الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خلف أسوار السنين .. مشاهدات من واقع المجتمع العراقي ... القسم الأول

حامد خيري الحيدر

2023 / 11 / 15
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


يزخر المجتمع العراقي كحال باقي المجتمعات الأخرى بالعديد من الصور والمُشاهدات المتناقضة والمُتباينة التي تكشف واقعه الاجتماعي الحقيقي، والجانب الأكبر من واقع هذا المجتمع الذي يمكن أن نُسميه بـ(المَخفي) لا يُنتظر أيجاده في المدن الكبيرة والأسواق المُترفة والشوارع العريضة المُكتظة بالسيارات الفارهة، إنما ترتسم لوحته الصادقة البعيدة عن الزَيف عند بُسطاء الناس، بين الأزقة الشعبية الضيقة والحارات القديمة البائسة ببيوتها الصغيرة المُتلاصقة، وكذلك في القصَبات والمناطق النائية والأرياف والقرى البعيدة المُختبئة والمُنفيّة بين الجبال وخلف التضاريس الطبيعية القاسية، التي تجعل قاطنيها في عزلة قاهرة ربما شُبه كلية عن باقي مراكز التحضّر والتمدّن، ليغدوا في قوقعة اجتماعية فرضها الواقع عليهم، فارتضوها وتوارثوا مآلاتها رغم قسوتها عليهم، لشعورهم بأن تلك العزلة تمنحهم شيئاً من فسحة الحرية التي تسلبها السلطة السياسية الحاكمة عادة من سكان المدن ومراكز الاستيطان الكبيرة، لذلك ظل واقع هذه المجتمعات الصغيرة المُهمشّة تلك بعيد عن التوثيق والكشف، رغم أن الحقيقة كما هو معلوم موجودة لكنها تحتاج لمن يبحث عنها.
وربما كان منقب الآثار محظوظاً في هذا الجانب فهو بحكم عمله الحثيث الشاق في المناطق النائية البعيدة، تجعله يطلّع على مشاهدات حياتية غير مألوفة عن طبيعة الناس الذين يقطنون تلك المناطق، وشكل حياتهم ومستوى تفكيرهم وعاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية الغائبة المُغيّبة، لذلك تراه يعكف على توثيق تفاصيلها، سَعياً منه في ذلك لإكمال صورة التاريخ الذي يعمل على استظهار حقيقته، من خلال توثيق ليس فقط ما يتعلق بما مَضى من تاريخ الانسان حيث عمله وتخصصّه في هذا الجانب، بل حاضره أيضاً كونه امتداد طبيعي لذلك الماضي، الذي من خلال استيعاب مَسيرته الطويلة يُمكن فهم واقع الحياة الراهن، والحَدس بما قد يحدث بالمستقبل الذي يُخبأ القدر تفاصيله للبشر، وهذه هي الغاية الحقيقية والعِبرة المُبتغاة من دراسة وفهم مَسيرة التاريخ.
وهذا ما حاولت وسَعيّت إليه مع كتابة هذه المُشاهدات، قاصداً منها تسليط الضوء على جوانب عدة من الظروف الاجتماعية التي سادت أرض الرافدين عند عقد التسعينات من القرن العشرين، والتي قد تكون غير معروفة لعموم الناس، من خلال عَرض صور حية رسخت بذهني لأحوال شعبنا الذي يقطن بعضاً من مناطقه النائية، واصفاً إياها بشكل صريح حسب ما كان عليه حالها خلال تلك الفترة وكما رأيتها بشكل مباشر من دون تزويق أو مبالغة، حيث كان بعضها تلفت النظر لغرابتها وبعضها تُحيطها الطرافة الفطرية، كما أن قسما كبيراً منها عكست قسوة واقع مؤلم كبَّل شريحة كبيرة من أبناء العراق، مُبيّناً من خلال تلك التناقضات شيئاً من طبيعة عيش أبنائها وتفاعلهم المُضني مع الحياة في تلك السنوات البعيدة التي أمتد عملي الآثاري على سنينها.

مُعاناة وثبات وإنجاز

كانت ظروف الحصار الاقتصادي الجائر الذي فُرض ظلماً على العراق منذ عام 1990 قد أخذت مأخذها من عُموم شرائح الشعب، من كسَبة بُسطاء وعسكريين وذوي مهن بسيطة، لكن أكبر المُتضررين من ذلك كانت فئة الموظفين، فمع غلاء فاحش في الأسعار ورواتب شحيحة، يمكن أن يَتخيّل المرء طبيعة الأوضاع المُزرية التي آل اليها حال هذه الفئة من الشعب، وكيف غدَت أوضاع دوائر الدولة بشكل عام، بعد أن أصبح الفساد الاداري من رشوة وتزوير واختلاس وبيع ضمائر عنوانها للمرحلة الجديدة، ومن ينظر الى ذلك بعينٍ لبيبة فاحصة من المؤكد أنه سيتوصل بأن ذلك كان ضمن تخطيط مُمنهج من قبل النظام الحاكم، لإذلال الطبقة الوسطى المُثقفة والمُحرّكة لدفة الحياة في البلد، من أجل تَحجيم دورها في تثقيف الناس والانشغال الدائم في دوامة البحث عن لقمة العيش أياً كان مصدرها، وهذا ما قاله رأس النظام جَهاراً نَهاراً أمام وسائل الأعلام.. (يكفي بالموظف تَشكيّاً.. ألا يعرف ما يَمّر به الوطن!!!.. ليحمل على رأسه "طاسة" الطين ويعمل لإعالة عائلته).
وطبعاً لم يكن الموظفون لينتظروا نصائح (قائدهم) وفكره النيّر، حيث فرض عليهم الواقع المُرّ الانخراط بأعمال أخرى الى جانب وظيفتهم تجنباً للعوَز وفاقة اليد ومَذلة الزمن، فمنهم من حول سيارته الخاصة الى سيارة أجرة "تاكسي" يقودها عصراً وليلاً، ومنهم من عمل في مكاتب الطباعة والاستنساخ، وآخرون جلسوا خلف "بَسطيّات" بسيطة لبيع السكَائر أو الخضروات أو السلع القديمة، كما سار البعض مع عربة خشبية لبيع الأطعمة الشعبية السريعة، وغيرها من الأعمال الأخرى، وطبعاً لم تنجو من هذا الواقع المُزري الذي كان يَمّر به الشعب سوى فئة التجار والمُضاربين بالسوق والعملة الصعبة، ومُزوّري النَقد وأصحاب شركات الصيرفة واستثمار الأموال الوهمية مثل شركتي "سامكو" و"الفارس"، وهؤلاء في الواقع لم يكونوا سوى أذرع طويلة لعصابات النظام الحاكم ومافياته، ليُفرض على الشعب حينها حصاراً آخر غير ذلك الذي فرضته القوى الدولية الكبرى، مما زاد من مُعاناة الناس أضعافاً مضاعفة.
وأسوة ببقية أقرانهم من موظفي الدولة كان الآثاريون العراقيون على تماس مباشر بتلك الأوضاع الصعبة، بل كانوا جزءاً منها وفي وسط مُعاناتها، من جانب آخر فقد مورست عليهم ضغوطات شديدة جداً جعلتهم بين نارين، من جهة معاناتهم بأوضاعهم الاقتصادية المُتردية مع مدخول تلك الرواتب الشحيحة، وبين شرف المهنة المؤتمنين عليها، حيث كان عليهم مقاومة اغراءات الرشاوي الكبيرة التي كانت تُعرض عليهم، خلال أجرائهم كشوفات أهلية خاصة مُقابل اعطاء موافقات غير صحيحة، للسماح بإقامة مشاريع أو تشييد مباني تتجاوز على المناطق الأثرية أو مُحرماتها، التي تتراوح عادة ما بين العشرة أمتار والعشرين متراً حول حدود الموقع الأثري، أو السماح للمزارعين بإزالة تلول أثرية بأكملها ومُساواتها بالأرض لغرض تحويلها الى أراضي زراعية.
وطبعاً يتم كل ذلك بعد مُساومات رخيصة، يقوم بها في الغالب مُحامون مُختصون ببيع وشراء الضمائر، أو مُروجي ومُعقبي المعاملات الرسمية الذين كان معظمهم من أصحاب مكاتب العقار، وطبعاً كانت تُعرض مبالغ نقدية كبيرة، تختلف حسب حجم التجاوز على المنطقة الأثرية وموقعها، وقد يَسعى مُريدي تلك التجاوزات وراء وَساطات عشائرية، أو من خلال بعض المُتنفذين لدى رجال السلطة أو الأمن الخاص، أو قيادات فاعلة في منظمات الحزب الحاكم، من أجل الوصول الى مُبتغاهم من الآثاريين لقاء نسبة مُعيّنة تُخصص لهم من قيمة تلك الرشاوي أو "الإكراميات" كما كانوا يُسمونها، مع العبارة الوَسخة المعتادة التي كانت ترافق عرضها.. (النبي قبل الهدية!!!).
كما واجه الآثاريون باعتبارهم الحلقة الأضعف في معادلة الهَمجية التي كانت سائدة آنذاك، متاعب ومعاناة من نوع آخر أكثر قسوة وايلاماً، حينما غدو عرضة للاتهام بسرقة الآثار المؤتمنين عليها، أو المساعدة والترويج لسرقتها بالتعاون والاتفاق مع عصابات مُتخصّصة في ذلك، أصبحت بمرور الوقت مافيات كبيرة ومُتشعبة لها ارتباطاتها بمُهربين وتجار آثار عالميين، من أجل التغطية على اللصوص الحقيقيين الذين كانوا في الحقيقة من أزلام السلطة وأفراد العائلة الحاكمة، ليتعرضوا مع عوائلهم نتيجة ذلك الى أبشع الاجراءات البوليسية التعسفية من اعتقال وإهانة وتعذيب جسدي ونفسي، لتثبت الأيام والتحقيقات فيما بعد الى تورط المؤسسات الأمنية فيها، إضافة الى عدد من أفراد حاشية رأس النظام الحاكم، ليغدو الآثاريين بوضعٍ نفسي صَعب حيث أخذ هاجس الخوف يُقلق مُمارسة عملهم بصورة سليمة، خاصة عند إجراء كشوفاتهم على المواقع الأثرية، فقد تَجسّدهم الاعتقاد بأنه في أي وقت سيتم اعتقالهم من قبل الجهات الأمنية بداعي فقدان قطع أثرية من تلك المواقع.
وبالرغم من كل تلك الظروف القاهرة والاحوال الصعبة التي عاشها الآثاريون العراقيون والتي كانت تقيّد طبيعة مهنتهم وتكبّل أبداعهم، لكنهم وقفوا بوجه جميع تلك الضغوطات وتَشبثوا بكل قوة بشرفهم المهني الذي يعتبروه ناموس حياتهم ومَسار عملهم رافضين التنازل عنه، مُتمسكين بالقيّم النبيلة التي أقسموا على المحافظة عليها، والتي تدعو الى اعتبار آثار العراق أمانة وضعها الشعب بين أيديهم وهي ليست مُلكاً لحاكم أو حزب أو سُلطة سياسية، لذلك تراهم قد حققوا انجازات علمية كبيرة ومهمة لدى تنفيذهم لواجبهم في تلك الفترة، سواء عند مُمارستهم أعمالهم الحقلية المختلفة أو من خلال الدراسات والبحوث الرصينة التي أجروها، جعلتهم مَحل أعجاب المؤسسات الآثارية العالمية، وصورة فَخرٍ لمؤسستهم الرسمية العريقة.

طريق الى شَثاثا

مع أواسط شهر آب عام 1994 كان منقبو الآثار بخلاف جميع أوقات السنة، يَتمنون أن تَمّر هذه الفترة دون أن يتم تكليفهم بأية أعمال حقلية أو أجراء كشوفات في مناطق نائية، تجعل منهم فريسة للشمس المُحرقة التي تفوق درجة حرارتها الخمسين مئوية، ليأتي المَحظور على حين غفلة مثل ضَربة الشمس، صَعب تجنبها أو التقليل من مُضاعفاتها.. (لجنة من الكاتب وزميلين آخرين لأجراء كشف عاجل على عدد من المواقع الأثرية في أقضية محافظة كربلاء ومنها قضاء عين التمر).
كلما اقتربنا من كربلاء بسيارتنا الرسمية العتيقة كنّا نلاحظ ازدياد مشاهد القباب الخضراء، براياتها المُميّزة المُقامة فوق أضرحة أشراف أهل البيت متناثرة على جانبي الطريق، بعضها كبير بحجم بيت سكن تحوي مولدات خاصة لتزويدها بالتيار الكهربائي، والبعض الآخر كان مُجرد كتلاً من الطين والطابوق تم بنائها فوق الأرض مباشرة، على شكل قبة تم طليها باللون الأخضر أو الأزرق تعلوها راية خضراء مُهلهلة غدت باهتة اللون بفعل أشعة الشمس، وكان أبرز ما يُلاحظ على تلك الأضرحة أن عدداً كبيراً منها عليه آثار رصاص، وهو بلا شك من بقايا أحداث انتفاضة آذار عام 1991، حيث قُمعت الفصائل الثائرة هناك بمُنتهى البطش والقسوة حينها.
وما يُلاحظ كذلك أنه الى جانب تلك الاضرحة وبالأخص الكبيرة منها، أنتشار عدد من الذين ابتغوا الرزق، من باعة السكَائر والتمور مع "بسطياهم" المتواضعة، بعد أن صنعوا لأنفسهم سَقائف بائسة معمولة من سَعف النخيل أو الكارتون المُقوّى، كي تقيهم وبضاعتهم وَهَج الشمس التي اعتادوا قساوتها، وغير بعيد عنهم وقف صبية لا تتجاوز اعمارهم العاشرة، ومعهم بعض الحاويات البلاستيكية المُتسخة المليئة بزيت المحركات لتزويد السيارات العابرة بما تحتاجه من هذه المادة، لتغدو تلك الاضرحة مَثابات معلومة ونقاط دالة لتعاطي البيع والشراء، مُعطية مثالاً واضحاً على ازدواجية العلاقة في المواقع المقدسة بين التجارة والعبادة، لتصدق حينها مقولة أحد الفلاسفة.. (الدين طقوس وفلوس).
وما يَجدر ذكره بهذا الصَدد أيضاً أن العديد من سكان محافظات كربلاء والنجف وبابل، كانوا يتوافدون على مقر المؤسسة الآثارية في بغداد، بصفتهم أوصياء على أضرحة ومقامات تاريخية مُعيّنة، مُدعّين أنها لأشراف آل البيت يَمتد عمرها لقرون عديدة، جالبين معهم أوراق ومُستندات عتيقة مليئة بأختام غير معروفة المَصدر، بعضها مُصدّق عليه من قبل وزارة الاوقاف، كي يتم تثبيت أثريتها وبالتالي تضطر لتعيينهم بصفة "حُرّاس" على مَلاكها الدائم، ليثبت فيما بعد بأنها أضرحة وهمية عُمرها لا يتجاوز عشرين أو ثلاثين سنة، كما تبيّن أيضاً أن البعض منها لا تحوي على رفات أصلاً، وكان هذا يعكس أحدى صور الظرف الاقتصادي الصعب الذي كان يُعانون منه هؤلاء المُدعّين خلال تلك الأيام، لذلك لجأوا الى هذه الأساليب من أجل الحصول على موردٍ للرزق يعينهم على فاقة العيش.
بدا مركز مدينة كربلاء عالماً آخر، حيث يَملأه الصَخب والحركة الدؤوبة التي لا تكاد تتوقف، فالمَحّلات التجارية بمختلف بضاعتها مُشرعة الأبواب، وخاصة تلك التي تبيع المُستلزمات الدينية من "تُرب" وسِجّاد الصلاة، الى المسابح السوداء الطويلة المُسماة "حسينية" والخواتم الفضية ذات الأحجار الكريمة، وبين تلك المَحّلات انتشرت بَسطيّات بيع "الحلاوة الدَهينية" التي اشتهرت بصناعتها هذه المدينة إضافة الى مدينة النجف، خلفها جلس صبية أو شباب، يحركون أياديهم بشكل عشوائي فوقها، في محاولة يائسة منهم لطرد الذباب عنها، كما أنتشر أطفال صغار هنا وهناك بملابس رَثّة للغاية يتلصقون بالمارة، خاصة أولئك الخارجين تواً من زيارة الضريح المقدس، كي يَبيعوهم أشرطة خضراء رفيعة تُعقد حول معصم اليد طلباً لشفاعة الأمام الشهيد.
بالمقابل كانت حركة الناس في أوجها خلال فترة الصباح وعلى اختلاف أزياءهم، فالنساء كنّ جميعاً مكلّلات بالسواد من الرأس حتى أسفل القدم بارتدائهن العباءة العراقية التقليدية، ولم يُسفر منهن شيئاً سوى تدويرة الوجه والأكف، أما الرجال فالعديد منهم يرتدون الملابس العربية التقليدية، ومثلهم كانوا يتباهون بأزيائهم الدينية وما يعتمرونه معها من عمائم وكشائد، وما يُمكن ملاحظته بسهولة هو طابع الوجوم المُرتسم بوضوح على وجوه معظم أهل المدينة، رغم أن ذكرى عشوراء من ذلك العام مع أربعينيتها قد مَرّ عليها مدة ليست بالقصيرة، ولا عجب في ذلك طبعاً، فمن عاش تلك الحقبة من تاريخ العراق وتابع تفاصيل احداثها، ثم يُمعن النظر في أبنية مركز المدينة حيث الضريح المقدس بما عليها من آثار حرق وتدمير لا زالت واضحة رغم الترميمات الجارية لإخفائها، لابد أن تعود به الذاكرة لتلك الأيام الدامية التي رافقت الانتفاضة الشعبية في آذار عام 1991، والقمع الوحشي التي جوبهت به، لتترك في نفوس أهل كربلاء ذكرى قاسية لا تقل فجاعة عن مأساة "الطَف" الأليمة، حيث لم تَسلم من ذلك الخراب حتى الروضتين الطاهرتين "الحُسينية" و"العباسية" اللتان تعرضتا حينها الى قصف مدفعي عنيف أدى الى تدمير أجزاء واسعة منهما، بسبب احتماء المنتفضين داخلهما.
بعد تركنا مركز المحافظة بدا لنا الطريق الصحراوي المُوحش المُمتد لمسافة خمسة وستين كيلومتراً تقريباً والواصل بين مركز مدينة كربلاء وقضاء عين التمر من دون نهاية، حيث كانت ترافق مَسير سيارة عملنا صورة السراب التي تبدو كالمرآة أمامنا، خاصة عند مواصلة النظر الى الجَنبات الرملية التي غَدت مُلتهبة مع شدّة الحَر، لتغدو السيارة بفعل هذه الحرارة وسُخونة مُحرّكها، لا تختلف شيئاً عن المقلاة أو صفيحة الشواء المعدنية، مع هذا الطريق الخال من أي مظهر من مظاهر الحياة، باستثناء مجموعة من الأبل تَمشي الهوينا برفقة رُعاتها ابتغاء رزق تجود به عليها هذه الأرض القاحلة من عاقول وكلأ، غير عابئة بلظى الشمس وهي تحرق الطريق أمامها، ناظرة الى السيارات المارّة باستغراب، مُتعجبة مُرورها في مثل هذا الوقت مع هكذا قيظ لا يرحم.
وخلال هذا الطريق لابد للناظر أن يوجه بصره من بعيد نحو حِصن "الأخيضر" التاريخي الذي يبعد عنه بمسافة تقارب الكيلومتر، وهو يتربع وسط الرمال بكتلته الهائلة وهَيبته التي يَفرضها على جميع العابرين في هذا المكان، مما يدعوهم للتمعّن به كأنه جبل أشّم يعلن سطوته على البوادي المُقفرة، ولسان حاله يقول.. (أنا سيد الصحراء فمَن يُنافسني)، وما يُمكن أن يُذكر مع مرورنا العابر بهذا البناء الشامخ، أنه لم يكن بناءً وحيداً مَعزولاً كما كان يُعتقد سابقاً وحسب ما ذهب اليه العديد من المؤرخين، حيث بَيّنت التحريات الأثرية والصوّر الجوية، أن الكثبان الرملية التي تُحيط بالحِصن تؤلف بمجملها مدينة كبيرة مُتكاملة، تنتشر أبنيتها ومَرافقها شمال الحِصن وشرقه، قد يمتد تاريخها الى القرون الميلادية الثلاثة الأولى حيث بداية السيطرة الساسانية على وادي الرافدين.
لندخل مباشرة بعد هذا الطريق المُتعب الى واحة غَنّاء مُكتظة بغابات النخيل الباسقة، التي بدَت سَعفاتها المُتشابكات وكأنها سواعد مُتعاضدة لرجالٍ يؤدون أحدى "دَبكات" الفرح، غير آبهة بالشمس اللاهبة بعد ما وَهبت ظلالاً تحمي أرض الخير هذه المُزدانة بسواقٍ وجداول صغيرة دائمة الجريان، تُطرب موسيقى خَريرها المَسامع، ثم لتزيدها جمالية تلك القناطر الصغيرة الجميلة المَعمولة من جذوع النخيل لغرض عبور المارة عليها، لتجعلك كل تلك الصور الخلابة تشعر بأن الزمن قد عاد بك الى الوراء دهوراً عديدة لا حصر لها، وأنت ترى أحد أسرار الحياة والطبيعة قد تكشّف أمامك، سافراً عن وجهه الجميل، لتنظر بعدها الى كل ما يدور حولك دون مبالاة، ناسياً كل مُنغصات الحياة ومتاعبها، لتَصدق حينها مقولة العالم "البرت أنشتاين".. (تأمل الطبيعة ومن ثم ستفهم كل شيء بطريقة أفضل).
تُعتبر "عين التمر" من المدن القديمة العامرة في وادي الرافدين، ويُعتقد أن تاريخ ازدهارها يعود إلى أكثر من ألف سنة قبل الميلاد، وقد اشتهرت منذ ذلك الحين بأهميتها الزراعية وكذلك بعيونها المائية، أسمها القديم هو "شفافا" أو "شثاثا" وهي تسمية آرامية معناها "الرائقة" أو "الصافية"، ومن المُمكن جداً أن هذا الاسم مُحوّر عن الكلمة المندائية "شفالا" التي تعني "الأرض الواطئة" أو "الأرض المنخفضة"، وهو ما ينطبق تماماً على طبيعة أرضها، وقد ذكرها المؤرخون بأنها كانت جزءاً من مملكة الحيرة، أما تسمية "عين التمر" فقد جاءت بعد الاحتلال العربي لها عام 12هـ/633م، بقيادة خالد بن الو ليد، وذلك لاشتهارها بزراعة النخيل وانتاجها لأنواع كثيرة التمور التي تُجنى في أواخر الصيف، لكنها اشتَهرت بشكلٍ خاص بـ"القسَب" أي "التمر اليابس المُجفف"، وكانت قد اعتمدت تسمية "عين التمر" بدلاً من "شثاثا" بشكل رسمي في الدولة العراقية منذ عام 1938، وذلك إثر الحملة التي جَرَت آنذاك لتعريب أسماء المدن والمناطق العراقية التاريخية، والتي قادها مسؤول المَناهج التعليمية في ذلك الوقت "ساطع الحصري".
كما عُرفت "عين التمر" أيضاً بأهميتها التجارية إذ كانت من المناطق الهامة لمرور القوافل، مما جَعلها أيضاً مركزاً عسكرياً هاماً للغاية، وقد كان لهذا الموقع الاستراتيجي على طريق التجارة بين العراق والشام والجزيرة العربية، الدور المحوّري في الانتعاش التاريخي لهذه المدينة، التي لعبت دور السوق بالنسبة للقبائل البدوية لتزورها وتشتري منها احتياجاتها من أطعمة وأنسجة ومؤن، لتبيع بالمقابل منتجاتها من الصوف والغزول والأغنام، ومن المحتمل جداً أن بدايات المدينة كانت بشكل أحدى النقاط العسكرية التي وضعتها إمبراطورية "أور الثالثة" السومرية 2113_ 2006ق.م لصَد قبائل "الآموريين" الذين أخذوا يزحفون باستيطانهم من بلاد الشام نحو مدن وسهول وادي الرافدين الجنوبية في أواخر الألف الثالث قبل الميلاد.
ولعل أكثر ما يَشعر به زائر "عين التمر" في هذا الوقت من العام، هو طرقها الزَلقة التي تَقتضي الحَذر عند قيادة السيارات خلالها، طبعاً ليس بسبب الأطيان أو الوحول بل بفعل عَصائر التمور السائحة عليها من أحواض سيارات الحمل، المُمتلئة بالأطنان منها والمُتوجهة لبيعها في باقي مدن العراق، حيث كانت أكوام التمور تُكدّس فوق بعضها البعض في تلك الأحواض، مما يؤدي الى ذوبان الطبقات السُفلى منها بفعل الثقل وحرارة الشمس العالية، ليَسيل عَصيرها السُكري الدَبق على امتداد الطرق، علماً أنه بنفس هذا الأسلوب كان يُصَنّع "دبس التمر" في سابق العهود، كما يُلاحظ أيضاً في هذا الطريق المار بهذه الواحة منظر مؤلم للغاية، يتمثل بصورة العديد من بساتين النخيل المُحترقة بالكامل بشكل يُدمي القلوب، حيث بَدَت جذوع النخيل كأعواد بخور مغروسة في أرض متفحمة، وكانت هذه الجريمة من بقايا مشاهد أحداث ربيع 1991 القاسية، حيث لم يَتردد النظام الحاكم حينها في أحراق تلك البساتين مع من أختبأ فيها من المعارضين الثوار، بشكل وحشي لا تماثله سوى وحشية النازية إبان الحرب العالمية الثانية.
وبالإضافة الى تمورها فقد اشتهرت "عين التمر" أيضاً بعيون الماء الكبيرة المُنتشرة فيها، والتي أستمر تدفق مياهها دون توقف منذ آلاف السنين، وقد بَلغت هذه العيون من الكِبر ليَصل عمق بعضها الى أربعة أمتار أو أكثر، لتبدو لمَن يراها كأنها أحواض للسباحة، وهي تُعتبر المَصدر الرئيسي لسَقي المزروعات بعد أن حُفرت سواقٍ ومَجارٍ تتفرع منها لتصل مسافات بعيدة من الاراضي الزراعية، وقد بلغ عدد هذه العيون خمس وثلاثين سُميّت بأسماء مَحلية، مُعظمها قد نَضَبت كما شَحت مياه الاخريات، وأهم تلك الباقية منها هي.. عين "الزَركَة"، عين "السيب"، عين "الحَمرة"، عين "أم الكَواني"، عين "السودة".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فولفو تطلق سيارتها الكهربائية اي اكس 30 الجديدة | عالم السرع


.. مصر ..خشية من عملية في رفح وتوسط من أجل هدنة محتملة • فرانس




.. مظاهرات أمام مقر وزارة الدفاع الإسرائيلية تطالب الحكومة بإتم


.. رصيف بحري لإيصال المساعدات لسكان قطاع غزة | #غرفة_الأخبار




.. استشهاد عائلة كاملة في قصف إسرائيلي استهدف منزلا في الحي الس