الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جدليات ابن خلدون

مهدي النجار

2006 / 11 / 18
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


جدليات أبن خلدون:الدولة/العمل/التجارة

افترق ابن خلدون بفارق نوعي في انتهاج درس التاريخ عن أسلافه ومعاصريه وقبض على مفتاح فهم التاريخ قبضاً معرفياً،وذلك بكشفه عن المجال العمراني الذي انتظم حوله الفكر الخلدوني،وقد لاحظنا أن هذا المجال يتأسس في بنيتين،هما البدوية والحضرية، وان المحور الرئيس الذي ُيحرك هاتين البنيتين سواء في تكونهما أو صيرورتهما الانتقالية،هو محور "العصبية" وعند تحديد هذا المحور الاجتماعي الهام ينبغي تثبيت حقيقتين اشتغل وفقهما التنظير الخلدوني:أولاً،عدم إهمال الفضاء الجغرافي الذي نظر له.وثانياً،عدم إهمال الزمن الذي نظر فيه. فمن حيث الفضاء الجغرافي فهو بالضبط فضاء أفريقيا الشمالية،خاصة مناطق المغرب،إما زمن تاريخه فيرجع إلى فترة القرون الوسطى وبالتحديد القرن الرابع عشر الميلادي.
حددت الخلدونية مفهوم العصبية باعتباره واقعاً اجتماعياً وسياسياً معقداً جداً ، يبرز بشكل واضح أثناء الانتقال من البنية البدوية إلى البنية الحضرية،ولا ينتفي بعد ذلك بصورة نهائية إنما يبدا بالتخفي أو يأخذ أشكالاً تتناسب مع الوضع الحضري.ولا تعتمد العصبية صلة الرحم فقط، بل كذلك الولاء والحلف ،وهي تأخذ شكلين أحدهما ينتقل إلى الآخر كلما اقتضت الحاجات وضرورات التعايش ،الشكل الأول،عصابة واحدة تعتمد النسب العام،أما الشكل الثاني ،عصابة واحدة تضم عصبيات متعددة لانساب خاصة هي اشد التحاماً من النسب العام للعصابة الكبرى.
يعتمد التكون البدوي كما هو معروف على قاعدة التنظيم القبلي فان شكله لابد أن يكون هرمياً سواء داخل العصبة الواحدة أم داخل مجموع العصائب الملتحمة.إن قمة هذا التشكيل الهرمي هي "الرئاسة" ولا يتم هذا التشكيل وقمته "الرئاسة" إلا بالية الغلب،إذن "الغلب" هو الشرط الأساس للتكون العصائبي،ولكن لماذا هذا الشرط؟ يجيب ابن خلدون: "لان الاجتماع والعصبية بمثابة المزاج للمتكون والمزاج في المتكون لا يصلح إذا تكافات العناصر فلابد من غلب أحدها و إلا لم يتم التكون" (المقدمة) إن تصدع هذا العامل الداخلي يعيق "القبيل" من نموها واكمال سلطتها القبلية وبالتالي لا تستطيع حيازتها الملك،واهم العوامل المصدعة لهذا العامل الداخلي (الغلب)هي:حصول الترف وانغماس القبيل في النعيم، المُذلة للقبيل والانقياد إلى سواهم. هنا تصاغ افضل جدليات الماضي كالآتي:
أولاً:لا يكف العامل الداخلي(أي المحور العصباني) عن كونه العامل الأساس في تكون البنية البدوية ويسعى كذلك ليكون عاملاً إنمائياً وتطورياً.
ثانياً: يظل هذا العامل الداخلي (المحور العصباني)لعلى أهمية كبيرة في تحريك البنية البدوية ونقلها إلى البنية الحضرية وتنظيماتها السياسية.وبقدر ما يكون عاملاً إنمائياً وتطورياً،إلا انه يتحول إلى عامل هدم،يُدمر البنية التي أسسها هو نفسه،أي يهدم البنية البدوية ليؤسس البنية الحضرية ومؤسستها التنظيمية "الدولة".
ثالثاً:تتصاعد جدلية العامل الداخلي(المحور العصباني) عندما يتصدع هو نفسه وينهار،حين تبدا "العصبية" بالانحطاط والتفتت ،تبدا معها انهيارات البنية الحضرية، وهنا يظهر فساد مؤسساتها وتفكك دولتها.
اكثر ما يدهشنا في تفسيرات ابن خلدون هو هذا التفسير العقلاني لظاهرة الاجتماع الإنساني،فيضع "تحصيل الحاجة" كلبنة أساسية في تركيب الاجتماع الإنساني وتطوره، وهل يعني "تحصيل الحاجة" أي شيء دون مدلولها الأساس وهو العمل (بحسب مفاهيمنا المعاصرة)؟ أبداً لا. وماذا يعني العمل دون العمران(أي الاجتماع)؟ إنها مفاهيم فائقة التجريد، رفضت الخلدونية العمل بها مجردة،فعملت على صياغتها في علاقات شديدة التماسك،فالعمل لا يتم إلا داخل الاجتماع ولاجله :"لان البشر الواحد غير مستقل بتحصيل حاجاته في معاشه وانهم متعاونون جميعاً في عمرانهم" (المقدمة/ص360 ) وتقسم الأعمال بعد ذلك إلى أصلية تختص بالمعاش وترتبط بصورة أساسية بحاجات الناس الضرورية(وهي الأقوات من الحنطة وما في معناها)، وزائدة (أي الحاجي والكمالي) تختص بالترف والغنى (مثل الادم والفواكه) ،والعمل بحسب رأي ابن خلدون ،ليس هو الذي يعني شيئاً وانما قيمته.
إن "التجارة" هي عامل أساس في اقتصاديات البنية البدوية خاصة في طورها النهائي،أي طور تحولها إلى بنية حضرية وهي عصب ودينامية تلك المجتمعات،والتحليل الخلدوني يتعارض(أو يتقاطع) مع عدة اعتبارات تتعلق بأخلاقية وتشريعات ذلك العصر، فهي أي التجارة كما يرى ابن خلدون:
ـ "وان كانت طبيعية في الكسب فالأكثر من طرقها ومذاهبها إنما هي تحايل في الحصول على ما بين القيمتين في الشراء والبيع لتحصل فائدة الكسب من تلك الفضلة" .(المقدمة/ص383 ).
ـ عند العمل بها" لابد من الغش والتطفيف المجحف بالبضائع ومن المطل في الأثمان المجحف بالربح" ( المقدمة/ص395 ).
ليس من حقنا أن نُصدر أحكاماً بحسب مفاهيمنا المعاصرة على "المقدمة"التي أنتجها ذاك المفكر المبدع ابن خلدون وسط وعورة القرون الوسطى القاسية وليس من حقنا التعامل معها وفق أنماط مفاهيمنا الحديثة أو إسقاط تلك المفاهيم عليها،لان ذلك يلغي المشروطية التاريخية والظروف الاجتماعية للأعمال التراثية الجبارة التي أنتجها الأسلاف.
ــــــــــــــــــــ
*








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ناشطون في كورك الأيرلندية ينظمون فعاليات دعما لفلسطين


.. كاميرا الجزيرة توثق استهداف الاحتلال سيارات الإسعاف في حي تل




.. الجيش الإسرائيلي يدمر منزلاً على ساكنيه في مخيم البريج


.. اليمين المتشدد في صعود لافت في بريطانيا قبل انتخابات يوليو ا




.. مرشح الإصلاحيين في إيران يتعهد بحذر بوقف دوريات الأخلاق