الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التعليم النافع والتعليم غير النافع

زكرياء مزواري

2023 / 11 / 15
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


كثيرة هي المفاهيم التي ورثناها عن الحقبة الكولونيالية الفرنسية بالمغرب، والتي ظلّ مفعولها سارياً في برامج ومخططات حكومات ما بعد الاستقلال. كانت هذه المفاهيم بمثابة مرآة فوقية عاكسة لحجم الاستغلال المادي البشع على أرض الواقع، وأداة كاشفة وفاضحة لذهنية الرجل الأبيض الغازي وأساطيره المتدثرة بالتحضر والتقدم.
يُعدّ مفهوم "المغرب النافع والمغرب غير النافع" من جملة المفاهيم التي نحتتها العقلية الاستعمارية الفرنسية إبّان مرحلة "ليوطي"، والتي تعكس نظرتها البراغماتية في تمثل المغرب وكيفية التعامل مع خيراته المادية؛ إذ بناء على خصوبة الأراضي وجودتها، وأماكن وجود المعادن ومشتقاتها من المواد الخام، تم ربط المغرب بشبكة سكك حديدية متينة، وإنشاء موانئ ضخمة، تسهيلاً لعملية نقل البضائع داخل البلد، وتيسيراً لتصديرها خارجه. أمّا المناطق القاحلة والنائية، فتمّ إدراجها في خانة المجالات غير النافعة.
هذا التقسيم المجالي الاستعماري ورثه المغرب بعد فترة الحماية، فالكثير من السياسات التنموية (اقتصادية-اجتماعية-ثقافية-...إلخ) التي شرعت فيها "الحكومات" المتعاقبة من الاستقلال إلى الآن، لا زالت تكرس المنطق المركزي في التنمية غير المتكافئة على المستوى المجالي، بل أكثر من ذلك زادت من حدة تعميق التفاوتات الجهوية.
إن إعادة إنتاج السياسة الكولونيالية في مغرب ما بعد الاستقلال، وتقسيمه إلى فسطاطين غير متوازنين، فسطاط المغرب النافع وفسطاط المغرب غير النافع، هي قسمة ضيزى بين سكان البلد. ويمكن رصد ذلك في كثير من المجالات التي تمسّ الشأن العام، والتعليم واحد منها، لذا نرى من الغُبن أن نضيّق "ما صدق" المفهوم السابق، ونختزله في الجانب المادي المحض فقط، فهو يمتلك من مركبات الفضح والكشف عن المستور الشيء الكثير.
من أجل فهم معضلة التعليم في المغرب عموماً، وأزمة المدرسة العمومية خصوصاً، ينبغي الرجوع إلى فترة ما قبل الحماية، والنظر إلى الظاهرة في أمدها الطويل، حتّى تتسنّى عملية الفهم والإمساك بخيوط التأويل. فمغرب القرن التاسع عشر، هو مغرب فتح أوراش الإصلاح الحديثة، إذ بعد هزيمته في معركة إسلي من طرف فرنسا سنة 1844، وبعدها بسنوات في تطوان على يد الإسبان سنة 1860، وبينهما ضغوطات بريطانية الاقتصادية وتوقيع الاتفاقات معها سنة 1856، أطلق المخزن المغربي جملة من الإصلاحات نتيجة وعيه بالتأخر التاريخي، ومن ضمن ما فعل إرسال بعثات تعليمية إلى الدول المتقدمة قصد تكوين نخبة مؤهلة تساهم بعد رجوعها في عملية بناء مغرب حديث، لكن المحاولات باءت بالفشل لأسباب داخلية وخارجية.
على هذا النحو من الوهن، احتل المغرب من طرف فرنسا –وكذلك إسبانيا- كقوة إمبريالية عظمى آنذاك، وحافظ الغازي الفرنسي على البنيات التقليدية للبلد خدمة لمصالحه الاقتصادية والسياسية، وأنشأ في المقابل مرافق عصرية تشجيعاً للمعمرين على الاستقرار. ومن ضمن هذه المؤسسات العصرية مؤسسة المدرسة بمعناها الحديث، وهكذا تمّ تأسيس المدارس الأوروبية، والتي ظلت حكراً لفترة زمنية على الجالية المعمرة، ثمّ فتحت أبوابها للأعيان من المغاربة فيما بعد، حتّى يوفّر المستعمر مستقبلاً بعد خروجه من المغرب نخبة تابعة له، وخادمة لأجنداته، وضامنة للتعاون وتبادل المصالح بينهما. وفي الجهة المقابلة حافظت إدارة الحماية على النمط التعليمي التقليدي الإسلامي بمؤسساته العتيقة للساكنة المحلية، أو ما كانت تسميهم بالأهالي (les indigènes).
ورث المغرب بعد الاستقلال تعليماً مزدوجاً، تعليم عصري أوروبي من نصيب القلّة من أبناء الوجهاء والأغنياء من جهة، وتعليم تقليدي من نصيب البقية من أبناء المجتمع المغربي من جهة أخرى؛ بل وتكمن المفارقة أن النخبة التي قادت أو انتسبت للحركة الوطنية، والتي كانت تحتجّ على سياسة التعليم الفرنسية إبّان مرحلة الحماية كانت في نفس الوقت ترسل أبناءها إلى المدارس الأوروبية، وصارت فيما بعد تعيد إنتاج سياسة المستعمر الطبقية في التعليم، وذلك بأن تضمن لأبنائها تعليما عصريا يؤهلها لتولي المسؤوليات الكبرى داخل البلد.
هكذا، يمكن النظر إلى التعليم باعتباره امتداداً للوضع الطبقي داخل المجتمع المغربي، ومنه يمكن فهم الكثير من المشاكل التي تتخبط فيها المدرسة العمومية؛ فهناك من جهة ورثة الاستعمار من أبناء الوجهاء والأغنياء الذين يتحكمون في دواليب السلطة، ويسهرون على إرسال خلفائهم/ ورثتهم إلى مدارس البعثات الأجنبية، حيث يتلقون "تعليماً نافعاً" يؤهلهم للإمساك بزمام السلطة والتدبير، ومن جهة أخرى تبقى أغلبية أبناء المجتمع مُكدّسة في مدارس هي أشبه بالسجون، حيث يتلقون في أقسامها/زنزاناتها "تعليماً غير نافع"، غالباً ما يخرج وعيهم عن دائرة التاريخ، ولا يسمح لهم بالحراك الاجتماعي (Social mobility). وبذلك يكون هذا التعليم الطبقي أداة ناعمة لإخفاء الصراعات الاجتماعية، ووسيلة لإعادة إنتاج نفس النمط القائم من العلاقات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بين الاتهامات المتبادلة والدعم الكامل.. خبايا العلاقة المعقد


.. الشيف عمر.. أشهر وأطيب الا?كلات والحلويات تركية شغل عمك أبو




.. هل ستنهي إسرائيل حربها في غزة.. وماذا تريد حماس؟


.. احتجاجات طلابية في أستراليا دعما للفلسطينيين




.. أصداء المظاهرات الطلابية المساندة لغزة في الإعلام • فرانس 24