الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طرائف الأخبار في عمل الآثار

حامد خيري الحيدر

2023 / 11 / 2
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


يُلاقي منقب الآثار بحكم عمله في مناطق نائية بعيدة عن حدود العمران ومراكز المدن الكثير من الأمور المُتناقضة، من مصاعب ومتاعب وظروف قاسية غير طبيعية قد تجعله يُصاب باليأس والقنوط، وفي أحيانٍ أخرى يكون الحظ مُبتسماً له فتَهب عليه رياح النجاح فتدعوه للتفاؤل وتُحفزه على مواصلة عمله بجدٍ وحماس، أو ربما تمّر عليه مواقف بغاية الطرافة والمُتعة نتيجة المفارقات الطارئة التي قد يضَعها القدر في طريقه من دون تخطيطٍ أو سابق موعد، وفي كل من هذه الحالات لابد وأن تترك في قلب ونفس المُنقب أثراً لا يمكن نسيانه على مدى الدهر، وهذه مجموعة مُنتقاة من عديد تلك المُصادفات الطريفة الغريبة التي واجهتني خلال عملي الآثاري المُمتد على أيام عقد التسعينات من القرن العشرين، رغم مرور كل تلك السنوات عليها لكنها أصبحت جزءاً من ذكرياتي الأثيرة على نفسي.

شَر البليَّة ما يُضحك

خلال تنقيباتي الأثرية في مدينة "بلد أسكي موصل" التاريخية صيف عام 1995، كشف فريق عملنا عند الأطراف الجنوبية للمدينة عن مجموعة من الوحدات السكنية المُشيّدة بالحجر والجص، تعود الى أواسط القرن الثالث عشر الميلادي/السابع الهجري، حيث أواخر الفترة الأتابكية وبدايات الفترة الإليخانية (المغولية)، أحدى تلك الوحدات كانت مربعة التخطيط طول ضلعها بحدود خمسة عشر متراً، تتوسطها ساحة داخلية واسعة، بذلنا جهوداً مُضنية مع عمالنا في رفع رُكام الصخور المتساقطة عليها، والتي كانت تغطيها لارتفاع يُقارب المترين، مما تطلب عشرة أيام من العمل المتواصل تحت أشعة الشمس اللاهبة لغرض أزالتها وتنظيفها بالكامل، ليتَبيّن على أثرها أن أرضية الساحة كانت عبارة عن لوحة زخرفية جميلة جداً، نُفّذت بأسلوب غاية في الدقة والحِرفية، حيث رُصفت بقطع المَرمر الأصفر المُعرّق، تتوسطها نجمة ثُمانية ملونة أجزائها بالأسود والأبيض، أتبّع في تنفيذها طريقة تعشيق قطع المَرمر مع بعضها البعض والمعمولة بأشكال مثلثة ومربعة، تحيط بها ثلاثة أطر مربعة باللون الأسود، وبأسلوبٍ مُماثل لفن "الأرابسك"(1) المُتبّع في عمل الزخارف العربية.
كان الوقت بعد اكمالنا تنظيف الساحة وشَطفها بالماء ثم رَسمها قد أعقب انتصاف الظهيرة بأكثر من ساعة، وقد حاولنا تصويرها لكن انعكاس اشعة الشمس العامودية في هذا الوقت على الأرضية الصقيلة المَلساء كالمرآة كان على أشده، مما جعل الصور تغدو مشوهة وتخفي قسماً كبيراً من جماليتها، لذلك أجّلنا تصويرها الى صبيحة اليوم التالي، حيث أن أفضل الصور يُمكن التقاطها مع ضياء الشمس الاول أو الأخير، مُكتفين حينها برَسم الزخرفة فقط وتوثيقها بشكل تخطيطي فقط، لكن المفاجأة التي لم نتوقعها كانت مع بدء العمل في صبيحة اليوم التالي، وقدومنا المُبّكر لأجل التقاط الصور المَرجوَّة للساحة وزخرفتها الرائعة، حيث وجدناها مُمتلئة بالقاذورات، بعد أن تَحوَلت الى دورة مياه عامة، ومَقصداً لكل من رغب بقضاء حاجته من أهل القرية المجاورة على هذه التحفة الفنية، حتى أن بعض هؤلاء الذين أرادوا افراغ (همومهم) قد تقصّد أن يضع (بَصمته) تماماً في وسط النجمة الثمانية التي بَذلنا كل ذلك الوقت والجُهد من أجل اظهارها، مما حدا بأحد عمالنا الى القول من باب النكتة.. (انه حاول التصويب على الهدف لكن بشيء آخر وليس ببندقية).
وعن نفسي وما فكرت به في تلك الساعة، هو عدم درايتي بماذا سيقول ويتفوه بشأن ما جَرى، ذلك الفنان المُرهف الحّس الذي جادت يداه بهذه التحفة الفنية المُميّزة، فيما لو قُدّر له وبُعث الى الحياة مُجدداً؟ حتما أنه سيَلعن اليوم الذي احترف فيه تلك الكذبة التي تجعل البشر يقتربون بواسطتها من الحقيقة والتي تُدعى "الفن"، كما قال الفنان العالمي الشهير "بيكاسو". ورغم انزعاجنا وحَيرة عقولنا لما حدث لكنه عكسَ بوضوح مدى السذاجة وبلادة التفكير اللذان كانا يقيّدان عقول هؤلاء البسطاء من الناس. وطبعاً تم تنظيف الساحة بشكل سريع وشطفها بالماء مُجدداً لأجل التقاط الصور المطلوبة، وبعد أن تم ذلك قمنا بإعادة دفن الساحة بالكامل بالتراب وقطع الحجارة مرة أخرى، من أجل حمايتها وعدم تكرار ما جرى لها مرة أخرى، حيث أن ذلك قد بدا لي هو الحل الوحيد للحفاظ عليها، ولا أدري اليوم بعد كل تلك السنين ماذا حَل بتلك الساحة وزَخرفتها الجميلة.

أعانك الله يا هذا!

مع انتصاف صيف عام 1996 اللاهب، وتواصل عملي في التنقيبات الأثرية عند "تل القلعة الأثري" في مدينة "بلد أسكي موصل" التاريخية، كشفنا عند الطبقة الآشورية الثالثة عن عشرة قبور تعود الى أواخر فترة العصر الآشوري الوسيط 1500_911ق.م، كانت تُمثل جزء من مقبرة كبيرة تمتد في عموم التل الأثري، طُمست معظم معالمها ولم يَتبق منها ما يمكن تمييزه بوضوح سوى تلك القبور، التي احتوت الى جانب البقايا العظمية على بعض المواد الجنائزية التي اعتاد العراقيون القدماء وضعها مع الشخص المدفون لغرض استخدامها في العالم الأسفل أي "عالم الموت".
كان أحد تلك القبور بسيط التصميم أحيطت حفرته بكتل من اللِبن، ضمّ هيكلاً عظمياً لشخص طويل القامة مُمدداً على ظهره بشكل مستقيم وذراعاه مثنيتان ومعقودتان على الصدر، وبعد اكمالي تنقيب الهيكل الذي كان بحالة جيدة نسبياً واظهار كامل تفاصيله لغرض تصويره ومن ثم رَسمه، تَبيّن لي وجود ختم أسطواني بين الأضلع، من الواضح أنه كان مُعلقاً في الرقبة، لكن المشكلة هي أن الختم المعمول من مادة "الفرت"(2) الهَشة كان بحالٍ سيئة جداً حيث أنه مَحشور بين الأضلع داخل كتلة كبيرة من الطين المُتكلس مع الملح، مما يجعل استخراج الختم الصغير الذي لا يتعدى حجمه نصف خنصر اليد من دون أن يَتفتت أمر صعب للغاية، والحل الوحيد أن يتم قشط الكتلة الطينية المحشور داخلها بشكل بطيء وبغاية التأني، على أن يُراعى أهم شيء في الأمر، وهو المحافظة على تفاصيل الصورة المنقوشة عليه لغرض معرفة شكل الطبعة التي يُصورها، وكان ذلك الأمر تحدياً كبيراً بالنسبة لي.
وبالفعل شَمّرت عن ساعديَّ وباشرت في استخراج الختم، مع انتصاف الظهيرة صامداً تحت رحمة شمسها الحارقة وحرارتها اللاهبة، ليس لديَّ من عون نحوها سوى قبعة صغيرة تحمي رأسي وكوفية مُترَبة تقي عنقي، وشيئاً فشيئاً انغمست بالعمل بشكل كلي، ناسياً الوقت والمكان وتيّبُس الظهر ومفاصل الأقدام، بل وحتى قسوة الحرارة التي جعلت من عَرق رأسي يَنساب بهدوء عَبر رقبتي وظهري، كأنه أحد جداول الري السَيّحي، أناملي فقط كانت تعمل، حيث كنت بواسطة ابرة صغيرة للغاية أقشط التكلسات التي تُحيط بالختم، ثم بفرشات صغيرة للغاية أزيل التراب المُتراكم مع شيء من النفخ، حتى اختطفني الزمن ونسيت حالي ولم أعد أشعر أو أحس بما كان يجري حولي، لأتنبه فجأة بأن الشمس قد حَجبها ظل كبير.. (بالطبع لم تكن غمامة هي التي فعلت ذلك، كما أن الغروب لا زال أمامه وقت طويل حتى يأتي بعُتمته، خصوصاً ونحن في عِز الصيف، إلا إذا كان الوقت قد سَرقني الى هذا الحَد دون أن أشعر)، هكذا فكرت مع نفسي، ثم ألتفتّ بشكل غريزي الى الوراء لأجد رجلاً في الأربعين من عمره تقريباً هو من جاء بكل هذا الظل، لم يكن وجهه مألوفاً لي بخلاف باقي سكان المنطقة الذين بتّنا نعرف صورهم بعد الفترة الطويلة الذي قضيناها بينهم، كان يقف خلفي مباشرة ثانياً جسمه نحوي، ماداً رقبته بفضول قبيح من أجل معرفة ماذا أفعل عن كثب من دون أن أشعر به لانشغالي ما كنت مُبتلى به.
أشرت له بيدي عما يُريد من وقفته هذه، حيث كنت حينها بمَزاج لا يَسمح بالحديث مع أي أنسان، ليَرُد عليَّ بنفس إشارتي دون أن ينطق بحرفٍ واحد، أشرت له مرة أخرى مُشيراً الى فمه كي يتحدث، ليقابل حركتي كذلك بأخرى مُماثلة.. (هذا ما كان ينقصني! هل هذا الرجل أهبل أم معتوه أم مجنون؟ بأي حال أنا ليُرسل الله لي هكذا أناس؟)، وبعد عدة حركات وإيماءات تبادلناها أنا وهو، لينطق أخيراً متفوهاً ببضع كلمات يلوكوها فمه.. (ألعفو أستاذ، أكَدر أسأل فد شي؟)، لأجيبه بالإيجاب وبنبرة حادة للغاية بعد هذا الوقت الذي أضعته معه.. (كَول، شكو، خير!)، حيث أن ذهني حينها كان مُتركز كلياً مع الختم وكيفية اخراجه سليماً، ليَسأل بلهجة هادئة مَشوبة بأقصى درجات البلادة.. (أشو المرحوم ما مدفون على الجبلة "القِبلة"؟).
في تلك اللحظة أنستني عصيبتي طبيعة مهنتي وصفتي العلمية وما أنا عليه، لأعود دون شعور أو إرادة أو أدنى تفكير سنوات عديدة الى الوراء، حين كنت عريفاً في صنف المشاة خلال خدمتي العسكرية، لأقول له بصوت عالٍ وبصيغة الإيعاز العسكري.. (الى الورااااااء دُرّ)، فما كان من الرجل إلا أن امتثل للأمر بشكل غريب لم أنتظره أو أتوقعه، مُنفذاً إياه حرفياً دون أي تَردد أو تذمر، لأتابع ما بدأته بإيعاز آخر.. (عادة هاااااارول)، ليركض الرجل مُبتعداً عن المكان دون أن يلتفت يميناً أو يساراً، تلاحقه كلماتي التي أطلقتها خلفه بصوت عال.. (بالك أشوفك هنا مرة ثانية)، وبالفعل لم أرَ هذا الرجل بعد ذلك طيلة عملي في مدينة "بلد اسكي موصل" التي قاربت العامين، لأعود بعدها لمتابعة عملي الذي أستمر بعدها قرابة الساعتين انتهى بشكل رائع، حيث تمكنت من استخراج الختم وهو سليم تماماً دون أن يصيبه أي ضرر، مُحافظاً على صورته التي كانت بمنتهى الروعة والجمال.

حُب من طرفٍ واحد

من المفارقات الطريفة أيضاً خلال تنقيباتنا في "تل القلعة الأثري" في مدينة "بلد أسكي موصل" التاريخية عند صيف عام 1996، حيث كشفنا في الطبقة الآشورية الثانية التي تعود الى العصر الآشوري الحديث 911_612ق.م، عن مجموعة جدران مُشيّدة بحجر الحِلان الغير منتظم، وبسُمك يقارب الثمانين سنتيمتراً، تُمثل جزءاً من وحدة بنائية كبيرة البناية ربما تكون معبداً أو مزاراً دينياً، حيث كانت أركانها تتجه نحو الجهات الأربعة الرئيسية إضافة الى وجود مدخلها في جهة الشرق والذي يؤدي بدوره الى ساحة مكشوفة واسعة، وهذه كلها من المُميزات الثابتة في تخطيط معابد وادي الرافدين.
ومع غَمرة انشغالي بالعمل في استظهار هذه البقايا البنائية، باركاً على الأرض أتفحص عمق أسسها وذهني شاردٌ بشكل كامل بمتابعة الحفارين، ونظري ثاقب في ملاحظة طبقات التربة، وإذا بعقربٍ أسود كبير يدخل جيب بنطالي الفضفاض من دون أن أدري، لا أعرف من أين جاء وكيف دخل، ربما كان مُختبئاً في أحد الشقوق الأرضية في منطقة التنقيب، ليظل هناك طوال اليوم، وأنا لا أشعر بوجوده على الأطلاق، وبعد عودتنا من العمل لمقر إقامتنا في مدينة الموصل عصراً، أردت الترجل من سيارة فريق العمل لأرتجف لحظتها من مفاجأة غير متوقعة، وأنا أرى العقرب يخرج بهدوء من جيبي ويَسير مُترنحاً على ساقي بكل راحة واطمئنان، كأنه كان يَغط في نوم عميق طوال ذلك الوقت داخل هذا (الفراش الوثير)، ثم أستيقظ وأخذ يَتمطى بجسمه بعد أن شَعَر أن (القيلولة) قد انتهت وآن أوان المغادرة، لأنفّذ حينها بحقه القصاص العادل المَنصوص عليه في القانون الشعبي العراقي.. (ماكو دوّه للعكَربة غير النعال).
ومن المفارقات الطريفة الأخرى مع العقارب والمشابهة لسابقتها، حدثت معي خلال نفس الفترة لدى تنقيباتنا في تلك المدينة التاريخية، حيث كنت عائداً بعد يوم عمل متعب مع نهاية الظهيرة، لأذهب مباشرة كما أعتدت دوماً للاستحمام في مقر إقامتنا، وبينما أنا مُغمض العينين تحت (الدوش) مُغطى بطبقة الصابون، أحسست بشيء علق في ساقي اعتقدت للوهلة الأولى أنه الماء ثم أخذ هذا الشيء بالصعود ببطيء على جسمي حتى وصل صدري، أحسست بثقله، ثم بحركة لا إرادية مني دفعته بعيداً عني وأنا مغمض العينين، لأصعق بعد أن فتحتهما إذ لم يكن هذا الشيء سوى عقرب كبير جداً رمادي اللون، طوله بحدود 15سم، من النوع المسمى مَحلياً (جرّار)، والذي سُميّ بهذه الكنية كونه يجّر ذيله جراً كالسحالي، لعدم تمكنه من ثنيه كباقي العقارب بسبب كبر غدة السُم فيه والذي تفوق خطورته كثيراً سم الأفاعي، ثم ليكون مصيره أليماً مثل أخيه سابق الذكر ضحية هو الآخر لشسع المَداس، وكحال هاتين المُصادفتين كان لي أخريات عديدات تماثلها بالمفاجأة والنتائج، لكني حتى اليوم لا أعرف سر قصد العقارب الدائم نحوي، هل لكوني من مواليد برج العقرب؟ أم بسبب حُب جارف عنيف من جانبها كان لسوء حظها من طرف واحد.

نزوات المُراهقة

يتطلب التنقيب الأثري توثيق كل ما يتم الكشف عنه في الموقع الأثري بشكل روتيني يومي، سواء كانت المكتشفات آثار منقولة أو بقايا أبنية أو طبقات أثرية يستلزم تحديد مُستوياتها، وتتم أعمال التوثيق هذه عادة بواسطة الأجهزة والأدوات المساحية المختلفة، ومع هذه الأعمال واجهتني هذه المفارقة خلال عملي في توثيق الطبقة الآشورية الرابعة عند تنقيباتنا في "تل القلعة الأثري" في مدينة "بلد أسكي موصل" التاريخية والمُطل على الضفّة اليُمنى لنهر دجلة، وذلك في صيف عام 1996.
فبعد أن أتممت أخذ قراءات مناسيب هذه الطبقة وحدود جدران بناياتها المُستظهرة بواسطة ناظور المساحة "الثيودلايت"(3) لغرض رَسمها، طلبت من أحد العمال الذين لم يكن يتعدى السادسة عشر من العمر بعد أن اعطيته فرشاة وقطعة قماش، أن يأخذ الناظور الى مكان آخر بعيد عن أتربة منطقة التنقيب وينظفه بشكل جيد، وبعد نصف ساعة أتمّ عمله بشكل ممتاز، ليغدو جاهزاً لعمل يوم غد، وفي اليوم التالي جاء نفس العامل بعد أن انجزت عملي مُبادراً السؤال من تلقاء نفسه.. (أستاذ الناظور يحتاج تنظيف اليوم؟)، وطبعاً كما في المرة السابقة أنجز مهمته على أكمل وجه، ليتكرر السؤال نفسه خلال الأيام التالية، وعند نفس الوقت تقريباً حيث أنتصاف الظهيرة، حتى في الأيام التي لم يتم استخدام الناظور فيها، ليُساورني الشك بشأن هذا العامل، مُعللاً الأمر في البدء أنه وسيلة للتهرب من العمل الشاق بعد أن أستسهل هذه المهمة البسيطة.
الأمر الذي دفعني لمراقبته من دون أن يَشعر كي أعرف حقيقة ما يفعل، لأضبطه (مُتلبساً) وهو يوجه بصره بواسطة الناظور صوب ضفة النهر، حيث فتيات قرية "أسكي موصل" القادمات من عملهن في الأراضي الزراعية، يَقمّن بغسل أقدامهن الموحلة بماء النهر كاشفات عن سيقانهن وأجزاء كبيرة من أجسادهن، لحظتها أخذ يَهّز رأسه بكافة الاتجاهات من شدّة الارتباك نافياً وناكراً قصد السوء أو الغاية غير البريئة مما يفعل، ليَنال مني على أثرها تأنيباً شديد اللهجة، رغم أني كنت في داخلي أبتسم لبراءة هؤلاء المُراهقين ونزواتهم الفطرية وما يشعرون به من غرائز انسانية طبيعية، خصوصاً في مجتمع مُنغلق مثل أرياف العراق، ثم مباشرة تم نقل هذا العامل ليشتغل في منطقة تنقيب اخرى بعيدة عن هذا المكان، تجنباً لأي مشاكل نحن في غنى عنها قد يحدثها تصرف غير مسؤول من قبله مستقبلاً مع فتيات القرية.

قطة أم شيطان؟

رغم متاعب العمل اليومية خلال تنقيباتنا في مدينة "بلد أسكي موصل/ التي أستمرت على مدى عامين 1996و1996، والتي غَدت جزءاً من روتين حياتنا الذي تعايشنا معه، لكننا بشكلٍ عام لم نواجه أموراً مُستعصية يصعب حلها أو التعامل معها، باستثناء مشكلة واحدة قابلتنا عام 1996 قد ظلت عالقة دون حَل، ولم نتمكن من أيجاد علاج شاف يقينا ضررها، لنرفع راية استسلامنا نحوها بعد أن عَجزنا من أيجاد تفسير لها، وهي لا تتعلق بمُعضلة تاريخية أو اختيار أسلوب مُعيّن في التنقيب، أو تحديد فترة زمنية لأثر غامض أو طبقة أثرية تعود لدور حضاري غريب، كانت المشكلة بكل بساطة عبارة عن قطة! نعم قطة، وقد يَسخر أو يضحك أو يَستغرب من يقرأ ذلك وقد يعدّه نوعاً من الهَذيان البعيد عن الحقيقة، لكن هذا هو الذي كان.
هي قطة بيضاء صغيرة نحيلة، مُبقعة بالأصفر والأسود، لا نعرف من أين أتت أو كيف رماها القدر علينا لتقيم بالقرب من مقر إقامتنا وعملنا في مدينة الموصل داخل مدينة "نينوى" الأثرية، ولم يكن حالها يوحي بأنها تحمل الشَر أو ترغب بإثارة الازعاج، باستثناء مُمارستها لهواية غريبة جداً هي اللعب مع الجرار الفخارية الأثرية المكتشفة، والتي أعتدنا غسلها وتنظيفها بالماء ثم تركها لتجف تحت الشمس استعداداً لرَزمها مع بقية الآثار المكتشفة كي يتم نقلها الى المتحف العراقي في بغداد، عندها تكون تحت رحمة تلك القطة اللعينة، لتسقطها واحدة تلو الأخرى، وبالفعل فقد تسببت للأسف وبغفلة من فريق العمل بكسر إحدى تلك الجرار ذات مرة، وربما كانت رائحة العَفن التي تفوح عادة من الجرار الأثرية تُثيرها لتجعلها تتعامل معها بهذا الشكل.
كل ذلك دعانا للبحث عن طريقة مناسبة للتخلص من هذا الكائن المُتطفل، ولدى سؤالنا حارس مقر عملنا لمساعدتنا أجابنا بشكل حازم.. (لا تحاولوا بشيء معها، أن شيطانا خبيثاً يَتملك جسدها، لقد حاولت أبعادها عدة مرات لكنها كانت تعود في كل حين وهي تُردد موائها الغريب المزعج الذي يشبه الصفير)، من جانبي حاولت من شدة غَيضي وحَنقي عليها أن أسممّها بسم الفئران المَمزوج بالنفط مبتعداً بذلك قليلاً عن انسانيتي وعطف قلبي، وعذري في ذلك هو حماية آثار العراق المؤتمنين نحن عليها، لكن مَسعاي هذا قد باء بالفشل الذريع هو الأخر، إذ لم يحدث لها أي شيء رغم تناولها الطعام المَسموم بشراهة ووحشية، وحينما كنت أمعن النظر الى عيني هذه القطة كنت أرى فيهما نظرات غريبة لا توحي بأنها تعود لكائن حي أبداً.
ليتم الاتفاق أخيراً بين أعضاء فريق التنقيب على استدراج القطة وحبسها داخل كيس كبير من الجنفاص (كَونية)، ثم رميها في أحد المناطق البعيدة النائية بطريق ذهابنا الى عملنا، وقد تمّت العملية بسهولة ويُسر كبيرين وأسهل مما تصورنا أو توقعنا، والغريب في الموضوع أن أسيرتنا كانت طيلة فترة احتجازها هادئة تماماً، ولم يَصدر منها صوتاً أو حركة تنّم عن ضيق أو خوف أو انزعاج، ليتم رميها كما خططنا بعد تحريرها من قيدها في منطقة نائية شمال الموصل على مسافة تبعد قرابة الأربعين كيلومتراً، وسط بيئة صحراوية مَعزولة لتلاقي مصيرها المَحتوم، أما بالقضاء جوعاً وسط هذه البرية الجرداء، أو افتراساً من قبل الكلاب السائبة المتوحشة أو الذئاب الهائجة، بالطبع توّلد لدينا حينها شعوراً بالذنب والحُزن لاقترافنا تلك (الجريمة)، لكن ما العمل وقطعنا الأثرية قد غَدت في خطر مع وجود هذا المخلوق المُزعج.
لتمّر عدة أيام وفي تصورنا أن القطة قد أبتلعها الزمن وغدت كحال آثارنا في عهدة التاريخ ومن بقايا الماضي، لنتفاجأ بها في أحد العصاري وهي تقفز فرحة امام فسحة مَقرّنا وهي بغاية المَرح والسعادة، تحاول مُمارسة هوايتها القديمة باللهو مع جرارنا الفخارية، طبعاً لم تُصدق عيوننا ما كانت تراه، كيف استطاعت هذه القطة العجيبة النجاة من كل تلك المخاطر التي احاطت بها وسط الصحراء، وكيف استرشدت الطريق لتقطع كل هذه المسافة الطويلة وتعود سالمة مُعافاة لم يحدث لها شيء؟ طبعاً كانت رَدّة فعلنا متفاوتة بين ضحك وذهول وتَعجب، خاصة مع كلمات حارسنا الذي تابع عودتها من دون أن ينتابه الاستغراب في ذلك.. (ألم أقل لكم أن شيطاناً خبيثاً يَتجسّدها!)، لنقتنع أخيراً بعدم فائدة محاولاتنا لأبعادها، ليَستمر وجود هذه القطة معنا حتى نهاية عملنا في أم الربيعين العزيزة، وكانت الوسيلة الوحيدة لحماية جرارنا الفخارية منها، هو حفظها بعد الغسل والتنظيف داخل قفص كبير من الأسلاك الحديدية يشبه قفص الدجاج، صنعناه بأنفسنا بمساعدة حارسنا.

بِلة لا تُنسى

كشفت تنقيباتنا خلال صيف عام 1997 في موقع "تل النمل" الأثري الكائن على ضفة نهر دجلة جنوب قضاء الشرقاط، عن معبد دائري غريب الشكل والتصميم يختلف عن باقي المعابد العراقية القديمة، يعود الى بدايات عصر دويلات المدن السومرية أي بحدود 3000ق.م، ومع أنتصاف شهر أيلول عام 1997 وكما أعتدنا أجواء هذه المنطقة المُمتدة طبيعتها ومناخها حتى محافظة نينوى، أخذت الرياح الرَطبة تهّب من كل صوب تقابلها نسائم باردة أخرى تمّر فوق نهر دجلة، رغم أنها كانت تُماثل تلك التي يجود به الربيع بلطافتها وعذوبتها خاصة عند الصباح، لكنها أشعرتنا بالمقابل أن بوادر الخريف قد بدأت بالقدوم تدريجياً، لذلك أخذ فريق عملنا يعّد العدة لاختتام موسم التنقيب من خلال العمل بوتيرة أسرع قدر الإمكان، للكشف على أجزاء وتفاصيل أخرى من البناء الدائري قبل قدوم موسم الأمطار، الذي سيكون من شأنه تعطيل عملنا بشكل كلي، لتحدث آنذاك هذه المفارقة.
كان العمل حينها على أشّده حيث كان فريق العمل المُكون من خمسة أعضاء في ذلك اليوم مُجتمعاً بأكمله على قمة التل لسوء الحظ ،منشغلاً بمتابعة أعمال التنقيب الصعبة المتواصلة، لتظهر بشكل مفاجئ من جانب جبل "مكحول" المُمتد الى الغرب من الموقع، غيمة هائلة الحجم رمادية اللون حَجبت ضوء النهار، أخذت تُقبل بشكلٍ سريع جداً باتجاهنا مُمطرة الأرض في طريق تقدمها مُنقعة إياها، ليصيح أحد العمال حال رؤيتها.. (البِلة، البِلة)، تَرَكَ على أثرها عُمالنا موقع العمل نازلين بسرعة البرق عن سطح التل الذي يبلغ ارتفاعه حوالي خمسة عشر متراً دون أن يخبرونا شيئاً، وخلال ثوانٍ مَعدودات وقبل أن نعرف ما هي "البِلة" وما يُقصد بها أو نستوعب ونفهم حقيقة الأمر وما يَجري حولنا، غطّت تلك الغيمة المنطقة التي يقع فيها التل بأسرها والتي تُعرف بـ"الخانوكَة"(4)، ليَنهمر علينا مطرها الغزير بشكل لا يوصف، قد لا أبالغ أن قلت أن حجم قطرة المطر الواحدة كانت بحجم بيضة الدجاج، تحوّلت قمة التل على إثرها وخلال دقائق معدودات الى مستنقع كبير أعاق حركتنا بالكامل، بعد أن غارت أقدامنا عميقاً في وحوله، كما لم نستطع النزول عنه خشية الانزلاق والسقوط لانحدار حافته المُطلة نحو نهر دجلة.
لذلك بقينا واقفين في أماكننا صامدين على هذه الحال لأكثر من ساعتين، كوضع الجنود ساعة التعداد الصباحي، أما عمالنا فكانوا ينظرون الينا من بعيد وهم يجلسون تحت سقائف بعض بيوت قرية "النمل" يشربون الشاي ويضحكون على حالنا، ربما تَشفيّاً بنا ونحن تحت رحمة انهمار المطر العنيف الذي لا يتوقف، لا حول لنا ولا قوة سوى الدعاء بأن ينتهي سريعاً هذا البلاء، لنعرف بعد انحسار غضبة الطبيعة هذه ونزولنا الصعب عن سطح التل ونحن نرتجف بهيئاتنا التي تشابه الى حدٍ بعيد حال الطيور المَبلولة، أن "البِلة" هي موجة أمطار غزيرة جداً تأتي مرة عند الربيع وأخرى عند الخريف، ينتظرها المزارعون المعتمدون على الزراعة الدَيميّة بفارغ الصبر، إذ يعتبرونها نعمة لا تُقدّر بثمن ينتفعوا منها في إرواء محاصيلهم وغَلاّتهم الصيفية والشتوية، وطبعاً بعد تلك (النعمة) القاسية توقف العمل كلياً في الموقع لمدة أسبوع لإصابتنا بنزلة برد حادة جداً، وكذلك لغرض جفاف الموقع نسبياً من الأوحال والأطيان التي غطت جميع أجزائه.
لا أدري هل كانت تلك "البِلة" عقوبة جماعية لأعضاء فريقنا، أم أنها إحدى نِقم الله التي أبتليَّ بها الآثاريين على امتداد الزمن، لأتذكر مقولة ذكرها لنا أستاذنا الراحل في قسم الآثار الدكتور عبد الإله فاضل على سبيل المزاح، ونحن لا نزال في مرحلتنا الدراسية الجامعية الأولى... (ثلاثة لا يدخلون الجنة، الزاني والداني ومنقب الآثار!!!!)، ربما كان ذلك تحذيراً مُبطنّاً من قِبل أستاذنا لهذه المهنة الشاقة وما سنلاقيه بسببها من متاعب وأوصاب على امتداد الزمن، وقد كانت كذلك بالفعل وأكثر.

الهوامش:

1_ الأرابسك... أحد الفنون الزخرفية الدقيقةً التي تعتمد علي تركيب وتعشيق قِطع الخشب أو الحجر أو الزجاج بعد تشذيبها وتقطيعها الى اشكال متنوعة، قد تكون هندسية أو نباتية مُحوّرة أو خطوط عربية مُتناسقة، يتم تركيبها ببعضها البعض بشكل مُكرر مُزدحم العناصر مُتجانس الصور والألوان، وفق حسابات وقياسات هندسية دقيقة، لتكوّن بمُجملها تحفاً جمالية بديعة تزيّن به الأبنية أو قطع الاثاث. وقد ظهر هذا الفن لأول مرة خلال القرن الثامن الميلادي في البلاد التي خضعت لسيطرة الجيوش الاسلامية، خاصة مصر وبلاد الشام، ونُسب ابتكاره خطئاً الى العرب المسلمين حيث سُميَّ باسمه المعروف هذا "أرابسك"، ويُعتقد بعض الباحثين المختصين بفلسفة الفن، أن هذا الأسلوب يرجع الى خشية الفنان العربي القادم من البيئة البدوية الصحراوية من وجود فراغ داخل اللوحة الفنية يُمكن للشيطان أن يَمرق من خلاله حسب تفكيره واعتقاده وما يؤمن به.
2_ الفرّت... مادة خزفية هشّة ذات أصل معدني، تمتاز بمقاومة مغناطيسية ضعيفة، تتكوّن من تركيب أوكسيد الحديد "الهيماتايت" مع فلزات أخرى.
3_ الثيودلايت... أحد أدق الأجهزة المستعملة في قياس الزوايا، سواء الأفقية أو الرأسية، لذلك فهو يستعمل في كافة العمليات المساحية التي تحتاج الى دقة كبيرة خاصة في حقل البناء والإنشاءات، مثل تحديد مَناسيب التضاريس الأرضية، وتخطيط المباني وتثبيت مَحاور امتدادات الطرق والجسور وخطوط السكك الحديدية، وقد تم ابتكاره من قبل العالم الانكَليزي "رام سدن" خلال القرن السابع عشر.
4_ منطقة الخانوكَة... سهل فسيح مُنبسط صغير المساحة نسبياً يَمتد من الشرق الى الغرب بحدود ثلاثة كيلومترات ومن الشمال الى الجنوب قرابة كيلومترين، مَحصور بين جبل "مكحول" غرباً ونهر دجلة شرقاً ليبدو (مخنوقاً) بين الأثنين، لذلك سُميَّ بهذه التسمية منذ العصور القديمة، حيث وَرد في الكتابات الآشورية بصيغة "خنقو" أو "خنقي"، بذات المعنى والمدلول العربي أي "الأرض الضيّقة" أو "المنطقة الضيّقة"، كما أورد هذا السهل المؤرخ اليوناني "زينفون" 430_354ق.م صاحب حملة آلاف فارس باسم "أناكاس" في كتابه الشهير "أناباسيس"/"الصعود".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اجتهاد الألمان في العمل.. حقيقة أم صورة نمطية؟ | يوروماكس


.. كاميرا CNN داخل قاعات مخبّأة منذ فترة طويلة في -القصر الكبير




.. ما معنى الانتقال الطاقي العادل وكيف تختلف فرص الدول العربية


.. إسرائيل .. استمرار سياسة الاغتيالات في لبنان




.. تفاؤل أميركي بـ-زخم جديد- في مفاوضات غزة.. و-حماس- تدرس رد ت