاثة أمتار وعرضه متران، ويعلوه عقد كبير مُدبب الشكل، زُيّنت واجهته الخارجية بالزخارف الآجرية المتشابكة التي تشبه نسيج الحصير، ويؤدي المدخل بمَجاز مستطيل الشكل الى ساحة مكشوفة في وسطها بئر ماء لغرض إسقاء المُسافرين، ويَطل عليها من جميع الجهات تسعة وخمسون أيواناً بأبعاد مختلفة تعلوها عقود مدببة مرتفعة، تمثل غرف إقامة المسافرين التي تم تسقيفها بأسلوب الأقبية المدببة، وهذا الأسلوب قد شاع استخدامه في بناء العمائر الدينية والمدنية في العراق خلال فترة الحكم العثماني للعراق.
وقد صُمّمت أبراج الخان الاربعة لتكون اسطبلات للخيول، حيث حَوى كل بُرج من الداخل على ست كوى غير نافذة ذات عقود مدببة لغرض وضع الاعلاف، بالإضافة الى مدخل واحد ذو عقد دائري بعرض متر ونصف مفتوح على ساحة الخان، وقد تم تسقيفها بقباب نصف كروية بأسلوبٍ مشابه لتشييد القباب في وسط وجنوب العراق خلال العصور الإسلامية، علماً أن الخان قد تم تشييده بمواد البناء المحلية المتمثلة بالطابوق الفرشي مع استخدام الجص كمادة رابطة. وتُمثل عمارة الخان كباقي العمائر المُشيّدة خلال الفترة العثمانية خليط من الثقافات والاساليب المعمارية، من عراقية قديمة الى صفوية وبيزنطية، تُشير بمجملها الى التلاقح والاندماج الحضاري الذي ساد خلال هذه الفترة من تاريخ العراق.
منارة موجدة:
تقع منارة "موجدة" على مسافة تقارب الخمسة وعشرين كيلو متراً من مركز المحافظة، في صحراء كربلاء الغربية عند منطقة مَعزولة يصعب الوصول إليها تطل على وادي "الطار"، حيث انها تبعد عن الطريق الرئيسي بحدود كيلومتر واحد، والمنارة مُعلن عن أثريتها منذ عام 1936 ومُسجلة لدى المؤسسة الآثارية برقم 1498، وهي تبعد عن حصن "الأخيضر" بحدود عشرين كيلو متراً، ولا يُعرف بالتحديد تاريخ بنائها لعدم وجود كتابة عليها، لكن من الواضح أنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بطريق الحَج القديم المعروف باسم "الطريق الكوفي" أو "درب السيدة زبيدة"، وربما تعود الى أواخر العصر العباسي في القرن الثالث عشر الميلادي، وما يُلاحظ أن المنطقة المُحيطة بالمنارة خالية من أية مظاهر تدل على وجود مباني قريبة منها، لذلك يُعتقد أن سبب تشييد المنارة في هذا المكان، هو لتكون أحدى العلامات الدالة على الطرق التجارية الهامة الواصلة بين العراق والشام والحجاز، والمارة بالحيرة أو المتجهة الى كربلاء، حيث اقتضت الضرورة آنذاك لوجود علامات ثابتة استخدمت لغرض إرشاد القوافل، وكذلك للرصد في حالات الطوارئ، وللتواصل بين التجمعات السُكانية عن طريق إشارات الدخان أو الحمام الزاجل، كما ويُعتقد أنه كان في أعلى قمة المنارة موقداً للنار يعطي وهَجاً في الليل لإرشاد القوافل المارة بطريقها، لذلك يُعتقد أن أصل تسمية المنارة هو "موقدة" بسبب إيقاد النار ليلاً على قمتها، ثم حوّر الاسم الى "موجدة" بسبب لهجة ساكني المناطق القريبة وعلى الأخص منطقة "عين التمر"، ومن الجدير بالذكر أنه في المنطقة المُتاخمة لـ"صحراء النجف"، قد وجدت بقايا منارة أخرى شُيّدت خلال نفس الفترة ولذات الغرض، وَرَدت في المصادر التاريخية باسم "أم كَرون".
المنارة بُنيت بطابوق فرشي أحمر اللون مع الجص، وهي ذات بدَن أسطواني مجوف يقوم على قاعدة صلدة مربعة الشكل طول ضلعها خمسة أمتار تقريباً وارتفاعها بحدود ثلاثة أمتار، زُيّن كل ضلع منها بثلاث كوى يعلوها عقد نصف دائري، كما زُيّن بدَنها الاسطواني من أعلى الى أسفل بزخارف أجرية بعدة أفاريز (حلقات متتابعة)، وهذه الطريقة في الزخرفة الآجرية ظهرت بشكل واضح في أواخر الفترة العباسية ثم وصلت بعدها لمرحلة الرُقي الفني في زمن "الأتابكة"، وأوضح مثال في ذلك هو المئذنة الحدباء في مدينة الموصل. الأفريز الأول "الأسفل" وهو بارتفاع مترين خالٍ من أية زخارف، ربما أراد المُصممون إظهار مساحة فاصلة بين القاعدة والقسم الذي يليها لإبراز التفاصيل بشكل أوضح، يعقبه الأفريز الثاني وهو بارتفاع مترين أيضاً تم تزينه بطريقة التلاعب العكسي بالآجر بشكل خطوط عامودية مكونة مثلثات غائرة، أما الأفريز العلوي فقد زُيّن بشكل حَنيات غائرة عددها ست، احتوت على مزاغل لرمي السهام تنتهي بعقود نصف دائرية مشابهه لما موجود في قاعدة المنارة.
أن ما تبقى من ارتفاع المنارة هو بحدود عشرة أمتار، لكن استناداً الى قطر البدن وامتداد زخرفة قسمها العلوي يمكن تحديد ارتفاعها الاصلي الى ما يقارب الاثني عشر متراً، كان يتم الصعود الى سطحها عن طريق سُلم لولبي داخل البدن الأسطواني مدخله ذو عقد نصف دائري يقع في الجهة الجنوبية من القاعدة، وربما كان لموقع المنارة في تلك المنطقة النائية قد أعانها بعض الشيء في الحفاظ على هيئتها الأصلية من التجاوز والتخريب.
كهوف الطار:
تقع هذه الكهوف الى الغرب من مركز مدينة كربلاء بحدود ثلاثين كيلو متراً، وعن منارة "موجدة" بحدود خمسة كيلومترات، والى الشرق من حصن "الاخيضر" بمسافة خمسة عشر كيلو متراً، ويمكن مشاهدتها على يمين الطريق العام المؤدي الى "عين التمر"، حيث تَقبع فوق تلال صخرية الى الغرب من بحيرة الرزازة، لتمثل جزءاً من منطقة مرتفعات مُحاطة بعدة وديان تَمتد من مدينة النجف وحتى غرب كربلاء. ويبلغ عدد هذه الكهوف أربعمائة قد تم نحتها اصطناعياً من قبل الانسان في أحدى التلال الصخرية، وسُميّت محلياً بـ"الطار" لأنها ترتفع عن الأرض المحيطة بها، حيث أن معنى كلمة "الطار" في اللغة العربية هو "ما أرتفع من الأرض وعَلا".. وهي على مُستويين، الاولى كانت فوق مستوى الوادي المجاور لها بقليل، وهي بشكلِ حجرات صغيرة لا يتجاوز عمقها ثلاثة أمتار وعرضها متران، لكل منها مدخل ارتفاعه بحدود المتر والنصف وعرضه النصف متر، وتؤدي هذه الحجرات بدورها عن طريق فتحات أصغر الى حجرات أخرى ثانوية. أما الثانية فتقع فوق مستوى الكهوف السفلى، لكنها تختلف في هندستها وشكلها، حيث انها منتظمة الحفر ومنحوتة بشكل أسطواني، كما أن بعضها كانت ارضيته مَرصوفة بالطين النقي المَمزوج بالحصى الناعم.
كان أول كشف أثري على الكهوف قد جَرى في عام 1955 بعد العثور على العديد من الدلائل الأثرية فيها، ليتم بعده الاعلان عن أثريتها في 4/3/1957. وفي سبعينيات القرن العشرين أجرت بعثة يابانية تنقيبات أثرية فيها برئاسة عالم الآثار الياباني "هيدو فوجي"(3)، وقد أثبتت تلك التنقيبات أن الكهوف قد مَرّت بثلاثة أدوار حضارية.. الأول يعود الى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وكانت بمثابة مآوي للسُكنى، حيث كانت تستخدم كمحطة استراحة للقوافل التجارية، ثم جُعل منها في الدور الثاني كمقابر لدفن الموتى، خلال الفترة المُمتدة ما بين القرن الثالث قبل الميلاد وحتى القرن السادس الميلادي، أي خلال الفترتين "الفرثية" و"الساسانية"، يليها الدور الثالث الذي تمثله الفترة الاسلامية، والذي أستفيد خلالها من الكهوف لأغراض عسكرية دفاعية.
وقد عَثرت البعثة اليابانية خلال تنقيباتها على العديد من القطع الاثرية التي تعود الى تلك الفترات المُشار إليها، تتمثل بفخاريات واواني زجاجية، إضافة الى العثور داخل قبور الدور الثاني على بقايا منسوجات مصنوعة بعدة أساليب من الحياكة والزخرفة، ساعدت البيئة الجافة على بقاءها بحالة جيدة دون أن يصيبها التلف، وهي مشابهة لتلك التي عُثر عليها في مدن "الحضر" و"الحيرة" في العراق و"تدمر" و"دورايوربوس" في سوريا والعائدة لنفس تلك الفترة، مما يُشير بوضوح الى سِعة الحركة التجارية بين تلك المناطق. ومن الجدير ذكره في هذا الجانب أنه خلال عملية الكشف على هذه الكهوف والمنطقة المحيطة بها علم 1955، قد تم العثور بالقرب من بحيرة الرزازة على أدوات حجرية من النوع "الموستيري" المُصنعة من قِبل أنسان "النيادرتال"، والتي تعود لفترة العصر الحجري القديم الأوسط قبل حوالي ستين الف سنة، وهي مُشابهة لتلك الأدوات التي عثر عليها في موقع "جبل الكرمل" في فلسطين وكهوف "شانيدار" و"زرزي" و"هزارمرد" في شمال العراق، وفق ذلك فأن هناك آراء قوية تُشير الى أن هذه المنطقة تُمثل الطريق الذي كان يَسلكه ذلك الأنسان بين فلسطين والعراق خلال تلك الحِقب السَحيقة من التاريخ.
كنيسة القصيّر:
تقع كنيسة "القصّير" الى الجنوب الغربي من مدينة كربلاء بحوالي خمسة وستين كيلومتراً، في وسط الصحراء الغربية عند وادي "الاُبَيّض" الذي تغذيه مياه الأمطار والسيول في فصل الشتاء، وعلى بُعد سبعة كيلومترات الى الشمالي الغربي من حصن "الأخيضر"، والى الجنوب من مدينة "عين التمر" بمسافة خمسة عشر كيلومتراً، أما أصل تسميّة "القصيّر" فهو تصغير لكلمة "قصر"، بسبب صغرها قياساً الى باقي الابنية القديمة الشاخصة في المنطقة، والتي أعتاد السكان المَحليون على تسميتها قصوراً مثل قصر "البردويل"، وقصر "شمعون"، لذلك تم أطلاق هذه التسمية دون معرفة حقيقة البناء كونه "كنيسة". شُيّدت الكنيسة بالحجر والجص وبعض أجزائها بالطابوق والجص، وأرضيتها رصفت بالطابوق الفرشي، وهي تتكون من قاعة طولية عرضها أربعة أمتار وتمتد ستة عشر متراً، في الغالب كانت مُسقفة بقبوٍ بيضوي، تنتهي بقاعة مَذبح مربعة الشكل طول ضلعها أربعة أمتار، في الغالب كان سقفها بهيئة قبة كبيرة، ومازال جدار محرابها بكامل ارتفاعه تقريباً والبالغ بحدود ثمانية أمتار، أما ما تبقى من ارتفاع باقي الجدران فلا يتعدى المتر والنصف، وللكنيسة مدخل رئيسي كبير يقع عند طرف القاعة الطويلة ويقابل المذبح مباشرة، كما يوجد على جانبي المذبح مدخلين صغيرين يؤديان الى غرفتين مستطيلتين، تشكلان مع القاعة والمَذبح شكل الصليب، وهو الاسلوب المُعتمد الثابت في عمارة الكنائس.
وضَمّت الكنيسة العديد من المرافق البنائية المتعددة الاستخدام، فضلاً عن غرف أخرى كبيرة قد تكون لسُكنى القائمين على خدمتها، كما احتوت بعض الجدران على رسوم صلبان ذات أشكال مختلفة، بالإضافة الى كتابات آرامية تعود الى القرن الخامس الميلادي، كما ويُحيط بالكنيسة سور مستطيل الشكل تقريباً مُشيّد بالطين مُدعّم بأبراج في أركانه الأربعة، أحتوى على أحد عشر باباً تعلوها عقود نصف دائرية، والى الشرق من الكنيسة بمسافة عشرين متراً تقع مجموعة من القبور المُشيّدة بالحجر والجص، قسم منها تعود في الغالب الى رهبان الكنيسة القائمين على رعايتها وخدمتها، والقسم الآخر لعامة الناس من المسيحيين الذي دفنوا عندها تبرّكاً بها.
تُعّد "كنيسة القصيّر" أحد أقدم الكنائس الموجودة في العراق والشرق الأوسط، ويمكن الاستدلال على هذا الامر من خلال الكتابات الآرامية التي لاتزال باقية على بعض من جدرانها، وكذلك الى العناصر المعمارية المُعتمدة في بناءها والتي لم يتم العمل بها خلال الفترة الاسلامية، ألا وهي العقود البيضوية المُنفذة في تسقيفها، وكذلك عند مداخلها، مما يُشير بشكل واضح الى السكان الأصليين لكربلاء الذين سبقوا المسلمين في استيطانها بقرون عديدة. وما تَجدر الاشارة اليه أن التلال الأثرية العديدة التي تُحيط بالكنيسة تُشير الى احتمال وجود مدينة كبيرة عامرة في هذه المنطقة مَطمورة تحت رمالها كانت تَزخر بالحياة قبل الإسلام، أغلب سكانها كانوا من المسيحيين، ومن المُحتمل جداً أن تكون هي نفسها مدينة "السَيلمون" التي وردت في المصادر العربية ولم يتم تحديد موقعها حتى الآن، حيث ذُكر أن سكانها من النصارى وأن "النعمان بن المنذر" كان يستجّم فيها على الدوام، وتنتظر هذه المنطقة المزيد من التحَري والتنقيب ليتم كشف تاريخها وسِبر خفاياها.
قصر شمعون:
يقع قصر "شمعون" ضمن مقاطعة "الحساوية" الى الشمال الشرقي من مركز مدينة "عين التمر" بحدود ثلاثة كيلومترات، حيث تبدو أطلال هذا القصر الكبير قائماً وسط أحد الأحياء السكنية ولا تفصله عن منازله سوى بضع أمتار. القصر مُثبّت في سجلات المؤسسة الآثارية العراقية برقم 8209 ومُعلن عن اثريته عام 1950، يعود تاريخه الى القرن السادس الميلادي، ويُنسب بتَسميتيه الى "شمعون بن جابر اللخمي"، الذي يُعتبر من مشاهير علماء الدين المسيحيين، الذي نَصَر "النعمان بن المنذر" سنة 593م عند صِدامه مع "الساسانيين"، وظلت هذه التسمية مُتداولة بين أهل المدينة للاستدلال على أطلاله، ومن المؤرخين من يُرجع هذا القصر الى السكان اليهود الذين كانوا أول من استوطنوا هذه المنطقة حتى احتلالها من قبل الجيوش الإسلامية، حيث جَرَت معركة كبيرة بين الجانبين في هذا المكان انتهت لصالح المسلمين بعد اقتحامهم هذا القصر حين تحصن اليهود به.
تُبيّن أطلال القصر أنه كان مستطيل الشكل مساحته بحدود ألفين وخمسمائة متر مربع، مُشيّد بالأحجار الكلسية والجص، احتوى على العديد من المَرافق والحُجرات الواسعة، حيث تصل مساحة بعضها الى ثلاثين متراً مربعاً، ويبدو من تصميمه ومتانة جدرانه التي كان البعض منها بسُمك مترين وأخرى بسُمك متر واحد، أنه كان ذو صفة عسكرية لاحتوائه على أنفاق وسراديب أسفل البناء، إضافة الى علو ومتانة سوره الخارجي الذي لاتزال أركانه باقية بارتفاع يقارب الثمانية أمتار. وعلى الرغم من بقايا سوره القائم وبعض المرافق البنائية الظاهرة، فان القسم الوسطي من القصر لايزال مدفوناً تحت كثبان الأتربة والأنقاض، ويحتاج لأجراء تنقيبات أثرية فيه، للكشف عن باقي تفاصيله البنائية والدلائل الاثرية التي تُبيّن بوضوح تاريخه وهوية مُشّيده.
ومن طريف ما يُروي بشأن القصر وما يتم تناقله بين السكان المَحليين، بأن هناك بعض الظواهر الغريبة تحدث فيه بين فترة وأخرى، مفادها مشاهدة البعض لأشباح تتنقل بين أطلاله ليلاً، بالإضافة الى سماع بعض الأصوات تصدر منه تشابه نحيب الأطفال، لذلك فأن بعض العوائل التي كانت تقطن بالقرب من المكان قد هَجروا مساكنهم ورحلوا الى أحياء سكنية أخرى، من جانب آخر ووفق التقاليد المورثة والمتداولة، دأب العديد من أهالي المنطقة على التبّرك بهذا البناء وخاصة النسوة، حيث كنّ يجُّازفن بتسلق أركانه العالية على الرغم من صعوبة وخطورة الأمر، ليَلقين عباءاتهن من فوقها لاعتقادهن بان ذلك سوف يُسّرع بتحقيق أدعيتهن بجلب الرزق أو استعجال الحمل.
قصر البردويل:
يقع قصر "البردويل" ذلك البناء الغريب المُنعزل وسط الصحراء، والمُختلف عليه من ناحية التسمية والهوية، شمال غرب مدينة "عـين التمـر" بمسافة حوالي خمسة كيلومترات، وعلـى يمـين الطريق العام الذي يربطها بناحية "الرحالية" التابعة لمحافظة الانبار، وبالقـرب من السّاحل الغربي لبُحـيـرة "الـرَزّازة"، وهو يعود الى الأزمان المسيحية الأولى، أي في حدود القرن الخامس الميلادي. وقد زارت السياسية البريطانية الشهيرة "المس بيل" هذا البناء في عشرينيات القرن العشرين وكتبت ملاحظات هامة بشأنه، مما ساهم ذلك في الاعلان عن أثريته منذ فترة مبكرة، علماً أن كلمة "قصر" قد أطلقها السكان المَحليون على هذا البناء أسوة ببقية المباني التاريخية الشاخصة الأخرى دون دراية أو معرفة بحقيقته، لذلك ليس بالضرورة أن يُعبّر الاسم عن طبيعته البنائية أو الغاية من تشييّده، أما تسمية "البردويل" فعلى الرغم من ذهاب معظم الآراء بأنها كلمة هي سريانية الأصل، إلا أن الاختلاف في تفسيرها كان كبيراً، فالبعض ذكر أنها تعني "الرجل الطويل"، وذلك لأن البناء قد شُيّد على شكلِ بناءٍ عمودي عالٍ أشبه برجل طويل القامة، بينما ذهب رأي آخر الى أنها تعني "الطريق البعيد" أو "المشوار الطويل"، وفي هذا اشارة الى المكان المترامي المُنعزل الذي يقع فيه، والذي يَقتضي سَلك درب طويل للوصول إليه، ومن المُحتمل أيضاً أن تكون التسميّة مُحوّرة من الكلمة الصابئية المندائية "برقساهيل" أو "برقسهيل" والتي تعني "البرج البعيد" أو "البرج الذي هناك" ("برقسا" بمعنى "برج" و"لهيل" أو "هيل" بمعنى "بعيد" أو "هناك")، وهذا الرأي يبدو أقرب الى الدقة حيث أنه يَجمع بين طبيعة البناء البُرجية العالية وموقعه البعيد المُنعزل.
ولهذا القصر تصميم فريد في العمارة العراقية المعروفة خلال تلك الفترة، حيث يتمثل ببناءٍ صلد مُشيّد بالحجر والجص على مُرتفع طبيعي يَعلو بحدود عشرة أمتار عن الأرض المُحيطة به، ويتكون من قسمين، القسم الأسفل مربع الشكل طول ضلعه ثلاثين متراً وارتفاعه حوالي خمسة أمتار، يعلوه القسم الثاني الذي يكون بشكل أسطواني قطره بحدود عشرين متراً وارتفاعه يقارب الخمسة أمتار، شُيّدت فوق قمة هذه الكتلة الصَلدة بقسميها المربع والأسطواني مَرافق البناء المختلفة، التي تتكون من صفين من القاعات المتقابلة، ثلاث في كل صف شُيّدت وفق الأسلوب المعماري المعروف بـ "الطراز الحيري"(4) الذي كان سائدا في تلك الحقبة الزمنية، للأسف تهدَمت أغلبها بفعل عوامل التعـرية، كما أحتوى البناء أيضاً على حجرات صغـيـرة نسبـياً مُسَّقفة بطـريقة الأقبية ذات العقود المدببة تصلح لإقامة شخص أو أثنين، وكان يُرقى الى قمة هذا البناء بمُدرّج حلزوني يدور حول بدنه الصلد عرضه متر ونصف، وهذا الأسلوب بالبناء يُذكر بالتأكيد بأشكال الزقورات التي تَميّزت بها العمارة العراقية القديمة، وكذلك بالمئذنة الملوية في مدينة سامراء.
أما عن هوية هذا البناء الغريب فيُمكن القول أن شكله العام يوحي باستخدامه كنقطة عسكرية للمراقبة والحراسة، تتقدم التجمعات السكنية المسيحية في هذه المنطقة، لكن لو تم الأخذ بنظر الاعتبار موقعه المنعزل علـى الحافة الغـربـية لبحـيـرة "الـرَزّازة" حيث لـيس هناك أية آثار للسُكنى بالقـرب منه، بالإضافة الى صُغر البناء نسبياً مع حجراته ذات المساحة المحدودة والتي صُممت لتلائم حـياة الـرهبان، فـأنه يُشير في الغالب الى كونه ديـر تَعبّدي يُشـرف علـى الصحـراء المترامية، حيث يتيح هذا الموقع للـراهب مكاناً نموذجـياً للعزلة من أجل التأمّل والتعبّد، ومزاولة طقوسه الـروحـية مُنفرداً دون تدخل أو ضجيج، شأنُه فـي ذلك شأن العديد من الأديـرة والصوامع التـي تَمتد مع حافة الصحـراء غـربـي الفـرات من "الحـيـرة" وحتـى الأنبار.

الهوامش:

1_ تضم محافظة كربلاء ثلاثة أقضية، هي.. قضاء "كربلاء"، ويضّم نواحي "الحسينية" و"الحُر" و"عون"، وقضاء "الهندية" (طويريج سابقاً)، الذي يضّم ناحيتي "الخيرات" و"الجدول الغربي"، وقضاء "عين التمر" الخال من الوحدات الادارية الفرعية.
2_ واقعة المناخور... من أشهر الحوادث التاريخية التي مرت على مدينة كربلاء خلال فترة الحكم العثماني، وذلك في عهد الوالي "داود باشا" عام 1825م، حيث بايعته أغلب مدن العراق عند توليه منصبه، باستثناء مدينتي كربلاء والحلة، اللتان رفعتا راية العصيان ضده، عند ذاك جَهّز جيشاً ضخماً لكبح تمردهما، فأخضع الحلة وأستباح بيوتها، ثم توجه الى كربلاء لكنه لم يقو علي دخولها لحصانة سورها ومناعة معاقلها إلا بعد حصـار طويل دام قرابة الأربع سنـوات. وقد عرفت الواقعة بهذه التسمية نسبة الى أسم قائد الحملة أمير خيالة الوالي "سليمان ميراخور"، وكانت من نتيجتها أن أسر الجيش نقيب أشراف المدينة فسجنه داود باشا في بغداد.
3_ هيدو فوجي... عالم آثار ياباني، ولد عام 1927، عمل استاذاً للآثار الشرقية في جامعة "كوكوشيكَان" في العاصمة اليابانية طوكيو، أجرى تنقيبات أثرية في بعض مناطق العراق، مثل "كهوف الطار" في محافظة كربلاء، "حوض حمرين" في محافظة ديالى، "حوض سد الموصل" في محافظة نينوى، له العديد من المؤلفات والبحوث عن آثار العراق وتاريخه، توفي عام 2013.
4_ الطراز الحيري... ويُسمى أيضاً "الصَدر والكُميّن"، يُعتبر أشهر الخصائص المعمارية في أبنية مملكة الحيرة، حيث شُيّدت وفقه أشهر قصورها، مثل "الخورنق" و"السدير"، وهو يتكون من ثلاث أقسام متداخلة، تتمثل بأيوان كبير يطل على ساحة مكشوفة يُمثل "الصدر" الى جانبيه أيوانين صغيرين أحدهما على مَيمنته وآخر على مَيسرته يمثلان "كُميّن" له، ويُعتقد أن مبدأ هذا الطراز مأخوذ من هيئة تشكيلات الجيش خلال الحرب.

المصادر:

_ أحمد بن يحيى البلاذري ... فتوح البلدان ... بيروت 1988
_ ألوا موسيل ... الفرات الأوسط ... ترجمة / صدقي حمدي ، عبد المطلب عبد الرحمن داود ... بغداد 1990
_ حامد خيري الحيدر ... حين تحكي الرمال / من ذكريات منقب آثار ... مالمو _ السويد 2020
_ سلمان هادي آل طعمة ... المواقع الأثرية والسياحية في كربلاء ... طهران 1969
_ صالح أحمد العلي ... منطقة الكوفة ... سومر 21 ... بغداد 1965
_ طالب علي الشرقي ... عين التمر ... النجف 1969
_ عِز الدين أبن الأثير ... الكامل في التاريخ / الجزء الثاني ... بيروت 2012
_ قحطان رشيد صالح ... الكشّاف الأثري في العراق ... بغداد 1987
_ كي. لسترنج ... بلدان الخلافة الشرقية ... ترجمة / بشير فرنسيس ، كَوركَيس عواد ... بغداد 1954
_ محمد بن جرير الطبري ... تاريخ الأمم والملوك / الجزء الثاني ... القاهرة 1967
_ مديرية الآثار لعامة ... المواقع الأثرية في العراق ... بغداد 1970
_ ياقوت الحمَوي ... مُعج البلدان / الجزء الثالث ... بيروت 1977








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. العراق: السجن 15 عاما للمثليين والمتحولين جنسيا بموجب قانون


.. هدنة غزة تسابق اجتياح رفح.. هل تنهي مفاوضات تل أبيب ما عجزت




.. رئيس إقليم كردستان يصل بغداد لبحث ملفات عدة شائكة مع الحكومة


.. ما أبرز المشكلات التي يعاني منها المواطنون في شمال قطاع غزة؟




.. كيف تحولت الضربات في البحر الأحمر لأزمة وضغط على التجارة بال