الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اليوتوبيا والدكتاتورية

سالم العوكلي

2006 / 11 / 18
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ثمة قصة سأسردها الآن تختلف بالتأكيد عن قصة لقمان الشهيرة ، حيث جمع الأب المثقف والمتحمس أبناءه ليرسم خارطة المستقبل لهم فيما يشبه الوصية المبكرة ، مؤكداً أنه يسعى لإنجاز فردوس صغير للعائلة لينعموا بالسعادة والرفاه ، واقترح بل أمر أحد أبنائه للدخول إلى مجال الطب ليصبح من ناحية طبيب العائلة ، ولينشئ عيادة تجلب له وللعائلة الرفاه وسعة العيش ، أمر أخته أن تدخل كلية الصيدلة لتعمل في الصيدلية التابعة للعيادة ، والشقيق الآخر أن يكون محامياً ، ليحمي مشاريع أخوته ويشرح لهم كيفية التلاعب بالقوانين وتحاشي الضرائب ، وعلى الخ الآخر أن يدخل كلية الزراعة ويقوم بأعمال المزرعة ليوفر الأمن الغذائي للعائلة ويسوق الباقي ، كما أمر الأخت الأخرى أن تدخل مجال إدارة الأعمال لتدير أعمال الأسرة ، كانت أحلامه عظيمة ومقنعة حتى الآن ، لكن النتيجة المؤسفة أن أحدهم لم ينجح في مجاله ، وعادوا إلى البيت ليتحول إلى جحيم ، فالأول الذي فشل في الطب كان يحب الأدب ، وشقيقته التي لم تحصل على مجموع يؤهلها للصيدلة كانت تحب اللغات ، والذي لم يوفق في كلية القانون كان يحب الموسيقى ، والذي ترك كلية الزراعة كان يحب الصيدلة ، والوحيدة التي تخرجت من إدارة الأعمال ، لم تجد أي أعمال تديرها وانتقلت إلى قطاع التعليم التي تحبه .
قد تبدو هذه القصة ساذجة ومكرورة ولكنها تختصر عدة مفاهيم أساسية تتعلق بالحياة وجوهرها ، فالأب الذي لا يشك أحد في حبه للأسرة وفي طموحه النبيل لم يكن يعي أن حلمه يختلف عن أحلام أولاده ، وأن ثمة تفاصيل نفسية وبيولوجية تحدد الخيارات والأحلام ، ومن جانب آخر ينقلنا هذا إلى مفهوم اليوتوبيا المعدة سلفاً والتي من شأنها أن تغمض العينين عن الواقع وعن الاختلاف ، وبالتالي ستكون إحدى حاضنات الدكتاتورية والتعصب للرأي ، ومهما كانت النوايا نبيلة فإن النتائج كارثية ،لقد بدأت اليوتوبيا مع الإنسان عبر الأديان ، التي كانت مجملها تتفق على تصور لفردوس عظيم ، وهي تمضي إلى ذلك متجاهلة الغرائز الإنسانية والأهواء ونبض الحياة اليومية ، وطبيعة المتغير الزمني والمكاني ، لذلك كم ارتبطت الأديان بالقمع والعنف وهي المسؤولة عنه حتى الآن ، أقصد الأديان عندما تسيس وتكون إحدى أدوات الوصول إلى السلطة ، وتكف عن كونها ضمير شخصي ، ومع تراجع قبضة المؤسسات الدينية ، ورثت اليوتوبيا الثورات والأيديولوجيات المشحونة حتى النخاع بفكرة الخلاص والميتافيزيقيا ، وهذا ما جعل التعامل ضمنها عبر مصطلحات ، كالعقيدة والخلاص والانعتاق إلى غيرها ، وكان ما يحدث على ارض الواقع وفي خلايا البشر بعيداً عن فهم هذه الأطروحات الشمولية التي أمعنت في التضليل والتجريد ، حتى أنها ألغت قيمة الإنسان على الأرض من أجل سعادة الإنسان ، وهذا المنحى هو الذي يختصر عبارة هامة وردت في كلمة سيف الإسلام القذافي الذي ألقاها في مؤتمر نشاطات مؤسسة القذافي للجمعيات الخيرية ، والتي مفادها أن جر الناس بسلاسل من ذهب إلى الجنة هو دكتاتورية ، واعتبر هذه أهم عبارة وردت في تلك الكلمة التي عبرت عن ما يريده الناس في الألفية الثالثة وما يريده المثقفون أينما وجدوا، وهنا لا سبيل سوى إتاحة الفرصة للبشر التي جاءت من أجلهم الأديان والثورات والأيديولوجيات كي يحددوا خياراتهم وطرق عيشهم وبالتالي مستقبلهم عبر كل التنوع الذي هو من طبيعة البشر أينما كانوا ، إن اليوتوبيا رفيقة العمى الأيديولوجي الذي لن يتحسس سوى الدرب إليها مهما كان شاقاً ومعتما ومليئاً بالعنف .
يحكى أيضاً من قبيل الطرافة أن شيخاً جمع أبناءه وهو يحتضر وأعطى الابن الأكبر حزمة من العصي وطلب منه أن يكسرها ، فوضعها الابن على ركبته وكسرها جميعا ، فقال الأب له : (خوذ بالك من خوتك ) ومات ، وسواء أكانت العصي هذه المرة هشة أو أن الابن أقوى من خطة أبيه فإن المهم هو أن العصر لم يعد عصر لقمان ، وإن للفرد أيضاً قوته الخاصة وهي التي ترفد قوة الجماعة ، وان العديد من المسلمات والنظريات لن تصمد أمام قوة تغيير الزمن وحتمية التطور، لقد كانت القصة الأولى قصة لقمان الألفية الثالثة الذي يؤمن بالتشابه ، وبيقين الفكرة قبل اختبارها ، وفوق ذلك يتجاوز إمكانية قوة الإنسان دون أن يذاب في أي سياق جماعي ، والأهم من ذلك خطر فكرة الوصايا والمواعظ التي تلغي مبدأ الخيارات والأحلام المختلفة ، وهو جانب سينقلنا إلى أداء مؤسسي مشابه تحكمه الوصاية والأقدار المعدة سلفاً من نظام التعليم إلى التوجيه الإجباري ، إلى الرقابة السياسية أو الاجتماعية إلى التعصب الأعمى للفكرة الواحدة والرأي الواحد الذي نجده لدى الأب والمدرس والمدير والأمين إلى أخر القائمة ، والمصير هو هذه الطاقات المهدرة في غير مكانها والمواهب الموجهة إلى غير هواها .
سأسرد قصة أخرى شخصية ولكنها تتعلق بهذا الشان وتشكل ظاهرة إلى حد كبير : لقد درست في بداية الثمانينات في كلية الزراعة بالبيضاء التابعة آنذاك لجامعة قاريونس ، وتخرجت بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف، وكنت أطمح للدراسة العليا لكنني فوجئت كما فوجئ أساتذتي برفض طلبي لاستكمال دراستي العليا رغم أن ترتيبي كان الثاني على الدفعة ، وحتى الآن لم أعرف السبب ، أنا الذي جئت من كوخ صفيح من قرية في الجبل الأخضر ، وقد قضى أبي جل عمره بين التشرد ومعتقل العقيلة ومات اثنان من أعمامي في الحروب مع الطليان ، أحدهما في معركة القرقف والآخر في معركة المخيلي ، وأنا الذي لم أفعل أي عمل ضد هذا الوطن وكنت وقتها مملوءاً بالمد القومي وبالتغيرات لتي تحدث في المجتمع ، والذي حدث هو أنه بعد أحداث الحادي عشر من أبريل عام 1982في البيضاء تقلد مسؤولية الجامعة بعض شباب اللجان الثورية المتحمسين ، وغدت الدراسات العليا مقتصرة عليهم ، وأصبح إحدى شروط الدراسات العليا مدى الالتزام بالتواجد في المثابة وترك المحاضرات ، وكان يشهرون في وجوهنا مقولة الدراسة ليست غاية في حد ذاتها كلما طالبنا بحقوقنا التي تضمنها لنا القواعد الأكاديمية ، أذكر أن الحاصل على الترتيب الأول وهو من مدينة سبها قد رفض طلبه أيضاً وحاول عبر جامعة الفاتح وكلية العلوم في سبها ومركز البحوث في إحدى مشاريع الجنوب لكنه كان دائماً يصطدم بمكتب المعلومات ويرفض طلبه ، وحين سألت عنه بعد سنوات ، عرفت أنه دخل السجن بعد انضمامه لإحدى الجماعات الإسلامية، لقد كان هذا الطالب المميز وطنياً ، بل وثورياً حتى النخاع ، لكنه لم يقتنع بالأشخاص الممثلين للمثابة في الجامعة ، فمعظمهم انتهازيون ويسعون إلى مصالحهم الشخصية ، والقلة المؤمنة بالفكرة لم يكن في وسعها أن تفعل شيئاً ، لقد كان يحلم كما أخبرني بالمساهمة في التنمية الوطنية والبحث من أجل التغلب على قلة المياه عبر اكتشاف طرق ري حديثة ، أما أنا فاستمريت في تقديم طلبي للدراسات العليا حتى تم رفضي أخيراً بسبب عمري الذي تجاوز الثلاثين ، والغريب أنه بعدها تم استدعائي من جديد ضمن مواليد الخدمة العسكرية ولم يشفع لي كبر سني بالنسبة للدراسات العليا … عملت بالمشروع الإنتاجي بالكفرة لفترة ثم انتقلت ببعض الطموحات إلى أمانة الزراعة بدرنة لكنني اصطدمت بميليشيات قبلية تسيطر على هذا القطاع ، وتتصارع من أجل مصالح شخصية ، ولا علاقة لها بالتنمية أو الوطن، والنتيجة يمكن لمسها في عدم نجاح أي مشروع زراعي في درنة رغم الملايين التي صرفت ، ولأنني لم انخرط في أي جماعة من هذه الجماعات نفيت إلى مشروع وهمي ، وبعدها قررت أننا لسنا في حاجة إلى استصلاح زراعي ولا طرق ري ولا مكافحة آفات زراعية، ولا تسميد فقط، لكننا في حاجة إلى إصلاح العلاقات ومحاربة آفات التخلف والتعصب الأعمى ، وهذا ما جعلني انخرط في الكتابة والصحافة والمشاركة في الندوات ، وسبق أن كتبت هذه التفاصيل تحت عنوان (الطبقات العازلة .. توجه لتمزيق قوائم الممنوعين من العلم) ونشرته بأحد الأعداد الأولى من مجلة لا حيث واكبت هذه المقالة إطلاق سراح السجناء وتمزيق قوائم الممنوعين من السفر ، وكنت أقصد بالطبقات العازلة بعض أعضاء اللجان الثورية الذين شكلوا بممارستهم الخاطئة طبقة عازلة بين المواطن والوطن ، إنني لا أذكر ذلك من باب طرق الماضي الذي ثمة دعاوات عدة لتناسيه واعتراف بالعديد من الأخطاء التي ارتكبت لظروف متعلقة بالمرحلة ، ولكن أذكره للتأكيد على مدى تدميرية الفكرة المسبقة ، والتصنيف طبقاً لشروط لا علاقة لها بأدنى حقوق الإنسان ، كما أذكره لأنه مازال موجوداً وإن بطرق أخرى ، فالمنح الدراسية الآن في شعبية درنة مثلاً يتحصل عليها عاملون بالشعبية أو أمناء لجان شعبية ، معظمهم قريب من التقاعد يسعون لكسب مالي من ورائها ، بينما خريجو الجامعات الحديثون والمستحقون لهذه المنح سينتظرون حتى يقال لهم أعماركم لم تعد تسمح .
أعود لأقول اتجهت إلى الثقافة ولكن هذا المجال أيضاً لم يكن بعيداً عن هذه الصراعات وعن بنى التخلف المستشرية ، فقد قمت أنا ومجموعة أصدقاء مهمومين بتأسيس بيت درنة الثقافي ، والذي يطمح إلى تجميع كل المهمومين بالثقافة ، وبتطوير تخصصاتهم من الأطباء والمحاميين والحرفيين والمهندسين وغيرهم ، وأقمنا في ثلاث سنوات ما يقارب المائتي نشاط وفي كل المجالات ، ومع صدور قانون الجمعيات الأهلية الجديد رقم (19) أوقف نشاط البيت حتى يتم إشهاره وفق القانون الجديد ، ولأنني كنت أميناً للجنة التأسيسة ذهبت إلى مكتب الجمعيات الأهلية للتوقيع على بعض الأوراق ، ولكنني فوجئت بمطالبتي بالتوقيع على نموذج تعارف أحدد فيه قبيلتي وأقاربي من الدرجة الأولى إلى الرابعة إلى غير ذلك من التفاصيل ، فأخبرتهم إننا نسعى لهذا المشروع الأهلي لأنه قبيلتنا ،وأنا لا أعرف درجات أقاربي أو تفاصيل قبيلتي ومن منهم في الجيش أو تم اقتحامه ثورياً إلى غير ذلك ، وإن هذا المشروع في الأساس هو ضد هذه البنى المتخلفة التي عاثت في المدينة فساداً وشوهت كل شئ. وعندما انتقلنا إلى صحيفة الشلال وبدأنا في مهاجمة ظواهر الفساد عبر نفس نقدي بناء ومنحاز إلى صوت الناس تم التآمر علينا قبلياً وإزاحتنا بطريقة لا أخلاقية سبق أن كتبت عنها . ورابطة الأدباء تم اقتحامها وتشميعها ، وفي درنة مثلاً تم تصعيد رابطة للأدباء فيها كل أحد ما عاد الأدباء والكتاب .
لا أعرف إن كنت قد خرجت عن الموضوع ولكنني سردت هذه القصص من أجل أن أؤكد على ما بدأته ، وإن الأخطاء ترتكب ولكن الأهم دائماً العودة عن الأخطاء والمطالبة بالضمانات التي تحد من تكرارها ، وأيضاً حتى أؤكد على ما ورد في كلمة سيف الإسلام الهامة والتي حثت على مبادرة الناس بالإصلاح وأنه مجرد مواطن وليس رأس حربة للإصلاح ،كما اختصرت مطالب الناس الذين هم بالتأكيد يحلمون بالدولة والمؤسسات وبمحاربة كل بنى التخلف، وهم الناس الذين طالبوا بعودة الشرطة كما قال أمين اللجنة الشعبية للعدل في إحدى جلسات مؤتمر الشعب العام لأنهم يريدون الأمن ، وهم الناس الذين رفضوا توزيع الثروة عليهم مباشرة وتحويلها إلى خدمات صحية وتعليمية وتنموية ، لأنهم يريدون الدولة والحرية والرفاه كما عبروا في جلسات المؤتمرات الشعبية في مناقشة بند ماذا يريد الليبيون ، وبالتأكيد المشترك الذي يجمعنا جميعاً الحلم بمجتمع يليق بالألفية الثالثة من ضمان الحصول على السكن والقضاء على البطالة ورفع مستوى المعيشة إلى حرية التعبير واختفاء كل أشكال الرقابة ، وهي مطالب شرعية وغريزية، ومنتشرة في كل بقاع العالم ، لأن رغبة التوق إلى الأفضل هي قدر الإنسان على الأرض .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل سنة وأقباط مصر بخير.. انتشار سعف النخيل في الإسكندرية است


.. الـLBCI ترافقكم في قداس أحد الشعانين لدى المسيحيين الذين يتب




.. الفوضى التي نراها فعلا هي موجودة لأن حمل الفتوى أو حمل الإفت


.. مقتل مسؤولَين من «الجماعة الإسلامية» بضربة إسرائيلية في شرق




.. يهود متطرفون يتجولون حول بقايا صاروخ إيراني في مدينة عراد با