الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيف تتعامل العلمانية مع المسألة الجنسية؟

رسلان جادالله عامر

2023 / 11 / 8
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


هذا السؤال له أهمية استثنائية، فالمسألة الجنسية هي مسألة عالية الحساسية في المجتمعات المحافظة كمجتمعاتنا العربية، وبما أن هذه المجتمعات عموما مأزومة، وإن اختلفت أشكال ودرجات أزماتها في الكثير، فالعلمانية تطرح كحل عصري لأزمة هذه المجتمعات، وهذا الطرح يتضارب بشكل رئيس مع المشروع الإسلامي أو الحل الإسلامي، الذي يرى فيه أصحابه الإسلاميون السياسيون أن الحل هو ليس في منهجية العصر، بل في الرجوع إلى نهج السلف الصالح، ولذا يشنون هجومهم على العلمانية على كافة الصعد، وهم ليسوا الوحيدين في ذلك، فهذا الهجوم كثيرا ما تتعرض له العلمانية أيضا من قبل المحافظين المتزمتين، حتى وإن لم يكونوا إسلاميين سياسيين، ويضاف إلى ذلك أيضا كم كبير من أنصار نظرية المؤامرة، الذين يرون العلمانية إحدى مكائد المؤامرة الماسونية، مثلها في ذلك بنظرهم مثل الديمقراطية والاشتراكية والليبرالية والمساواة وحقوق الإنسان وهلم جرى...
وبما أن المجتمعات العربية هي في أزمتها العامة مأزومة جنسيا، وبشكل مستفحل، فلا عجب عندها أن يغدو الجنس إحدى أكبر البوابات التي يشن منها الهجوم على العلمانية، بذريعة أنها تدمر الأخلاق وتقضي على الفضيلة وتنشر الفجور والرذيلة في المجتمعات، وحجة هؤلاء هي في الإباحية الجنسية المتفشية في الغرب العلماني حسب زعهم!
فما هو الرد العلماني على هذه التهمة؟
للرد على متهمي العلمانية بالفجور يجب أولا تحديد ما هي العلمانية بالضبط، وإلا سينطبق على الحديث المثل الشامي القائل "العرس بدوما والطبل بحرستا".
تعرّف العلمانية بأنها "فصل للدولة عن الدين"، وهذا ليس مجرد تعريف مختصر، بل هو تعريف مختزل، بل وحتى مبتذل، للعلمانية، ومنه لا يفهم قطعا سبب هذا الفصل، وهنا يمكن بكل ثقة وصف هذا الفصل بأنه شكل من أشكال "الإيمانية السياسية" لا أكثر، ولا فرق فيه بين العلماني الذي يؤمن بوجوب الفصل بين الدولة والدين وبين المتدين الذي يؤمن بوجوب الربط بين الدولة والدين، وكلاهما مؤمنان ينتميان إلى نفس الذهنية الإيمانية، ولكنها يختلفان فقط في شكل الإيمان، بنفس الطريقة التي يختلف فيها متدين ما عن متدين من دين آخر.
الفرق الجوهري بين العلمانية والدين، هو في أن كل دين يرى نفسه وبشكل إيماني محض حقا مطلقا، ويترك لغيره من الأديان والمعتقدات الباطل والضلال ليقتسموهما، أما العلمانية فهي لا ترى قطعا أن هناك دين أو معتقد أو فكر محدد تتجسد فيه الحقيقة المطلقة، وهي ترى أن كل الأديان والمعتقدات والأفكار هي بلا أي استثناء منتجات بشرية تاريخية، أي منتجات بشرية نتجت في الظروف الزمانية والمكانية والمعيشية والمعرفية المناسبة، وهي في ذلك تتفق تماما مع المنطق العلمي الذي يجمع بين المنطق والعلم، ولذا ترى العلمانية أن الدين، أي دين، لا يصلح لأن يكون أساسا لبناء وتنظيم والمجتمع لأنه منتج قديم تاريخيا وحضاريا، وغير عقلاني بل إيماني، ويدعي أنه الحقيقة المطلقة، ولذلك تزيحه العلمانية عن مركز البناء والتنظيم والإدارة في المجتمع، وتستبدله بالعقل، وبدقة أكثر بالعقل العقلاني كأساس وناظم وقائد لعملية بناء وتطوير الدولة والمجتمع، وبذلك يمكن القول أن العلمانية هي منهجية تأسيس وتنظيم المجتمع والدولة على أساس العقلانية، والعلمنة هي عملية إعادة بناء المجتمع والدولة على نفس هذا الأساس، وإعادة البناء هذه هي عملية شاملة، وفي عدادها تدخل الأخلاق والعلاقة الجنسية.
وهكذا تستبدل العلمانية الأخلاق والتقاليد الجنسية القديمة المقترنة بالدين غالبا، بأخلاقية ومعايير حديثة قائمة على العقل الحديث، وهنا سيعاد تأسيس مفهوم شرعية وأخلاقية العلاقة الجنسية.
فكيف سيحدد العقل العقلاني الحديث شرعية هذه العلاقة؟
هذا العقل، سيرى أنه ليس من العقلانية في أي ميدان من ميادين الحياة وضع "نسقية نهائية" تدعى "العقلانية"، وإنشاء ما يشبه "نظام داخلي" أو "كتاب مقدس" للعقلانية، فهي بذلك ستتحول إلى عقيدة شمولية استبدادية، وسيرى هذا العقل العقلاني أن العقلانية لا يمكنها إلا أن تعطي الحرية التامة للعقل وتعترف باختلاف العقول وتكاملها، وتقر بأن العقول تخطئ وتصيب، وفي اختلافها وتكاملها يتم تصحيح أخطائها وتعزيز وتطوير صواباتها، وهكذا سيقر العقل العقلاني بمبادئ الحرية والتنوع وقبول الاختلاف، في إطار إنساني يلزم كل ما تقدم بألا ينشأ عنه أي ضرر إنساني أيا كان ولأي إنسان كان، وهذه القاعدة ستطبق في الجنس وفي أي ميدان آخر من ميادين الحياة، وهكذا سينشأ في ميدان الجنس وغيره من الميادين مذاهب متنوعة مختلفة ومتخالفة، وكل منها يقوم على خيار يقوم به أصحابه بمحض إرادتهم، ووفقا لما يرون أنه صحيح من وجهة نظرهم، وهكذا سيختار البعض، في الجنس، الزواج التقليدي، ويختار سواهم الزواج الحديث، فيما يختار آخرون العلاقة بدون زواج، وقد يختار غيرهم الرهبنة، وهكذا دوليك، وهذا كله سيقبله العقل العقلاني، وسيجرد له قاعدة عامة مفادها هو أن "كل علاقة جنسية تقوم على الإرادة الحرة للشريكين الجنسيين فيها بقيامها، ولا ينجم عنها أي ضرر إنساني، ولا تتناقض مع القيم الإنسانية، هي حكما علاقة شرعية"، وهذا هو مبدأ العلمانية في التعامل مع الجنس.
وكما نرى فالعلمانية تعترف بحرية الاختيار والتعددية في الجنس، كما في كل ميادين الحياة الأخرى بشرط عدم التناقض مع الخير الإنساني والقيم الإنسانية، وفي موقفها هذا لن تفرض العلمانية على أي شخص أي خيار لا يريده لا في الجنس ولا في سواه، إلا إذا كان خياره الخاص يتناقض مع المصلحة والقيم الإنسانية.
وخلاصة الكلام هي أن العلمانية لن ترغم قطعا أي شخص محافظ أو متدين على سلوك جنسي يتناقض مع تقاليده أو معتقداته، وكل ما تريده منه هو أن يعترف ويلتزم بهذا الحق نفسه لسواه، فلا يرغم غيره على خيارات لا يريدونها أو يمنعهم من خيارات يريدونا.
هذه هي منهجية العلمانية في الجنس، ورغم أن الغرب المعاصر مايزال بعيدا عن المستوى الذي يصبح فيه قدوة ومثلا أعلى في تطبيق العلمانية، إلا أن هذه القاعدة مطبقة فيه بشكل فعلي، وإن كان مايزال ذا نقص وعيب كبيرين، وهذه حقيقة لا يمكن لأي عربي عاش أو يعيش في الغرب أن ينكرها، ولا أحد يستطيع أن يدعي عكسها إلا إذا كان مفتريا أو جاهلا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بابا الفاتيكان فرانسيس يصل لمدينة البندقية على متن قارب


.. بناه النبي محمد عليه الصلاة والسلام بيديه الشريفتين




.. متظاهر بريطاني: شباب اليهود يدركون أن ما تفعله إسرائيل عمل إ


.. كنيسة السيدة الا?فريقية بالجزاي?ر تحتضن فعاليات اليوم المسيح




.. كيف تفاعل -الداخل الإسرائيلي- في أولى لحظات تنفيذ المقاومة ا