الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إصلاح التعليم بالمغرب: التايلورية الجديدة

إدريس الخلوفي
أستاذ باحث

(Lakhloufi Driss)

2023 / 11 / 13
التربية والتعليم والبحث العلمي


تعرف الساحة التعليمية بالمغرب غليانا وموجة من الاحتجاجات والإضرابات، بعد إصدار وزارة التربية والتعليم للنظام الأساسي المنظم لمهنة التعليم، هذا النظام الأساسي الذي قام على مقاربة اقتصادية صرفة، اعتبرت فيه المدرسة مقاولة، والمدرس اجيرا، والتلميذ بضاعة... إنها مقاربة يمكن القول عنها أنها تايلورية جديدة، ترى أن التحكم في الأستاذ، ومحاصرته بالقوانين، وتجويعه من خلال تهديده بالعقوبات التي تمس راتبه الهزيل، هي أدوات كفيلة بجعله يشتغل بكفاءة عالية، وهذا التصور في الأصل قائم على حكم مسبق مبني على سوء النية، مفاده أن الأستاذ غشاش وكسول، ومتخاذل لهذا ينبغي ضبطه ومحاصرته بترسانة من القوانين والتشريعات الزجرية.
لكن ما لم تنتبه له الوزارة، هو أن المقاربة الضبطية وحدها لا يمكن أن تؤدي إلى النتائج المرجوة بالمنظومة التعليمية، لأن مجال التعليم هو مجال العلاقات الإنسانية بامتياز، فكيف حاولت الوزارة ( تيلرة نسبة إلى التايلورية) قطاع التربية والتعليم؟ وما معنى التايلورية؟ وهل أدت إلى نتائج إيجابية في الاقتصاد؟ ولماذا تم تجاوزها؟
في مطلع القرن العشرين، ظهرت التايلورية بالولايات المتحدة الأمريكية (نسبة إلى المهندس تايلور)، إنها أحد أبرز التيارات الفكرية المنجزة في بداية القرن العشرين، والتي في بحثها عن تأمين فعالية التنظيمات، اهتمت بوضع مبادئ عامة لكل تنظيم عقلاني. في هذا السياق يأتي اهتمام تايلور* بتنظيم العمل على مستوى ورشات الإنتاج. إن الفكرة الأساسية التي انطلق منها تايلور هي اعتبار أن تنظيم العمل يمكن أن يكون موضوع علم، فعبر الرجوع إلى الإمكانات اللامتناهية للعلم، يمكن تنظيم الإدارة عقلانيا بالشكل الذي يسمح ببلوغ أفضل النتائج بعد أخذ الإكراهات التقنية والاقتصادية بعين الاعتبار .
لكن ما المقصود بالعقلانية؟ باعتبارها المطمح الذي سعت إليه التايلورية.
"يسمى الفعل عقلانيا في تراث العلم الاقتصادي، على الأقل كما عبر عنه باريتو في (بحث علم الاجتماع العام) عندما يكون موضوعيا، متكيفا بشكل جيد مع الأهداف التي يسعى إليها الشخص. فالعقلانية تعني في هذه الحالة تكيف الوسائل مع الغايات. أما الاقتصادي الحديث فيعرف من جهته السلوك العقلاني بصفته اختيار الفرد للفعل الذي يفضله من بين كل الأفعال التي تتوفر له إمكانية إنجازها، وباختصار بصفته خيارا متوافقا مع أفضليات معينة" .
لقد لاحظ تايلور أن تطور تقسيم العمل، لا يكفي لتأمين الإنتاجية القصوى، وإن كان هذا الضعف يتمظهر من خلال صعوبة حصول الرؤساء على تعاون تابعيهم، وعجزهم عن مراقبة إنتاجيتهم الفعلية، فإن السبب الحقيقي لهذا الوضع يعود إلى ضعف معرفة الرؤساء بالعمل، واحتكار العمال لهذه المعرفة عبر التعلم في عين المكان. تقتضي مراقبة العمل إذن المعرفة الدقيقة بالعمل، وهذا الأمر لا يتأتى إلا من خلال العناصر التالية:
- تولي الإدارة لعملية تجميع كل عناصر المعرفة التقليدية التي يحوزها العمال، ثم العمل على ترتيب هذه المعلومات، ومحاولة التركيب فيما بينها بشكل يسمح باستخلاص قواعد ومعادلات.
- كل عمل ذهني يجب أن يسحب من الورشة، ليتم تركيزه في مكاتب التخطيط والتنظيم.
- تحدد وبدقة مهمة كل عامل من طرف الإدارة، وذلك قبل موعد التنفيذ بيوم واحد على الأقل، ويتلقى كل عامل توجيهات وتعليمات مكتوبة، تحدد وبدقة المهمة التي عليه إنجازها، كما نبين له الوسائل التي ينبغي استعمالها ومدة التنفيذ.
بهذا يحل الخبير في التنظيم التايلوري في محل الرئيس، فهو وحده من يستطيع وضع وتحديد طرق عمل أكثر عقلانية وفعالية. ومن ناحية أخرى يتم حصر نشاط العامل في التنفيذ، إنه الفصل الصارم بين العمل اليدوي، والعمل الذهني. لهذا ركز تايلور في دراسته لسيرورة الإنتاج على الزمن، والطرق والحركات، إذ من خلالها يمكن تجزيئ العمل إلى مهام بسيطة ومتشابهة، الأمر الذي يوفر ضوابط موضوعية في الإنجاز والمراقبة، كما يمكن من إقصاء الحركات الزائدة والمكلفة، وهو اقتصاد في الزمن، يمكن أن يوفر أرباحا تسمح للمشغل بدفع أجور مرتفعة كافية لتحفيز العامل، وإفراغ التهاون، أو الغش من كل جدوى.
لقد كان هدف تايلور هو استعمال الجسم البشري بأفضل طريقة ممكنة، وأمام روتينية المهام التي عالجها، فقد بدا له الشغل كنشاط تابع للآلة، الشيء الذي أصبح معه السلوك البشري لا يطرح أية مشكلة، فالتصرفات السلبية لا تعود للاعقلانية الأفراد في العمل، بل إلى عدم جودة وملاءمة البنيات التي ينجز فيها العمل .
إن كل فرد يفترض فيه أنه عقلاني، يبحث دائما عن الحد الأقصى لأرباحه المادية، فهم العامل هو الحصول على أجر مرتفع، بينما يبحث المشغل جاهدا عن تقليص كلفة اليد العاملة، لتحقيق هذا يجب البحث عن الإنتاج الأقصى، وهو ما يعني بالنسبة لتايلور أن مصالح المشغل والعمال متقاربة ، فدوام نجاح أحدهما، لا يتأتى إن لم يصاحبه نجاح الآخر، لهذا يؤكد تايلور على ضرورة التنظيم العلمي للعمل في بلوغ الفعالية القصوى، وتجاوز طرق العمل الإمبريقية ليخلص إلى وضع ثلاثة مبادئ أساسية:
- استعمال دراسة الزمن والأساليب لاكتشاف الطريقة المثلى في إنجاز عمل معين، أي تلك التي تسمح بأفضل متوسط إنتاج يومي.
- تحفيز العمال لينجزوا العمل وفقا للطرق والمعايير المحددة من خلال وضع نظام للأجور والمكافآت.
- استعمال خبراء متخصصين لتقنين العمل .
يرجع الاعتقاد في إمكانية التنظيم العلمي للعمل لدى تايلور إلى قيام مقاربته على مسلمتين أساسيتين، تتعلق الأولى منهما بمسلمة "الحل الأمثل الوحيد" "One Best Way"، وهي تعني أنه يوجد بالنسبة لكل نشاط طريقة أمثل في الإنجاز، من هذا المنظور يتم اعتبار التنظيم ترابطا ميكانيكيا لمجموعة من المناصب يضم كل منها مهاما محددة يمكن دراستها علميا وضبطها، وبفضل المناهج العلمية يمكن لمهندسي التنظيم، بعد أخذ الإكراهات التقنية والاقتصادية بعين الاعتبار، تحديد أفضل طريقة ممكنة في تنظيم الإدارة بشكل يسمح ببلوغ أهدافها.
أما المسلمة الثانية فهي مكملة للأولى، إنها مسلمة "الإنسان الاقتصادي"، أي الإنسان المحرك بالاعتبارات الاقتصادية حصرا، حافزه الوحيد هو الحصول على أفضل الأرباح وهذا ما يجعل منه عنصرا سلبيا يمكن توقع سلوكه بشكل دقيق، والتعامل معه كأداة قابلة للتعويض في أي وقت .
يؤكد التصور التايلوري إذن على تركيز القرار في المكاتب، فهو يرى أن تنظيم العمل بشكل علمي، يجب أن يكون هاجس المسؤول عن التسيير والإدارة، فكان بذلك أحد أبرز المهندسين الذين ساروا بسرعة في عملهم، حتى أصبح ضمن مصاف المنظرين، وانطلق من فكرة أساسية ترتكز على تأسيس علاقة بين الإنتاجية ورخاء التنظيم وازدهاره، لأن نجاح التنظيم يمر بشكل ضروري عبر التسيير الجيد، كما أن رخاء العمال وأرباب العمل يأتي متلازما مع بعضه، عبر الرفع من الإنتاجية، وذلك انطلاقا من أربعة مبادئ أساسية للعمل هي:
أولا : كل مهمة يجب أن تحلل وتفكك حتى تكون مضبوطة، ويتم تعديلها أو إلغاؤها إذا ثبت عدم ملاءمتها، وذلك حتى ينجز العامل عمله في أقل وقت، وهذا هو ما تعنيه كلمة التنظيم العلمي للعمل.
ثانيا: يتم انتقاء العمال، وبعد ذلك تدريبهم بالطريقة التي تجعلهم قادرين على الإنتاج بأعلى إيقاع ممكن.
ثالثا: المؤطر (المدير) والعامل يجب أن يتصرفا بأكبر قدر من التعاون والتضامن من أجل الخير للجميع.
رابعا : الفعالية تمر عبر التخصص، حيث يتوجب على كل واحد أن يستقر بالمهمة التي يعطي فيها أفضل النتائج، سواء كان عاملا أو إطارا، فالنتيجة هي الأهم، والمرؤوس تابع للعديد من الرؤساء. فليست هناك وحدة على صعيد القيادة، بل على العكس هناك استقلالية في التخصصات.
يبدو إذن أن القرار من منظور التايلورية، هو مسألة تنفرد بها الإدارة، حيث نلاحظ غياب أي أثر لمسألة المشاركة في القرار، ولعل هذا الأمر، بالإضافة إلى التركيز على المردودية فقط، وتغييب الأبعاد الإنسانية والعاطفية، واعتبار الإنسان (العامل / المستخدم) مجرد امتداد للآلة، هو ما جعل المدرسة التايلورية تواجه مصاعب أكبر من مسألة حدود الحاجة إلى معدات أو آليات عالية الكلفة، فهذه المدرسة كما يرى بعض الخبراء في علم الاجتماع الصناعي، تقوم على "الثقة الضئيلة"، - حسب تعبير انطوني غيدنز- فالإدارة هي التي تصمم الوظائف، وتضع الأهداف، وتتولى الإشراف الحثيث على العاملين الذين لا يتمتعون في هذه الحالة إلا بقدر قليل من الاستقلال، وحرية الحركة. ويجري رصد المستخدمين ومتابعتهم بمختلف أشكال الرقابة؛ لضمان انضباط العمل، ومستويات الجودة في الإنتاج. وقد تؤدي المغالاة في الإشراف المستمر إلى نتائج عكسية، لم تكن في حساب الخطط والمخططين: أي إلى تآكل روح الالتزام والروح المعنوية لدى العاملين، لأنهم لا يستطيعون إبداء رأيهم في أعمالهم أو في أساليب تنفيذها. وتشير دراسات عديدة إلى تزايد نسبة التدمر والتغيب والنزاع الصناعي في مواقع العمل؛ التي يسودها نسق الثقة المتدنية بين الإدارة والعاملين .
يمكن اعتبار المدرسة الكلاسيكية تنفرد بالفكرة الميكانيكية للإنسان في العمل، حيث نجد سياسة "العصى والجزرة" حاضرة بقوة لديها، أي الثواب والعقاب، وعلى العامل أو الموظف في التنظيم أن يعمل ولا يفكر، أي أن ينجز المهمة المنوطة به بأكبر دقة وفي أسرع وقت، وفي هذا الإطار كان تايلور يقول للعمال: "عليكم أنتم أن تعملوا فقط، فمن يفكر موجود خلف المكاتب".
إن العقلانية الكلاسيكية (النظرية الكلاسيكية) ركزت كل مجهوداتها على اكتشاف الطريقة المثلى التي يمكن من خلالها تنظيم العمل بشكل علمي، لكن أهملت تفاصيل تطبيقها. فقد كانت هذه النظرية ترى أن مشاكل التنظيم كلها يمكن أن تحل إذا ما استطعنا البحث عن طريقة فعالة، لكن أهملت بذلك أن التنظيم هو جملة من الفاعلين الذين لهم عواطف ومشاعر وثقافات مختلفة، كما أن لكل منهم استراتيجيته الخاصة وأهدافه الخاصة التي غالبا ما تكون مضمرة ويعمل على تحقيقها على هامش أهداف التنظيم.
كما أن النظرية الكلاسيكية اختزلت الإنسان في آلة بسيطة هي مجرد امتداد للآلات الميكانيكية، حيث الزعامة محدودة جدا .
كل هذه العوامل جعلت النظرية الكلاسيكية التي قامت على أساس العقلانية المطلقة، تتعرض لانتقادات شديدة، خصوصا من طرف المذاهب اللاحقة التي ترى أن أصحاب هذه المدرسة كانوا مرتبطين ومنسجمين مع ظرفيتهم في بداية القرن العشرين، وبالشروط الاقتصادية والاجتماعية التي كانت شروط خاصة، ومختلفة عما هو الأمر عليه اليوم، كما أن التايلورية حسب هذه الانتقادات كانت سلبية أكثر مما هي إيجابية. صحيح أن التايلورية حققت نموا اقتصاديا باهرا، لكن خلقت تدمرا كبيرا في الجانب الإنساني، فقد كان الإنسان مجرد امتداد للآلة وتم اختزاله في عضلاته.
فعلى الرغم من المجهودات المبذولة منذ ماكس فيبر في محاولة "برقرطة" العمل التنظيمي، إذ اعتبر البيروقراطية ما هي إلا حالة خاصة من عملية "العقلنة" التي اكتسحت نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فقد اعتبر فيبر أن عقلنة البيئة الطبيعية، والبيئة الاجتماعية، أمر ضروري لتمكين الإنسان من السيطرة الفعلية على الطبيعة والمجتمع، فالبيروقراطية استبدلت أنواع التنظيم القديم، وأصبحت أعلى شكل تنظيمي يسير حياة الناس. وعلى الرغم من محاولة تايلور التحكم في عمل العمال وحركاتهم وسكناتهم داخل المعامل، أو محاولة هنري فايول تنظيم وضبط عمل الإدارة، على الرغم من كل هذا، فإن اهتمام العقلانية الكلاسيكية بقي منصبا فقط على محاولة التحكم في السلوك الإنساني وتوجيهه، مهملة بذلك الاستراتيجيات الخاصة بالأفراد، وهوامش حريتهم إلا أن نقدنا هذا لا يعني سلب هذه المدرسة الرائدة شرف مساهمتها الفعالة، أولا في وضع اللبنات الأولى لعلم الإدارة وتسيير التنظيمات، وثانيا، فتح المجال أمام النظريات التي أعقبتها، من أجل فهمها أولا ومحاولة تجاوزها بعد ذلك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تركيا تعلق كل المبادلات التجارية مع إسرائيل وتل أبيب تتهم أر


.. ماكرون يجدد استعداد فرنسا لإرسال قوات برية إلى أوكرانيا




.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين: جامعة -سيانس بو- تغلق ليوم الجمعة


.. وول ستريت جورنال: مصير محادثات وقف الحرب في غزة بيدي السنوار




.. ما فرص التطبيع الإسرائيلي السعودي في ظل الحرب الدائرة في غزة