الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تاريخ البشرية القديم

مالك ابوعليا
(Malik Abu Alia)

2023 / 11 / 14
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


مؤلف المقالة: فلاديمير سيرجيفيتش سيمينوف*

ترجمة مالك أبوعليا

الملاحظات والتفسير بعد الحروف الأبجدية بين قوسين (أ)، (ب)... هي من عمل المُترجم

يُشير انجلز في كتاب (أصل العائلة والمُلكية الخاصة والدولة-1884)، والذي، كما أشارَ لينين، أنه يحوز على أهمية كبيرة بالنسبة الى النظرة الماركسية الى العالم، أنه كَتَب هذا العَمَل الى حدٍّ ما باعتباره استكمالاً لرسالة ماركس. كان الأساس العلمي للكتاب هو عَمَل عالِم الانثروبولوجيا والأركيولوجي الأمريكي لويس مورغان، الذي درس العلاقات القرابية بين هنود أمريكا الشمالية وبعض جوانب التاريخ اليوناني والروماني والجرماني القديم. أضافَ انجلز العديد من دراساته الخاصة عن الجرمان والكلتيين القُدامى الى مادة مورغان، بعد أن أعاد النظر في حُجج مورغان الاقتصادية.
في مُقدمة الطبعة الرابعة من هذا الكتاب (1891)، لَفَت انجلز الانتباه الى المُنجزات الكبيرة التي تحققت في السنوات السبع السابقة في دراسة الأشكال الأولية للعائلة. كَتَبَ انجلز: "لن يكون للأمر كُلّه معنى على الاطلاق اذا أردت أن أُقدّم تقريراً (موضوعياً) عن مورغان دون مُعالجته نقدياً، ودون استخدام النتائج الحاصة مُؤخراً، ودون عرضها في ارتباطها بآرائنا وبالنتائج الحاصلة مُسبقاً"(1). وفي نفس الوقت يُصرّح بأنه يجب اجراء تعديل في تصور مورغان العام مع تراكم المواد العلمية.
لقد مضَت أكثر من 100 عام منذ ذلك الوقت. لقد توصّلَت الأركيولوجيا الحديثة والأنثروبولوجيا والجيولوجيا وعلم جُغرافيا العصر الحجري، وأركيولوجيا النباتات القديمة والأركيولوجيا الحيوانية وغيرها، الى نتائج كثيرةٍ وجديدةٍ مُقارنةً بما كان مُتاحاً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. على الرغم من أن النقاش لا يزال حاداً وجارياً بين العلماء حول بعض تفاصيل المُكتشفات الأخيرة، الا أن هذه المُكتشفات تؤكد بشكلٍ عام وتُعمّق الاطروحات الماركسية حول الدور الحاسم للعمل في ظهور البشرية وتطورها. يُمكن أن يُقال نفس الشيء عن التاريخ بأكمله.
في أيام مورغان، لم يكن العلم يملك أدلّةً كافيةً مُباشرة حول "طفولة الجنس البشري"، أي تاريخ البشر القديم. توقّع انجلز، في مقالته (دور العمل في تحول القرد الى انسان-1876) السمات والمراحل الأساسية لعصور ما قبل التاريخ وتاريخ البشرية القديم. ان التعديلات اللاحقة التي أجراها العلم على تصوّره تعود الى تفاصيل ما كَتَبه، وليس في الفهم العام المادي للتاريخ.
أشارَ لينين بصرامة الى أن التغيرات التي حَصَلَت في العلوم الاجتماعية، كما حَصَلَت في العلوم الطبيعية قبلها، قد تكَثّفَت خلال القرن العشرين(2). لا يستطيع الماركسيون، وحتى وهم يسيرون على خُطى انجلز، أن يُهملوا مُكتشفات العلوم الطبيعية في هذا المجال. لا يُمكن استيعاب المواد الهائلة الجديدة في العلوم الطبيعية بشكلٍ صحيح دون أن يتملّكوا سياقاً نظرياً مُناسباً. لكن "نتائج العلم الحديث تفرض نفسها بقوة على كل مُهتم بالمسائل النظرية، كما أن علوم البحث الحديثة تضطر الى التوصل الى استنتاجاتٍ نظريةٍ عامة شاءت أم أبت"(3). لقد راكَمَ علم القرن العشرين كميةً هائلةً من المواد التجريبية التي لا يُمكن تجاهل الحاجة الى تنظيمها في كُلٍّ مُتماسك. في الواقع، يجد الكثير من العلماء الباحثين انفسهم مدفوعين الى مواقع المادية التاريخية بمنطق مبحثهم ذاته.
أصبَحَ العلم الآن قادراً على تقدير عُمر اللُقى الأثرية بدقة وتقييم الخصائص الجغرافية القديمة وتأطير ظروفها كما كانت قبل ملايين السنين عن طريق وسائل البوتاسيوم-آرغون والكربون المُشع والفلورين والطُرُق البيوكيميائية والكيميائية، وبطرائق المُقارنة التاريخية وغيرها. يُقدّم علماء التشريح وعلماء الفسيولوجيا العصبية والوراثة واللغويين والجيولوجيين وعلماء العصور الحجرية ومختصين آخرين، الكثير من المُساعدة لعلماء الانثروبولوجيا والأركيولوجيين. هناك بالفعل الكثير من النشاط الذي يحدث في المناطق الواقعة على الحدود بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية الفردية والفلسفة.
يجب علينا أيضاً، أن نضعَ في اعتبارنا التعديلات الجوهرية التي طرأت على الصورة العامة لتاريخ الأرض. لقد أكّدَ العلم الحديث فرضية العالم الروسي-السوفييتي فلاديمير ايفانوفيتش فيرنادسكي Vladimir Ivanovich Vernadsky القائلة بأن الحياة العضوية ظَهَرَت في وقتٍ مُبكرٍ جداً على الأرض، أي منذ حوالي 3.8 مليار سنة (وأن عُمر الأرض نفسها حوالي 4.6 مليار سنة). أجبَرَ هذا الاكتشاف العلماء على القاء نظرة جديدة على تطور الحياة على الأرض برمته على ضوء نظرية داروين في التطور والوراثة والعديد من المواد الأُخرى(4).
لكن حتى عصور ما قبل تاريخ النوع البشري، وكذلك تاريخه القديم، يبدوان مُختلفين في ضوء المواد التي يُتيحها العلم اليوم. لكن المعيار الرئيسي، أي "العمل"، وصناعة أدوات العمل، يظل ثابتاً لا يتزعزع بوصفه نقطة انطلاق في تاريخ البشرية. صارت هذه الفرضية الأساسية مُعترفاً بها عالمياً الآن بين الباحثين السوفييت والأجانب(5).
حذّرَ ماركس منذ 100 عام تقريباً: "يجب أن نكون أكثر حذراً عندما نقرأ تاريخ المُجتمعات القديمة الذي كَتَبهُ مؤلفون برجوازيون. انهم حتى ليسوا بعيدين عن التزييف"(6). في الواقع، بالرغم من مُعتقدات الغالبية العُظمى من عُلماء الطبيعة الذين يُناصرون عفوياً المُقدمات المادية في التاريخ الطبيعي، الا أن أساتذة اللاهوت والفلسفة البرجوازية وغيرهم معهم، يرتعدون من "ميتافيزيقيا" تجريبية العلوم الطبيعية ويقفون ضدها بقوة، ويُناضلون ضد "المُبالغة" في أهميتها وقيمتها. في هذه العملية، يتم تجاهل دور العمل وانتاج المواد في العصر الحجري أو يضعونه موضع شك. فَضَحَ لينين، في وقتٍ مُبكّرٍ من عام 1908 جوهر هذه المُناورات في أحد فصول كتابه الرائع (المادية ومذهب النقد التجريبي)(7). وكما أشارَ لينين عام 1922، فإن واجب الماركسيين كان ولا يزال هو الدفاع عن المادية والماركسية وتطويرها بالتحالف "مع مُمثلي العلم الطبيعي اولئك الذين يميلون نحو المادية ولا يخشون الدفاع عنها ونشرها..."(8).
مُتّبعين خُطى منهجية كلاسيكيات الماركسية، سنعتمد على مُقتطفات أو نعرِض مواقف من مجالات الانثروبولوجيا والأركيولوجيا والبيولوجيا وعلم العصر الحجري وعلم جيولوجيا العصر الحجري والاثنوغرافيا والعلوم الأُخرى الراسخة والموثوقة، لدُنّ عرضنا لمسائل التاريخ القديم. بالطبع لا تزال العديد من المسائل الملموسة موضع خلاف، وتتطلّب مزيداً من التفسير والبحث العلمي، في حين قد تكون الصورة الناشئة عن تلك العلوم مؤقتة تاريخياً(9). ولكن من الحقائق التي لا جِدال فيها أيضاً أن هذه الصورة في مُجملها، صحيحة موضوعياً، وتُصوّر عملياتٍ حدثت مُسبقاً. وهُنا نُغلق الباب نهائياً والى الأبد أمام مُختَلَف التصورات العنصرية والايمانية والسكولائية.
دعونا نقول، أننا ناقشنا المسائل التي سنطرحها تالياً عدّة مرات، اضافةً الى نقاشنا اياها مع العلماء السوفييت البارزين في مُختلف فروع المعرفة. بالطبع نحن نأمل بعضاً من تسامح المُتخصصين تجاه شكل تعبيرنا وعدم دقته في بعض الأحيان، عندما نُراجعُ مادةً من العلوم الطبيعية. بعض أفكار عُلماءنا التي سنعرضها أدناه هي الى حدٍّ ما مُقدمات، وتتطلب مزيداً من الجهود البحثية. لكن كاتب هذه المقالة، يتحمّل المسؤولية الأساسية عن جميع الاستنتاجات ذات الطبيعة العامة المُستَخلَصة هُنا.
تتمتع شُعوب الأرض بتاريخٍ غنيٍّ وطويل. قال لينين أن "الأُمم المُختلفة سارت على نفس الطريق التاريخي، ولكن كانت طُرُقها المُتعرجة ونهاياتها، شديدة التنوّع"(10). وكما تُشكّل نوعية العالم وحدته، فإن العمل الاجتماعي وتطور الانتاج الاجتماعي يُشكّلان وحدة التاريخ العالمي. لقد خَلَقَ العمل الانسان وارتقى به الى وضعه الحالي. العمل هو أول شرط دائم لا غنى عنه لحياة المُجتمع.
ظَهَرَت مؤخراً العديد من الدراسات والكُتُب حول عصور البشرية القديمة. يتطلّع الانسان الى ماضيه بعنايةٍ أكبر حتى يُحصّل توجهاً أدق وأفضل في الحاضر والمُستقبل. ان سجل التاريخ القديم وعصور ما قبل تاريخ الانسان الذي اكتشفها العلم يُعزز النظرة الماركسية الى العالم.
كان تمايز البشر البدائيين وعالم الحيوانات نتاجاً لفترةٍ طويلةٍ نسبياً من التاريخ. من المُحتَمل أن البشر تفرّعوا من كائنات تكيّفت مع سطح الأرض، وهي رئيسيات انقَرَضَت في الفترة النيوجينية(أ) Neogenic period وليس من القرود المُتسلقة للأشجار. تم العثور على بقايا هذه الأخيرة في رواسب يعود تاريخها الى 30 أو 40 مليون عام. هذا الاستنتاج مقبول بشكلٍ عام في العلوم المادية المُعاصرة(12). اليوم، يعتَبِر العديد من الباحثين أن هذه الرئيسيات هي سَلَف مُشتَرَك وثيق الصلة نسبياً بالبشر البدائيين hominids، وذات صلة بالبقايا الاحفورية لقِرَدة الهيومانويد humanoid (الأنثروبويد anthropoids). كَتَبَ فريدريك انجلز أن اسلافنا البعيدين كانوا "كما سَبَق وأن قُلنا، كائنات (حيوانات) اجتماعية، ومن البديهي أنه يتعذر إرجاع أصل الانسان، وهو أكثر الحيوانات نزوعاً الى الحياة الاجتماعية، الى أسلافٍ قريبين (مُباشرين) غير اجتماعيين"(13). لقد ساهمت السنوات الطويلة من البحث الجيولوجي والأركيولوجي المُتعلق بالعصر الحجري في تحديد المراحل المُتعاقبة في تطور البُنية الجسدية لأسلافنا البعيدين، سواءً من الانثروبويد والهومينيد(14). لقد أكّدَ العلم الحديث أيضاً الافتراض التالي الذي طَرَحه انجلز: "وانه ليستحيل إعطاء تفسير للانتقال من هذه الظروف التي تعيش فيها حالياً القرود الشبيهة بالانسان الى الحالة البشرية. فإن هذه القرود تظهر بالأحرى بمظهر خطوط جانبية مُنحرفة، محكوم عليها بالاندثار تدريجياً وبسبيل الانحطاط والزوال على كل حال"(15).
في كتاب العالم الاثنوغرافي السوفييتي ليف ابراموفيتش فينبيرغ Lev Abramovich Fainberg المُعنون (جذور النشوء الاجتماعي-موسكو 1980) يستخدم المؤلف مُصطلح "ما قبل الهومينيد" prehominids فيما يتعلق بعصور ما قبل تاريخ الانسانية، ويعرض بياناتٍ واسعة ومُكثفة تُشير الى أن السمات الخاصة لأحفاد ما قبل الهومينيد كانت موجودةً لديهم (الغريزة الاجتماعية، استراتيجية الصيد باعتبارها الشكل الأول للتعاون، وما الى ذلك). اقتَرَحَ عدد من العُلماء الأمريكيين أن الهومينيد انفصلوا عن الرئيسيات الهومينيدية منذ ما يَقرُب من 15 مليون سنة. تطوّرَ الهومينيد منذ ما يَقرُب من 5 ملايين سنة الى نوعين مُختلفين. أحد هذين النوعين كان هومو هابيليس والذي استمر في التطور على طول المسار الهومينيدي، واكتسَبَ دماغاً أكثر قوة، وعاداتٍ جديدة، وتنظيماً فسيولوجياً أكثر اكتمالاً. وقد مكّنَ هذا الهابيليس لأن يُنشئوا أول ثقافة (ثقافة أركيولوجية) بدائية من أدوات العمل، والتي مكّنَتهم من تجاوزِ أقرب أقربائهم على طول المسار التطوري وينتقلوا الى مرحلةٍ نوعيةٍ جديدة(16). وهكذا، فإن المشي المُنتصب "الخطوة الحاسمة" في الانتقال من عالم الحيوان الى الانسان (فريدريك انجلز)، بالاضافة الى بعض السمات البيولوجية الأُخرى التي مهّدَت الطريق لتمايز الشعوب البدائية، تطورت قبل وقتٍ طويلٍ من ظهور الانسان الذي صَنَعَ واستخدَمَ أدوات العمل.
ان مُكتشفات السبعينيات في شرق افريقيا، أي موقع اولدواي Olduvai Gorge في تنزانيا، وموقع وادي نهر اومو the Valley of the Omo River في اثيوبيا وموقع كوبي فورا Koobi Fora في كينيا، قد جَذَبَت اهتماماً عالمياً. تم العثور على بقايا كائنات من عائلة من الهومينيد مع أدواتٍ حجرية بدائية (أدوات اولدواي Olduvai tools) لأول مرة في رواسب مواقع يعود تاريخها الى مليوني سنة. وشَمِلَت أدوات قَطِع بدائية وسواطير choppers ونماذج قطع يدوية وأدوات كشط ومثاقب وسكاكين ورقائق رفيعة، ومواد صًنِعَت منها الأدوات فيما بعد. ومن المُحتَمل أيضاً أنه تم بناء ملاجئ تحمي من الرياح في هذه الفترة. أطلَقَ العُلماء ليكي وتوبياس ونيبر اسم هومو هابيليس على خالقي ثقافة اولدواي، مُعتبرين اياهم المرحلة الأولى في تطور الانسان(17). وقد طَبَعَ الطفّ البُركاني بقايا هذه الكائنات وموائلها في وديان وأطراف هذه المنطقة من افريقيا(18).
تستمر الاستكشافات والنزاعات، لكن يتفق الأغلبية العُظمى من العُلماء على أنه حتى في ذلك الزمن البعيد، كان هومو هابيليس إحدى مراحل الفترة الحاسمة الطويلة-وآخرها- من تطور المهارات الثابتة لصناعة الأدوات البدائية من الحجر والعظام وربما كذلك من القرون والخشب(ب). ان الامتيازات التي حصَلَ عليها الانسان، في مرحلة اقتصاد الصيد واللقاط البدائي، من الاستخدام المُنتَظَم للأدوات، والتي أصبَحَت فيما بعد أكثر تعقيداً وتنوعاً، عزّزَت قُدراته على البقاء على قيد الحياة. مكّنَ نشاط العمل الجماعي (الصيد واللقاط باستخدام أدوات العمل) الانسان، تدريجياً، من أن يُصبِحَ أكثر استقلالاً عن ظروف موئله. يختلف العُلماء حول ما ان كان الهومو هابيليس هو سلف الانسان الحديث، أي ان كان مُمثلاً للاوسترالوبيثيكوس Australopithecus (الأقدم من هابيليس) في التحوّل من الحيوان الى الانسان. وفي رأينا أن من يَعتَبِر هابيليس هو سَلَف هومو سابيانس، هو على حق. برأينا كان مُبدعي "ثقافة اولدواي" Olduvai culture، فالحيوانات لا تخلق ثقافة(جـ).
لقد أظهَرَت التجارب العلمية أن صناعة حتى أدوات أولدواي الحجرية الأكثر بدائيةً هو عملية مُعقدة للغاية تتطلّب عاداتٍ خاصة تطورت بالتدريج على امدار الزمن. أظهَرَ الباحث السوفييتي البارز سيرجي اريستارخوفيتش سيمينوف Sergey Aristarkhovich Semenov في عمله الكلاسيكي (تكنولوجيا ما قبل التاريخ) أن تصنيع واستخدام الهابيليس للأدوات الحجرية الصوّانية، ناهيك عن الأدوات الحجرية والعظمية اللاحقة التي يجد العلم الحديث صعوبةً في تقليدها، يتطلّب من الناس استخدام عددٍ كبيرٍ من العلاقات والعادات الجماعية. هذا يؤكّد موقف انجلز القائل بأنه "بفضل العمل وحده، بفضل التكيّف مع عملياتٍ جديدةٍ أبداً، بفضل الانتقال الوارثي للنمو والتطور الخاص، الذي بلغته، على هذا النحو العضلات والأوتار، وكذلك العظام في فتراتٍ أطول، وبفضل التطبيق المُتكرر لهذه المهارات والتحسينات الموروثة على عملياتٍ جديدة، ومُتزايدة التعقيد أبداً، بفضل ذلك كله بلغت اليد البشرية تلك الدرجة العالية من التضلّع التام بحيث استطاعت أن تُبدِع"(19)، وهذا بدوره أثّرَ على الأعضاء الأُخرى في الجسم.
بالتوازي مع هذا، تطوّرَ الدماغ وأعضاء أُخرى من الجسم البشري، بالاضافة الى تحسّن التعاون الجماعي البشري تدريجياً، وهي عملية من المعروف أنه لم يحدث أي شيء مُشابه لها حتى ولو ما يُشبهها عند أي نوعٍ من الحيوانات، بما في ذلك قِرَدة الأنثروبويد. تُشير آثار ثقافة اولدواي المُتطورة الى أن الفترة المُبكرة والأقدم والطويلة جداً في تاريخ البشرية، والتي استمرت ما لا يقل عن 800 ألف سنة، اتسمت بتحسّنٍ بطيء جداً في تقنية صناعة الأدوات. كان الوعي أيضاً على ما يبدو عند مُستوىً مُنخفضٍ من التطور لدة هومو هابيليس، وكان من الناحية الشكلية يحمل عدداً من أوجه التشابه مع أقرب أقربائه (اوسترالوبيثيكوس). كما أنه ليس من المُستَغرَب أنه بما أن هذه كانت الحلقة الأولى في سلسلة التطور الانساني وعمليات العمل، فلم يكن هناك وقت كافي للتأثير الكُلّي على بُنية الجسم والسمات المورفولوجية الأُخرى للهابيليس(20).
ومع ذلك، تُشير أحدَث البيانات العلمية أن الانسان، اتسمَ منذ البداية، بوحدةٍ Unity بيولوجيةٍ واجتماعية، قائمةٍ على العمل الجماعي، والتي كانت محصورةً في نوعه بالذات. تعتقد الغالبية العُظمى من الخبراء البارزين أن أقدَم وأطول فترة في نشأة البشرية وتطورها امتدّت على كامل العصر الحجري القديم، أو فترة الكواتيرناري (الفترة الثالثة من عصر السينوزويك، أي من 2.6 مليون سنة حتى وقتنا الحاضر) في تطور كوكبنا. وضَعَت الكائنات التي صنَعَت الأدوات الأولى وأبدعت ثقافة الأولدواي القديمة، أُسس الجنس البشري منذ حوالي 2.6-3 مليون سنة(21). وفي العصور التي تلت ذلك، كان هناك تغيرات مُتكررة وكبيرة في المناخ والغطاء النباتي وفي عالم الحيوان على كوكبنا(د).
ومن ناحيةٍ أُخرى، خَضَعَ البشر أيضاً لتغيراتٍ جسدية وتغيرات في الثقافة المادية والنظام الاجتماعي. لقد مرّت وحدة النوع البشري، التي نشأت الآن، عبر كل هذه التغيرات بكل تنوعها(22). وكانت هذه الوحدة محكومةً أيضاً بقوانين جديدةٍ تنطبق بشكلٍ أساسي وحصري على المُجتمع البشري، القائم على العمل. على الرغم من أن الكثير لا يزال موضع خلافٍ بين العُلماء، الا أن هذا الاستنتاج الأساسي أصبَحَ مقبولاً عند المُتخصصين الذين يُمثلون وجهات نظرٍ مُختلفة في جميع أنحاء العالم.
تُشير بدائية وغياب أي أشكال مُتكررة مُحددة من الأدوات طوال عصر الاولدواي الى أن استقرار الاستمرارية في تكنيك انتاج الأدوات الحجرية، والتي كانت سمةً من سمات العصور اللاحقة، لم تكن موجودةً بعد في تلك الأزمنة القديمة. ربما لم تكن القُدرة على صُنع أدوات العمل أو كونها حرفة، هي التي انتقَلت من جيلٍ الى جيل، بل فهم مدى مُلائمتها واستخدامها، فمن الواضح تماماً أن التفكير المُجرّد والقُدرة على القيام بسلسلة مُعقدة من الأفعال المُتعاقبة لصناعتها كان موجوداً آنذاك. بالاضافة الى ذلك، على الرغم من تنوع وعشوائية أشكال الأدوات، الا أنها كانت تحوي عُنصراً مُتكرراً مُهماً للغاية، وهو النصل، الذي جسّدَ الهدف الرئيسي من هذه الأدوات (تقطيع الجُثث، الكشط، اللقاط، الخ)(23).
لقد كانت طريقة التجربة والخطأ التكنيكية في تصنيع أدوات العمل، عمليةً طويلةً وشاقة لكل جيلٍ بعد الآخر. من الناحية الشكلية، لم يختلف الهابيليس كثيراً عن الاوسترالوبيثيكوس الرشيق، لكن الأخير استخدمَ الأشياء المتوفرة في الطبيعة فقط كأدوات، بينما صنَعَ هومو هابيليس أدواته بنفسه. هذا، مما لا شك فيه، اختلاف نوعي عميق!. ان بساطة هذا الاكتشاف قد تكون مُضللة للشخص الذي لا يأخذ في الاعتبار أن الانسان ظَهَرَ على الأرض كنِتاج لتطورٍ سابقٍ طويلٍ جداً ومُتنوع وغنيّ بالأحداث على الأرض (3.8 مليار سنة!)(24). لقد كانت هذه قَفزَةً هائلةً حقاً، والتي مهّدَ لها الطريق كُل التطور السابق. كان هذا هو الفجر الباكر للمُجتمع البشري، عندما ضَمِنَ العمل الجماعي، التطور اللاحق للانسان، الذي كان في البداية متواضعاً للغاية، وكان مليئاً بالمصاعب غير المتوقعة: في الوقت الحاضر لا نعرفُ سوى "مليار بذرةٍ من الحقيقة" عن تلك الفترة البدئية الهائلة لأقدم البشر، ولكنها "أي بذار الحقيقة التي نعرفها" تأخذنا شوطاً بعيداً في دعم الاستنتاج القائل بأن العصر الأوّلي تميّزَ بتعدد أشكال الوجود الاجتماعي، وتطور طويل للمُجتمع البشري، حيث واصلَ الكائن الانساني أيضاً تطورة البيولوجي نحو هومو سابيان.
أدّى الاستخدام الطويل لأدوات العمل (منذ حوالي 1.8 مليون سنة) الى تغيّر في البُنية العامة ومظهر الانسان، بحيث يُمكن القول عن حق أن الحلقة التالية في هذه العملية، والتي تُسمّى في الانثروبولوجيا الحديثة هومو اريكتوس Homo erectus، كانت انساناً بلا شك. تم العثور على بقايا هذه الكائنات وأدواتها في جنوب شرق آسيا وشرق وشمال افريقيا وتركيا وهنغاريا والقوقاز وفي عددٍ من المناطق الأُخرى. وعلى أساس هذه المُكتشفات، خَلُصَ العُلماء الى القول بأن الموطن الأصلي لهؤلاء الناس كان المناطق الدافئة الشاسعة في افريقيا وآسيا وجنوب أوروبا. ومن هناك، انتشروا تدريجياً في مُختلَف مناطق الأرض. يوضّع عالم الانثروبولوجيا الأمريكي شيروود واشبرن Sherwood Washburn بشكلٍ مُقنعٍ أن استخدام الأدوات كان عاملاً حاسماً في تسريع عملية نشأة وتطوّر البشر الأوائل، حيث أدّى الصيد الى تغيير حياتهم بشكلٍ مُتزايد.
مع كونه مُشابهاً لأسلافه، كان هومو اريكتوس الأكثر اجتماعيةً ونشاطاً من هابيليس، يتمتّع أيضاً ببنُية جسدٍ ومشيةٍ مُنتصبةٍ أفضل من سَلَفه. وقد مكّنه ذلك من التنقل بسهولةٍ في العالم من حوله، وعزّزَ تطوره ليس فقط جسدياً، بل اجتماعياً وأخلاقياً أيضاً. أصبَحَت صناعة الأدوات الحجرية والعظمية والخشبية الآن أكثر تعقيداً، مما جعَلَ هومو اريكتوس أكثرَ براعةً وقُدرة. كانت مراحل التطور المُتعاقب لأدوات هذه الفترة هي العصر الأشولي Acheulian المُبكّر والوسيط والمُتأخر 1.7 مليون سنة-250 ألف سنة، من ثُم العصر الموستيري mousterian period (الفترة الأخيرة من العصر الحجري القديم الأوسط 160 ألف-40 ألف سنة) والعصر الحجري القديم المُتأخر أو الأعلى، والتي سنتحدث عنها لاحقاً. في البداية، كان التطور بطيئاً جداً "فقبل أن تصنعَ يد الانسان أول قاطعة صوّانية، كان لا بُدَّ من مرور فترةٍ طويلةٍ من الزمن، تبدو الحُقبة التاريخية التي نعرفها، تافهة بالمُقارنة معها"(25). في هذا الزمن، ظَهرَت سمات جديدة تشهد على تقدّمٍ مُهمٍ جداً في التكنيك البدائي، وخاصةً تكنيك ليفالويس(هـ) Levallois technique في صناعة الأدوات الحجرية (العصر الاشولي الوسيط والمُتأخر). لعدة مئات من آلاف السنين، تحسّنت أدوات العمل تدريجياً، وصولاً الى أوخر العصر الحجري القديم، بدأ صُنع المجارف والفؤوس hoes and picks من عِظام الماموث وقرون الغُزلان، وبدأ يتراكم مخزون من المهارات الإنتاجية الأكثر استقراراً.
كان اسلوب الحياة الجماعي للبشر الأوائل، واستخدامهم اللحوم كغذاء، والمُشاركة الجماعية في الصيد الذي يُنظمة العُرف، بمثابة أساس لمزيدٍ من التعاون والتضامن التدريجي المُتنامي وتراكم المعارف. كانت المُجتمعات البشرية تتألّف في البداية من العشرات، ثم من 50 فرد وأكثر.
لقد تطورت الحاجة الى قولِ شيءٍ ما لبعضنا البعض، مع تطور العمل، وفي عملية العمل ذاتها عند هومو اريكتوس. يُقال أن هومو اريكتوس استخدَمَ حقاً أبسط أساسيات الكلام، والذي عززته اللغة الايمائية. كانت عملية الكلام، في البداية، بطيئة ومتوازية بايماءات اعتباطية لليد، ولكن نُحيَّت هذه الأخيرة جانباً مع التطور التدريجي للحُنجرة والدماغ لقد تحققت الثورة: "تعلّم الانسان الكلام"، أي التواصل عن طريق الرموز والتعبير عن الأشياء والتصورات بمجموعةٍ من الأصوات. لقد رَفَع الكلام الواضح والمعروف الانسان الى مُستوىً جديدٍ تماماً من التنظيم الاجتماعي. لقد مكنه من تغيير سلوكه، والتكيّف بفاعلية مع الظروف المُتغيرة، وجعله يتجاوز كيانه الفردي والتفكير في الأشياء والأحداث من حيث ماضيها ومُستقبلها. ان الكلام، المُرتبط بالفكر بطريقةٍ لا تنفصم، مكّنَت الانسان من مُشاركة أفكاره مع المجموعة(26).
استمرت أعضاء الحواس في التطور بالتوازي مع تطور الدماغ والكلام، وأصبَحَ الوعي صافٍ بشكلٍ مُتزايد، وتطورت قُدرة الانسان على التجريد والتمنطق، وكان لهذا بدوره تأثير على العمل والكلام، مما وفّرَ حوافز جديدة للتعلّم والتطور(27).
صار الانسان قادراً على العمل بفضل التعلّم. لكن العمل الانساني تطلّبَ أيضاً المُساعدة المُتبادلة والتنسيق والسيطرة وانضباطاً مُعيناً، وما الى ذلك. وبعبارةٍ أُخرى، فإن العمل البشري الجماعي كان اجتماعياً منذ البداية. طوّرَ الانسان الرغبة في المعرفة والابداع والتواصل والجماعية من خلال العملية التاريخية الطويلة لصُنع الأدوات واستخدامها بانتظام. ان التصنيع المُشترك لأدوات الصيد الجماعي وتقاسم الفريسة، وبناء المساكن، وأساسيات الكلام، وما الى ذلك، قد انضم اليها لاحقاً "اكتشاف" النار وازدياد استخدامها.
وَصَفَ انجلز أهمية السيطرة على النار على النحو التالي: "وعلى عتبة تاريخ البشرية يقف اكتشاف تحوّل الحركة الميكانيكية الى حرارة: توليد النار بالاحتكاك، وفي آخر المرحلة التطورية الجارية حتى الآن يقف اكتشاف تحوّل الحررارة الى حركة ميكانيكية: الآلة البُخارية. ورُغم الانقلاب التحرري الجبار الذي تُحققه الآلة البُخارية في العالم الاجتماعي-وهذا الانقلاب لم يُنجَز بعد حتى النصف-لا ريب مع ذلك في أن توليد النار بالاحتكاك يفوق الآلة البُخارية من حيث تأثيره التحرري التاريخي العالمي. فإن توليد النار بالاحتكاك هيأ للانسان أول مرة السيطرة على قوة مُعينة من قُوى الطبيعة وبذلك فصل الانسان نهائياً عن مملكة الحيوان"(28).
استُخدِمَت النار من قِبَل العديد من مجموعات الناس القديمة، ربما منذ زمنٍ طويل يصل الى ما قبل 500-700 ألف سنة(و). لقد احتلَّ تحصيل النار وتطوير طُرُق توليدها (الحك، النشر، الحفر، التجفيف، انتاج النار بالهواء المضغوط، والاحتكاك) مرحلةً كاملةً في رحلة البشر الأوائل(29). وبالاضافة الى الرماد، عَثَرَ العُلماء على العديد من عظام الحيوانات المُحترقة لحيواناتٍ كبيرة في العديد من الكهوف في طبقات ذلك العصر الثقافية. طَرَحَ الباحث السوفييتي أ.ن.روجاتشيف فرضيةً مُثيرةً للاهتمام مفادها أنه رُبما لم تُستَخدَم العظام كوقود، بل للحفاظ على الحرارة وتخزينها، مثل طوب المواقد الروسية(ز).
لقد كان مدى انتشار الحفاظ على النار وتوليدها واستخدامها عند مُختلف المجموعات والأزمنة، مُتبايناً. وكان للاختلافات التاريخية في مُستويات وظروف تطور هذه المجموعات تأثيرها الفعلي. لكن بالنسبة لجميع الشعوب والمجموعات، كانت النار بمثابة أداة جبّارة تُساعد على ترسيخ عوامل الحياة الاجتماعية، وتقويض تأثيرات البيئة المادية والجُغرافية، في حين أدّى التغيّر في طبيعة الطعام (استخدام الأطعمة المطهوة، ولاحقاً المسلوقة) الى تكثيف اعادة بناء الأعضاء البشرية. لم تكن النار مُلكاً لأي لفردٍ أو جماعة مُعينة. لقد كانت، بالاضافة الى ذلك، أداة عمل بالغة الأهمية، والتي لولاها لتقوّضَت عملية النشوء الانساني، وهي أهم عملية تحوّل ثوري في الطبيعة والحياة على الأرض. لَعِبَت لنار كذلك دوراً مُهماً جداً في التغلّب على أشكال الحياة البشرية البدائية، وفي التغلّب على "سُلطة" الدورات اليومية والموسمية الطبيعية، وفي انتشار الجنس البشري في جميع مناطق الأرض المناخية، وصولاً الى القطب الشمالي.
وهكذا، على أساس حقيقة أن قوانين العالم الاجتماعي التي تُميّز الانسان عن الحيوان، تبدأ في العمل منذ مراحل تطور الانسان الأولى، تكمن الحقيقة المُصاحبة لذك، المُتمثلة في ظهور عالمٍ جديدٍ تماماً، والذي لم يكن موجوداً حتى ذلك الحين في الطبيعة، ظَهَرَ الى الوجود مع عملية التطور هذه. هذا هو عالم الأدوات والأشياء وأشكال الطاقة التي خلقها العمل البشري، فضلاً عن النظام الاجتماعي المُتطوّر نسبياً. كل هذه الأشياء كانت بمثابة شرط مُباشر وضروري لبقاء الانسان ككائن اجتماعي. لقد خَلَقَ الانسان البيئة الثانية، الاصطناعية، ونظاماً اجتماعياً كان يقف كأنه حاجز حماية أفضل للانسان من تأثيرات البيئة الطبيعية الضارة والتغيرات المُفاجئة التي تعرّضَ لها في كثيرٍ من الأحيان.
أتاحت الدراسات المُقارنة مُتعددة المباحث، الجغرافية والاركيولوجية والسجلات الجيولوجية للعصور المُتعاقبة، أتاحت للباحثين أن يُقرّوا أشياء مُحددة تماماً حول عملية التحوّل العظيم لسلفنا الهومو اريكتوس، الذي كان واضحاً أنه عاش طوال الجُزء الأعظم من العصر الحجري القديم. أصبَحَ الجنس البشري تدريجياً أكثر تجانساً، وبالتالي فريداً من نوعه في أقدم العصور التاريخية. لكن البشر الأوائل، الذين كانوا بلا شك، وحدةً اجتماعيةً وبيولوجية، لم يكن لديهم بُنية جسدية مُوحّدة. ربما عاش أفراد أطوَل قامة جنباً الى جنب مع هومو هابيليس القصير (اعتمَدَ هذا على نوع الطعام، ووجود أو غياب ظروف مُواتية أو غير مُواتية، وما الى ذلك)(حـ). ان وحدة التنوّع، هو المفهوم الدياليكتيكي،, والوحيد الصحيح لوصف عملية نشأة المُجتمع البشري وتطوره. لم تكن طبيعة المُجتمع البشري المُبكّر أُحادية البُعد: لكن تاريخ المُجتمعات البشرية التي ضربت جذورها في مُختلف المناطق الجُغرافية وواجهت ظروفاً وجوديةً جديدة، كانت مُتعددة الأبعاد.
لم يُحدث التطور اللاحق للأجناس أي تغيرات جوهرية، ولكنه كان يعني في الواقع انه بالاضافة الى تنويعات الانسان القديم، تتنوع التباينات والاختلافات في البيئة المُحيطة بالانسان بقدر ما ينتشر أكثر حول العالم، ولم يقم الانسان بمُعارضة هذه البيئة بنشاط عَمَلِهِ وحَسب، حتى أنه تكيّف جسدياً معها جُزئياً، وخَلَقَ مجموعةً مُتنوعةً من أشكال الأعراق المُستقرة، دون أن يفقد وحدته البيولوجية، وقبل كُل شيء، وحدته الاجتماعية القائمة على العمل الجماعي.
ان الاختلافات العرقية بين الناس، من لون الجلد وشكل الجُمجمة وبُنية الشعر وخصائص الجسد، هي في الأساس سمات جسدية تكيّفية وفسيولوجية. لقد تطوّرَت تدريجياً تحت تأثير عواملَ تاريخيةٍ وجُغرافيةٍ طبيعية مُحدَّدة. لا يُوجد إجماع بين العُلماء على عدد الأعراق الموجودة، فتتراوح افتراضات العُلماء من عِرق واحد الى عِدّة عشرات(30). ولكن مهما كان الأمر، فإن كُل هذه الاختلافات الجسدية ليست دليلاً على الاطلاق على أي اختلاف فكري بين الأعراق أو المُجتمعات الاثنية، أو على الدونية العِرقية كما ادّعى الفرنسي آرثر دو غوبينو Arthur de Gobineau ومن بعده الأنثروبولوجي الفرنسي من بدايات القرن العشرين الكونت جورج دو لابوج Georges Vacher de Lapouge ومُعاصره البريطاني-الألماني هوستون ستيوارت تشامبرلن Houston Stewart Chamberlain، والعُنصريين اللاحقين من سيكولوجيين وداروينيين اجتماعيين مثل او. فوغ، وعالمة الانثروبولوجيا الأمريكية روث بينيديكت Ruth Benedict و اي. هوتون، وغيرهم. على الرغم من الاختلاقات غير العلمية لهؤلاء العنصريين، كانت البشرية واحدة منذ اللحظة الأولى لظهورها، والاختلافات العِرقية هي أحد الأشكال الطبيعية للوجود الانساني المُوحّد في التنوع الغني لتمظهراته.
أدّى تطور العمل والثقافة المادية والفكرية المُرتبطة به في جميع أنحاء العصر الحجري القديم والوسيط الى ترسّخ تدريجي للمُجتمعات البشرية. مع مرور الزمن، تغيّرَت عصور تاريخ البشرية القديم. لقد قُمنا أعلاه بالحديث حول العمليات الأقدم، والتي ظَهَرَت بيانات عنها مؤخراً. بالنسبة الى العصور اللاحقة، لدينا المزيد من المواد عنها. وهكذا، كانت بداية بناء المساكن للاستقرار الموسمي الأطول، بمثابة علامة بارزة في تطوّر هومو اريكتوس. تم بناء المساكن منذ 400-500 ألف سنة على مقربة من بعضها البعض. كانت المساكن في عصور العصر الحجري القديم الأعلى اللاحق تحتوي في بعض الأحيان على عِدّة مواقد، كانت كُلٌّ منها تُديرها امرأة واحدة، وكانت جميع المواقد في المسكن الواحد، حسب عددها، لنساء إحدى الوحدات الأصغر. أصبَحَ هذا أساساً لنظام المُجتمع الأُمومي. كانت المُستوطنات التي تتكون من عددٍ من المساكن، مرحلةً لاحقةً في توحّد البشر الأوائل في مُجتمعاتٍ تضم الآن أكثر من 100 شخص (العصر الموستيري، العصر الحجري القديم الأعلى).
حَدَثَت تحوّلات أعظم وأعظم في تصنيع واستخدامات أدوات العمل بتنويعاتها، الخ. وانتَشَرَ استخدام النار، وتطوّرَ الكلام الواضح، وتشكّلَت اللغات العامة الأُولى. أصبَحَ السلوك الاجتماعي أكثَرَ تعقيداً، مما يدل على ظهور أول تشكيلة اجتماعية-اقتصادية. كما تغيّر أُسلوب حياة الشعوب القديمة.
يقول مجموعة من العُلماء السوفييت، مؤلفي كتاب بعنوان (الانسان القديم والطبيعة): "كان العصر الحجري القديم فترة نشوء البشرية والمُجتمع. ونشأت أول تشكيلة اجتماعية-اقتصادية في هذه الفترة، وهي المشاعية البدائية. تميّزت فترة العصر الحجري القديم بأكملها بالاقتصاد الاستحواذي: فقد تحصّلَ الناس على وسائل عيشهم عن طريق الصيد وجمع الثمار. لقد صنعوا الأدوات من الحجر والعظام والخشب. غالباً ما كانت الأدوات الحجرية هي المصادر الوحيدة المُتوفرة لدينا لتقييم نمط حياة هؤلاء البشر، ومن ثُم فإن لدى الاركيولوجيين اهتماماً خاصاً بالأدوات الحجرية وتقنيات صُنعها"(31). ويُضيف المؤلفون: "يرتبط العصر الحجري القديم بالنظام المشاعي البدائي الذي تَبَلوَرَ خلال عملية التطور الطويلة، والتي كان من سماتها العمل الجماعي والمُلكية العامة. يُطلَق على الشكل الأوّلي لتنظيم المُجتمع عادةً اسم القطيح البشري البدائي. وتطوّرَ لاحقاً ليصير مُجتمع القرابة"(32).
هذا الاستنتاج يوسّع فهمنا بشكلٍ كبير لكيفية وأسباب تمكُّن الانسان من التغلّب على تجارب العصر الجليدي القاسية. لا شكَّ أن التنظيم الاجتماعي للمُجتمع البدائي في مرحلة العصر الحجري القديم، بالاضافة الى "المُحيط المادي" الذي خلقه العمل البشري، حرّرَ الانسان من قوانين داروين.
يعتَقد الاركيولوجي بافل بوريسكوفيسكي Pavel Iosifovich Boriskovsky أيضاً أن تاريخ المُجتمع البشري بدأَ بظهور هومو هابيليس وتكنيك الاولدواي، وأن المرحلة الأولى من تطور المشاعة البدائية حَدَثَت في شكل القطيع البدائي، الذي تطوّرَ لاحقاً الى نظام القرابة. تُشير المواد الأركيولوجية الجديدة الهائلة التي تراكمت الى وُجود اختلافات وتنوعات محلية في الثقافة الآشولية القديمة، والثقافات الآشولية الوسطى والمُتأخرة والموستيرية. لربما كان لهذا أهميةً إثنية. "طوّرَت مجموعات اثنية مُعينة من الشعوب البدائية التي اندمجت وصارت أسلافاً للقبائل اللاحقة، بعض التفاصيل المُختلفة الثانوية في التقنية والأدوات. يَمثُلُ أمامنا هُنا ثقافاتٍ أثرية ناشئة حديثاً"(33). ارتبطَت الثقافات الأثرية بالتنظيمات الإثنية القديمة والقبائل وربما أنواع مُحددة من اتحادات القبائل في العصر الحجري القديم.
أكّدَ انجلز، على ضرورة مُراعاة جانبي تطور المُجتمع القديم: إنتاج وسائل العيش، واعادة انتاج الانسان نفسه، أي استمرار النوع (الأُسرة). لقد ثَبُتَ الآن بوضوح أن تطور الجنس البشري لم يحدث خلال أكثر من 70 ألف سنة، كما افترض مورغان، بل على مدار أكثر من مليونيّ ونصف المليون سنة، ومن ثُم، من الطبيعي أن يكون تطور المُجتمعات العائلية في العصر الحجري القديم كان أكثر تعقيداً مما كان يُعتَقَد سابقاً. نحن لا نعرف حتى الآن الخُطوط التفصيلية لهذا التطور، ولكن قام الانثروبولوجي والاركيولوجي السوفييتي البارز فيكتور فاليريانوفيتش بوناك Viktor Valerianovich Bunak بمُحاولةٍ مُثيرةٍ للغاية لرسم صورةٍ تفصيليةٍ لتطور المُجتمعات البشرية المُبكرة.
كانت أولى التجمعات البشرية الأولى، في رأي بوناك، تتكون من 6-8 أفراد أو أكثر في مجموعاتٍ أطلَقَ عليها "الاندون indons". كانت هذه وحدات صغيرة اعتمَدَ عددها على الوسائل المُتاحة لإطعام أفرادها في المنطقة التي يعيشون فيها. من الواضح أنهم كانوا يجتمعون معاً في زمن الهجرات بحثاً عن مصادر الغذاء، أو للحماية من هجمات الحيوانات البرية في مُجتمعاتٍ أكبر تُسمّى بـ"الفليرجون phylergons"، أي أكثر من إندونٍ واحد. ضَمِنَ التعايش اليومي والجنسي لرجال ونساء إندونات مُختلفة في مكانٍ واحد استمرارً للنوع. في المرحلة الأُولى، بدأت العائلات البدائية في الظهور داخل الفليرجونات، فقد كانوا أزواجاً بقوا معاً. أتاحت امكانية مُشاركة الرجال في الأُسرة البدائية امكانياتٍ سهّلَت الحضول على الغذاء وحماية الأطفال وتعليمهم العمل. ان فترة اعالة الأطفال الطويلة عند النوع البشري، وهي فترة تمتد الى عدّة سنوات قبل أن يتمكن من العيش بنشاطٍ واستقلال نسبي، تطلّبت جهوداً بذلها جميع الأفراد في الإندو أو الفليرجون، وهذا أثَرَ بدوره على نمط حياتهم.
في وقتٍ لاحق، انضمّت الفليرجونات معاً في مُجتمعاتٍ أكبر تُسمّى "السوسيون socions"، والتي صار اجتماعها معاً فيما بعد يُسمى "البروكلان proclan) التي تضم العشائر (العشائر الأبوية أو الأُمومية المُبكشرة، أو العشائر الاقليمية)، وبعد ذلك تطورت القبائل. يوضّح بوناك انه استخدَمَ هذه الأسماء اللاتينية لأول مرحلة من العصر الحجري القديم عن قصد، لأنه أراد التأكيد على الاختلاف العميق في علاقاتها الداخلية بين الأفراد والتجمعات والعائلات والعشائر والقبائل، عن تلك العلاقات التي سادت في وقتٍ لاحق في العصر الحجري القديم المُتأخر. أظهَرَ الانثروبولوجيين أيضاً الحظر الجنسي المُبكر جداً بين الأقارب في الفليرجون ودحضوا تماماً فرضية "الحريم" والمشاعية الجنسية بين البشر القُدماء(34).
اختلفت المراحل الموصوفة أعلاه في العصر الحجر القديم من منطقةٍ الى أُخرى، وتغيّرَت حسب الزمن وظروف المعيشة والموئل. يُمكن أيضاً تمييز الأشكال الانتقالية الى المُجتمعات الأثرية الأكبر حجماً، والأكثر تنوعاً، ولكن الأكثر استقراراً في أواخر العصر الحجري القديم.
استغرَقَ استيطان هومو اريكتوس في المناطق المناخية المُعتدلة لقارات العالم القديم الثلاث زمناً طويلاً (من1.8 مليون سنة-200 ألف سنة). تُظهِر المواد الملموسة وحدة وتنوع مسارات تطور البشرية المُبكرة، وتُساعدنا على فهم مدى تعقيد مسارات تطور المُجتمعات البشرية في العصور اللاحقة أيضاً. تعتقد الغالبية العُظمى من أبرز المُتخصصين أن أقدم وأطول فترة لتطور البشرية امتدت خلال طوال فترة العصر الحجري القديم والوسيط بأكمله، أو من الناحية الجيولوجية: عصر الكواتيرناري بأكمله.
ان تحليل البيانات المُتعلقة بتاريخ الأرض على مدى 2.5-3 مليار سنة الماضية، والتي راكمتها علوم الجيولوجيا وعلوم تطور المُجتمع الحديثة، يكشف عن صورة ديناميكية من التحولات الهائلة. كان على البشر الأوائل التغلّب على صعوبات عظيمة، والتكيّف مع الظروف المُتغيرة، وتوسّع أو تقلّص المنطقة التي يعيشون فيها. لا شك انهم كانوا سيموتون لو أنهم تصرفوا بمفردهم أو ضمن مجموعات مُتعادية. لقد تكيّفوا واستطاعوا الصمود بسبب التقدم في طبيعة نشاط العمل والتنظيم الاجتماعي والتعاون بين السكان، حيث ظلّت الأرض والمساكن ومواقدها واعداد الطعام وجميع الأدوات والأسلحة والملابس والحُلي تحت السيطرة الجماعية داخل العشيرة الأُمومية المُرتبطة بالمُجتمعات القَبَلية(35).
عادةً ما تدحض المُكتشفات الأنثروبولوجية المُتعلقة بالعصر الحجري القديم، بل وحتى منطق التاريخ نفسه، المفاهيم العسكرية البرجوازية التي تدّعي أن الميل الى ارتكاب العُنف ضد الآخرين من نفس النوع، هو أمر فطري ومُهيمن عند الانسان.
لم تتم عملية التماسك في المُجتمع البدائي دون ألم. لقد كانت العوامل الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية كلها، تلعب دوراً مُهما. غالباً ما بَلَغَت الأعمال القتالية التي تقوم بها القبائل الأقوى ضد القبائل الأضعف ذروتها، بإبادة أو نهب هذه الأخيرة. لكن تلك الصراعات، التي كانت جُذورها تمتد بشكل رئيسي في النضال من أجل تحسين ظروف العمل وتطويره، لم تكن هي السائدة. لو كانت كذلك، لانقرضت البشرية بعد قتالٍ محموم. لكن هذا لم يحدث طبعاً. بالاضافة الى ذلك، استمر عدد سُكان الأرض في النمو، والاستحواذ على مناطق جديدة، وحتى إقامة تجمعات اجتماعية وسياسية أكبر، غالباً ما أُقيمت للدفاع عن النفس ضد التجمعات العدائية(36).
هناك العديد من لُقى ومُكتشفات العصر الحجري الوسيط والمُتأخر الموصوفة في الأدبيات المُتنوعة. وسنقتصر في هذا الموضوع على بضعة مُلاحظات. كما نعلم، لم يكن الفرد يهتم بنفسه وحسب ، بل كان هناك تضامن وتعاون مع الآخرين. ينعكس الشعور بوحدة القرابة، الذي ظَهَرَ مُبكراً للغاية، في عددٍ من مُكتشفات انثروبولوجيي القرن التاسع عشر المُثير ة للاهتمام، والتي تُمثّل، على سبيل المثال، عادات الصيادين وجامعي الثمار بين شعوب الايفينك والياقوت السيبيريين، الذين تركوا، أثناء تجوالهم حول التايغا، فرائس للأشخاص الذين قد يمرّوا لاحقاً من منطقة صيدهم. ظلّت هذه العادة محفوظة حتى يومنا هذا. حَدَثَ هذا الفعل "المؤجّل" قبل زمنٍ طويلٍ من عملية تبادل القِيَم التي حلّلها ماركس ببراعة في مُجلده الأول من (رأس المال). في الواقع، يُشير الانتشار السريع نسبياً لتكنيكات صناعة الأدوات البدائية (على سبيل المثال (التكنيك الليفالوسي Levalloisian technique في العصر الاشولي الوسيط، ومن ثم المُتأخر والموستيري) بين مجموعاتٍ مُختلفةٍ من الناس، الى أن تبادل الخيرات التكنيكية كان مُنتشراً على نطاقٍ واسعٍ جداً(37).
ظَهَر هذا التعاون والتضامن وانتشار التكنيك بشكلٍ مُتجدد وأقوى في العصور اللاحقة التي كانت مليئةً بالاضطرابات الجيولوجية والأخطار البيئية التي هددت وجود البشر ذاته. مُنذ ما يقرُب من 200-250 ألف واستمرت الى ما قبل 130 ألف سنة، بدأ العصر الجليدي العظيم الذي يُعرَف باسم مرحلة ريس Riss أو (دنيبر Dneper)، والتي كانت واحدةً من أشدّ الهجمات المناخية التي شهدتها الأرض على الاطلاق. أصبَحت ظروف الحياة بالنسبة للبشر، أكثر صعوبةً مما عرفوه سابقاً. تناوبت عشرات آلاف السنين من موجات البرد القارس مع فترات دافئة قليلة. بعد ذلك حَدَثَ عصر جليدي آخر سُميَّ بـ (والداي Waldai) أو آخر عصر جليدي، استمر من قبل 115 ألف-11500. على سبيل المثال، الحد الأقصى الذي وصله الزحف الجليدي في الجنوب، والذي وصلَت سماكته في الشمال الى 3كم من الجليد، مرّ جنوب ما يُعرَف اليوم بمنطقة دنيبروبيتروفيسك Dnepropetrovsk وخاركوف وفورونيج Voronezh ومن ثم التفّ الى شمال شرق بيرم، وسيبيريا الغربية، ومن ثم وصَلَ الى المناطق الجبَلية والسهلية في سيبيريا على شكل أنهار جليدية معزولة. في أمريكا الشمالية، زَحَف الجليد الى جنوب البُحيرات العُظمى. في شبه جزيرة القرم وفي مناطق جنوب أوروبا كان المناخ يُشبه التايغا. لقد عَثَرَ العُلماء على عظام الغُزلان الشمالية والماموث ووحيد القرن الصوفي وغيرها من حيوانات المناطق الباردة في أماكن وجود البشر في تلك الفترة. وكانت هذه العملية في الجنوب، مصحوبةً بتقرية مناخ الأرض (المناخ القارّي)، وانخفاض مُستوى المُحيط الهادئ، وعمليات تشكّل الجبال، وازدياد النشاط البُركاني، وما الى ذلك.
ما الذي يعنيه هذا؟ لماذا نتحدث عنه؟ لقد حفّزَت الظروف القاسية الجديدة الى حدٍّ كبير تطور انسان العصر الجليدي (الذي يُسمى النياندرتال، من430 ألف سنة وحتى 40 ألف سنة) في صراعه مع الصعوبات، من خلال مواجهته لخطر الانقراض وتشجيع صُنع أدوات جديدة وملابس ووسائل التنقّل والمساكن المُختلفة، وما الى ذلك. كانت الحياة في التندرا وغاباتها "امتحاناً" عظيماً لصلابة البشر البدائيين وابداعاتهم، وكانت حقيقة أنهم نجحوا في التغلّب على كُل الصعوبات، بمثابة شهادةٍ على أن الانسان أحرَزَ تقدّماً كبيراً على طول المسار نحو إخضاع الطبيعة(38). وانطلاقاً من أنشطة النياندرتال وليس من هياكلها العظمية "يتبيّن أن هناك فكراً انسانياً حقيقياً قابعاً خلف جِباه النياندرتال العريضة، والذي (أي فكرهم) قادهم في تحدّيهم للعصر الجليدي، وطوّرَ تكنيكات صيد وعمل مكّنتهم من البقاء على قيد الحياة في حُقبة الاضطرابات الايكولوجية الشديدة هذه"(39). لم يُخلّف النياندرتال آثاراً ثقافية مادية (مُختلف أنواع الأدوات وحسب)، بل أيضاً آثاراً لثقافةٍ فكريةٍ كذلك (مقابر وربما طقوس كذلك) وآثاراً لتنظيمٍ اجتماعي. لن يكون من المُبالغة القول أننا هُنا نتحدث عن عملية نشوء وتطور للبشر، عظيمة بالنسبة لتاريخ الأرض. وَصَلَت مهاراتهم وأدواتهم المُتراكمة وأنماط تنظيمهم الاجتماعية حداً كبيراً وظهرت منها طُرُق وأساليب جديدة. عزّزَت النار التضامن الجماعي بين النياندرتال، وساعدت بشكلٍ أكبر في تعزيز نظام القرابة والوحدات العائلية لديهم، وعززت تطور الكلام والحياة المنزلية في مساكنهم المُغطّاة بالجلد.
في نفس الوقت تقريباً، حَدَثَ تغيّر أساسي في صناعة الأدوات: فقد تخلّى البشر عن قِطَع الحجر المنحوتة، واستبدلوها بأقراص أكثر احترافية استخدموها رقائق صوّانية تُشبه السكين. كما تم صُنع أدوات أكبر وأكثر كمالاً لكشط جُثث الحيوانات الكبيرة، الى جانب الأزاميل chisels والأمشاط combs وأشباه الإبر quasiawls التي استُخدِمَت لخياطة الجلود، وغيرها من الأدوت المُتخصصة. وبطبيعة الحال، زادت هذه الأدوات من قُدرة المجموعات على التكيّف مع البيئة الطبيعية المُتغيرة والقاسية.
أُتقِنَت طُرُق صُنع أدوات مُتنوعة تماماً، وكما أظهرت الحفريات الاركيولوجية كان هناك أدوات جمالية من الحجر والخشب والعظام والقرون، على الرغم من أن الغرض الوظيفي لهذه الأدوات لا يزال غير واضح تماماً حتى بالنسبة لمثل هذه الأدوات التي تعود الى أواخر العصر الحجري القديم. ومع ذلك، اكتَشَفَ زُملاء سيرجي سيمينوف في مُختبر التكنيك البدائي في قسم لينينغراد التابع لمعهد الاركيولوجيا في أكاديمية العلوم السوفييتية، الكثير مما هو جديد في هذا الصدد من خلال تطبيق منهجية terrace في دراسة الأدوات القديمة. ثبَتَ تجريبياً، على سبيل المثال، أن صُنع قارب خشبي من جذع شجرة كامل باستخدام الأدوات الحجرية لا يتطلّب سوى بضعة أيام (وليس سنوات كما كان يُعتَقَد سابقاً)، ولم يستغرق الأمر سوى بضع ساعات لصُنع فأسٍ حجرية. هذا يُغيّر النظرات التي كانت سائدة حتى وقتٍ قريب، جذرياً. لقد تبيّن أن إعادة انتاج هذه المهارات البدائية القديمة في صُنع الأدوات الحجرية، المهارات المفقودة الآن، قد تكون ذات أهمية حتى بالنسبة للميكانيكيين وصُنّاع الآلات المُعاصرين.
على الرغم من أن الجدل والخلافات ظلّت مُستمرة حول عدد من المسائل الخاصة التي نشأت فيما يتعلّق بالاكتشافات الانثروبولوجية في العقود القليلة الماضية، الا أن الصورة العامة لا جدال فيها.
ان الهومو هابيليس وهومو سابيانس هما مُستويان مُختلفان لنفس العملية التاريخية الطبيعية التي بدأت ولا زالت مُستمرة، اذا نظرينا اليها من منظورٍ واسع. كَتَبتُ في مقالةٍ سابقةٍ لي: "لقد وَصَلَت جميع قبائل شعوب الأرض، بصرف النظر عن مُستواها الثقافي، الى حالة هومو سابيانس (الانسان الحديث) منذ حوالي 40-50 ألف سنة. وهذه حُجّة أُخرى قوية لصالح التساوي السياسي والاجتماعي بين شعوب وأُمم الأرض"(40).
كانت الرحلة التاريخية لمُختلف المُجتمعات والجماعات البشرية مُشتركة، على الرغم من تعرّج مسار كل مُجتمع بطريقةٍ فريدة. وتزايدت الحاجة الى أن تلتئم الجماعات معاً في مجموعاتٍ أكبر-وان كانت لا تزال محلية- نظراً لظروف الحياة المحلية وامكانات انتاج وسائل العيش. بعد العصر الجليدي الأخير، خاصةً عندما انتشرت النباتات والحيوانات المُقاومة للبرد في اوروبا نحو الجنوب، خطى الانسان خُطوةً عملاقةً أُخرى نحو الأمام. في الواقع، ما يعنيه هذا، هو أن البشرية لم تتجاوز بعد، حتى ذلك الوقت، تلك العتبة التي تُخرجها من خطر الزوال والانقراض المُحدِق. أصبَحَ اتخاذ أساليب الصيد المُشترَك من قِبَل مجموعات عديدة من الناس ظاهرةً أكثر انتشاراً مع تحسّن صناعة الأدوات ومهارة العمل والتنظيم الاجتماعي، وكانت إحدى نتائج ذلك هو نشوء تواصل أكثر استقراراً بين المجموعات المُختلفة، كما ترسّخَت العادات وتقوّت.
ظَهَرَ انسان الكرومانيون Cro-Magnon (الانسان الحديث) منذ ما يَقرُب من 40-50 ألف سنة في أوروبا في العصر الحجري القديم المُتأخر أو الأعلى. في ذلك الوقت كان عدد سكان الأرض قد زاد بشكلٍ كبير(ط)، وشقّوا طريقهم الى استراليا(ي) والمناطق الواقعة تحت القُطب الشمالي في أوراسيا، وعَبَرَ الصيادون الآسيويون مضيق بيرينغ وبدأوا في استيطان أمريكا الشمالية والجنوبية. تميّزَ العصر الحجري القديم الأعلى بمزيدٍ من التحسن والكمال في الثقافة المادية والنظام الاجتماعي. يعود تاريخ مجموعة مُتنوعة من الأدوات الحجرية والعظمية والخشبية، بالاضافة الى المساكن ومواقع الدفن والأعمال الفنية المُختلفة الى هذا العصر. نحن نعرف فن العصر الحجري القديم الأعلى في مواقع مُتنوعة، من اوروبا الغربية وصولاً الى شرق سيبيريا وحتى مضيق انديغيركا Indigirka Basin. اكتشفنا الكثير من الرسومات الصخرية الرائعة في الكهوف وعلى طول مُنحدرات وديان الأنهار، مثل نهر يينيسي Yenisei River في الاتحاد السوفييتي، حيث انتشرت تماثيل تُشير الى عبادة خصوبة المرأة كمصدرٍ للحياة والطبيعة. كان اختراع الابرة والقوس والسهم، واستخدام الحبوب البرية كغذاء، ثم زراعتها لاحقاً، بمثابة بداية العصر الحجري الحديث.
أفسَحَت فترة العصر الحجري القديم والعصر الحجري الوسيط، الطريق الى العصر الحجري الحديث، حيثُ وَضِعَت في هذا العصر، أُسس الحضارة المُعاصرة على أساس الأدوات الحجرية المصقولة، والتخزين والزراعة، وتأسست الشروط المُسبقة لانقسام المُجتمع اللاحق الى طبقات. ولكن هذا موضوع آخر يحتاج الى مقالٍ آخر.
لا يوافق جميع العُلماء على وجهات النظر المذكورة أعلاه فيما يتعلق بالعصر الحجري القديم ومكانته في تاريخ البشرية. تتعلّق الاعتراضات الأساسية بالسؤال حول ما اذا كان الانسان موجوداً في هذا العصر، أو ما اذا كان ظهور هومو سابيانز يُمثل البداية الحقيقية لتاريخ البشرية. يؤيد بعض العلماء بدرجة أو بأُخرى وجهة النظر القائلة بأن "المُقدمات البيولوجية لنشوء الانسان" هي وحدها التي ظهرت في العصر الحجري القديم المُبكر، وأن عملية نشأة المُجتمع كانت نتيجةً لوحدة التطور البيولوجي "المُوجّه بطبيعته نحو المُجتمع" (John Huxley, K. N. Zavadskii). يُشير بعض المؤلفين الى عمل الانثروبولوجي السوفييتي الشهير ياكوف روجينسكي Yakov Yakovlevich Roginsky، الذي طَرَحَ مفهوم الأُحادية المركزية monocentrism في أصل الانسان الحديث(41). وفقاً لهذا المفهوم، فإن هومو سابيانز نشأوا قبل 30-40 ألف سنة في فلسطين من كائنات تم العثور بقاياها في مغارة الطابون Taboun ومغارة السخول Skul، الخ. عدّلَ روجينسكي نظريته، مؤكداً أن الحديث يدور حول مركزية أُحادية واسعة النطاق، أي ليس في فلسطين فقط، بل في الشرق الأدنى وبعض المناطق المُجاورة التي ارتبَطَ بها تطور الحضارة الأوروبية في وقتٍ لاحق. ومع ذلك، يوجد في حوزة الأركيولوجيين اليوم بياناتٍ واسعةٍ لا تتفق مع نظرية الأُحادية المركزية.
انتَشرَ مُبدعو الثقافة المادية في العصر الحجري القديم الأوسط (منذ 200 ألف-40 ألف سنة) على مساحاتٍ شاسعة في جميع أنحاء العالم تقريباً. ومن الصعب أن نُنكر صِلَتهم المُباشرة بالانسان المُعاصر بسبب بُعدهم الجغرافي عن المناطق التي تفترضها نظرية الأُحادية المركزية.

***

يترتّب على قرارات الجلسة العامة للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي التي عُقِدَت في حُزيران من عام 1983، أن على النظرة المادية والالحادية للعالم أن تتعزز وتُصبح أكثر نشاطاً. ان مُتابعة مُكتشفات العلوم الطبيعية سيُمكن الفلاسفة الماركسيين من تعزيز الفهم المادي للتاريخ بشكلٍ أكثر فعالية. يتطلّب هذا، بطبيعة الحال، المزيد من دراسة المسائل التي لم نتناولها الا بشكلٍ جُزئيٍّ في هذه المقالة، أو في سياق طرح مسائل جديدة.
"لقد جئنا منذ زمنٍ بعيد، وسنسير نحو مُستقبلٍ بعيد". هذه هي النظرة الشيوعية المُتفائلة والفكرة الأساسية لهذه المقالة، التي تصف الشق الأول من هذه المسيرة، من الماضي عبر الحاضر، والى المُستقبل.
لقد أشرنا الى مقالتنا المُعنونة (الأُممية والتقدم الاجتماعي) في سياق المسائل التي ناقشناها هُنا. قد يبدو هذا العمل، للوهلة الأُولى، غير ذي صلة بالموضوعات التي تحدثنا عنها. لكن مسألة الأُممية هي مُشكلة البشرية المُستقبلية، ولكي نتعامل معها على أساس من العلم الصارم، يجب علينا أن ننظر الى ماضي الانسان قدر الامكان. ان استعراضنا لماضي البشرية، يؤكد الصحة العلمية لمنظورات السياسة الأُممية، وعُمق النظرية الماركسية-اللينينة الخالدة والابداعية.

* فلاديمير سيرجيفيتش سيمينوف 1951-(...) باحث في القسم الاركيولوجي لأكاديمية العلوم السوفييتية، ومُرشّح في العلوم التاريخية. تخرّجَ من قسم الاركيولوجيا التابع لجامعة لينينغراد عام 1977. كان مُهتماً بتاريخ ثقافة العالم وأركيولوجيا آسيا الوسطى والتكوين العرقي للكسيثيين والفن البدائي وعمليات الهجرة في أراضي آسيا الوسطى.

1- مُراسلات ماركس وانجلز، ترجمة فؤاد أيّوب، دار دمشق 1981، ص440
2- Cf. V. I. Lenin, Poln. Sobr. Soch., Vol. 25, p. 41
3- K. Marx and F. Engels, Soch., Vol. 20, p. 366
4- في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، قدّرَ العالم الانجليزي ويليام طومسون William Thomson أن "ما يزيد قليلاً عن 100 مليون سنة" ربما مرت حتى بردت الأرض بما يكفي لتطور الحيوانات والنباتات عليها". من الواضح أن الأرض لم تُوجد منذ 6000 عام كما تقول الكنيسة، بل منذ ملايين السنين كما أصرَّ علماء الطبيعة في القرن التاسع عشر في مُحاولتهم الخجولة لجعل ادعاء الكنيسة أكثر دقة.
5- See P. I. Boriskovskii, Drevneishee proshloe chelovechestva, Second Edition, Moscow, 1980, p. 26
6- K. Marx and F. Engels, Soch., Vol. 19, p. 402
7- See V. I. Lenin, Poln. Sobr. Soch., Vol. 18, pp. 333-378
8- V. I. Lenin, Poln. Sobr Soch., Vol. 45, p. 29
9- على سبيل المثال، واجهنا اعتراضاتٍ مفادها أن آراء عُلماء بارزين مثل بوريسكوفيسكي P. I. Boriskovskii وبوناك V. V. Bunak وسيمينوف S. A. Semenov واوكلادنيكوف A. I. Okladnikov ولازوكوف G. I. Lazukov، الخ، والتي اشرنا اليها في مقالاتنا، ليست غير قابلة للنقاش تماماً. ومع ذلك، يُمكننا، في دراستنا، الاعتماد بشكلٍ كاملٍ على هذه الأعمال. بالاضافة الى ذلك، طَرَحَ الأركيولوجيين والانثروبولوجيين الأمريكيين ذوو المصداقية العالية وجات نظر مشابهة لها، كما أُشِيرَ لذلك في سلسلة مُهمة من الكُتُب التي نُشِرَت بالروسية عام 1978 من قِبَل دار التقدم، بمُقدمة كتبها العالم السوفييتي ريتشكوف Iu. G. Rychkov.
10- V. I. Lenin, Poln. Sobr Soch., Vol. 38, p. 184
أ- ينقسم تاريخ العالم تبعاً للتحقيب الجيولوجي التاريخي الى عدّة عصور، منها عصر السِنوزويك Cenozoic Era (من 66 مليون سنة حتى وقتنا الحاضر). وينقسم عصر السينوزويك نفسه الى ثلاثة فترات: الباليوجين Paleogene (66 مليون سنة-22 مليون سنة) والنيوجين Neogene (من 23 مليون سنة-2.6 مليون سنة) والكواتيرناري Quaternary (من 2.6-وقتنا الحاضر). تنقسم الفترة النيوجينية الى الفترة الميوسينية Miocene (23 مليون سنة-5.3 مليون سنة) والفترة البليوسينية (5.3-2.6) سنة. تمتاز الفترة النيوجينية بأن اللُقى البحرية والبرية الموجودة في طبقات ذلك الزمن كانت أكثر ارتباطاً ببعضها البعض من تلك الموجودة في الفترة الباليوجينية السابقة لها. وهذا مُصطلح تاريخ جيولوجي يرتبط بتاريخ أوروبا. هناك تقسيم جيولوجي آخر لأمريكا الشمالية يختلف عن هذا. وما يقوله المؤلف هنا حول بداية نشوء البشر في الفترة النيوجينية، في مقالٍ كُتِبَ عام 1985، تؤكده الأبحاث الأحدث كذلك.
12- See P. I. Boriskovskii, Drevnieshee proshloe chelovechestva, pp. 19- 20
13- دياليكتيك الطبيعة، فريدريك انجلز، ترجمة توفيق سلّوم، دار الفارابي 1988، ص166
14- See P. I. Boriskovskii, Drevnieshee proshloe chelovechestva, p. 19
15- أصل العائلة والمُلكية الخاصة والدولة، فريدريك انجلز، دار التقدم، ص41
16- See M. Idi, Negostaiushchee Zveno, Moscow, 1977
كان من بين مُساعدي مؤلف الكتاب Negostaiushchee Zveno (الحلقة المفقودة) علماء الانثروبولوجيا الأمريكيين الرائدين واشبورن S. L. Washburn وكيمبول B. Kimball. شارَكَ عشرات العلماء من جميع أنحاء العالم في المُناقشة التمهيدية لأجزاء واسعة من هذا الكتاب.
17- كانت السمة المُميزة لهذه الكائنات هي حجم دماغها الكبير (من 633-أكثر من 800 سم مُكعب) والذي لم يكن أقل من بعض البيثيكانثروبوس pithecanthropi، وهُم مُمثلي أنواع البشر الذين عاشوا بعد مليوني عام وخلقوا اطار ثقافة الأدوات الحجرية وأدوات القطع. كما تُعرَف مُكتشفات المُمثلين الأوائل للجنس البشري من الرواسب الأقدم في أثيوبيا وكينيا وتنزانيا، حيث يبلُغ عُمرها المُطلَق 3.75 مليون سنة.
See the multiauthored monograph Priroda i drevnii chelovek, Moscow, 1981, p. 27
18- لم تتم دراسة العديد من المُكتشفات الأركيولوجية في مناطق أُخرى من الأرض (الهند والصين وغيرها) بعد، بسبب نقص التمويل، وربما بسبب فُقدان الحماس والتضحية التي قدّمها الزوجين ليكي Mary and Louis Leakey ومُساعديهما.
المُترجم: تم اكتشاف انسان الهومينيد القديم في الصين (انسان اليوانمو Yuanmou Man) منذ أواسط الستينيات، والذي يعود الى الفترة قبل حوالي 1.7 مليون سنة. وكانت الدراسات التي تُجرى على هذه المٌكتشفات في السبعينيات والثمانينيات قليلة. ولكن بدأت دراسة البشر القُدامى في الصين والهند وجنوب شرق آسيا تتكثف في التسعينيات وما بعد ذلك. على سبيل المثال، اكتَشَفَ أحد الأركيولوجيين الاندونيسيين عام 2011 أن سانغيران هومو اريكتوس Sangiran H. erectus الذي استعمَرَ منطقة جافا الاندونيسية قبل 1.7 مليون سنة قد انحَدَرَ من أحداث وبشر يختلفون عن انسان بكين الذي استوطنَ الصين قبل 750 ألف سنة.
ب- يقول المؤلف أن هومو هابيليس "رُبما" صَنَعَ أدواتٍ من الخشب، لأن الخشب يتحلل بعد هذه الفترة الطويلة، فالعلماء-بقدر ما بحثت حول الأمر- لم يعثروا في تنقيباتهم الأركيولوجية على أدواتٍ خشبية من بين الأدوات التي صنعها هومو هابيليس. ولكن يظن أغلب عُلماء الانثروبولوجيا والأركيولوجيا انهم صنعوا أدواتٍ خشبية، نظراً لأن هومو هابيليس كان يصنع أدواتٍ حجرية، كانت صناعتها أصعب وأعقد من تلك الخشبية، فكان من السهل عليهم صناعة أداوت خشبية.
جـ- نعتقد أن سيمينوف، مؤلف المقالة، كان على حق هُنا ان قارنّا رأيه وآراء العلماء السوفييت الآخرين في الثمانينات ببيانات العلم الحالي. في الثمانينات اعتَبَر الأركيولوجيين والانثروبولوجيين في مُعظم أنحاء العالم أن الهومو هابيليس سلفاً مُباشراً للانسان الحديث. بعد هذا، أدّت مُكتشفات أركيولوجية في النصف الثاني من الثمانينات الى أن غيّرَ مُعظمهم (خارج دول المنظومة الاشتراكية) رأيهم هذا، فقد قالوا أن هومو هابيليس له أطراف تُشبه القرد، وبذلك نقلوه الى فرعٍ جانبيٍّ من شجرة أسلافنا (لم يَعُد في نظرهم سلفاً مُباشراً). بالنسبة للعلماء السوفييت، كانوا لا يزالون يُجادلون أن شكل الأطراف لا يُحدد ان كان سلفاً مُباشراً أم لا، بل جوهر العمل وشكل أدواتهم ومُستوطناتهم البدائية، وحجم الدماغ، هو الذي يُحدد ذلك. لقد كان العُلماء السوفييت، ينطلقون من مبدأ الوحدة البيولوجية والاجتماعية لأسلاف البشر.
استمَرَّ الجَدل حول هومو هابيليس بعد اكتشاف بعض الجماجم في جمهورية جورجيا. اثنتان من الجماجم متشابهتان جداً مع هومو ارغاستر Homo ergaster، ولكن يبدو أن أحداهما تتسم بسماتٍ تقع بين هابيليس وارغاستر، وقد تُمثّل رابطاً بين هذين النوعين. أدّى هذا الاكتشاف الى ان اعتَبَر كثيرٌ من العلماء الهابيليس سلفاً مُباشراً للانسان الحديث مرةً أُخرى. تكمن الصعوبة في أن هابيليس نشأ في زمنٍ كانت هُناك فجوة نسبية في السجل الاركيولوجي (قبل 2-3 ملايين سنة) وهذا يجعل من الصعب تحديد مصدر نشوءه وارتباطه بالاوسترالوبيثيكوس الأقدم منه. هناك عدد من الأدلة الأُخرى التي اكتُشِفَت حديثاً، والتي تدل على كون الهابيليس سلفاً مُباشراً للانسان الحديث.
19- دياليكتيك الطبيعة، فريدريك انجلز، ترجمة توفيق سلّوم، دار الفارابي 1988، ص165
20- ينبغي أن نُشير الى أن هُناك، بالاضافة الى ذلك، مسألة معنى النشوء فلسفياً؟ ما هو النشوء؟ هل هو غياب أم حضور الوجود؟ لقد تناولَ هيغل هذه المسألة في كتابه (علم المنطق): الكائن المُعيّن يكون لا شيء في البداية، ثم يصير شيئاً، ثم يتحوّل الى شيء ذو خصائص أُخرى مُختلفة نوعياً عن بداية وجوده.
21- See Priroda i drevnii chelovek, pp. 25-31
د- كانت التغيرات الأكثر تميزاً التي شهدتها فترة الكواتيرناري هي زحف الجليد الى خطوط العرض المُعتدلة في نصف الكرة الأرضية الشمالي. سيطَرَ الجليد الذي بلَغَ سُمكه عدة كيلومترات على المناطق القُطبية، وأدّى تغيّر تيارات الهواء الى نشوء الهواء البارد مما أدى الى جفاف الأراضي القريبة من الأنهار الجليدية، وتشكّلَت على مسافةٍ أبعد، سهوب واسعة وجافة وباردة. وشهِدَت هذه الفترة تشكّل بعض الجسور البرية بين الجُزُر والقارات، وأهمها التصاق آسيا بأمريكا الشمالية فيما يُعرَف الآن بمضيق بيرينغ Bering Strait. كانت بريطانيا مُتصلة بقارة أوروبا، وكان هذا يُساعد على هجرة النباتات والحيوانات. يُشير العُلماء الى أن درجة الحرارة في تلك الفترة كان أبرد في المناطق الشمالية والجنوبية القُصوى من الكرة الأرضية: في منطقة فوستوك الروسية كانت درجة الحرارة آنذاك أبرد بعشرين درجة مئوية من الآن. أما المناطق الاستوائية فكانت أبرد بدرجتين مئويتين تقريباً. اتسمَت فترة الكواتيرناري بتغير هائل مما زاد من تنوّع الكائنات الحيّة وشكّلَ ضغوطاً تطورية عليها. تدمرت موائل الكثير من الحيوانات بسبب الزحف الجليدي وجفاف السهول الشاسعة وزيادة حجم البُحيرات وانخفاض مساحة الحواف القارية الدافئة والضحلة والتغير في التيارات المُحيطية. كانت 90% من الحيوانات في تلك الفترة مُشابهة للأشكال الحديثة، ولكن هناك عدد منها يُظهر اختلافاً مُذهلاً. على سبيل المثال النمور ذات الأنياب السيفية والماموث الصوفي والماموث ودُببة الكهوف ووحيد القرن الصوفي، وهذه جميعها انقرضت. كان ثور البيسون والخيول والظباء والحيوانات المُفترسة مثل الضبع موجودة في السهول كذلك. كان الكسلان العملاق والقندس العملاق والذئب الضخم والضبع الضخم pachycrocuta والدب قصير الوجه ودب الكهف، كل هذه كانت حيوانات عملاقة.
22- See also pp. 13-19
23- See also p. 62
24- تتوفر مادة غنية حول هذا الموضوع، والتي سنعتمد عليها أدناه في كتاب الأنثروبولوجي السوفييتي البارز بوناك V. V. Bunak المُعنون:
Rod Homo, ego voznikhnovenie i posleduiushchaia evoliutsiia, Moscow, 1980
25- دياليكتيك الطبيعة، فريدريك انجلز، ترجمة توفيق سلّوم، دار الفارابي 1988، ص165
هـ- تكنيك ليفالويس هو تكنيك إستُخدِمَ ما قبل التاريخ في صناعة الأدوات في أوروبا وافريقيا، والتي تتميز بإنتاج رقائق كبيرة تُشبه قالب درع السُلحفاة المُقلوبة. كانت هذه الرقائق، مُسطّحة من جانبٍ واحد، ولها حواف قطع حادّة، ويُعتقد انها استُخدِمت كسكاكين سلخ وكشط.
26- See E. White and D. M. Brown, Pervye liudi, Moscow, 1978, pp. 95
27- دياليكتيك الطبيعة، فريدريك انجلز، ترجمة توفيق سلّوم، دار الفارابي 1988، ص167
28- ضد دوهرينغ، فريدريك انجلز، دار التقدم 1984، ص134
و- كان استخدام البشر(هومو اريكتوس) للنار تدريجياً. لا يوجد شيء يُسمّى "ابتكاراً للنار"، فهذا الفهم بعيد تماماً عن العلمية التاريخية. كان استخدام النار في البداية يتم بطريقة الحفظ. تقوم المجموعات بجلب الجذوع المُحترقة من الغابات والسهوب المُشتعلة، الى مكان بعيد، ثم وضعها بين كومة حجارة، والحفاظ عليها لأيام وربما لأشهر. بالنسبة لتوليد النار بالاحتكاك، فقد تم هذا لاحقاً.
تُشير بيانات الأنثروبولوجيا والأركيولوجيا الحديثة الى أن الناس استخدموا النار قبل ما يذكر المقال، أي قبل حوالي مليون-مليون و200 ألف سنة. على سبيل المثال، في مقالةٍ لمجموعةٍ من الأركيولوجيين، يذكر فيها أنه وُجِدَت مواقع في جنوب افريقيا، ظَهَرَ بعد التحليل الأركيولوجي أنها كانت مواقع بشرية للنيران تعود الى ما قبل مليون سنة.
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3356665/
29- See P. I. Borisovskii, Drevneisheeproshloe chelovechestva, pp. 8 1-88
ز- يتمسك بعض العُلماء المُعاصرين بهذه الفرضية أيضاً.
حـ- يقول عُلماء الانثروبولوجيا ان هومو هابيليس تواجد في فترة وجود هومو اريكتوس لمدة تصل الى نصف مليون سنة تقريباً. تواجد هومو رادولفينسيس Homo rudolfensis وبارنثروبوس بويسي Paranthropus boisei كذلك في نفس فترة وجود هابيليس.
30- See V. V. Bunak, Rod Homo, ego vozniknovenie i posleduiushchaia evoliutsia, pp. 287-302
31- Priroda i drevnii chelovek, p. 61
32- Ibid., p. 62
33- P. I. Borisovskii, Drevneishee proshloe chelovechestva, p. 92
34- Bunak, Rod Homo, ego vozniknoveniie i posleduiushchaia evoliutsia, pp. 149-171.
طوّرَ يوري ايفانوفيتش سيمينوف فرضية "الحريم"، في كتابه الشهير المُعنون:
Kak vozniklo chelovechestvo, Moscow, 1966
35- See Iu. G. Rychkov, Preface to the book by E. White and D. M. Brown, Pervye liudi, from the series "Vozniknovenie cheloveka," Moscow, 1978, p. 5
36- V1. S. Semenov, Internationalizm i obshchestvennyi progres, Moscow, 1978, p. 31
37- لم يدرُس العلم حتى الآن عملية التوحّد والاندماج العالمي. تدرُس الاثنوغرافيا بشكلٍ رئيسي عمليات التمايز المُتزايد بين المجموعات الاثنية. ومع ذلك، يؤدي تراكم جميع البيانات الجديدة حول تكامل واندماج المُجتمعات بالتدريج، الى اصطدام العلوم التاريخية بضرورة حل المسائل المُتعلقة ليس فقط بعمليات التمايز والتفرّد وحسب، بل بعمليات التوحّد والاندماج.
38- J. Constable, Neanderthals,, Moscow, 1978, p. 79
على الرغم من أن انسان النياندرتال تطوّر في ظروفٍ طبيعية مُعقدة جداً، الا أن مُعاصريه، الذين عاشوا في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية، واجهوا صعوبةً لا تقل عنه، ولكن كانت صعوبةً مُختلفةً عن ذلك. كان من هذه الصعوبات، مثلاً، هطول الأمطار الغزير جداً، وتشكّل الجبال، والنشاط البُركاني، والتغيرات في النباتات والحيوانات، الخ. لُوحِظَت التغيرات التدريجية أيضاً في المناطق الدافئة، على الرغم من أن اختلاف الظروف كان محسوساً بشدّة في عملية التطور.
39- Iu. G. Rychkov, in the Foreword to ibid., p. 5
حـ للأسف لم أستطع أن أعرف ما هي هذه المنهجية:
terrace-based method of investigating tools
40- V1. S. Semenov, Internationalizm i obshchentvennyiprogres, Moscow, 1978, p. 23. The author corrects the dating of the appearance of Homo sapiens
ط- تُشير البيانات الحديثة، الى حدوث تغيّر مناخي تدهوري خلال أوائل العصر الحجري القديم الأعلى، والذي ارتبَطَ بانخفاض أعداد أنواع من الثديات. تُشير الدراسات الى انخفاض الكثافة السكانية البشرية في تلك الفترة، وبالتالي، اقترَحَ بعض العلماء ان احتمالات التوسّع البشري والانتقالات الى مناطق جديدة كان يبدو مُنخفضاً.
ي- حسب البيانات الحديثة، شقَّ البشر طريقهم الى استراليا من اندونيسيا الى غينيا الجديدة ثم الى استراليا قبل 50-45 ألف سنة.
41- See Ia. Ia. Roginskii, Teoriia monotsentrizma i politsentrizrna v probleme proiskhodzhdeniia sovremmennogo cheloveka i ego ras, Moscow, 1949

ترجمة لمقالة:
V. S. Semenov (1985) The Ancient History of Mankind, Soviet Anthropology and Archeology, 23:4, 68-93








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -