الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحلقة الثالثة

عبد المجيد حمدان

2023 / 10 / 30
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تقاطعات بين الأديان
26
إشكاليات الرسل والأنبياء
11
موسى
الحلقة الثالثة


وها قد آن أوان الإجابة على السؤال الذي ختمنا به الحلقة الثانية ، باستقراء الكتب المقدسة ، متجاهلين علوم الآثار ومكتشفاتها : هل كان هناك خروج لِبني إسرائيل من مصر ؟ ومن ثم هل كان لهم دخول إلى فلسطين ، أرض الميعاد التي تفيض لبنا وعسلا ؟
1
اسمحوا لي أن أبدأ محاولة الإجابة بملاحظة : بدءا من هذه الحلقة سنَستعيد سيرتنا الأولى في استقراء نصوص الكتب المقدسة . أي سنستعيد منهجنا الذي بدأناه منذ الحلقة 1 ، نسير مع التاريخ ، من الأقدم إلى الأحدث . نبدأ من التوراة ومن ثم نذهب إلى القرآن . ولأن حدث تكليف موسى بالرسالة ، شكل مقدمة ما قالته الكتب المقدسة بإخراج ، فَخروج بني إسرائيل من مصر ، هذا الحدث مليء بالتفاصيل ، مثله مثل حال سائر أحداث الخروج ، سأذهب ، نشدانا للتسهيل على القارئ ، إلى نقل التفصيلة من التوراة ، ثم نذهب إلى القرآن . ونبدأ مع
التفصيلة الأولى : اللقاء .
يطالعنا الإصحاح الثالث من سفر الخروج بالتالي : [ وأما موسى فكان يرعى غنم يثرون حميه كاهن مديان . فساق الغنم إلى البرية وجاء إلى جبل الله حوريب .1 وظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليقة . فنظر وإذا العليقة تتوقد بالنار والعليقة لم تكن تحترق .2 فقال موسى أميل الآن لأرى هذا المنظر العظيم . لماذا لا تحترق العليقة .3 فلما رأى الرب أنه مال لينظر ناداه من وسط العليقة وقال موسى موسى . فقال ها أنذا . 4 فقال لا تقترب إلى ههنا . اخلع حذاءك من رجليك . لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة 5 ثم قال أنا إله أبيك إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب . فغطى موسى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله. 6 ] .
هنا فقط تحضر القارئ ملاحظة ، أن موسى كان قد أكمل الثمانين من العمر، كما سنرى لاحقا ، وهو يرعى غنم حميه من جهة ، والأهم بلوغه هذا السن وقت نزول الرسالة عليه .
إذاً ، ما الذي يقوله القرآن في هذه التفصيلة من حدث الرسالة ؟ .
يقول :
{ فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون 29 فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين 30 } ….. { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير قبلك لعلهم يتذكرون 46 } سورة القصص
{ وهل أتاك حديث موسى 9 إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى 10 فلما أتاها نودي يا موسى 11 إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى 12 وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى 13 إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري 14 } سورة طه
{ إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون 7 فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين 8 يا موسى أنا الله العزيز الحكيم 9 } سورة النمل
{ هل أتاك حديث موسى 15 إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى 16 } سورة النازعات .
يلاحظ القارئ أن الروايتين تتطابقان في عرض جوهر الحدث وفي بعض التفاصيل ، مثل موضوعي ؛ النارُ والعليقة - النار والشجرة ، بعيدا عن تصور القارئ أن منزل القرآن لم يستسغ نزول الله في عليقة فَاستبدلها بالشجرة المباركة ، ثم قدسية المكان وخلع النعلين . وتختلفان في بعض التفاصيل ؛ تقديم القرآن لبعض الأحداث ، انقضاء الأجل على جريمة قتل موسى للمصري ، اصطحابه لأهله ، رعاية موسى الغنم حميهِ ، ، واصطحاب موسى لأهله عائدا لمصر بعد انقضاء أجل جريمته ، ثم تعريف الرب بنفسه ، اسم المكان ؛ جبل حوريب و الواد المقدس طوى .. الخ .
ملاحظة . الآيتان 46 من سورة القصص ، و 13 من سورة النمل ، قد تفسران بأن الله اختار موسى برسالة لدين جديد وأنه مرسل لهداية أهل مصر إلى هذا الدين الجديد ، فيما سنرى في الحلقة القادمة أنه بالفعل دين جديد وأن القوم الذين لم يأتهم نذير من قبل هم بنو إسرائيل .
2
التفصيلة الثانية : تطور الحدث .
إذاً ، كي نقف على التطابق والاختلاف بصورة أوضح تعالوا نتابع تطور حدث التكليف .
يتابع الإصحاح الثالث تطور الحدث بأن يعدد الرب في الآيات 7، 8 ، 9 ، الأسباب التي دعته لمباشرة إخراج بني إسرائيل من مصر ، كما ثبَّتناها في الحلقة السابقة ليقول : [ فالآن هلم فَأرسلك إلى فرعون وتخرج شعبي بني إسرائيل من مصر 10] . يعقبه بالحوار التالي : [ فقال موسى لله من أنا حتى أذهب إلى فرعون وحتى أخرج بني إسرائيل من مصر 11 فقال إني أكون معك وهذه تكون العلامة أنِّي أرسلتك . حينما تخرج الشعب من مصر تعبدون الله على هذا الجبل 12 فقال موسى لله ها أنا آتي إلى بني إسرائيل وأقول لهم إله آبائكم أرسلني إليكم . فإذا قالوا لي ما اسمه فماذا أقول لهم 13 فقال الله لموسى أَهْيَهِ الذي أَهْيَهْ أرسلني إليكم 14 وقال الله أيضا لموسى هكذا تقول لبني إسرائيل يَهْوَهْ إله آبائكم إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب أرسلني إليكم . هذا اسمي إلى الأبد وهذا ذكري إلى دَوْرٍ فدوْر15 اذهب واجمع شيوخ بني إسرائيل وقل لهم الرب إله آبائكم إله إبراهيم وإسحق ويعقوب ظهر لي قائلا إني قد افتقدتكم وما صنع بكم في مصر 16 فقلت أُصعدكم من مذلة مصر إلى أرض الكنعانيين والحثيين والأموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين إلى أرض تفيض لبنا وعسلا 17 ] .
وقبل متابعة حدث التكليف في التوراة ، دعونا لا نتوقف عند وقوف موسى على حكمة " رحم الله امرءا عرف قدر نفسه " ، بسؤاله الله : من أنا حتى أذهب لفرعون وحتى أخرج بني إسرائيل من مصر ؟ كما لا نتوقف عند رد الله على استفسار موسى كما ورد في الآية 12 ، ولا نتوقف عند جهل موسى باسم إله الآباء
، إله بني إسرائيل ، وحتى باسم الإله الذي كلمه ، بنص الآيات من 13 إلى 17 ، حيث مكان كل ذلك في الحلقة القادمة . ولكن …
لكن ذلك يوصلنا إلى التفصيلة الثالثة : ظهور هارون .
إذ في مجال تقدير موسى لنفسه ، يفاجئنا الإصحاح الرابع بالحوار التالي : [ فقال موسى للرب اسْمع أَيها السيد لست أنا صاحب كلام منذ أمس ولا أول من أمس ولا من حين كلمت عبدك . بل أنا ثقيل الفم واللسان 10 فقال الرب من صنع لِلإنسان فماً أو من يصنع أخرس أو أصم أو بصيرا أو أعمى . أما هو أنا الرب 11 فالآن اذهب وأنا أكون مع فمك وأعلمك ما تتكلم به 12 فقال استمع أيها السيد . أرسل بيد من ترسل 12 فحمي غضب الرب على موسى وقال أليس هارون اللاوي أخاك . أنا أعلم أنه هو يتكلم . وأيضا ها هو خارج لاستقبالك . فحينما يراك يفرح بقلبه 14 فتكلمه وتضع الكلمات في فمه . وأنا أكون مع فمك ومع فمه وأُعلمكما ماذا تصنعان 15 وهو يكلم الشعب عنك . وهو يكون لك فماً وأنت تكون له إلهاً 16 وتأخذ في يدك هذه العصا التي تصنع بها الآيات 17] .
نلاحظ هنا أن الرب هو من اقترح الاستعانة بهارون وليس موسى . لماذا ؟ لأن موسى قبل ارتكاب جريمة قتل المصري والهرب إلى سيناء كان واحدا من أهل قصر الفرعون ، كما أوضحنا في الحلقة السابقة ، وبسبب ذلك كانت علاقته بأخيه هارون ، ومن ثم معرفته بقدراته محدودة . يضاف لذلك ، وهو الأهم ، أن موسى عاش سنوات الهروب الطويلة في سيناء بعيدا عن أهله وفي حالة انقطاع تامة عنهم ، كما تشير ملاحظة عابرة في آية تالية ، لدرجة أنه لم يكن يعرف إن كان أخوه هذا حيا أو ميتا ، إلا إذا كان يتعمد الكذب على حميه يثرون وهو الأمر المستنكر والمستبعد تماما .
3
ولأن القرآن يعتمد الإيجاز الشديد ولا يأبه للتفاصيل ، كما حال التوراة ، نراه يذهب إلى هدف التكليف مباشرة وعلى النحو التالي : { إذهب إلى فرعون إنه طغى 24 قال رب اشرح لي صدري 25 ويسر لي أمري 26 واحلل عقدة من لساني 27 يفقهوا قولي 28 واجعل لي وزيرا من أهلي 29 هارون أخي 30 أَشدد به أزري 31 وأشركه في أمري 32 …. قال قد أوتيت سؤلك يا موسى 36 ولقد مننا عليك مرة أخرى 37 ….. اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري 42 إذهبا إلى فرعون إنه طغى 43 فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى 44 قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى 45 قال لا تخافا إِني معكما أسمع وأرى 46 فأْتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى 47 إنا قد أُوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى 48 } سورة طه .
{ إذهب إلى فرعون إنه طغى 17 فقل له هل لك أن تزكى 18 وأهديك إلى ربك فتخشى 19 } سورة النازعات .
{ وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين 11 قوم فرعون ألا يتقون 12 قال رب إني أخاف أن يكذبون 13 ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون 14 ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون 15 قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون 16 فأْتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين 17 أن أرسل معنا بني إسرائيل 18 } سورة الشعراء .
{ …..فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين 32 قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون 33 وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي رِدءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون 34 قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون 35 …… وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون 46 } سورة القصص .
{ واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا 51 وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا 52 ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا 53 } سورة مريم .
الآن وبعيدا عن الاهتمام بِالتكرار في النص القرآني ، والذي مكانه ليس هنا ، تكرار ذات الآية ، بنفس النص ، أو بتغيير طفيف ، في أكثر من سورة ، هذا التكرار الذي سنرى منه المزيد تاليا ، بعيدا عن ذلك يلاحظ القارئ أن هناك نوعا من التطابق فيما يخص المحتوى من جهة ، واختلافات في شكل ومفردات رواية الحدث من جهة أخرى . أبرز الاختلافات تمثل في موضوع نبوة هارون . في التوراة كان الرب هو من اختار هارون عضدا لموسى ، كما سبق وثبتنا . فيما يرجع القرآن هذه المعاضدة إلى استجابة من الرب لطلب موسى .
على كل ، حتى الآن لا يبدو أن للاختلافات في الرواية قيمة خاصة ، لأنها تذهب إلى أسلوب ومنهج السرد دون المساس بالجوهر ، ما يدعونا إلى الذهاب لِتفصيلة جديدة ، تتمثل في قبول موسى للمهمة ، متجاوزا الخوف من العقاب على جريمة قتله للمواطن المصري ، ومن ثم لقاء الأخوين الأول مع الفرعون من جهة ومع رؤساء بني إسرائيل من جهة أخرى .
4
التفصيلة الرابعة : قبول التكليف .
ونبدأ مع التوراة وَالإصحاح الرابع . [ ثم مضى موسى وهارون وجمعا جميع شيوخ بني إسرائيل 29 فتكلم هارون بجميع الكلام الذي كلم الرب موسى به . وصنع الآيات أمام عيون الشعب 30 فآمن الشعب ولما سمعوا أن الرب افتقد بني إسرائيل وأنه نظر مذلتهم خروا وسجدوا 31 ] .
الملفت للنظر والمثير للدهشة في آن ، أن موسى قبل ذلك ، وبعد أن قبل التكليف ، وفي فاتحة ذات الإصحاح ، اشتكى للرب من أن شيوخ بني إسرائيل لم يسمعوا له وكذبوه . [ فأجاب موسى وقال ولكن هاهم لا يُصدقونني ولا يسمعون لقولي . بل يقولون لم يظهر لك الرب 1 ] ، وحيث يرد الرب ببدء إعداده للنجاح في إنجاز مهام التكليف ، من خلال تزويده بعدة تعليمه لما وصفها بِالمعجزات ، والتي هي في حقيقة الأمر ، كما أوردها الكتابان المُقدسان ، وكما رأى فرعون وملئه ، لا تخرج عن بعض الحيل والألاعيب السحرية . وَالأطرف أنه بعد قبول التكليف عاد لِحميه يثرون يخبره بعزمه على العودة لأهله ، بادئا تطبيق رسالته بِكذبة مفضوحة : [ فمضى موسى ورجع إلى يثرون حميه وقال له أنا أذهب وأرجع إلى أخوتي الذين هم في مصر لأرى هل هم بعد أحياء . فقال يثرون لموسى اذهب بسلام 18] .
كذب موسى بشكل فاضح في الشطر الأول من الآية ، فهل كذب أيضا في الشطر الثاني ، إذ زعم أنه كان لا يعرف إن كان أهله ، ومنهم أخوه هارون ، أحياء أو ماتوا ؟
********
أخيرا ، في هذه التفصيلة يطمئنه الإصحاح على سلامته بعد العودة ، وبما يتطابق مع ما سبق وقاله القرآن ، كما سبق ، في الآية 29 من سورة القصص . قال الإصحاح : [ وقال الرب لموسى في مديان اذهب ارجع إلى مصر . لأنه قد مات جميع القوم الذين كانوا يطلبون نفسك 19 فأخذ موسى امرأته وبنيه وَأركبهم على الحمير ورجع إلى أرض مصر . وأخذ موسى عصا الله في يده 20 ] . ملاحظة : على القارئ أن ينتبه للآية 20 هذه ، حيث سيكون لها شأن في قادم المتابعة لِموضوع هذه الحلقة ، أي الخروج .
هنا وقبل أن نتابع اللقاء مع الفرعون ، لا بد من وقفة تفرض عقدة الحدوتة - الأسطورة - ضرورتها .
في الحلقة الثانية -السابقة - ثبتنا تعداد رجال بني إسرائيل ، من سن عشرين فصاعدا ، القادرين على القتال ، أي الأصحاء تماما ، ب 603550 فردا ، يضاف لهم عدد اللاويين ، أي الكهنة المُكرسين لخدمة المعابِد وهو 22273 ، وبما يعني أن عدد بني إسرائيل آنذاك تجاوز المليونين بكثير . ألا يحق لنا السؤال ،
ومجتمعهم بدوي رعوي ، ينتشر على أرض جاسان الممتدة ما بين فرع النيل الشرقي من الدلتا المصرية ، ومجرى قناة السويس الحالية ، أي على مساحة تتجاوز عشرات آلاف الكيلومترات المربعة : كيف وبأية وسائل تم لموسى وهارون الاتصال فجمع الرؤساء ، ناهيك عن استجابة الرؤساء لنداء من لا يعرفونه ؟ صحيح أن المؤمن لا يطرح سؤالا كهذا ، بالرغم من أن الموضوع كله يندرج في إطار الأسطورة ، أو بلغتنا الحاضرة في إطار اللامعقول . لكن ..
لكن ، هل علينا في بحث كهذا ، أن نسلم بهذا اللامعقول ، والذي سيتكرر كثيرا في السرد المقدس ؟
إذاً لنضع هذه المسألة الآن جانبا كي نتابع مسألة الدخول على الفرعون .
5
يطالعنا الإصحاح الخامس بالقول : [ وبعد ذلك دخل موسى وهارون وقالا لفرعون هكذا يقول الرب إله إسرائيل أطلق شعبي ليُعَيِّدوا لي في البرية 1 فقال فرعون من هو الرب حتى أسمع لقوله فأطلق إسرائيل . لا أعرف الرب وإسرائيل لا أطلقه 2 ] .
جواب فرعون منطقي ، بفرض حدوث واقعة اللقاء كما يعتقد ويؤكد المؤمنون . فرعون يدين بدين آخر غير دين بني إسرائيل ، ويعبد آلهة يتلقى منها الأوامر وليس من إله بني إسرائيل ، ومن ثم من غير المعقول أن يعترف ، والأهم أن يتلقى وينفذ أمرا لإله آخر ، وهذا ما يفترض أن موسى ، والأصح إله موسى ، كان يعرفه وَيعيه تماما . وأعيد ، هذا بفرض صحة حدوث واقعة اللقاء ، ولكن …
لكن ماذا يقول القرآن عن واقعة اللقاء هذا ؟
يقول : { ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فقال إني رسول رب العالمين 46 …… وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين 104 حقيق علي أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل 105 } سورة الزخرف
{ قال ألم نُربِّك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين 18 وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين 19 قال فعلتها إذن وأنا من الضالين 20 ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين 21 وتلك نعمة تمُنُّها علي أن عَبَّدت بني إسرائيل 22 قال فرعون وما رب العالمين 23 قال رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين 24 قال لمن حوله ألا تستمعون 25 قال ربكم ورب آبائكم الأولين 26 قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون 27 قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون 28 } سورة الشعراء .
{ قال فمن ربكما يا موسى 49 قال ربنا الذي أعطى كل شيء ثم هدى 50 قال فما بال القرون الأولى 51 قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى 52 الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك فيها سبلا وأنزل من السماء ماءً فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى 53 } سورة طه
سبق وأوردنا تقدير موسى لنفسه ومكانته الاجتماعية ، وسؤاله للرب : من أنا حتى أدخل على فرعون وحتى أخرج بني إسرائيل من مصر ؟ وبينا أن الرب لم يعطه ، لم يُزوده بوسيلة تمكنه من الدخول فلقاء فرعون . السرد ، الآيات السالفة ، وإن ركزت القرآنية منها على توضيح صفة الرب الذي كلم موسى بأنه هو الله الواحد الأحد ، رب كل البشر ،وليس هو يهوه إله بني إسرائيل القومي ، إلا أنها - الآيات - وفي الكتابين المقدسين ، لا تسعفنا بمعرفة الكيفية التي دخل بها موسى قصر فرعون ، وكل هيئته تشير على أنه صعلوك . كما لا تسعفنا بمعرفة المبررات التي دفعت فرعون للقبول بحدوث اللقاء .
الكتابان المقدسان يؤكدان وَيكرران على أن فرعون الملك كان طاغية . والمعروف أن الملك الطاغية كان في ذلك العصر البعيد يسكن قصرا بحراسة لا تسمح لكل من هب ودب بالدخول ، لقاء ، والجلوس بين يدي هذا الطاغية وأمره بفعل كذا وكيت ، وخصوصا فيما يخالف تعاليم دينه .
إذاً الدخول ، اللقاء والطلب ، إما أنها أحداث تنفي صفة الطاغية ، وتظهر الفرعون على أنه ملك طيب ، باب قصره ، ديوانه مفتوح للجميع ، وأكثر من ذلك أنه متسامح دينيا مع من يخالفه العقيدة ، وإما أنها أحداث لم تقع في الحقيقة . فلو أن الأمر كان غير ذلك ، أي كان فرعون طاغية ، لما تيسر لموسى وهارون الدخول والمقابلة ، ولو أن المستحيل وَقع ، أي حدث الدخول واللقاء ، لَكان الطاغية ، وفي هكذا لقاء ، قد أطار رأسي موسى وهارون جزاء ما تَفوها به . ولكن ..
ولكن ، دعونا من هذا الآن ، وتعالوا نتعرف على ، ونتابع العدة ، الوسائل التي زود الرب بها موسى لتحرير أكثر من مليوني إسرائيلي من ربقة العبودية والهرب بهم إلى سيناء .
6
يقول الإصحاح الرابع أن جواب الرب على شكوى موسى من أن رؤساء بني إسرائيل لم يصدقوه ، وأن الرب لم يظهر له ، كان التالي : [ فقال له الرب ما هذه في يدك . فقال عصا .2 فقال اطرحها إلى الأرض . فطرحها إلى الأرض . فصارت حية . فهرب موسى منها . 3 ثم قال الرب لموسى مد يدك وامسك بذنبها . فمد موسى يده وأمسك به . فصارت عصا في يده . 4 لكي يصدقوا أنه قد ظهر لك الرب إلهُ آبائِهم إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب . 5 ثم قال له الرب أيضا أدخل يدك في عبك . فأدخل يده في عبه . ثم أخرجها فإذا هي برصاء مثل الثلج . 6 ثم قال له رد يدك إلى عبك . فرد يده إلى عبه . ثم أخرجها من عبه وإذا هي قد عادت مثل جسده . 7 فيكون إذا لم يصدقوك ولم يسمعوا لصوت الآية الأولى أنهم يصدقون
صوت الآية الأخيرة . 8 ويكون إذا لم يصدقوا هاتين الآيتين ولم يسمعوا لقولك أنك تأخذ من ماء النهر وتسكب على اليابسة فيصير الماء الذي تسكبه دما على اليابسة . 9 ]
تعرفنا المكتشفات الأثرية المصرية أنه كان في مصر آنذاك مدارس لتعليم وممارسة الألعاب السحرية . وكانت عروض هذه الألعاب ، والمشاهدة لها من جموع الناس حالة طبيعية . وزوادة الرب لموسى بهذه العدة لإقناع قومه ، كان مثلها جزءا من تلك العروض . إذاً ألم يتذكر الرب ، وألم يتذكر موسى أن أي مشاهد لها سيفكر فورا بأنها نوع من الحيل والألعاب السحرية سبق له رؤية ما يماثلها ؟ ثم ألم يخطر بِبالهما أن هكذا عدة ، بهكذا وسائل ، وهي غير ملائمة لإقناع أحد ، لا تلائم مهمة كبرى تتمثل في تحرير شعب يزيد تَعداده عن المليونين بكثير ، من ربقة العبودية ؟ ولو كان الأمر غير ذلك ، لماذا تراجع الرب عن تزويد رسله بعد موسى بها في معالجة العبودية الظلم الأَفدح والأَبشع ، والذي حاق بالبشرية لآلاف السنين قبل وبعد موسى ؟
وماذا يقول القرآن ؟
{ …. وأن ألق عصاك فلما رأها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يُعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين 31 اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرَّهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين 32 } سورة القصص .
{ وما تلك بيمينك يا موسى 17 قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى 18 قال ألقها يا موسى 19 فألقاها فإذا هي حية تسعى 20 قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى 21 واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى 22 لنريك من آياتنا الكبرى 23 } .سورة طه
{ وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون 10 إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم 11 وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين 12 } سورة النمل
إذاً ، وربما من حسن الطالع أن الأمر هنا لا يحتاج إلى تعليق إضافي ، سوى ما يخطر على بال شخص عادي له معرفة بالطبيعة من جهة وبصفات راعي الماشية : كيف لراعي أن يهرب ، يولي مدبرا من مرأى ، من ظهور حية ؟ ردة الفعل الطبيعية عند أي راعي ، عند البدوي ، عند القروي ، هي التأهب لقتل الحية وليس الارتِعاب والهرب منها . هل كان موسى ، القوي الأمين ، جبانا ، رعديدا إلى هذا الحد ؟
7
إذا ً ، ذهب موسى وهارون بهذه الآيات إلى رؤساء بني إسرائيل ثم من بعدهم إلى فرعون . لا يسعفنا الكِتابان المقدسان بشيء عن ردة فعل رؤساء بني إسرائيل ، لكنهما قالا الكثير عن ردة فعل فرعون . كيف ؟
يطالعنا الإصحاح السادس من سفر الخروج بالتالي : [ ثم كلم الله موسى وقال له أنا الرب 2 وأنا ظهرت لإبراهيم وإسحق ويعقوب بأني أنا الإله القادر على كل شيء . وأما باسمي يهوه فلم أعرف عندهم 3 وأيضا أقمت عهدي معهم أن أعطيهم أرض كنعان أرض غربتهم التي تغربوا فيها 4 وأنا أيضا قد سمعت أنين بني إسرائيل الذين يستعبدهم المصريون وتذكرت عهدي .5 لذلك قل لبني إسرائيل أنا الرب . وأنا أخرجكم من تحت أثقال المصريين و أنقذكم من عبوديتهم وَأخلصكم بذراع ممدودة وبأحكام عظيمة 6 وأتخذكم لي شعبا وأكون لكم إلها . فتعلمون أني أنا الرب إلهكم الذي يُخرجكم من تحت أثقال المصريين .7 وَأدخلكم إلى الأرض التي رفعت يدي أن أعطيها لإبراهيم وإسحق ويعقوب . وأعطيكم إياها ميراثا . أنا الرب .8 فكلم موسى هكذا بني إسرائيل . ولكن لم يسمعوا لموسى من صغر النفس ومن العبودية القاسية 9 ثم كلم الرب موسى قائلا 10 أدخل قل لفرعون ملك مصر أن يطلق بني إسرائيل من أرضه .11 فتكلم موسى أمام الرب قائلا هوذا بنو إسرائيل لم يسمعوا لي فكيف يسمعني فرعون وأنا أغلف الشفتين 12 ] .
هذه الآيات تقول أن الرب غير خطته . أعطى موسى عدة غير العدة السابقة . عدة فكرية أيديولوجية لم تنفع مع بني إسرائيل . لكن الإصحاح ، والإِصحاحات التالية لا تقول إن كان موسى ، بتوجيه جديد من الرب ، قد عاود محاولة إقناع الرؤساء باستخدام العدة الأولى ، لكنها تقول أنها هي العدة التي استخدمها مع الفرعون . كيف ؟
هنا ، ربما يهم القارئ ، وقبل البدء في الإجابة ، معرفة معلومة صغيرة شديدة الأهمية . معلومة تقول أن موسى لم يتلق الرسالة في عمر الأربعين ، ولكنه تلقاها كهلا ابن ثمانين ، كما يخبرنا الإصحاح السابع في الآية 7 [ وكان موسى ابن ثمانين سنة وهارون ابن ثلاث وثمانين سنة حين كلما فرعون 7 ] ، ولِيقفز أمام القارئ سؤال : إذاً كيف كان موسى يرعى الغنم وهو في هذا العمر ؟ وهل ابن الثمانين الذي قضى الردح الأكبر من عمره يجوب قفار سيناء يخاف ويرتعب من مرأى حية ؟
ونرجع لمحاولة الإجابة على سؤال كيف ؟ ونقرأ في الإصحاح السابع : [ وكلم الرب موسى وهارون قائلا .8 إذا كَلمكما فرعون قائلا هاتيا عجيبة تقول لهارون خذ عصاك وَاطرحها أمام فرعون فتصير ثعبانا . 9 فدخل موسى وهارون على فرعون وفعلا هكذا كما أمر الرب . طرح هرون عصاه أمام فرعون وأمام عبيده فصارت ثعبانا .10 فدعا فرعون أيضا الحكماء والسحرة ففعل أيضا عرافو مصر بسحرهم كذلك
.11 طرحوا كل واحد عصاه فصارت العصي ثعابين. ولكن عصا هرون ابتلعت عصيهم . 12 فاشتد قلب فرعون فلم يسمع لهما كما تكلم الرب .13 ]
في اليوم التالي ، وتطبيقاً لتعاليم الرب التقى موسى وهارون فرعون عند الماء في الصباح . وحسب هذه التعاليم ضرب هارون الماء بالعصا فتحول ماء النهر إلى دم ومات كل السمك الذي في الماء .
[ ثم قال الرب لموسى قل لهارون خذ عصاك ومد يدك على مياه المصريين على أَنهارهم وعلى سواقيهم وعلى آجامِهم وعلى كل مجتمعات مياههم لتصير دما . فيكون دم في كل أرض مصر في الأخشاب وفي الأشجار 19 ففعل هكذا موسى وهارون كما أمر الرب . رفع العصا وضرب الماء الذي في النهر أمام عيني فرعون وأمام عيون عبيده فتحول كل الماء الذي في النهر دما .20 ومات السمك الذي في النهر وأنتن النهر . فلم يقدر المصريون أن يشربوا ماء من النهر . وكان الدم في كل أرض مصر . 21 وَفعل عرافو مصر كذلك بسحرهم . فاشتد قلب فرعون فلم يسمع لهما كما تكلم الرب . 22 ] .
يلاحظ القارئ من هذه الآيات أن فرعون رآها من البدء حيلا أو ألعابا سحرية ولم يرها معجزات ، ويستنتج أن فرعون توصل لذلك من حيلة إدخال موسى يده في عبه وخروجها بيضاء كالثلج ، وهي الحيلة التي تجاهلتها الآيات . كان رد فرعون أن حشد له السحرة ، وأن هؤلاء السحرة أتوا بذات ما أتى به سحر موسى ، الذي هو في الحقيقة سحر الرب ، ولكونه كذلك كان مقررا أن ينتصر على سحر المصريين ، ولكنه لم يفعل . النتيجة كانت التعادل ، الأمر الذي فيما يبدو أثار غضب الرب فانتقل من أداء حيل لا ضرر منها إلى توجيه ضربات انتقام ، كما سَنطالع لاحقا . بقيت ملاحظة عابرة لا تفوت القارئ وهي أن يد الرب في تنفيذ الحيل كان هارون وليس موسى ولكن ….
لكن ، وقبل أن ننتقل إلى القرآن ، تتوجب الإشارة إلى أن الآيات السالفة تقول أن قلب فرعون اشتد ولم يسمع لهارون وموسى بسبب نتيجة التعادل في تلك المباريات السحرية ، لكن الإصحاح الرابع يقول بوضوح أن اشتداد قلب فرعون كان بإرادة مسبقة من الرب ، بغرض إنزال ضربات عقاب لِ ، ضربات انتقام من المصريين : [ وقال الرب لموسى عندما تذهب لترجع إلى مصر انظر جميع العجائب التي جعلتها في يدك واصنعها قدام فرعون . ولكني أشدد قلبه حتى لا يطلق الشعب 21 فتقول لفرعون هكذا يقول الرب . إسرائيل ابني البكر 22 قلت لك أطلق ابني ليعبدني فأبيت أن تطلقه . ها أنا أقتل ابنك البكر 23 ] .
ثم يقال أن هذا الرب ليس هو إله إسرائيل القومي ، واحدا من آلهة الشعوب الكثيرة ، وإنما هو إله كل الناس ، الله الواحد الأحد .

8
وماذا يقول القرآن ؟ .
يقول القرآن الكثير الكثير : ونبدأ من سورة الشعراء ، وتهديد فرعون لموسى برميه في السجن { قال أوَلَوْ جئتك بشيء مبين 30 قال فأت به إن كنت من الصادقين 31 فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين 31 ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين 32 قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم 33 يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون 34 قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين 35 يأتوك بكل سحار عليم 36 فجُمِع السحرة لميقات يوم معلوم 37 وقيل للناس هل أنتم مجتمعون 38 لعلنا نتَبع السحرة إن كانوا هم الغالبين 39 فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين 40 قال نعم وإنكم إذاً لمن المقربين 41 قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون 42 فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون 43 فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون 44 فألقى السحرة ساجدين 45 } . سورة الشعراء
{ وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين 104 حقيق علي أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل 105 قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين 106 فالقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين 107 ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين 108 قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم 109 يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون 110 قالوا أرجه وأرسل في المدائن حاشرين 111 يأتوك بكل ساحر عليم 112 وجاء السحرة فرعون قالوا أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين 113 قال نعم وإنكم لمن المقربين 114 قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين 115 قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم 116 وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون 117 فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون 118 فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين 119 } . سورة الأعراف
{ فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين 36 } سورة القصص .
{ ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين 75 فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين 76 قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون 77 قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين 78 وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم 79 فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون 80 فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين 81 ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون 82 } سورة يونس
{ ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين 45 إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين 46 فقالوا أنؤمن لبشر مثلنا وقومهما لنا عابدون 47 فكذبوهما فكانوا من المهلكين 48 } سورة المؤمنون
{ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين 23 إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب 24 فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال 25 وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد 26 وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب 27 وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب 28 يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد 29 .. . وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب 36 أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب 37 …. } . سورة غافر
{ ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى 56 قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى 57 فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى 58 قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى 59 فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى 60 قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى 61 فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى 62 قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى 63 فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى 64 قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى 65 قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى 66 فأوجس في نفسه خيفة موسى 67 قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى 68 وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى 69 فأُلقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى 70 } سورة طه

9
في قراءة تناول القرآن لحدث النزال ، دعونا لا نلتفت إلى كل هذا التكرار في الآيات ، ذلك لأن موضوع البحث أبعد ما يكون عن الإعجاز اللغوي في القرآن . القرآن ، على عكس التوراة ، حسم النزال ، و بالضربة القاضية ، لصالح مدرسة الرب ، ولدرجة أن خرَّ السحرة المصريون ساجدين ، مؤمنين برب موسى ، بالرغم من أن موسى لم يدعهم لمثل هذا الإيمان ، ولكن ..
لكن القارئ وهو يتفكر في الآيات ، يستقر في ذهنه أن كل المشهد كان في حضرة فرعون ، وأن الملأ الذين تذكرهم الآيات هم كبار حاشية الفرعون . ثم يندهش من أن النص قد لا يعني هؤلاء . ذلك أن موسى طلب خروج بني إسرائيل ، ولم يتطرق ، لا من قريب أو بعيد ، إلى المس بديانة المصريين ، ولا بإخراجهم من أرضهم .
إذا ً ، لمن أشارت ، وعمن تحدثت الآيات التالية ؟ : { قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى 63 طه } ، و{ قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى 57 طه } ، و { قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين 78 يونس } . و { قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم 33 يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون 34 الشعراء } .
هنا يوجد لُبْس واضح . الملأ في الآيات هم رؤساء بني إسرائيل ، والمتحدث فيها هو كبير هؤلاء الرؤساء وليس فرعون . ذلك يفسر ما قالته التوراة من شكوى موسى عن رفض هؤلاء الرؤساء السماع له ، وأنهم كذبوه قائلين بأنه لم ير الرب ، ومن ثم لم يرسله .
إذا ً ، كيف حدث اللبس ؟ البحث عن جواب يذهب بنا ، كما التكرار ، إلى جمع القرآن ، وهو ليس موضوعنا هنا .
وغير ذلك ، يلفت الانتباه ما ورد في سورة غافر . ذلك أن السورة قدمت رواية أخرى . وليس المقصود بالرواية الأخرى إضافة قارون وهامان إلى فرعون ، أو أن فرعون طلب من هامان أن يبني له صرحا يمكن الصعود عليه من الوصول إلى السماء ، كي يظفر بالدليل على عدم وجود إله موسى . اختلاف الرواية تمثل في أن فرعون أراد ، ومن البداية ، قتل موسى ، كما قتل أبناء من آمنوا به واستحياء نسائهم . لكن ملأ فرعون حالوا دون تنفيذ إرادته ، وبما ينفي عنه توصيف الطاغية . أكثر من ذلك ، يلفت الانتباه هذا الدفاع ممن وصفته الآيات برجل مؤمن يخفي إيمانه . دفاع لا نرى مثله ، من حيث الجرأة في الحق ومواجهة المسؤول ، في أكثر محاكمنا حيدة وعدلا . والمدهش أن فرعون الطاغية لم يفعل لهذا المدافع شيئا .
ثم نعود لنذكر :
1- أن آيات التوراة كررت القول بأن فرعون وهو يتابع تعادل سحرته مع سحر هارون ، كان يشتد قلبه ويرفض الاستجابة لطلب موسى بإطلاق سراح بني إسرائيل . 2- لكن الرب في آية سابقة - 23 من الإصحاح الرابع - أكد أنه هو من كان يشدد قلب فرعون . لماذا ؟ ليكون هذا التشدد مبررا لما انتوى الرب فعله وهو إلحاق الأذى ، الانتقام من المصريين . 3- أن القرآن أرجع رفض فرعون إلى استكباره - في
أكثر من آية - هو وملأه واستصغارهم لشأن موسى وهارون { فقالوا أنؤمن لبشر مثلنا وقومهما لنا عابدون } ، ذلك بالرغم من أن موسى لم يطلب منهم الإيمان بربه . وبسبب هذا الاستكبار استحق فرعون وقومه ما سَينزل بهم من ألوان الأذى والعقاب . فكم كانت وكيف تمت عجائب الرب ، أو ضربات العقاب بدءا بالتوراة ؟
10
يفرد سفر الخروج الإصحاحات 8 ، 9 ، 10 و11 وجزءا من الإصحاح 12 لهذه العجائب الضربات ، وبعدد من الآيات يزيد عن مائة وعشرين آية . يلاحظ قارئها أنها تتدرج من الإزعاج إلى الإيذاء متصاعد الشدة لتنتهي بقتل الأبكار . كما يلاحظ أن السحرة المصريين واصلوا المشاركة والتعادل في ضربات الإزعاج ، وَليقرروا الانسحاب بعد أن أيقنوا أن لا مجال لمواصلة المنافسة مع ما وصفوه [ هذا أُصبع الله] .
إذاً ، وَنظرا لتعدد عجائب الضربات وتعذر نقل كل الآيات ، خاصة وأن التوراة تعتمد التكرار ، تثبت تعاليم الرب لموسى بما سيقوله لفرعون أولا ، تليها بتعاليم خطوات فعل كل آية - عجيبة - أو ضربة ، فَتثبيت قوله لفرعون ، ثم تطبيق الخطوات ، فرجاء الفرعون كف الأذى واستجابة موسى للرجاء أملا في تليين قلب الفرعون ، بسبب كل ذلك سألجأ للتالي : 1- تَعداد الضربات حسب ورودها في الإصحاحات . 2- اختيار ضربتين شارك فيهما سحرة فرعون ، وكما حَدثتا أمام فرعون وملئه . 3- عرض عجيبة ذات أذى كبير . 4- وعرض عجيبة أو ضربة قتل الأبكار وخضوع فرعون بإطلاق سراح بني إسرائيل . 5- ملاحظة أنه في كل هذه الأعاجيب حرص الرب على وقاية بني إسرائيل من ضرباتها . زَحلقت الضربات عن بني إسرائيل .
ونبدأ .
أولا : الضربات كانت بِ 1 - الضفادع 2- البعوض 3- الذبان - الذباب - 4- وبأ المواشي والدواب 5- الدمامل للناس والدواب 6- الوبَأ للناس 7- المطر ، البَرَد 8- الجراد 9- الظلام 10 قتل الأبكار .
ثانيا : في اختيار الضربات . 1- يطالعنا الإصحاح الثامن بالتالي : بعد الإشارة إلى الآية 25 وتحويل المياه إلى الدم يقول : [ قال الرب لموسى أُدخل إلى فرعون وقل له هكذا يقول الرب أطلق شعبي ليعبدوني 1 وإن كنت تأبى أن تُطلقهم فها أنا أضرب جميع تخومك بالضفادع 2 فيفيض النهر ضفادع . فتصعد وتدخل إلى بيتك وإلى مخدع فراشك وعلى سريرك وإلى بيوت عبيدك وعلى شعبك وَإلى تنانيرك وإلى مَعاجنك 3 عليك وعلى عبيدك تصعد الضفادع 4 فقال الرب لموسى قل لهرون مد يدك بعصاك على الأنهار والسواقي والآجام وأصعد الضفادع على أرض مصر 5 فمد هرون يده على مياه مصر . فصعدت الضفادع وهبطت على أرض مصر .6 وفعل كذلك العرافون بسحرهم وَأصعدوا الضفادع على أرض مصر 7 ]
طلب فرعون من موسى رفع الضفادع واستجاب موسى لكن قلب فرعون اشتد ولم يستجب لطلب موسى بإطلاق بني إسرائيل .
2- [ ثم قال الرب لموسى قل لهرون مد عصاك واضرب تراب الأرض ليصير بعوضاً في جميع أرض مصر 16 فَفعلا كذلك . مد هرون يده بعصاه وضرب تراب الأرض . فصار البعوض على الناس وعلى البهائم . كل تراب الأرض صار بعوضاً في جميع أرض مصر . 17 وفعل كذلك العرافون بسحرهم ليخرجوا البعوض فلم يستطيعوا . وكان البعوض على الناس وعلى البهائم 18 فقال العرافون لفرعون هذا أُصبع الله ولكن اشتد قلب فرعون فلم يسمع لهما كما تكلم الرب 19 ] .
هنا يبرز سؤال : هل جاء تنحي السحرة المصريين عن متابعة المباراة بسبب معرفتهم بأن المنافسة مع مدرسة الرب ، حيث انعدام التكافؤ بين طرفيها ، أم بسبب اعتراض هؤلاء السحرة على انتقال اللعبة من ميدان السحر الأبيض إلى ميدان السحر الأسود ، حيث إلحاق الأذى بالنظارة والناس عموما بدلا من الترويح عنهم وإِمتاعهم ؟ وحيث لا وجود لمدارس السحر الأسود في مصر آنذاك ؟
لنترك محاولة الإجابة الآن ، لكون الموضوع خارج بحثنا .
وننتقل لأكثر الضربات إيذاء .
ثالثا : من الإصحاح العاشر نختار عجيبة الجراد .
[ ثم قال الرب لموسى مد يدك على أرض مصر لأجل الجراد . ليصعد على أرض مصر ليأكل كل عشب الأرض . كل ما تركه البَرَد .11 فمد موسى عصاه على أرض مصر . فجلب الرب على الأرض ريحا شرقية كل ذلك النهار وكل الليل . 12 ولما كان الصباح حملت الريح الشرقية الجراد 13 فصعد الجراد على كل أرض مصر وحل في كل تخوم مصر . شيء ثقيل جدا لم يكن قبله جراد هكذا مثله ولا يكون بعده كذلك 14 وغطى كل وجه الأرض حتى أظلمت الأرض وأكل جميع عشب الأرض وجميع ثمر الشجر الذي تركه البرد . حتى لم يبق شيء أخضر في الشجر ولا في عشب الحقل في كل أرض مصر .15 ]
هنا تعالوا نثبت واحدة من رَجاوات فرعون التي تكررت مع الأعاجيب ، ودون أن نسأل : هل جازت رَجاوات - خدع - فرعون المتكررة على عقل موسى ، وقبله عقل الرب ، بتكرار الاستجابة لها ، وتكرار نقض فرعون تعهده بإطلاق بني إسرائيل ، أم كانت الاستجابة بغرض دفع فرعون للغرق في نقض وُعوده ومن ثم توفير المبرر للرب بإنزال المزيد من ضربات الأذى بالمصريين ؟
[ فدعا فرعون موسى وهرون مسرعا وقال أخطأت إلى الرب إِلهكما وإِليكما 16 والآن إِصفحا عن خطيتي هذه المرة فقط . وصلِّيا إلى الرب إِلهكما ليرفع عني هذا الموت فقط 17 فخرج موسى من لدن فرعون
وصلى إلى الرب 18 فرد الرب ريحا غربية شديدة جدا . فحملت الجراد وطرحته إلى بحر سوف . فلم تبق جرادة واحدة في كل تخوم أرض مصر 19 ولكن شدد الرب قلب فرعون فلم يطلق بني إسرائيل .20 ]
ورابعا وأخيرا : نصل إلى عجيبة قتل الأبكار .
يطالعنا الإصحاح الحادي عشر بالتالي : [ ثم قال الرب لموسى ضربة واحدة أيضا أجْلب على فرعون وعلى مصر . بعد ذلك يُطلقكم من هنا . وعندما يطلقكم يطردكم طردا من هنا بالتمام 1 تكلم في مسامع الشعب أن يطلب كل رجل من صاحبه وكل امرأة من صاحبتها أمتعة فضة وأمتعة ذهب .2 وأعطى الرب نعمة للشعب في عيون المصريين . وأيضا الرجل موسى كان عظيما جدا في أرض مصر في عيون عبيد فرعون وعيون الشعب . 3 وقال موسى هكذا يقول الرب إني نحو نصف الليل أخرج في وسط مصر . 4 فيموت كل بكر في أرض مصر من بكر فرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الجارية التي خلف الرحى وكل بكر بهيمة .5 ويكون صراخ عظيم في أرض مصر لم يكن مثله ولا يكون مثله أيضا 6 ولكن جميع بني إسرائيل لا يسنن كلب لسانه إليهم لا إلى الناس ولا إلى البهائم . لكي تعلموا أن الرب يميز بين المصريين وإسرائيل . 7 فينزل إليَّ جميع عبيدك هؤلاء ويسجدون لي قائلين أخرج أنت وجميع الشعب الذين في أثرك . وبعد ذلك أخرج . ثم خرج من لدن فرعون في حمو الغضب . 8] .
ويقول المؤمنون ويكررون القول أن هذا الإله هو الله ، إله كل البشر وأنه العادل ، الرحيم ، وَالحليم الرؤوف بعباده .
11
وماذا يقول القرآن ؟
ولأن القرآن ، على عكس ما طالعنا ، يقصر عرض الضربات على سورة واحدة ، هي سورة الأعراف ، ويعطي أسبابا غير تلك الواردة في التوراة ، و للتسهيل على القارئ ، سنبدأ في السورة من حيث انتهينا في فقرة سابقة ، وكالتالي : { … وألقى السحرة ساجدين 120 قالوا آمنا برب العالمين 121 رب موسى وهارون 122 قال فرعون أَآمنتم قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون 123 لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين 124 قالوا إنا إلى ربنا منقلبون 125 وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين 126 وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون 127 قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين 128 قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون 129 ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من
الثمرات لعلهم يذكرون 130 فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إن طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون 131 وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين 132 فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين 133 ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لإن كشفت عنا الرجز لنؤمنن بك ولنرسلن معك بني إسرائيل 134 فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون 135 . } . سورة الأعراف .
وعن نكث العهد تطالعنا سورة الزخرف بالتالي : { فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون 47 وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون 48 قالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون 49 فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون 50 } .
12
يلفت الانتباه في كل هذا التمهيد لحدث الخروج ، حقيقة عدم وجود تعارض ، بل وجود تطابق جوهر الروايتين ، الذي هو الأَحداث الممهدة للخروج ، وبما يعني الاتفاق على الخروج والتعامل معه كحقيقة تاريخية ثابتة . كما يلفت الانتباه وجود حالات من الاختلاف في الشكل غير ناتجة عن اختلاف أُسلوبي العرض لِلكتابين المُقدسين ؛ الإطناب للتوراة والإيجاز للقرآن .مثل ورود حدث هنا وعدم وجوده هناك ، وهو ما يحفز ذهن القارئ للسؤال : هل من المحتمل أن تصاب ذاكرة الرب بذات الأعراض التي تصاب بها ذاكرة البشر ، كأن يصيبها الوهن فالنسيان مع مرور الزمن ؟ وإلا بماذا نفسر دخول هامان وقارون على النص في القرآن ؟ وكيف نفسر اختصار الضربات من عشرة في التوراة إلى خمسة في القرآن ؟ وكيف نفسر استبدال الذبان بالقمل ؟ والمطر والبرد بالطوفان ؟ .
والمدهش ملاحظة هذا العطل في ذاكرة الرب أثناء سرد التوراة للضربات . كيف ؟
في العجيبة الرابعة ، ضرب الرب مواشي المصريين بِالوبأ وقضى عليها قضاءا تاما ، حسبما يخبرنا الإصحاح التاسع :[ وعيَّن الرب وقتا قائلا غدا يفعل الرب هذا الأمر في الأرض 5 ففعل الرب هذا الأمر في الغد . فماتت جميع مواشي المصريين وأما مواشي بني إسرائيل فلم يمت منها واحد 6 وأرسل فرعون فإذا مواشي إسرائيل لم يمت منها ولا واحد . ولكن غلظ قلب فرعون فلم يطلق الشعب . 7 ] .
لكن ذات الإصحاح يعود لنقض روايته ، حسبما جاء في العجيبة السابعة ؛ المطر والبَرَد : [ ….ها أنا غدا مثل الآن أمطر بَرَدا عظيما جدا لم يكن مثله في مصر منذ يوم تأسيسها إلى الآن 18 فالآن أرسل احم مواشيك وكل ما لك في الحقل . جميع الناس والبهائم الذين يوجدون في الحقل ولا يجمعون إلى البيوت ينزل عليهم البرد فيموتون 19 فالذي خاف كلمة الرب من عبيد فرعون هرب بعبيده ومواشيه إلى البيوت 20
وأما الذي لم يوجه قلبه إلى كلمة الرب فترك عبيده و مواشيه في الحقل 21 …….فضرب البرد في كل أرض مصر جميع ما في الحقل من الناس والبهائم . وضرب البرد جميع عشب الحقل وكسر جميع شجر الحقل 25 إلا أرض جاسان حيث كان بنو إسرائيل فلم يكن فيها برد 26 ] .
ولأن الضربتين لم تَقعا في زمنين متباعدين ، بل فصلتهما بضعة أيام لا بد للقارئ أن يتساءل : كيف وقع في ذهن الرب أن مواشي المصريين بادت عن بكرة أبيها في الأولى ، وعادت إلى الوجود في الثانية لتتم إبادة جزء منها مرة أخرى ؟
و متجاهلين فنون المبالغة المستهينة بالعقل ، أي عقل ، خصوصا تحييد وتعطيل قوانين الطبيعة ، مثل مسألة إنتان الماء البديهي في الماء الراكد ، وغير الممكن في الماء الجاري ، فإن التوراة أكدت على ماء النهر أنتن ، ولم يجد المصريون ماءً للشرب مما اضطرهم لحفر آبار ، حدث ذلك بالرغم من قوة وسرعة التدفق المعروف في تيار مياه نهر النيل . وكمثل انتشار الضفادع ، البعوض ، الجراد .. الخ في كل أرض مصر ، وليس في الموقع أو المدينة التي شهدت الحركات السحرية . إذاً متجاهلين المبالغة وبما يوازيها من فشر ، أو كذب بواح ، نصل إلى المسألة الأهم . إذ سبق أن أشرنا أن فرعون في الضربات العشر كان يتوجه إلى موسى بالرجاء ، مشفوعا بعهد إطلاق بني إسرائيل ، لرفع أذى الضربة عنه وعن شعبه . وكان موسى ، بتوجيه من الرب ، يقبل الرجاء ، يرفع بلاء الضربة ، فيما ظل فرعون ينكث عهده . تكرر هذا عشر مرات . وكنا سألنا : هل جازت خدع فرعون على موسى وعلى الرب قبله أم ماذا ؟ بعبارة أخرى هل كان موسى ، أو الرب ، من الغفلة بحيث تم لدغه من ذات الجحر عشر مرات ؟
القرآن ، كما رأينا في سورتي الأعراف والزخرف ، باستدعاء تأكيده على عصمة الأنبياء ، بدا أنه ينفي هذه الغفلة عن موسى ، كما ينفي تعطيل أو تحييد قوانين الطبيعة ، وذلك من خلال الاكتفاء بذكر اسم الحدث ، دون الخوض في تفاصيله ، وتارك للمفسر فرصة التأويل على النحو الذي يرى فيه خدمة المصلحة العامة . كيف ؟
في الآيتين 134 و 135 من سورة الأعراف جاء : { ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك إن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل 134 فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون 135 } . وفي الآيات 48 و49 و50 من سورة الزخرف : { وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون 48 وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون 49 فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون 50 } . إذاً لا غفلة لموسى ولا تكرار للدغ . ولكن ..
لكن سبق و أوضحنا أن الرب هو من كان يشدد قلب فرعون ، وليس فرعون من كان يَنكث الوعد . والسبب حتى يتوفر للرب مبرر ضرب المصريين بالأعاجيب . ذلك يوصلنا إلى المسألة الأكثر خطورة . الرب في هذا التمهيد لإخراج بني إسرائيل من مصر سن وطبق شرعة التمييز بين الشعوب . التمييز العنصري . والمشكلة التي يواجهها القارئ مع سن وتطبيق هذه الشرعة تتمثل في طبيعة هذا الرب . إذ هي تكون مفهومة مع توصيف التوراة لهذا الرب بأنه إله بني إسرائيل ، إله العبرانيين ، أي هو إله قومي ، واحد من جملة الآلهة القومية آنذاك . ولأنه كذلك ، كان من البديهي أن يميز قومه على سائر الأقوام . لكن المعضلة تنشأ من إصرار القرآن على توصيفه بأنه الله رب العالمين ، ودون أن يرفع عنه سبة سنِّه وتطبيقه لشرعة التمييز بين البشر ، ودون إشارة أنه ، أي رب العالمين هذا ، قد بذل أدنى جهد ، قام بأبسط محاولة لإرشاد ، إصلاح ، وإعادة الشعوب المميز ضدها عن فسادها وضلالها ..ولكن ..
لكن هذا موضوع كبير ليس هنا مكانه .
13
وهكذا نخلص من التمهيد للخروج ، إلى بدء وسير عملية الخروج . كيف ؟
في الإصحاح العاشر ، ونتيجة لِعجيبة الظلام الذي دام على مصر ثلاثة أيام ، فيما دام النور في مساكن بني إسرائيل ، جاء التالي : [ فدعا فرعون موسى وقال اذهبوا اعبدوا الرب . غير أن غنمكم وبقركم تبقى . أولادكم أيضا تذهب معكم 24 فقال موسى أنت تعطي أيضا في أيدينا ذبائح ومحرقات لنصنعها للرب إلهنا .25 فتذهب مواشينا أيضا معنا . لا يبقى ظلف . لأننا منها نأخذ لعبادة الرب إلهنا . نحن لا نعرف بماذا نعبد الرب حتى نأتي إلى هناك .26 ولكن شدد الرب قلب فرعون فلم يشأ أن يُطلقهم 27 وقال له فرعون اذهب عني . احترز . لا تر وجهي أيضا . إنك يوم ترى وجهي تموت 28 فقال موسى نعمّْا قلت . أنا لا أعود أرى وجهك أيضا 29 ] .
كانت هذه بداية اللين ، أو المرونة في موقف فرعون . لكنها اقتضت أن يعجل الرب بالضربة العاشرة المميتة . قتل أبكار المصريين ، من بكر تلك المسكينة العاملة خلف الرحى إلى بكر فرعون ذاته . كيف مرة أخرى ؟
في الإصحاح الثاني عشر جاء التالي :[ فحدث في نصف الليل أن الرب ضرب كل بكر في أرض مصر من بكر فرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الأسير الذي في السجن وكل بكر بهيمة 29 فقام فرعون ليلا هو وكل عبيده وجميع المصريين وكان صراخ عظيم في مصر . لأنه لم يكن بيت ليس فيه ميت 30 فدعا موسى وهارون ليلا وقال قوموا اخرجوا من بين شعبي أنتما وبني إسرائيل جميعا واذهبوا اعبدوا الرب كما
تكلمتم 31 خذوا غنمكم أيضا وَبقركم كما تكلمتم واذهبوا . وبارِكوني أيضا 32 وأنَح المصريون على الشعب لِيطلقوهم عاجلا من الأرض . لأنهم قالوا جميعنا أموات .33 ] .
وتطبيقاً لتوصية الرب سلب بنو إسرائيل أموال المصريين ، وبدأوا مسيرة الخروج . [ فارتحل بنو إسرائيل من رعمسيس إلى سكوت نحو ست مئة ألف ماش من الرجال عدا الأولاد 37 وصعد معهم لفيف كثير أيضا مع غنم وبقر ومواش وافرة جدا 38 ] و [ وكان في ذلك اليوم عينه أن الرب أخرج بني إسرائيل من أرض مصر بحسب أَجنادهم 51 ] .
14
ولأن القرآن لم يعر اهتماما للحظة إطلاق فرعون لبني إسرائيل وبدء مسيرة الخروج ، ربما تجنبا لذكر الموقف المشين ، تنفيذ توجيه الرب ، ورعاية موسى وهارون ، خداع المصريين وسلبهم حليهم و متاعهم ، ولأن مسيرة الخروج كانت تقتضي عبور سيناء ، تعالوا نتذكر ، ونقف عند بعض المعالم التي اكتنفت تلك المسيرة وذلك العبور .
أولا : تعالوا لنتذكر أولا تشديد التوراة على عدد أولئك الخارجين . نحو ستمائة ألف ماش من الرجال عدا الأولاد ومعهم لفيف كثير . ونكرر هنا ، أن هذا يعني أن مسيرة الخروج هذه ضمت أكثر بكثير من مليوني شخص ، إضافة إلى مواشيهم ودوابهم الوافرة جدا ، بالإضافة لِمتاعهم وأدوات عيشهم . ما الذي نعنيه هنا ؟
نعني أن علينا أن نتذكر في كل تفصيلة من مسيرة الخروج أننا نتعامل مع كتلتين بشرية وحيوانية ضخمتين . ومن البداية قالت التوراة أن هاتين الكتلتين جرى تَجميعهما في ، وَانطلاقهما من مدينة رعمسيس . ومن البدء يأخذ القارئ في التساؤل : ترى كم كان حجم أو مساحة مدينة رعمسيس كي يتم فيها تجميع وانطلاق هذه الحشود الهائلة ؟ التساؤل ذاته سيواجهنا لاحقا في كل تَجميع ، في تنظيم الحشود ، في مسيرها ، في حركتها وراحتها ، في سعة واستيعاب الطريق ، في مَأكلها ومشربها ، في تعبها وراحتها ، في صحوها وفي نومها .. الخ ، إذ كل ذلك على نقيض ما يوحي الكتابان المقدسان بأن التعامل يتم مع كتلة بشرية صغيرة هي وممتلكاتها .
وثانيا : مسألة سرية التجميع والحركة وغفلة الدولة عنها ، خصوصا خدعة سلب المصريات حليهن ومتاعهنْ وسلب المصريين أموالهم ، وخصوصا المدى الذي ذهب إليه الرب ومعه موسى النبي والرسول في شرعنة وقوننة التمييز العنصري بضربه الغفلة على عقول وقلوب المصريين لإتمام عملية سرقتهم .
وثالثا : هذا التساؤل الممض لعقل القارئ: لماذا لم يتمم الرب نعمته بمواصلة غفلة قلوب وعقول المصريين ، وترك بني إسرائيل يفوزون بِغنيمتهم ويلوذون بحصون الطبيعة القاسية لسيناء ؟.
ورابعا : الوقوف على معرفة طبيعة وطبوغرافية سيناء . ولنتذكر أن موسى فور قبوله لتكليف الرب بالرسالة عاد للبيت ، كذب على حميهِ ، حمل أهل بيته على الحمير ، وعاد إلى مصر .
ولأن الرسالة نزلت على موسى وهو يرعى غنم حميه عند جبل حوريب - حسب التوراة - الطور والوادي المقدس طوى - حسب القرآن - ، نفهم أن موسى عاش في القسم من سيناء المعروف الآن باسم محافظة سيناء الجنوبية . ولأن موسى عاش فيها فترة طويلة من الزمن ، ولأنه وصلها شابا هاربا وغادرها وهو ابن ثمانين عائدا لأهله في جاسان والدلتا ، نكون ملزمين أن نقدر أنه كان يعرف المنطقة جيدا ، خصوصا معابرها ومخارجها ، أي الطرق الواصلة منها لمصر وبالعكس ، إضافة لطبيعتها ، لمناخها ، لنباتاتها وأشجارها ، لمياهها وينابيعها .. الخ .
وخامسا : يحتاج القارئ ، ولكيلا يقع فريسة لِمبالغات التوراة ، إلى التزود بشئ من المعارف عن سيناء عموما ، وعن المحافظة الجنوبية ، محطة الخروج والتيه خصوصا . معارف جغرافية ، طبيعية ، بيئية ، مناخية ، وطبوغرافية .. الخ . ولا أظنه سيفاجأ حين يعرف أن أغلبيتها صحاري ، وأن جبالها ليست كجبال البلدان المجاورة ، إذ هي عبارة عن كتل صخرية صماء بلا حفنة تراب واحدة على أَكثريتها . لكنه سيفاجأ أكثر حين يعلم بأن عبورها غير متاح كما في جبال البلدان المجاورة ، وأن العبور تتيحه ثلاث أو أربع ممرات عرضية ضيقة و محدودة بين الجبال ، وأن الممر الرئيسي والواسع ، والذي ظل طريق القوافل والجيوش ، وتعبره سكة حديد ،هو المحاذي للبحر المتوسط وَالواصل ما بين بور فؤاد والعريش . و سيندهش حين يفاجأ بأن إمكانية عبور المجموعات من كامل شاطئ خليج السويس إلى داخل شبه الجزيرة شبه معدومة .
ثم ليست هذه هي كل المعلومات الضرورية .
15
بدءاً ،اسمحوا لي بإجراء بعض التغيير هنا على أسلوب العرض . أقصد بالتعقيب على كل مجموعة من الآيات تعالج جزءا من الحدث العام .
ينشغل الإصحاح الثالث عشر في شرح الطقوس الدينية - الخبز الفطير ، وَتقدمة أبكار الحيوانات - تخليدا لذكرى انطلاقة الخروج من جهة ، وقتل أبكار المصريين من جهة أخرى . بعدها يطالعنا بالتالي : [ وكان لما أطلق فرعون الشعب أن الله لم يهدهم في طريق أَرض الفلسطينيين مع أنها قريبة . لأن الله قال لئلا يندم الشعب إذا رأوا حربا ويرجعوا إلى مصر 17 فأدار الله الشعب في طريق برية بحر سوف . وصعد بنو إسرائيل متجهزين من أرض مصر 18 وأخذ موسى عظام يوسف معه . لأنه كان قد استحلف بني إسرائيل بحلف قائلا إن الله سيفتقدكم فتصعدون عظامي من هنا معكم 19 وارتحلوا من سكوت ونزلوا في إيثام في
طرف البرية 20 وكان الرب يسير أمامهم نهارا في عمود سحاب ليهديهم في الطريق وليلا في عمود نار ليضيء لهم . لكي يمشوا نهارا وليلا 21 لم يبرح عمود السحاب نهارا وعمود النار ليلا من أمام الشعب .22 ] .
نفهم من هذه الآيات أن الرب ، وبالرغم من أن هدف الخروج هو إيصال بني إسرائيل لفلسطين ، أرجأ هذا الهدف ، وحول طريق الخروج إلى تلك الموازية لقناة السويس من الغرب والموصلة إلى بحر سوف ، أي فرع البحر الأحمر المعروف بخليج السويس . ويلفت النظر هنا هذا التبرير المستند إلى تحسب الرب من نكوص بني إسرائيل والعودة لمصر نتيجة نهوض أهل فلسطين للدفاع عن أرضهم . ولعل القارئ هنا يسأل : تحت أي تصنيف يمكن إدراج كيد الرب هذا ؟ ولكن …
لكن ، وقبل التفكير في الإجابة ، تعالوا نتوقف قليلا عند الآيتين 37 و 38 السالفتين . ربما يتصور القارئ أن رعمسيس ، والتي شكلت نقطة التجميع وبدء مسيرة الرحيل ، كانت بحجم القاهرة الكبرى اليوم ، حتى يتم تجميع ما يزيد على مليوني شخص فيها ، مع مواشيهم ودوابهم الوفيرة ، والتي وفقا لأي منطق يزيد عددها عن عدد مالكيها - بني إسرائيل - بكثير ، ودون ملاحظة أحد من الدولة ومن المصريين . وثانيا أن الله هو الذي اختار لهم الطريق وليس معرفة موسى الذي قطعها على حماره عائدا لأهله . وأكثر من ذلك نفي الرواية لمعرفة بني إسرائيل ، وهم القبائل البدوية الذين يرتحلون ويجوبون الأرض بحثا عن الكلأ والماء ، لهذه الطريق . نفي المعرفة لدرجة أن الرب ، إذا كان صحيحا أنه الله رب كل العالمين كما يؤكد القرآن مرة بعد أخرى ، ترك كل عِباده واشتغل دليل طريق ، مثله مثل أي بدوي محترف ، متجسدا في عمود سحاب نهارا وعمود نار ليلا .
16
ويتابع الإصحاح الرابع عشر بادئا القول : [ وكلم الرب موسى قائلا .1 كلم بني إسرائيل أن يرجعوا وينزلوا أمام فم الحيروث بين مَجِدُل والبحر أمام بعل صفون . مُقابله تنزلون عند البحر 2 فيقول فرعون عن بني إسرائيل هم مرتبكون في الأرض . قد استغلق عليهم القفر 3 وأشدد قلب فرعون حتى يسعى وراءهم . فأَتمجد بفرعون وبجميع جيشه . ويعرف المصريون أني أَنا الرب . ففعلوا هكذا . 3 ]
أليس عجيبا كيد ومكر الرب هنا ؟ أولاً يسمي المواقع التي يمر بها أسماء غير معروفة لأصحاب الأرض : سكوت ، إيثام ، فم الحيروث ، مَجِدُل ، بعل صفون ، والأخير اسم لِإله كنعاني ، ربما كي يَستغلق على الباحثين وعلماء الآثار فيما بعد ، تتبع ، تحديد وتعليم هذا المسار . وثانيا تصوير حركة وتوجيه هذا العدد الهائل من البشر ، المواشي والدواب ، وكأنهم حفنة من الناس ، يمكن تحريكها ، المناورة بها ، وَإراحتها في بقعة صغيرة محدودة من الأرض . والأهم هو الغرض من كل ذلك : إغراء فرعون للحاق بهم لماذا ؟
لكي يتمجد هذا الرب من خلال إبادته لفرعون وجميع جيشه . وثالثا يهيئ لقارئ هذه الأيام وكأن فرعون وضع بين هذه الجموع أجهزة مراقبة إلكترونية ، ظل يشغلها عن بعد ، ويعرف منها ليس فقط إتجاهات تحركاتهم وإنما ما يطرأ عليهم من مشاعر وأفكار ، تنبئ بِثباتهم وارتباكهم .. الخ ، وبما يساعده على قرار اللحاق أو عدم اللحاق بهم . ورابعا كان هدف الحركة الوصول لسيناء ، وإذا كان خيار عدم سلوك المعبر الشمالي ، طريق القوافل والجيوش من وإلى مصر جرى تبريره بِتجنب الاصطدام بالفلسطينيين ، فلم تم اختيار هذا الطريق والذهاب إلى ساحل بحر سوف ، ساحل خليج السويس الغربي ؟ وهنا لعل القارئ يسأل : قد يكون كل ذلك مفهوما لو كان هذا الرب هو يهوه الإله القومي لبني إسرائيل . لكن يستعصي على الفهم لو كان هو الله رب العالمين ، كما يكرر ويؤكد القرآن ، وحيث تبرز تساؤلات جديدة : ألم يكن بمقدور الرب ، وكل هذا العشق للدم يستبد به ، أن يتمجد بفرعون وشعبه بطريقة أخرى ؟ ثم : لماذا أحجم هذا الرب عن بذل أدنى جهد لهداية فرعون وشعبه ؟ لِإصلاحهم وإعادتهم عن فسادهم ليكون تمجده فيهم تمجد خير وصلاح بدل تمجد قتل وإبادة ؟ ألا يكون التمجُد الأخير هو الطريق الأصوب كي [ ويعرف المصريون أَني أنا الرب ] ؟
ونمضي مع الإصحاح : [ فلما أخبر ملك مصر أن الشعب قد هرب تغير قلب فرعون وعبيده على الشعب . فقالوا ماذا فعلنا حتى أطلقنا إسرائيل من خدمتنا 5 فشد مركبته وأخذ قومه معه 6 فأخذ ست مئة مركبة منتخبة وسائر مركبات مصر وجنودا مركبية على جميعها .7 وَشدد الرب قلب فرعون ملك مصر حتى سعى وراء بني إسرائيل وبنو إسرائيل خارجون بيد رفيعة 8 فسعى المصريون وراءهم وَأدركوهم . جميع خيل مركبات فرعون وفرسانه وجيشه وهم نازلون عند البحر عند فم الحيروث أمام بعل صفون .9 فلما اقترب فرعون رفع بنو إسرائيل عيونهم وإذا المصريون راحلون وراءهم . ففزعوا جدا وصرخ بنو إسرائيل إلى الرب 10 وقالوا لموسى هل لأنه ليست قبور في مصر أخذتنا لنموت في البرية . ماذا صنعت بنا حتى أخرجتنا من مصر 11 أليس هذا هو الكلام الذي كلمناك به في مصر قائلين كف عنا فَنخدم المصريين . لأنه خير لنا أن نخدم المصريين من أن نموت في البرية .12 فقال موسى للشعب لا تخافوا . قفوا وانظروا خلاص الرب الذي يصنعه لكم اليوم . فإنه كما رأيتم المصريين اليوم لا تعودون ترونهم أيضا إلى الأبد 13 الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون 14 ] .
قبل المواصلة تعالوا نتوقف عند ملاحظتين . الأولى أن فرعون وقومه لم يلفت انتباههم تجمع هذا العدد الهائل من بني إسرائيل في عاصمتهم . وربما ساق فرعون حسن نواياه إلى الظن بأن هذا التجمع ، وسلب المصريات والمصريين فضتهم ، ذَهبهم وأموالهم ، إنما هو التهيؤ لبدء رحلة عبادة ربهم . انطلت الحيلة إذن على فرعون الذي استشاط غضبا عندما أخبره عسسه بهرب بني إسرائيل ، فقرر اللحاق بهم وعقابهم .
والثانية أن النص دأب على وصف بني إسرائيل بالشعب ، لكنه أحجم عن وصف المصريين به . في كل الأسفار وإصحاحاتها ، لم يوصف المصريون بالشعب ولو لمرة واحدة . ولعل القارئ يتساءل من جديد :لماذا هذا التمييز من قبل الرب ؟
17
ونتابع : [ فقال الرب لموسى ما لََكَ تصرخ إليّ . قل لبني إسرائيل أن يرحلوا 15 وارفع أنت عصاك ومد يدك على البحر وشقه . فيدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة 16 وها أنا أشدد قلوب المصريين كي يدخلوا وراءهم . فَأتمجد بفرعون وكل جيشه بِمركباته وفرسانه . 17 فيعرف المصريون أَني أنا الرب حين أتَمجد بفرعون ومركباته وفرسانه 18 فانتقل ملاك الله السائر أمام عسكر إسرائيل وسار وراءهم . وانتقل عمود السحاب من أمامهم ووقف وراءهم . 19 فدخل بين عسكر المصريين وعسكر إسرائيل . وصار السحاب والظلام وأَضاء الليل . فلم يقترب هذا إلى ذاك كل الليل . 20 ]
تطالعنا هذه الآيات بمعلومة جديدة . أن الذي كان يسير أمام بني إسرائيل عمود سحاب في النهار وعمود نار في الليل لم يكن الرب كما قالت الآيات السابقة وإنما هو ملاك الله كما تقول لنا الآية 19 . والأهم تفاجئنا الآيات بأنه كان لبني إسرائيل الفارين من العبودية جيش ، وأن ملاك الله هذا حال دون نشوب حرب بين الجيشين واشتغل في ليلة العبور هذه قوة فصل بين عسكر فرعون وعسكر بني إسرائيل من خلال نقله عمود السحاب وحجبه رؤية الواحد منهم للآخر ، سحاب وظلام على المصريين وإضاءة شاملة - أضاء الليل - واستمر هذا الحال كل الليل .
وَنستأنف : [ ومد موسى يده على البحر . فأجرى الرب البحر بريح شرقية شديدة كل الليل وجعل البحر يابسة وانشق الماء 21 فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة والماء سور لهم عن يمينهم وعن يسارهم 22 وتبعهم المصريون ودخلوا وراءهم . جميع خيل فرعون ومركباته وفرسانه إلى وسط البحر 23 وكان في هزيع الصبح أن الرب أَشرف على عسكر المصريين في عمود النار وأزعج عسكر المصريين 24 وخلع بكر مركباتهم حتى ساقوها بثقلة . فقال المصريون نهرب من إسرائيل لأن الرب يقاتل المصريين عنهم .25 ]
في هذه الآيات يرى القارئ العجب العجاب . يقتنع المؤمن بأن معجزات الرب تحيد وتعطل فعل قوانين الطبيعة . لكن الرب هنا اختار استخدام قانون من قوانين الطبيعة لتفعيل معجزته . استخدم هبوب الريح الشرقية الشديدة طوال الليل أداة لكنس الماء عن اليابسة وشق البحر . لاحظوا كل الليل . لكن الرب هنا ، فيما يبدو نسي أن الريح الشديدة تحدث هيجانا في البحر بأمواج عاتية ، ولا تشقهُ وتكنس قاعهُ مُوقفة المياه رواسي شاهقة على الجانبين . والريح إن فعلت ذلك بمعجزة من الرب توجب بقاؤها فاعلة أثناء عبور بني
إسرائيل ، وفي سير معاكس لهذه الريح ،حتى لا تنهال المياه من الجانبين ، وهو ما أكدته الآيات ، الأمر الذي يعني عدم قدرة أي مخلوق على الاقتراب من مجرى الريح هذا . المشكلة التي تطرحها الآيات تتلخص في أن بني إسرائيل ، ثم المصريين ، عبروا إلى وسط البحر وكأن الريح العاصفة الشديدة في وجوههم كانت قد خمدت .
أما الأكثر طرافة في هذه الآيات فهو في عودة عمود النار والسحاب كي يتحقق الرب مما آل إليه حال المصريين ، ثم اللجوء لحيلة صبيانية تمثلت في خلع بكرات عجلات مراكب المصريين وإضعاف قدرتهم على تحريكها . ونختم بمسألة أهم ، تعرضها لنا الآية 24 . الآية تفهمنا أن عبور بني إسرائيل وَلحاق المصريين بهم إلى منتصف البحر معاكسين الريح التي كنست الماء عن أرض البحر ، وأوقفته رواسي شامخات على الجانبين ، تم في أقل من نصف ليلة ، وَليتساءل القارئ بعدها : ترى كم كان عرض هذا الأوتوستراد الذي فتحته الريح في البحر ، كي يتحرك ويعبره في نصف ليلة ، معاكسا لريح شديدة ، أكثر من خمسة ملايين من البشر والمواشي والدواب ؟ ولكن ..
لكن طرافة المعجزة لا تقف عند هذا الحد ، إذ يتابع الإصحاح : [ فقال الرب لموسى مد يدك على البحر ليرجع الماء على المصريين على مركباتهم وفرسانهم 26 فمد موسى يده على البحر فرجع البحر عند إقبال الصبح إلى حاله الدائمة والمصريون هاربون إلى لقائه . فدفع الرب المصريين في وسط البحر 27 فرجع الماء وغطى مركبات وفرسان جميع جيش فرعون الذي دخل وراءهم في البحر . لم يبق منهم ولا واحد 28 وأما بنو إسرائيل فمشوا على اليابسة في وسط البحر والماء سور لهم عن يمينهم وعن يسارهم 29 ]
قلنا طرافة المعجزة ليس لأن الرب نسي ، فيما يبدو مسألة الريح الشديدة التي ظلت تعصف طوال الليل الآية 21 . ولكن من الحكمة التي توخاها السرد . الرب حاضر ، وهو صانع المعجزة ، هارون غائب . والرب بدل أن يفعل المعجزة يوكل فعلها لموسى ! والماء لا يعود بسبب اختفاء الريح الشرقية وإنما لأن موسى مد يده . وتبلغ الطرافة منتهاها أن المليونين ويزيد من بني إسرائيل ، وملايين دوابهم ومواشيهم أكملوا عبور البحر ، ورواسي المياه الشامخات تحرسهم من اليمين ومن الشمال في أقل من نصف ليلة . لنسأل : ترى أتريد التوراة أن تقول لنا أنهم في الحقيقة لم يمشوا على قاع البحر وإنما حملتهم وعبرت بهم سفن طائرة عاكست الريح الشرقية الشديدة التي حجبتها عن عيون المصريين أولا ، ونظر أجيال المؤمنين فيما بعد ؟
ويختم الإصحاح أسطورة العبور هذه بالتالي : [ فخلص الرب في ذلك اليوم إسرائيل من يد المصريين . ونظر إسرائيل المصريين أمواتا على شاطئ البحر 30 ورأى إسرائيل الفعل العظيم الذي صنعه الرب بالمصريين . فخاف الشعب الرب وآمنوا بالرب وبعبده موسى 31 ] .
تشكل هاتان الآيتان زبدة الموضوع كله . بنو إسرائيل ، قبل ، وحتى حدوث هذه المعجزة ، لم يؤمنوا بموسى ولم يؤمنوا برب موسى ، لأنهم لم يعرفوا هذا الرب الذي أصرت الإصحاحات السابقة على أنه إله آباء بني إسرائيل ؛ إبراهيم وإسحق ويعقوب . الآن ، في لحظة المعجزة خافوا هذا الرب . وخوفهم هذا هو ما دفعهم لِلإيمان به وبعبده موسى .تذكروا هذا لأنه سيكون موضوع الحلقة القادمة .
18
وماذا يقول القرآن في معجزة فلق البحر هذه ؟
ولأن معجزة فلق البحر هذه ، كعادة القرآن ، وردت في عدة سور ، تعالوا نبدأ السرد أولا من سورة الشعراء :
{ وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون 52 فأرسل فرعون في المدائن حاشرين 53 إن هؤلاء لشرذمة قليلون 54 وإنهم لنا لغائظون 55 وإنا لجميع حاذرون 56 فأخرجناهم من جنات وعيون 57 وكنوز ومقام كريم 58 كذلك وأورثناها بني إسرائيل 59 فأتبعوهم مشرقين 60 فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون 61 قال كلا إن معي ربي سيهدين 62 فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم 63 وأزلفنا ثم الآخرين 64 وأنجينا موسى ومن معه أجمعين 65 ثم أغرقنا الآخرين 66 إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين 67 } .
وفي سورة القصص :
{ وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين لعلي أطَّلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين 38 واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون 39 فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كانت عاقبة الظالمين 40 وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيمة لا ينصرون 41 } .
وفي سورة الزخرف :
{ ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون 51 أم أنا خير من هذا الذي هو مَهين ولا يكاد يبين 52 فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين 53 فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين 54 فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين 55 فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين 56 } .
وفي سورة الأعراف :
{ فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون 135 فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين 136 } .
وفي سورة الأنفال :
{ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب 52 ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم 53 كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين 54 } .
وفي سورة آل عمران :
{ كدأب فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب 11} .
وفي سورة الدخان :
{ فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون 22 فأسر بعبادي إنكم متبعون 23 واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون 23 } .
وفي سورة طه :
{ ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى 77 فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم 78 وأضل فرعون قومه وما هدى 79 } .
وفي سورة الإسراء :
{ ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا 101 قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض وإني لأظنك يا فرعون مثبورا 102 فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا 103} .
وفي سورة الذاريات :
{ وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين 38 فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون 39 فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم 40 } .
وأخيرا في سورة يونس :
{ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أن لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين 90 الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين 91 فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون 92 } .
19
إذاً، وكما هو دأب القرآن ، وافقت الرواية القرآنية الرواية التوراتية فيما يخص جوهر الحدث ؛ معجزة فلق البحر ، وغرق فرعون وجنوده . لكن القرآن ، كَدأبه الدائم ، عزف عن الخوض في التفاصيل المثيرة للتساؤل والإشكاليات . وإذا ما تجاهلنا التكرار في الآيات ، وبعض الخلط في الأحداث ، الآيات 57 و58
و59 من سورة الشعراء ، لا بد أن نلاحظ إضافة القرآن لحدثين لم يردا في الرواية التوراتية . الحدث الأول تمثل فيما ورد في الآية 63 من سورة الشعراء { فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم } .
تفسير هذه الآية أن الفلق لم يحدث ممرا واحدا في البحر كما تشير التوراةُ والآيات القرآنية الأخرى . الفلق نتج عنه اثنا عشر ممرا في البحر ، كل واحد مخصص لسبط من أسباط بني إسرائيل الإثني عشر ، تحرسه من الجانبين كتل مائية الواحدة منها مثل الطود العظيم ، وهو ما ذهبت إليه الأدبيات الإسلامية . في حلقة سابقة كنت قد عالجت هذه المعجزة . كتبت أن أضيق جزء من الخليج هو بعرض 19 كيلومتر ، وأن عمق المياه يصل إلى 1700 متر . والأدبيات لا تقول لنا شيئا عن المسافات التي تفصل هذه الممرات عن بعضها ، كما لا تقول شيئا عن اتساعها . لكن من الممتع أن يتصور القارئ الطود الفاصل بين ممرين كأنه حوض سمك زجاجي ، بطول 19 كيلومتر أو يزيد ، و ارتفاع 1700 م ، وعرض غير معلوم . ثم يتخيل كتلة بشرية من مائة ألف إلى مائتي ألف فرد ، هم ،مواشيهم ودوابهم يعبرون هكذا ممر ، ويتمتعون بمشاهدة أنواع وأنواع من الأسماك والحيوانات البحرية تتلعبط من على يَمينهم وَيسارهم . ولا بد أن يندهش صارخا : أي شجاعة ، أي جسارة ، أي جرأة يتمتع بها هؤلاء الناس ؟
الحدث الثاني تورده الآيات 90 ، 91 ، 92 من سورة يونس . ملخص الحدث أن فرعون وقد أدركه الغرق أعلن إيمانه ، وبالتالي ندمه على ما جرى منه . رد الرب جاء بعدم إنقاذه من الغرق ، وإنما بقذف البحر لجسده . لماذا ؟ لكي يكون آية ، عبرة لمن سيأتي بعده من قومه أو من البشر .
بديهي أن القرآن لم يعلمنا إن كانت الآية أو العبرة قد حدثت .
20
أما وقد تمت المعجزة ، وخرج بنو إسرائيل سالمين من البحر ، فقد خرجوا إلى الساحل الشرقي لخليج السويس - بحر سوف - أي إلى ساحل جنوب سيناء . وكان عليهم أن يعبروا من هناك إلى قلب سيناء ، ولكنهم لم يفعلوا .سار بهم موسى في رحلة عكسية مطولة وشاقة ، وقع فيها العديد من المعجزات ؛ تحويل مياه مرة إلى عذبة . تفجير عين ماء بضربة من عصا موسى لِصخرة ، إطعامهم المن والسلوى .. الخ . سنتجاوز المعجزات الآن ، ومعها سلسلة الطقوس التي جرى سنها ، للتركيز على مسار الحركة .
يقول الإصحاح الخامس عشر :[ ثم ارتحل موسى بإسرائيل من بحر سوف وخرجوا إلى برية شور . فساروا ثلاثة أيام في البرية ولم يجدوا ماء 22……ثم جاءوا إلى إيليم وهناك اثنتي عشر عين ماء وسبعون نخلة . فنزلوا هناك عند الماء 27 ] .
ثم يطالعنا الإصحاح السادس عشر بالتالي :[ ثم ارتحلوا من إيليم وأتى كل جماعة إسرائيل إلى برية سين التي بين إيليم وسيناء في اليوم الخامس عشر من الشهر الثاني بعد خروجهم من أرض مصر 1 ].
ويغيب خبر الرحلة بحديث الطقوس لِيفاجئنا الإصحاح السابع عشر : [ ثم ارتحل كل جماعة إسرائيل من برية سين بحسب مراحلهم على موجب أمر الرب ونزلوا في رَفيديم . ولم يكن ماء ليشرب الشعب 1] . هنا حدثت معجزة تفجير الصخرة وخروج الماء ، وحيث تعلمنا الآية 6 أن مكان الصخرة التي كان الرب يقف عليها وتفجر الماء منها هو في حوريب ، أي ذات المكان الذي بدأ منه موسى راكبا حماره رحلة أسطورة الخروج هذه . [ ها أنا أقف أمامك على الصخرة في حوريب فتضرب الصخرة فيخرج منها ماء ليشرب الشعب . ففعل موسى هكذا أمام عيون شيوخ إسرائيل 6 ] . واعتنى الإصحاح الثامن عشر بالتأكيد على صحة المكان من خلال سماع يثرون حَمي موسى بأخبار موسى ، ومبادرته لنقل ابنته زوجة موسى وولديه وَإيصالهم له . تقول الآية 5 التالي :[ وأتى يثرون حمو موسى وابناه وامرأته إلى البرية حيث كان نازلا عند جبل الله 5 ] . وتأكيد آخر يقدمه لنا الإصحاح التاسع عشر : [ في الشهر الثالث بعد خروج بني إسرائيل من أرض مصر في ذلك اليوم جاءوا إلى برية سيناء 1 ارتحلوا من رفيديم وجاءوا إلى برية سيناء فنزلوا في البرية . هناك مقابل الجبل 2 وأما موسى فصعد إلى الله . فناداه الرب من الجبل قائلا هكذا تقول لبيت يعقوب وتخبر بني إسرائيل 3 أنتم رأيتم ما صنعت بالمصريين . وأنا حملتكم على أجنحة النسور وجئت بكم إلي 4 فالآن إن سمعتم لصوتي وحفظتم عهدي تكونون لي خاصة من بين جميع الشعوب . فإن لي كل الأرض 5 ] .
21
أول ما يلفت الانتباه في استكمال الرحلة أن موسى وبني إسرائيل وقد عبروا بحر سوف - خليج السويس - بسلام ، ووقفوا على ساحل سيناء ، لم يعبروا منه إلى قلب سيناء بغيتهم الأساسية . رجعوا وداروا دورة طويلة ، كان من الممكن أن لا يتكبدوا مشاقَّها . ويبرز سؤال ، وحيث لا شهية للرب بِالتمجد هنا ، فلماذا كان هذا اللف والدوران أياما عدة ، بدل الدخول مباشرة إلى عمق سيناء ، حيث استقروا في النهاية ؟ والجواب ، لأن طبيعة المنطقة حالت دون ذلك . إذ لا ممرات تسمح بعبور مجموعات بشرية وغير بشرية من الساحل إلى العمق وبالعكس . يعني أن قيادة الرب ، دليل الطريق ، ومن البداية ، جانَبتها المعرفة والحكمة ولكن .. .
لكن الأهم تمثل في بروز حقيقة نقيضة لكل ما حاول النص زرعه في عقل القارئ . جماعة بني إسرائيل ليست شعبا ، وليست مليونين ويزيد في تعدادها ، وليست مَواشيها وَدوابها كذلك أيضا. هي جماعة صغيرة لا تقترب بأي حال من بضعة ألوف . فَحسب النص هي جماعة تُرويها عين ماء تفجرتْ من صخرة ،
ويتسع لها مكان محدود المساحة ، كما تحكي الآية 27 ، حيث الاثنتي عشرة عين ماء - عيون كبريتية تسمى إلى يومنا هذا بعيون موسى - وسبعين نخلة أولا . ثم مقابل جبل حوريب ، جبل الله أو جبل الطور ثانيا .
وللتأكيد على صحة هذا الاستنتاج ، تعالوا نطالع المزيد من المعلومات عن سيناء ومحافظتها الجنوبية ، حيث وقائع النص السالفة .
مساحة محافظة جنوب سيناء أكثر قليلا من 28 ألف كيلومتر مربع . عدد سكانها حتى اليوم يقل عن مائتي ألف نسمة ، تتوزع غالبيتهم ، في تجمعات مدنية صغيرة ، أكبرها مدينة شرم الشيخ ، على شواطئ خليجي السويس والعقبة . مساحة المنطقة التي يقول النص أن جماعة الخروج استقروا فيها - هضبة سانت كاترين ، جبل الطور والوادي المقدس طوى - تقترب من خمسة آلاف كيلومتر ، وعدد سكانها - سانت كاترين وعدد من التجمعات البدوية - يزيد قليلا عن 11000 نسمة .
لماذا ؟ أولا ، بسبب قساوة مناخ المنطقة ، والذي هو شديد الحرارة في الصيف وشديد البرودة في الشتاء . وثانيا : علو ، يصل لأكثر من 2400 م ، وُعورة وصخرية الجبال ، ثم ضعف معدل سقوط الأمطار ،حوالي 100 مم ، يرافقه فقر ، والأدق شح في مياه الينابيع وفي الغطاء النباتي ، وبما لا يوفر وسائل عيش لأعداد كبيرة من الناس ، أو غذاء مقبولا لأعداد محدودة من الحيوانات .
وغير ذلك ، وفي ذلك الزمن البعيد ، زمن الخروج 1450 ق.م ، كانت وسائل المعيشة الحضرية - مردود السياحة - المتوفرة للمراكز الحضرية الآن ، غير موجودة . كما أن الدراسات العلمية تقول أنه لم يطرأ جديد لا على طبوغرافية المنطقة ، على تكويناتها الجيولوجية ، ولا على مناخها ، أمطارها وغطائها النباتي وحيواناتها البرية . كل ذلك بقي على حاله تقريبا .
22
ونصل إلى ما هو أقل أهمية . الآيات تشير إلى أن ذاكرة الرب ، أو ذاكرة مدوني التوراة ، معطوبة بالفعل .
ذلك لأن الآية 5 من الإصحاح الثامن عشر تقول أن يثرون ، حمو موسى ، بعد أن سمع خبر عودة موسى ، حمل ابنته زوجة موسى وولديها ، وذهب بهما إليه ، وأن موسى استقبل حماه وعائلته بفرح كبير . هذا الخبر يناقض خبرا آخر كان حكاه لنا الإصحاح الرابع ، استهل فيه موسى رسالته بكذبة بواح : [ فمضى موسى ورجع إلى يثرون حميه . وقال له أنا أذهب وأرجع إلى إخوتي الذين هم في مصر لأرى هل هم بعد أحياء . فقال يثرون اذهب بسلام 18 وقال الرب لموسى في مديان اذهب ارجع إلى مصر . لأنه قد مات جميع القوم الذين كانوا يطلبون نفسك 19 فأخذ موسى امرأته وبنيه وأَركبهم على الحمير ورجع إلى أرض مصر . وأخذ عصاه معه 20 .
وزيادة في تأكيد الواقعة ، مضى الإصحاح يروي حكاية طريفة وفي ذات الوقت ملتبسة . فحواها أن موسى لم يختن ابنه البكر ، وفي طريق العودة لمصر ، غضب الرب وأراد قتله . صفورة زوجة موسى وأم الولد سارعت لإنقاذ ابنها . أخذت صوانة ، ختنت ابنها وأنقذته من الموت . [ وحدث في الطريق في المنزل أن الرب التقاه وطلب أن يقتله 24 فأخذت صفورة صوانة وقطعت غرلة ابنها ومست رجليه . فقالت إنك عريس دم لي 25 فانفك عنه . حينئذ قالت عريس دم من أجل الختان 26 ] .
وغير ذلك ، فاجأنا الإصحاح الرابع عشر وفي الآية 20 بالحديث عن عسكر لبني إسرائيل ، وان ملاك الله فصل بينهم وبين عسكر المصريين . ومنعا للظن بأن ذاكرة الرب أصابها العطب ، إذ يستحيل أن يكون للعبيد عسكر ، يعود الإصحاح السابع عشر للتأكيد على وجود هؤلاء العسكر من خلال حكاية هي الأخرى طريفة .
يقول : [ وأتى عماليق وحارب إسرائيل في رَفيديم 8 فقال موسى ليشوع انتخب لنا رجالا وَاخرج حارب عماليق . وغدا أقف أنا على رأس التلة وعصا الله في يدي 9 ففعل يشوع كما قال له موسى ليحارب عماليق . وأما موسى وهرون وحور فصعدوا على رأس التلة 10 وكان إذا رفع موسى يده أن إسرائيل يغلب وإذا خفض يده أن عماليق يغلب 11 فلما صارت يدا موسى ثقيلتين أخذا حجرا وَوضعاه تحته فجلس عليه . ودعم هرون وحور يديه الواحد من هنا والآخر من هناك . فكانت يداه ثابتتين إلى غروب الشمس 12 فهزم يشوع عماليق وقومه بحد السيف 13 ] .
وإضافة إلى طرافة الحدث ، وسذاجة تصوير المعركة ، لم يكلف الرب نفسه التعريف بِعماليق ، من أين أتوا ، ثم كيف ولماذا حاربوا بني إسرائيل ، وأين كانت ساحة المعركة ؟ ثم من هما حور ويشوع ؟ ما يعني تأكيدا جديدا على العطب الذي أصاب ذاكرة الرب ، أو ذاكرات مدوني التوراة .
23
وماذا يقول القرآن هنا ؟
لم يحفل القرآن كثيرا بهذه الجزئية من حدث الخروج ، إذ ورد ذكرها موجزا جدا في سورتين فقط ، هما سورة البقرة وسورة الأعراف ، وعلى النحو التالي :
في سورة البقرة جاء : { وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين 60 }
وفي سورة الأعراف جاء :{ وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون 160 } .
ومرة أخرى دعونا لا نحفل بالتكرار في الآيتين ، ذلك لأنه يتعلق بأمر الإعجاز في القرآن من جهة وأمر جمعه من جهة ثانية ، والأَمران ، كما سبق وذكرنا ، خارج موضوع بحثنا هنا .
الآيتان وَقفتا فقط على معجزة تفجير عين الماء من الصخرة ، وهو أمر يتفق فيه القرآن مع التوراة من جهة ويختلف من جهة أخرى .
التوراة حكت عن حدثين : الأول حكى عن وصول موسى وبني إسرائيل إلى إيليم حيث توجد اثنتا عشرة عينا وسبعون نخلة ، والثاني عن وصولهم بعد ذلك إلى رَفيديم حيث لا ماء ، فوقعت معجزة ضرب الصخرة بالعصا وتفجير عين واحدة .
هنا يبرز سؤال : المؤمنون بالكتابين يؤكدون نزولهما من الله . بمعنى آخر الكتابان من مصدر واحد . لكن في رواية حدث تفجير الصخرة لا نقول تضاربت الروايتانِ ، ولكنهما اخْتلفتا . اختلاف يدفع القارئ المدقق للتساؤل : أيهما الصحيح ؟ هل هو الأول تاريخيا أم هو الثاني ؟ مُؤمنو كل طرف ينسبون الصح لكتابهم . ونحن نسأل : إذاً ، هل المسألة تتعلق بعطل لحق بذاكرة الرب ، أم بخطأ حاق إبواحدٍ من اثنين ؛ الوسيط والمدونين ، أم يا ترى بالاثنين معاً ؟
24
وَأظننا لا نخطئ إن وصفنا المكان الذي استقر فيه الخارجون - قلب جنوب سيناء - بِالقاحل . قاحل كونه لا تتوفر فيه أدنى وسائل المعيشة . المستقرون احتاجوا سقوفا فوق رؤوسهم ، وهو أمر تجاهله الكتابان المقدسان . طقس عيد العرش عند الإسرائيليين ، يشير إلى أنهم أقاموا العرش سقوفا . لكنها إن كانت توفر لهم بعض الحماية من حرارة المكان الشديدة صيفا ، فهي تعجز عن ذلك شتاءا حيث البرد أكثر شدة من نقيضه في الصيف . ولكن ..
ولكن يمكن تصور توفر الحل فيما حمله هؤلاء البدو بعددهم المحدود ، وليس المليونين ، من خيام أَو بيوت شعر ، كما أشارت الآية 16 من الإصحاح السادس عشر لماحا .
سريعا ، عقب الاستقرار مباشرة انفجرت مشكلة الطعام ، والتي كانت محط عناية الكتابين . يطالعنا هذا الإصحاح بالتالي :
[ فتذمر كل جماعة بني إسرائيل على موسى وهرون في البرية 2 وقال لهما بنو إسرائيل ليتنا متنا بيد الرب في أرض مصر إذ كنا جالسين عند قدور اللحم نأكل خبزا للشبع .فإنكما أخْرجتمانا إلى هذا القفر لكي تميتا كل هذا الجمهور بالجوع 3 ] . سماع الرب لِتذمر الشعب ، نجم عنه معجزة المن والسلوى . قال الرب لموسى : [ سمعت تذمر بني إسرائيل . كلمهم قائلا في العشية تأكلون لحما وفي الصباح تشبعون خبزا . وتعلمون أني أنا الرب إلهكم 12 فكان في المساء أن السلوى صعدت وغطت المحلة . وفي الصباح كان
سقيط الندى حوالي المحلة 13 ولما ارتفع سقيط الندى إذا على وجه البرية شيء دقيق مثل قشور . دقيق كالجليد على الأرض 14 فلما رأى بنو إسرائيل قال بعضهم لبعض من هو . لأنهم لم يعرفوا ما هو . فقال لهم موسى هو الخبز الذي أعطاكم الرب لتأكلوا 15 هذا هو الشيء الذي أمر به الرب . التقطوا منه كل واحد على حسب أُكله . عُمِرا للرأس على عدد نفوسكم تأخذون كل واحد للذين في خيمته 16…. ودعا بيت إسرائيل اسمه مناً . وهو كبزر الكزبرة أبيض وطعمه كرِقاق بعسل 26 …… وأكل بنو إسرائيل المن أربعين سنة حتى جاءوا إلى أرض عامرة . أكلوا المن حتى جاءوا إلى طرف أرض كنعان 35] .
ويغيب الحديث عن المن والسلوى . وحتى لا يظن القارئ بأن السلوى اسم نوع من الطيور ، ظن توحي به طبيعة المنطقة بجبالها الصخرية الشاهقة وَالحاجبة للبحر من الناحيتين الشرقية والغربية ، يتولى الإصحاح الحادي عشر من سفر عدد مهمة إجلاء هذه المسألة وأقل منها مسألة المن . إذ عاود بنو إسرائيل ، بعد ارتحال جديد تذمرهم ، وهذه المرة من وحدانية نوع الطعام .
يطالعنا الإصحاح الحادي عشر من سفر عدد بالتالي : [ وكان الشعب كأنهم يشتكون شرا في أذني الرب وسمع الرب فحمي غضبه فاشتعلت فيهم نار الرب وأحرقت في طرف المحلة 1 فصرخ الشعب إلى موسى فصلى موسى إلى الرب فَخمدت النار .2 فدعي اسم ذلك الموضع تبعيرة لأن نار الرب اشتعلت فيهم 3 ] .
لكن ما هو الشر الذي اشتكوا منه في أذني الرب ؟ هذا الشر توضحه الآيات التالية :
[ واللفيف الذي في وسطهم اشتهى شهوة . فعاد بنو إسرائيل أيضا وبكوا وقالوا من يطعمنا لحما 4 قد تذكرنا السمك الذي كنا نأكله في مصر مجانا والقثاء والبطيخ والكرات والبصل والثوم 5 والآن قد يبست أنفسنا . ليس شيء غير أن أعيننا إلى هذا المن 6 ] .
هنا تطرح الشكوى في هذه الآيات سؤالا : إذاً ، أين وماذا عن السلوى التي كانت قد صعدت وغطت المحلة ؟
تتجاهل الآيات التالية الإجابة على السؤال مؤقتا وتمضي في إعادة التعريف بالمن . تقول :[ وأما المن فكان كبزر الكزبرة ومنظره كمنظر المُقْل 7 كانوا يطوفون ليلتقطوه ثم يطحنونه بالرحى أو يدقونه في الهاون ويطبخونه في القدور ويعملونه مَلَّات وطعمه كطعم قطائف بزيت 8 - لاحظوا في آية سابقة ، من سفر سابق الآية 26 كان طعمه كرقاق بعسل - ، ومتى نزل الندى على المحلة ليلا كان المن ينزل معه 9 ] .
من جديد يقطع الإصحاح الحديث عن شكوى بني إسرائيل من فردانية الطعام إلى تذمر موسى مما آل إليه الحال . كيف ؟
25
[ فلما سمع موسى الشعب يبكون بِعشائرهم كل واحد في باب خيمته وحمي غضب الرب جدا ساء ذلك في عيني موسى 10 فقال موسى للرب لماذا أسأت إلى عبدك ولماذا لم أجد نعمة في عينيك حتى أنَّك وضعت ثقل جميع هذا الشعب علي 11 ألعلي حبلت بجميع هذا الشعب أو لعلي ولدته حتى تقول لي احمله في حضنك كما يحمل المربي الرضيع إلى الأرض التي حلفت لآبائه 12 من أين لحم حتى أعطي جميع هذا الشعب . لأنهم يبكون علي قائلين أعطنا لخما لنأكل 13 لا أقدر أنا وحدي أن أحمل جميع هذا الشعب لأنه ثقيل علي 14 فإن كنت تفعل بي هكذا فاقتلني قتلا إن وجدت نعمة في عينيك . فلا أرى بليتي .15 ] .
الطريف في هذه الآيات ، وفي كل الموضوع ، ما تحويه من متناقضات ، تدفع بالقارئ المؤمن لإلغاء عقله وذاكرته قبل ذلك . لماذا ؟ لأن الآيات التي تحدثت عن بداية الخروج حكت عن الماشية الوفيرة التي صاحبتهم فيه . ولأنهم في الأصل بدو ، يعيشون على نتاج هذه الماشية ، يفترض أبسط أشكال المنطق أن يقفز إلى ذهن القارئ البسيط قبل النبيه سؤال : إذاً ما الذي تغير على هؤلاء الخارجين حتى يصرخوا طالبين اللحم وغيره ، ولكي يندفع موسى بهذا العتاب العجيب للرب ؟
صحيح ، حسب النصوص ، أن قلة من بني إسرائيل كانت حضرا يسكنون العاصمة رعمسيس،وهم من ذهبت النصوص إلى الحديث عن عبوديتهم للمصريين . وَكنا قد فندنا في حلقة سابقة زعم النصوص هذا ، وأغلبية كانت بدوا يتنقلون في أرض جاسان ، و يتعيشون على نتاج ماشيتهم ، فمن منهم يا ترى من جأر بالشكوى من انعدام اللحم ؟ الآيات التالية تقول أنهم جميعا جأروا بهذه لشكوى . كيف ؟
سمع الرب شكوى موسى وأعطاه الحل بأنه سيُطعم بني إسرائيل لحما ولمدة شهر [ … حتى يخرج اللحم من مناخيركم ويصير لكم كراهة … 20 ] . تساءل موسى ، غير واثق كما يبدو في وعد الرب : [ فقال موسى ستُ مِئة أَلف ماش هو الشعب الذي أنا في وسطه . وأنت قلت أُعطيهم لحما ليأكلوا شهرا من الزمان 21 أيُذبح لهم غنم وبقر لِيكفيهم أم يجمع لهم كل سمك البحر لِيكفيهم 22 فقال الرب لموسى هل تقصر يد الرب . الآن ترى أيُوافيك كلامي أم لا .23 ] .
استبد بي الضحك في كل مرة أَعدت فيها قراءة حوار العتاب هذا . لم يكن مبعث الضحك أن الحوار أعادنا للمربع الأول ، مربع المليونين وأكثر . مبعثه أن حوار الصديقين على طرافته أكد لنا أن الذين جأروا بالشكوى هم ، حسب النصوص ، أصحاب الماشية الوفيرة ، قبل الحضر الذين قالت النصوص بعبوديتهم . وَلِأواصل ، والضحك يستبد بي ، قراءة رد الرب وتبديد عدم ثقة موسى . [ ثم انحاز موسى إلى المحلة هو وشيوخ إسرائيل 30 فخرجت ريح من قبل الرب وساقت سلوى من البحر وألقتها على المحلة نحو مسيرة يوم من هنا ومسيرة يوم من هناك حول المحلة ونحو ذراعين فوق وجه الأرض 31 فقام الشعب كل ذلك
النهار وكل الليل وكل يوم الغد وجمعوا السلوى . الذي قلل جمع عشرة حَوامر . وَسطحوها لهم مساطِح حول المحلة . 32 ] .
لم يقل الرب ما إذا كانت السلوى نوعا واحدا من السمك ، أم هي كل الأنواع . وهذه المرة لم يحدد لنا اتجاه الريح كي نعرف إن كان قد جرف سمك خليج السويس أَو خليج العقبة . وأيضا هل ألقى السمك على الشاطئ الضيق بطبيعته أم ألقاه أيضا على الجبال الشاهقة والوعرة جدا ، والتي لا بد أن مسيرة اليوم طولا ومسيرته عرضا شملتها .
الأهم من كل هذا إصرار الرب على استخدام الريح ، أحد عوامل الطبيعة ، وفي ذات الوقت تحييد أو تعطيل ، أو إبطال فعل قوانينها . قانون الطبيعة يقول أن الريح تهيج البحر ، تجعله يرغي ويزيد ، يعلو موجه وتغوص حيواناته إلى الأعماق ، ولا تقذف إلى الجو . وإذا حدث شيء من هذا يحدث مع المخلفات ، وليس مع الأسماك . ولو كان الأمر لشهدنا تكرار المعجزة تلقائيا في كل بلدان العالم التي تجتاحها الأعاصير وحيث لا تبقي فيها ولا تذر .
26
وماذا يقول القرآن في معجزتي المن والسلوى هاتين ؟
تناولها القرآن في ثلاث سور هي الأعراف ، البقرة ، وطه .
في سورة الأعراف ورد التالي :{ …..وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون 160 } .
وفي سورة طه :
{ يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى 80 كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى 81 وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى 82 } .
وفي سورة البقرة :
{ وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون 61 } .
في هذه الآيات ، كما نرى ، تجنب القرآن الخوض في تفاصيل المعجزتين ،وما أحدثته التفاصيل من شكوك و إرباكات . ولكن كالعادة ، عكست الآية 61 من سورة البقرة حالة التناقض التي سادت بين روايات
الكتابين المقدسين . في التوراة جاء ذكر نباتات الأرض في معرض تحسر بني إسرائيل على تلك العيشة الناعمة في مصر ، وهنا وردت كمطلب جاء الرد عليه قاسيا ، تقريع فعقاب كما تقول الآية 61 السالفة .
27
وننتقل إلى الحدث الأهم من أسطورة الخروج حسب تقديري .
إِصحاحات سفر عدد أشارت إلى عدم استقرار الشعب في مكان واحد . وإذا كان ذلك يتفق مع الطبيعة البدوية لتلك الجماعة ، فإنه يؤكد مرة بعد أخرى ، على محدودية عدد هذه الجماعة ، نقيضا للعدد الذي يصر عليه سِفرا الخروج وعدد ، والقائل بأن تعداد أولئك الخارجين من مصر أكثر بكثير من المليونين .
في أحد هذه التنقلات ، والاستقرار المؤقت في موضع سماه السفر برية فاران ، بَدا للرب أن العبور إلى أرض الوعد ، أرض كنعان وامتلاكها بات ممكنا . يخبرنا الإصحاح الثالث عشر أن الرب طلب من موسى إنتقاء مجموعة من الرجال ، واحدا من كل سبط ، وإرسالهم ليتجسسوا أرض كنعان ، ليعودوا بمعلومات مفصلة عن كل شيء . انتقى موسى بمساعدة الرب وشيوخ بني إسرائيل اثني عشر رجلا يمثلون الإثني عشر سبطا ، كان بينهم هوشع بن نون الذي حول موسى اسمه إلى يشوع حسب الآية 16. جمعهم موسى وشرح لهم المهمة : [ فارسلهم موسى ليتجسسوا أرض كنعان وقال لهم اصعدوا من هنا إلى الجنوب واطلعوا إلى الجبل 17 وانظروا الأرض ما هي . والشعب الساكن فيها أقوي هو أم ضعيف . قليل أم كثير 18 وكيف هي الأرض التي هو ساكن فيها أَجيدة أم رَدية . وما هي المدن التي هو ساكن فيها . أَمخيمات أم حُصون . 19 وكيف هي الأرض أَسمينة أم هزيلة .أَفيها شجر أم لا . وتشددوا فخذوا من ثمر الأرض . وأما الأيام فكانت أيام باكورات العنب 20 ] . نفذ الرجال المهمة . جاسوا في كل أرض كنعان . غابوا أربعين يوما وعادوا يحملون الكثير من الثمار ؛ عنب ، تين ، ورمان .. الخ . وأمام موسى وشيوخ بني إسرائيل قدموا تقريرهم : [ وَأخبروه وقالوا قد ذهبنا إلى الأرض التي أَرسلتنا إليها وحقا إنها تفيض لبنا وعسلا وهذا ثمرها 27 غير أن الشعب الساكن في الأرض معتز والمدن حصينة حصينة جدا وأيضا رأينا بني عناق هناك 28 العمالقة ساكنون في أرض الجنوب وًالحثيون وَاليبوسيون وَالأموريون ساكنون في الجبل والكنعانيون ساكنون عند البحر وعلى جانب الأردن 29 ] .
اختلف الجواسيس في تقديرهم لإمكانية دخول بني إسرائيل وامتلاك الأرض . اِثنان ، يشوع وكالب بن يفنة ، قالا بالقدرة على الصعود والامتلاك ، وعشرة نفوا أية إمكانية لذلك . قالوا : [ ….الأرض التي مررنا بها لِنتجسسها هي أرض تأكل سكانها وجميع الشعب الذي رأينا فيها أناس طوال القامة 32 وقد رأينا هناك الجبابرة بني عناق من الجبابرة . فكنا في أعيننا كالجراد وهكذا كنا في أعينهم . 33 ] .
يطالعنا الإصحاح الرابع عشر بأن الجماعة أخذت برأي العشرة . صرخت ، بكت ، وعادت لفكرة الرجوع إلى مصر ، بما في ذلك اختيار رئيس لها بديلا لموسى وهارون . وردا على دفاع الجاسوسين ، يشوع وكالب بن يفنة ، حاولت الجماعة رجمهما بالحجارة . رفع موسى وهارون صوتهما بالشكوى إلى الرب ، الذي ذهب في غضبه على الجماعة حد التهديد بِضربهم بِالوبأ ،إِبادتهم وتَصيير موسى شعبا أكبر منهم . موسى هنا أخذ يرجو ويتوسل إلى الرب ، في حوار طريف ، ألا يفعل ذلك . استجاب الرب ، لكنه أصدر الحكم التالي : [ فقال الرب قد صفحت حسب قولك 20 ولكن حي أنا فتُملأ الأرض من مجد الرب 21 إن جميع الرجال الذين رأوا مجدي وَآياتي التي عملتها في مصر وفي البرية وجربوني الآن عشر مرات ولم يسمعوا لقولي 22 لن يروا الأرض التي حلفت لآبائهم . وجميع الذين أهانوني لا يرونها 23 ]
أما وقد استثنى الرب من هذا الحكم الجاسوسين اللذين خالفا جماعة الجواسيس ، يشوع بن نون وكالب بن يَفنه ، فقد واصل شرح الحكم بالتالي : [ وكلم الرب موسى وهارون قائلا 26 حتى متى أغفر لهذه الجماعة الشريرة المتذمرة علي . قد سمعت تذمر بني إسرائيل الذي يتذمرونهُ عليّ 27 قل لهم حيّ أنا يقول الرب لأفعلن بكم كما تكلمتم في أذني 28 في هذا القفر تسقط جثثكم جميع المعدودين منكم حسب عددكم من ابن عشرين سنة فصاعدا الذين تذمروا عليّ 29 لن تدخلوا الأرض التي رفعت يدي لأُسكننكم فيها ما عدا كالب بن يفنة ويشوع بن نون 30 وأما أطفالكم الذين قلتم يكونون غنيمة فإني سأُدخلهم فيعرفون الأرض التي اِحتقرتموها 31 فجُثثكم أنتم تسقط في هذا القفر 32 وَبنوكم يكونون رعاة في هذا القفر أربعين سنة ويحملون فُجوركم حتى تفنى جثثكم في هذا القفر 33 كعدد الأيام التي تجسستم فيها الأرض أربعين يوما للسنة يوم تحملون فيه ذنوبكم أربعين سنة فتعرفون ابتعادي 34 ….. أما الرجال الذين أرسلهم موسى ليتجسسوا الأرض ورجعوا وَجسوا عليه كل الجماعة بإشاعة المذمة على الأرض 36 فمات الرجال الذين أشاعوا المذمة الردية على الأرض بِالوبأ أمام الرب 37 ] .
28
إذاً حكم الرب على بني إسرائيل بالتيه في سيناء أربعين سنة . إفناء الجيل الذي رفض الدخول إلى فلسطين ، محاربة وإبادة أهلها والحلول مكانهم ، واستبدال هذا الجيل بآخر مقاتل ، مثل الهدف من الحكم . هنا يبرز سؤال : هل بقي ، مع صدور هذا الحكم ، التزام الرب بإطعام بني إسرائيل المن والسلوى ، إضافة لتفجير عيون الماء سائرا أم ماذا ؟ الالتزام بإرسال المن ، حسب الآية 35 من الإصحاح السادس عشر / الخروج
استمر طوال سنوات التيه الأربعين . لكن الأمر لم يعد كذلك مع السلوى . إذ نفهم من الآية 33 أن الرب حكم على بني إسرائيل ، من خلال إعادتهم رعاة ، العودة للاعتماد على أنفسهم ، أو إلى ما كانوا عليه قبل بدء الخروج ، ولكن ….
لكن ، ودون أن أن تنطق الإصحاحات بشيء ، توالت خدمات الرب من خلال معجزات جديدة ، معجزات تمثلت في عدم بلاء خيامهم ، ثيابهم ، نعالهم .. الخ . وأكثر من ذلك امتلاكهم لكل أصناف السلاح اللازمة لغزوهم ، وَالأضحيات وغيرها لإقامة طقوسهم الدينية الجديدة ، وَلدرجة أن تأخذ القارئ الدهشة والعجب من صور البذخ في إقامة خيمة الرب من جهة ، وألبسة الكهنة وَترصيعها بكل أشكال الجواهر من جهة أخرى . ولِيتساءل القارئ : من أين لهم كل هذا ، وهم من كانوا عبيدا لا يملكون شيئا ، ومن هم الآن بدو يعيشون على إنتاج ماشية تتغذى بالقليل القليل من أعشاب صحراء قاحلة ؟ والجواب : لأن كل ذلك أسطورة ولا شيء غير الأسطورة .
29
وماذا يقول القرآن في حكاية التيه هذه ؟
الحكاية وردت في سورة واحدة هي سورة المائدة ، وعلى النحو التالي : { وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين 20 يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين 21 قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون 22 قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين 23 قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون 24 قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين 25 قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين 26 } .
والآن ، وقبل القول بتعذر تفسير هذه الآيات ، ومن ثم فهمها ، دون الرجوع إلى رواية التوراة ، لا بد من الإشارة إلى أن الآية 20 تثير من الحيرة أكثر مما تثير من الدهشة ، كما تستفز عقل القارئ لِيتساءل : إذا كان الله قد جعل فيهم أنبياء ؛ إبراهيم ، إسحق ، يعقوب ، يوسف والأسباط ، وعاشوا ذل العبودية أربعمائة وثلاثين سنة في مصر ، ونشأت كل أسطورة الخروج لإنقاذهم من ذل العبودية هذا ، فمتى كان فيهم ملوك ، أو أناس ميسورو الحال ، عندهم خدم وحشم كما تذهب تفاسير الآية ؟ هل معقول أن يصاب الله هو الآخر بعطب الذاكرة ، كما حصل لرب بني إسرائيل مرة بعد أخرى ؟ وَكيف يمكن لفلسطيني له عقل القبول بهذه الآيات شديدة الوضوح في أن الله عاقب بني إسرائيل أربعين سنة تيه لا لشيء إلا لأنهم خافوا فَتقاعسوا عن دخول وطنه واغتصابه ؟
30
وخاتمة
يواصل الكتابانِ المقدسان حديث التيه وانتهاء عقوبته من جهة ، وأحاديث الانتقال إلى الحركة عبر جبال الشراة الأردنية ، وصولا للعبور من أريحا من جهة أخرى . بالرغم من ذلك لا تحمل الأحاديث جديدا في موضوع الخروج سوى موت هارون ودفنه في جبل هارون قرب الطفيلة الأردنية ، وَموت موسى ودفنه في قبر مجهول حتى الآن ،وسوى إعادة القول بأن جماعة بني إسرائيل كانت كبيرة ، أكثر من مليونين بكثير، نقيضا لما أثبتته وقائع الكتابين المقدسين ، إن كانت قد وجدت فعلا ، بأنها كانت جماعة صغيرة لا يؤبه لها .
قلنا من البداية أنه لو تم الاتفاق على تصنيف موضوع الخروج أيضا كأسطورة ، وهو كذلك فعلا كما تؤكد الأبحاث الأثارية ، لما احتجنا لكل هذا التعب في البحث ، القراءة ، التمحيص والتدقيق . الآيات ، في الكتابين المقدسين ، التي طَالعناها وَثبتناها هنا ، حافلة بالتناقضات ، بِالمبالغات ، بكل ما هو خارج على قدرة العقل على الفهم والاستيعاب ، مم اتفق الكتابان على وصفه بالمعجزات ، وما يدفع بالمؤمن لِلتسليم بصحة هذه المعجزات . لكن ، ومن محاسن الصدف ، أن القراءة النقدية التي قدمناها تقول بعلو الصوت : كل تلك الوقائع محض نتاج خيال مريض لا أكثر . نصوص الكتابين المقدسين ، بما حفلت به من اتفاق على الجوهر واختلاف وتباين السرد والتفاصيل ، وكما قالت أنه لم تقع على بني إسرائيل عبودية في مصر، قالت أيضا أنه لم يكن هناك خروج من مصر ، وبالتالي لم يكن هناك دخول إلى فلسطين .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يهود يتبرأون من حرب الاحتلال على غزة ويدعمون المظاهرات في أم


.. لم تصمد طويلا.. بعد 6 أيام من ولادتها -صابرين الروح- تفارق ا




.. كل سنة وأقباط مصر بخير.. انتشار سعف النخيل في الإسكندرية است


.. الـLBCI ترافقكم في قداس أحد الشعانين لدى المسيحيين الذين يتب




.. الفوضى التي نراها فعلا هي موجودة لأن حمل الفتوى أو حمل الإفت