الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فيض اللغة في عجز التعبير

علي محمد اليوسف
كاتب وباحث في الفلسفة الغربية المعاصرة لي اكثر من 22 مؤلفا فلسفيا

(Ali M.alyousif)

2023 / 11 / 14
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


(لغة التجربة الصوفية ولغة العلاقة الحميمة فيض لا تستوعبه اللغة)
جورج بتاي
شذرة اولى
على موقع الحوار المتمدن نشرت مقالة فلسفية قبل ثلاث سنوات مضت. ونشرتها مؤسسة كوكل على موقعها. بعنوان ( شذرات فلسفية مداخلة وتعقيب) العدد 6446 تاريخ 26 /12/2019 ناقشت فيها مقولة للفيلسوف الفرنسي جورج بتاي إعجابا بصياغتها الفلسفية وعمقها اللغوي الفكري قوله : لغة التجربة الصوفية ولغة اشباع الغريزة الجنسية هما فيضان لا تستوعبهما اللغة.
بالحقيقة ما اكتبه هنا بهذه الشذرة لا يرقى توضيحا مسهبا لمستوى ما كتبته منشورا على موقعي الحوار المتمدن وموقع صحيفة المثقف منذ 2019 حيث كانت مداخلتي في ذلك المقال مستفيضة. ولا ارغب مغادرة هذه الشذرة هنا دونما تلميح بسيط عما سبق لي ذكره بمقالتي المشار لها:
ا. التجربة الصوفية فيض من التداعيات الروحانية اللاشعورية التي لا تستوعبها اللغة العادية المتداولة هي حقيقة يقر بها الصوفيون أنفسهم لسببين الاول أن التجربة الصوفية الحقيقية ليست لغوية – أغلب الذين اجبروا على وصف تجاربهم الصوفية كلاما او كتابة أملوها على مستمعيهم لغة مشفرّة وشطحات ملغزّة غير عادية مبهمة تتقبل تاويلات عديدة -.. بمعنى اي وصف للتجربة الصوفية لغويا هو بمثابة اغتيال متعمد مقصود لذات التجربة حفاظا لاصالتها وفرادتها كتجربة ما فوق لغة انسانية يطلقها اللاشعور ولا يفهمها ويستوعبها كل الناس.
السبب الثاني ان التجربة الصوفية تقتل لغة التعبير عنها عمدا لغاية تجدها تعطي التجربة الصوفية فيضا من التداعي الوجداني اللاشعوري والمعاني الروحية الفوق تصورات محدودية الادراك المادي العقلي. الذي يخرج اللغة جانبا اثناء المرور بالتجربة في مناجاة الله. فما يعتمل دواخل النفس من العاطفة الجيّاشة للصوفي لا يجب أن يعرفها الناس لغة تداولية وإلا فقدت معناها المتفرد.
ب. لغة الجسد الحركية الانجذابية للنور الالهي في التجربة الصوفية الروحانية مختلفة جدا عن لغة حركات الجسد اثناء ممارسة التجربة الحميمية الجنسية وكلتاهما كما وصفهما دلتاي فيض من المشاعر الحضورية لا تستوعبه اللغة. فاللغة بالتجربة الروحانية الصوفية تصرف عنها لغة الجسد الحركية حتى في ابسط اشكالها التي تشد ارجل الصوفي الى الارض.فما بالك حين تجد في الممارسة الجنسية الحميمية قد أصبح الجسد في حركاته الشبقية الجنسية هو اللغة الصمت.
ج. تبقى مسالة جانبية عرضية هي في تلاقي انعدام اللغة بين التجربة الصوفية كما في انعدامها في التجربة الغريزية الايروسية. فالاولى الصوفية هي روحانية انفرادية يمارسها فرد واحد خارج بيولوجيا حركات الجسد وداخل إماتة غريزة الجنس في الشعور وفي اللاشعور على حد سواء تماما. يتبع ذلك تعطيل اللغة بما هي افصاح عن ممارسة نورانية متحررة تماما.
بينما الثانية غريزة الممارسة الحميمة الجنسية فهي ممارسة الجسد الذي يجمع اثنين رجلا وإمرأة يدخلان في معترك غريزة العملية الجنسية في افصاحات حركات الجسد التي تسيطر عليها خلايا خاصة موجودة بالمخ التي تنتفي معها أية نبضة روحانية تبطل علاقة الجسد باللغة حسيّا داخل فيض من الانتشاء المتداخل عاطفيا وغريزيا يتقاسمان الرجل والمراة فيه الصمت اللغوي في طغيان عاطفة حميمية تجسدها حركات جسدين متعانقين في غير المالوف من الفيض والانتشاء النفسي...
د. بحسب فهمي عبارة بتاي ان الايروس الجنسي عند الانسان لا يحتاج لغة تفصح عنه فهو فيض من اللاشعور المقموع بالمنع الفرويدي والذي يتمتع بطاقة كبيرة جدا بالسيطرة على الغريزة الجنسية ومنعها من الانفلات البهيمي. والسبب حسب تحليلي ان لغة الكلام تتعطل فيزيائيا – بيولوجيا لحظات القيام بالعلاقة الحميمية بين الرجل والمرأة كما تقول فيروز بصوتها الفيروزي الرخيم (وتعطلت لغة الكلام) وهي تعبّر عن تجربة عشق نفسي لا جسدي شبقي جنسيا. لتبقى لغة الجسد الشهوانية الغريزية اللاشعورية عاملة في ممارسة العلاقة الحميمية خارج لا تعبير صامت هو عجز استيعاب فيض اللغة.
وبتعبيري المختصر غير المخل أجد أن العلاقة الجنسية الحميمية تبطل اللغة العادية تماما باستثناء لغة واحدة تكون شغّالة بوظيفة في اعلى مراتب الخلايا الخاصة من المخ هي خلايا غريزة الجسد الجنسية المستنفرة بهياج جسدي اثناء ممارسة العلاقة الحميمة. لتبقى حركات الجسد اثناء العلاقة الحميمة يتساوى فيها الانسان مع الحيوان من حيث تركيز الحركات الجسمانية على نوع من رغبة الاشباع الجنسي الغريزي. وليس من حيث العواطف الهستيرية المختلفة التي تنتاب الانسان والحيوان اثناء الجماع.. يلاحظ اغلب الحيوانات تجامع اناثها بطنا لظهر باستثناء القليل منها فهي كالانسان تجامع بطنا لبطن كما عند الحيتان والاسماك والافاعي وغيرها..
شذرة ثانية
جوهر الطبيعة في وجودها الانطولوجي المستقل الثابت هي معطى ازلي خالد. وجوهرها هو في قوانينها العامة التي يحكمها الثبات. وهذه القوانين العامة بثباتها هي التي جعلت الانسان والعلم يقفان لا يدريان جوابا متسائلا من وضع هذه القوانين التي تحكم الطبيعة بهذا الاتقان؟ ومن وضع لها كيفية عملها؟ ومن أسبغ عليها طابع الثبات في تحدي الانسان امكانية تغييرها او تبديلها او ازالة تاثيرها على الانسان وغير ذلك من اسئلة كثيرة تقود الركون لوجود خالق مقتدر.
يعتبر بعض الفلاسفة كل ما لا يدركه العقل الانساني خارج علاقة هذه القوانين بالطبيعة والكوني لا اهمية له. وينسب أن للطبيعة جوهرا مدّخرا غير هذه القوانين الثابتة فهي تقع في خانة الخيال الميتافيزيقي الذي يقود لوهم لا وجود له. ولا تربطه علاقة لا بالطبيعة ولا بقوانينها الثابتة. جوهر الطبيعة الازلي هو قوانينها العامة التي يدركها الانسان اكتشافا او اختراعا.
قوانين الطبيعة تخضع في علاقتها مع الانسان في جنبة التخارج المعرفي والبراجماتي فقط ولا يجمعهما صراع تضاد جدلي. والانسان يدرك هذه العلاقة ويدرك ايضا ان كل تجاوز لهذه الخاصية التخارجية التكّيفية مع الطبيعة عبث لا طائل منه في حال محاولة كسر نظام هذه القوانين الطبيعية العامة. الطبيعة كمعطى ازلي مخلوق لا تعي علاقة التخارج البراجماتي الانتفاعي مع الانسان وبقية الكائنات كما يعقلها ويعمل بها الانسان من طرف واحد. الجدل الذي نفترضه قائما خطأ ما بين الطبيعة والانسان لا وجود له لاسباب منها ان الانسان يعي النقص الذي يحدثه الجدل في قضم اجزاء من الطبيعة كجوهر متكامل يرتد عليه بوسائل اخرى تلحق الضرر الكبير بنتاج فعلته ... كما الانسان يفتقد النديّة المتكافئة مع الطبيعة لعل اهمها المجانسة النوعية معها او بعضها التي تجمع المتضادات الجدلية دون غيرها.
جوهر الجدل هو تناقض اضداد تجمعهما المجانسة النوعية بوجوب حتمية اندثار احد اقطاب ذلك الصراع وبقاء الاخر في تشكيله ظاهرة جديدة تحمل جدلها. هذا الجدل الاصطراعي غير المتكافي المفترض حصوله بين الانسان والطبيعة بدلا من التكيّف المتخارج الانتفاعي البراجماتي معها يعني انقراض الانسان قبل اندثار الطبيعة.
شذرة ثالثة
خطا المذهب المثالي بالتفكير ليس ساذجا في تنحيته الوجود امام قابلية الادراك الحسي والعقلي فقط. يترتب على ذلك خطا اكبر جسامة هو في الغاء الوجود فما لا تدركه الحواس والعقل غير موجود. واقصر طرق اثبات المثاليين لهذا الادعاء هو انك لو اغمضت عينيك لم يعد هناك وجود لشيء تدركه موجود في عالم.
اغلب فلاسفة المذهب المثالي هم تجريبيون يؤمنون بالعلم وهي مفارقة. تجد المثالية لا تستبعد مادية الوجود في العالم الخارجي من اجل اثبات القابلية الادراكية في الاشياء وهذه هي الصفة التي تحدد الوجود المادي للاشياء حسب زعمهم. بمعنى امتلاك الشيء لقابلية ادراكه يجعل منه موجودا انطولوجيا مستقلا وهو خطأ ناقشته في مقالتي (جورج مور والنزعة المثالية) نشرت على موقعي الحوار المتمدن وصحيفة المثقف. غالبية الفلاسفة المثاليين يعتبرون ادراك وجود الاشياء لأنها تحمل خاصية قابلية الادراك في تكوينها الموجودي الذاتي كمعطى. والحقيقة التي دعيت لها في مقالتي السابقة ان قابلية الادراك هي خاصية الحواس والعقل وليست خاصية الاشياء في وجودها المستقل. فالاشياء لا تثبت وجودها المادي المستقل لانها تمتلك خاصية قابلية ادراكها بل لان الحواس والعقل يمتلكان قابلية ادراكهما الاشياء وموجودات العالم الخارجي واثبات وجود تلك المدركات الانطولوجي.
جورج مور فيلسوف التحليلية الانجليزية لم يكن مثاليا حين نسب للموجودات قابلية الادراك الذاتي كي توجد كموضوع تدركه الحواس والعقل. وسبقت لي الاشارة ان قابلية الادراك هي خاصية حسية عقلية ونوع من سيرورة فيزيائية تقوم على تنظيم الادراك الحسي والعقلي وهي ليست موضوعا مستقلا لادراك كما يرغب جورج مور كما هي ليست خاصية الموجودات والاشياء المدركة. والتي لا تمتلك من الموجودات خاصية قابلية الادراك ليس لها وجود انطولوجي كما روّج جورج مور له.
المقولة الساذجة بخطئها التي تقول الموجود غير موجود خارج ادراك العقل له تعتمدها المثالية بعناد لا يحسدون عليه. الخطأ أن وجود الاشياء وموجودات العالم من حولنا لا يثبت وجودها المستقل عنا ادراك او عدم ادراك العقل لها. كذلك الموجودات لا توجد برغبة الانسان بها وتنعدم وجودا في حال عدم رغبته بها.
شذرة رابعة
الفكرة او الروح المطلق عند هيجل هي نزعة مثالية بثوب مادي حين يقول ( العقل الكلي يحكم الكون والعالم والطبيعة ولا يوجد اسمى منه ) عبارة صوفية تشير الى الخالق بمواربة تلفيقية مقصودة. قصور تفكير هيجل انه لم يستطع توضيح علاقة الروح المطلقة بالله. الوحدة الكلية في طبيعة الخالق اوضحها اسبينوزا بمختصر عبارته في مذهبه وحدة الوجود (كل شيء بالله والله بكل شيء).
الحقيقة اول ما يتبادر للذهن في الطعن بالعبارة ان اسبينوزا قام بتشييء الله في الطبيعة التي خلقها. ورد اسبينوزا هذه التهمة عنه قوله اني لم احاول انزل الخالق الى الارض بل حاولت رفع الطبيعة إليه.
السؤال بماذا يختلف العقل الكلي الهيجلي الذي هو الفكرة والروح المطلقة عن عبارة اسبينوزا الذي يرى الله بكل شيء ويرى كل شيء بالطبيعة والعالم به؟
الحقيقة ان مذهب وحدة الوجود عند كل من هيجل واسبينوزا ليس (صوفيا) اي ليس لاهوتيا ميتافيزيقيا محلقا خارج الواقع والحياة. دليل ذلك يقر هيجل الروح المطلق التي تحكم الطبيعة وكل شيء هي (عقل كلي) متعال ما دونه ما فوق كل شيء يدركه الانسان ام لم يدركه.
هيجل اطلق على الروح المطلق (العقل الكلي الجامع) كي يبتعد عن الفهم الميتافيزيقي واللاهوتي الذي يتلبسه. بينما اطلق اسبينوزا على الروح العقلانية المطلقة(الجوهر الازلي التام) الموجود بكل شيء ولا يوجد هو كجوهر مجتزء يمكن ان يدركه العقل باي شيء.
هنا اسبينوزا من منطلق فلسفته الجوهر سابق على الوجود نسف كلا من ادبيات الماركسية والوجودية اللتان تريان الوجود يسبق الماهية او الجوهر.. وحين قال الجوهر الازلي التام لا يقبل التجزئة والانقسام فانه اراد بذلك اجتناب امكانية ادراك ومعرفة الجوهر الجزء الموجود بالاشياء كي لا يقع في احتمال ان تقوده تلك المعرفة ادراك الجوهر الازلي التام الخالق لكل جوهر لا يشبهه.
اسبينوزا يعتبر الجوهر الالهي ازلي تام يجعل كل شيء بالطبيعة والعالم يحمل دلالته من غير قابلية امتلاك الانسان ادراكه لا بالصفات ولا بالماهية. صفات المدركات الخارجية التي توحي باعجاز روحاني هي دلالات عن الخلق. يمكننا ادراكها كصفات ولا يمكننا ادراكها كجوهرمرتبط بعلاقة الهية.
شذرة خامسة
عبارة جيل ديلوز (الروح او الفكرة هي الحدس الابتدائي) تشير لنوع من مثالية صوفية ممتزجة بوحدة ادراكية كلية واحدة. وهي حدس روحي معلق تراسندتاليا لا تستطيع رفع اقدامها عن ارض الواقع فتفقد بذلك تساميها الروحاني ولا تمتلك الوسائل التي تجعل منها طريقة صوفية متفردة.
هيجل حين قال بالفكرة العقلية الجامعة كروح مطلق كلي يتحكم بالعالم. مرددا بمثالية كل ماهو خارج ادراك العقل يكون خارج ادراك الفكرة الكلية الجامعة فلا يبقي لنا ما يستحق البحث عنه وادراكه.
وتاثر جورج مور بمفهوم الروح المجرد عن المادة في اعتباره الروح هي خبرة تختزنها الذات التي تعطي الروح صبغتها اللونية الميتافيزيقية. حين تجعل خبرة الذات الروحية هي صفة تطبع الكون بالروحانية. لا اعتقد جورج مور ينحدر نحو هذا الاسفاف وهو من اشد المتحمسين ان تكون الفلسفة للجميع. ودعا الى لغة فلسفية منبعها الحياة كما نعيشها. وشدد على اهمية الوضوح اللغوي متعاطفا مع طروحات فينجشتين المتاخرة التي حاول بها تصحيح اخطاؤه عن فلسفة اللغة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -