الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خلف أسوار السنين .. مشاهدات من واقع المجتمع العراقي ... القسم الخامس

حامد خيري الحيدر

2023 / 11 / 21
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


تاريخٌ حَبيس الأرض

عند صَبيحة أحد أيام شهر تشرين الثاني عام 1994 وبرودة الشتاء آخذة بالزَحف نحونا رويداً رويداً، فوجئنا بضابط برتبة نقيب يَمّرق الى مَمرات مقر المؤسسة الآثارية في بناية القشلة البغدادية حيث كانت آنذاك، بشكل عَجول مُلفت للنظر وعلى وَجهه علامات القلق والاضطراب الشَديدين، يبحث عن قسم التنقيبات والتحريات الأثرية، بعد أن أرشده موظف الاستعلامات بأنه المكان المَعني بما يمكن أن يقدمه له من مساعدة، وبمُجرد وصوله القسم المَنشود حيث كان الكاتب متواجداً هناك بحكم عمله فيه، طلب مقابلة مدير القسم لأمر عاجل جداً، وبعد لقائه المدير استوضحنا الأمر بأن الضابط هو أحد المهندسين العسكريين الذين يعملون بإعادة اعمار وزارة الدفاع القديمة الكائنة في منطقة باب المُعظم، بعد أن تَم تدميرها بالكامل من قبل قوات التحالف الدولي خلال حربها مع العراق عام 1991، وخلال عمله بالإشراف على الحَفر لعُمق مُعيّن لغرض مَد أنابيب الصَرف الصحي، ظهرت جدران مُزخرفة مَبنيّة بالطابوق تَحوي عقوداً بنائية تشبه تلك الموجودة في المدرسة المستنصرية، ومن الواضح أن هذا الضابط كان يحمل شيئاً من الغيرة والوطنية، حيث أنه أوقف جميع تلك الاعمال الجارية على مسؤوليته الشخصية وحتى من دون أخذ موافقة رؤسائه المباشرين لغرض الإبلاغ بما تم الكشف عنه، وكان هذا هو سبب اضطرابه وقلقه بل الأصح خوفه، حيث يعلم الجميع بأن مَن يقوم بتعطيل العمل في إعادة إعمار مُنشآت عسكرية خلال تلك الايام سيؤدي به ذلك الى التَهلكة بالتأكيد.
وبالرغم أننا لم نستغرب أو نفاجأ بما أبلغنا به الضابط، فمن الثابت تاريخياً أن موقع وزارة الدفاع في منطقة باب المعظم يمثل الركن الشمالي الغربي لمدينة بغداد العباسية "الرصافة" التي بدأ بتشييدها الخليفة "المهدي" خلال فترة حكمه 158_169هـ/775_785م، وحسب ما أورده المؤرخون العرب، فأن قصور خلفاء بني العباس قد شُيّدت في هذا الجزء من المدينة أي أسفل هذه الوزارة تماماً. ولعلمنا المُسبق بذلك ولأهمية الموضوع تم بشكل سريع تشكيل لجنة فنية من ثلاثة آثاريين، تكونت من الكاتب الى جانب زميلين آخرين، لمرافقة الضابط بسيارته وإجراء الكشف على الموقع المذكور، حيث أن المسافة كما هو معلوم جدّ قريبة بين بناية القشلة ومباني وزارة الدفاع، مُستعينين في ذلك بقرار مجلس الوزراء والمُعمم على جميع مؤسسات الدولة آنذاك، والقاضي بحق اللجان الفنية الآثارية الدخول الى أي منشأة رسمية في العراق من أجل حماية المواقع الآثارية، وطبعاً كان هذا من الناحية النظرية فقط، أما في الواقع فالأمر مُختلف تماماً.
ما أن اقتربنا من سور وزارة الدفاع حتى تلقفتنا تلك المظاهر القبيحة المُثيرة للاشمئزاز، والمُتمثلة بعناصر الحراسة المُدججين بالسلاح من الأمن الخاص، بسحناتهم الكالحة وصورهم القبيحة التي تشبه الضِباع الهائجة وهي تَهمّ بافتراس طرائدها، وحال ترّجلنا من السيارة قام بعض منهم بتفتيشنا بأسلوب مُهين بعيد كل البُعد عن معنى الاحترام، كذلك قاموا بتفتيش سيارة الضابط بشكل هستيري دون أي اعتبار لرتبته العسكرية، وحين التفتنا إليه مُتسائلين عما يحدث، طمأننا بعبارة قصيرة مُحددة فيها شيء من صورة الخَجل والاعتذار المبطن.. (مجرد إجراء روتيني!!!).
شاهدنا الموقع المَعني والذي كان عبارة عن حفرة مربعة طول ضلعها بحدود الأربعة أمتار ويُقارب عمقها الخمسة أمتار، وحسب ما ذكره الضابط أنه كان مُقرراً أن يكون الحفر فقط لعُمق مترين، لكن الارض خُسفت فجأة تحت ثقل أحد الآليات لتكشف عن هذه الحفرة، مما يُشير الى أن تربتها كانت رخوة للغاية لذلك انزلقت بمُجرد التعمّق بالحفر ومرور الآلية عليها، وما بدا ظاهراً فيها عقد بنائي كبير مُدبب الشكل مَبني بالآجر، كان الظاهر منه بارتفاع يقارب المترين. تناقشنا مع الموجودين من رجال الأمن حول امكانية نزولنا الى أسفل الحفرة لملاحظة ما شاهدناه عن قرب أكثر ومعرفة امتداداته وحدوده، ورغم أن هؤلاء كانوا بدون رتب عسكرية إلا أن ضابطنا المسكين كان بالنسبة لهم لا يتعدى كونه مجرد مُستَخدم بسيط لا حول له ولا قوة، لكنه رغم ذلك أبدى حينها قدراً كبيراً من الشجاعة في محاولة أقناعهم بما نطلب، حتى نَجح في ذلك شريطة أن ينزل شخص واحد من اللجنة فقط يرافقه أحد الحرس، وطبعاً لم يكن لدينا خيار آخر سوى الموافقة على ذلك، وبما أن الكاتب كان أصغر أعضاء اللجة عمراً ولازال بكامل الحيوية والنشاط والمُرونة فقد تم اختياره لهذه المُهمة، عليه فقد نزلت الى الحفرة بواسطة سُلم حديدي طويل بعد أن سَبقني اليها رجل الامن، ولكن بحذرٍ شديد مَخافة أن يغوص السُلم في الأرض الطينية الرَخوة التي غارت فيها ساقاي حتى الرُكب مباشرة حين وَطَأتها.
ربما كنت محظوظاً حينها حيث أن السماء في ذلك اليوم كانت صافية وخالية من الغيوم التي اعتادت غزوها للسماء في هذا الوقت من العام، مما ساعدني ذلك بمعونة ضياء الشمس على استبيان ما رأيناه بشكل أوضح، حيث تَبيّن أن العقد البنائي الذي كان بعرض مترين ونصف تقريباً يُمثل مدخلاً لإيوانٍ كبير قَدّرت ارتفاعه قياساً الى عرضه الظاهر بحدود الأربعة أمتار، وهو باق كما كان بكامل هيئته ولم تنتابه أية أضرار فرضتها سنين عمره الطوال، وبالرغم أن باطنه كان مُمتلأ بالتراب إلا أنه أمكنني تحديد شيء من قسمه العلوي والذي لم يتعدى عمقه أكثر من متر واحد، كان مُزوَّقاً بزخارف غاية في الروعة إضافة الى الحُليات الآجرية البديعة والدلايات الجميلة المَعمولة من الآجر والمعروفة لدى الآثاريين باسم "خلايا النحل"، وعلى جانبي المدخل أمتد جداران ما بدا ظاهراً منهما لا يتجاوز المتر من كل جانب، وكانا مُزدانان بزخارف آجرية بارزة عبارة على نجوم ثمانية تُحيطها زخرفة نَسيجية عريضة كتلك التي عُرفت في الفترة العباسية المتأخرة، والمشابهة لما هو موجود في زخارف ونقوش "المدرسة المستنصرية" و"القصر العباسي".
رغم أن الحفرة لم تكن واسعة جداً ولم تُظهر سوى جزءاً صغير من هذا المرفق البنائي، إلا أن ما رأيته كان له هَيبة مُميزة جَعلت جسدي يَشعر بالقشعريرة، ودون شعور مَددت كفي ليَلمُس حافة الايوان مع جوانبه، كأي آثاري يُحاول من خلال تماسه بالأثَر تكوين ارتباط روحي غريب من الصعب أن يفهمه غير الآثاريين، يَمتد بين الزمن الحاضر وحتى تلك الأيام الغابرة التي لم يتبقَ منها سوى تلك الشواهد، ورغم أن الأجزاء التي لمستها كانت باردة ورطبة إلا أني أحسست فيها عَبقاً ذو خصوصية غريبة، ربما عقلي الباطن في تلك اللحظة قد أوحى لي بأني سأكون أول وآخر أنسان يَرى ويَلمس هذه المعالم الآثرية الرائعة، التي شاء القدر أن تَظل مَدفونة الى حين غير معلوم من الزمن.
قبل مغادرتنا المكان ورغم معرفتنا التامة وأدراكنا المُطلق بأن ما سنقوله للعاملين بالموقع من رجال الأمن لن يكون له أية معنى أو قيمة، وأنه مُجرد رَغي عَبثي لا طائل يُرتجى منه، لكن أمانة الواجب والمهنة ولتبرأة ذممّنا من المسؤولية أقتضى ابلاغهم بوجوب عدم الحفر في هذا الموقع والحفاظ على ما تم الكشف عنه. وبناءً على ما تضمنه تقرير اللجة بأن المَعلم البنائي المُكتشف يُمثل جزءاً من أحد المباني العباسية المُثبت وجودها أسفل وزارة الدفاع، فقد فاتحت مؤسستنا الآثارية وزارة الثقافة والاعلام وكذلك وزارتي الدفاع والداخلية بضرورة التدخل العاجل للحفاظ على الآثار الموجودة في هذا المكان، لكن الأيام مَرّت تلتها أيام وشهور دون أن يأتي أي رَد بخصوص الأمر، حتى بعد التأكيد على تلك الجهات المعنية بمراسلات إضافية لاحقة أستمرت عدة سنوات.

القَرَج خاتون المَحَّلة

بعد عدة أيام من العمل الدؤوب أنهى فريقنا الآثاري المكوَّن من الكاتب وزميلين آخرين، واجبه المُتعب في مسح المواقع والتلال الأثرية في منطقتي العظيم والضلوعية خلال شهر كانون الأول 1994، لنتوجه بعدها مباشرة الى ناحية "الضلوعية" لإراحة أجسادنا وتناول طعام الغداء هناك قبل العودة الى بغداد. كانت السماء حينا قد زادت من تلبُدها بالغيوم الكثيفة، منذرة بأمطار غزيرة قادمة على عموم المنطقة، لذلك واختصاراً للوقت سلكنا أحد الطرق الزراعية الفرعية التي تَمّر بين البساتين وتوصل بشكل مُختصر لمركز الناحية، لتظهر أمامنا عند منتصفه تقريباً سيطرة تغلق الطريق، وقفت عندها مجموعة من الحراس المسلحين، يرتدون تلك الملابس الخضراء الكريهة "الزيتوني"، والتي غَدت بالنسبة لشعب العراق رَمزاً قبيحاً لقمع وارهاب السلطة الحاكمة، كانوا يقومون بحراسة بناء كبير قيد الإنشاء غير معروفة هويته أو الغاية منه.
اعتقدنا للوهلة الأولى أنها منشأة عسكرية أو شيئاً من هذا القبيل، ليستوقفونا وهم ينظرون الى رقم سيارتنا الحكومية (حكومي/أعلام)، سائلين بتلك اللهجة التي عُرفوا بها على مدى سنين حكمهم الأسود.. (ها أبو الأعلام شعندك هين؟)، لنتدارك الموقف سريعاً مُتعللين بأننا أخطأنا الطريق نحو الناحية، فقد كنّا حينها مع التعب والارهاق الذي ألتهم أجسادنا في غنى عن أية مشاكل نتعرض لها، ليُجيبونا مع إشارات بأياديهم نحو إتجاه آخر من الطريق، وبطريقة بعيدة كل البعد عن الأدب واللياقة كما عَهَدهم بها جميع الناس.. (الناحية مو من هين، من هين، يَلة حَرّك)، لنصل بعدها "الظلوعية" مع خواتم وقت الظهيرة.
و"الضلوعية" هي أحدى نواحِ قضاء "بلد" التابع لمحافظة صلاح الدين، تقع على الضفة الشرقية من نهر دجلة، الى الشمال من العاصمة بغداد بحوالي ثمانين كيلومتراً، لذلك تُعّد نقطة وصل بين مدينتي سامراء وبغداد، أما أسمها فهناك رأي واحد بشأنه لا يُعرف مَدى صحته، يَستند الى موقعها المُميز بالنسبة لنهر دجلة الذي يحيطها من ثلاث جهات (الجنوب والشرق والغرب)، لتبدو أرضها كالقلب بين الضلوع، مما جعلها تَتميز بوفرة المياه، لذلك تكون تربتها خصبة على مدار العام لتغدو واحة خضراء عامرة ببساتين أشجار الحمضيات والنخيل والرمان والخوخ، بالإضافة الى حقول الخضراوات المختلفة، لتُماثل صورتها الروعة نفسها والجمال عينه، تسلب النظر إليها من دون حاجة الى دعاية أو ترويج، حيث أشجار الحمضيات المَحمية بسعف النخيل العالي وقد تدلت أغصانها المُثقلة بالثمار حتى كادت تلامس الأرض، ثم لتزيد جمالية هذا المشهد صور أقفاص الفواكه وهي تُباع طازجة أمام أبواب البساتين للسيارات العابرة، لكن أجمل ما يمكن مشاهدته في هذا المكان، تلك العربات الخشبية البسيطة التي تبيع "الخسّ" الطري اليانع ذو الأحجام الكبيرة، المتوقفة على جانبي الطريق، والذي يبدو لناظريه شهياً للغاية وبحاجة لمقاومة كبيرة للعزوف عن شرائه.
انتقينا أحد المطاعم البسيطة القليلة في الشارع الرئيسي للناحية والذي غدا موحلاً للغاية بسبب كثرة مرور سيارات الحمل عليه، وقد لفت انتباهنا تَملق صبي المطعم لنا، من ناحية الخدمة ونوعية الطعام وكميته التي قدمها الينا قياساً الى باقي الزبائن، بالإضافة الى ابتسامة مصطنعة رَسَمها على وجهه بإيعاز من صاحب المطعم، وقد زال استغرابنا حينما رأيناهم يبحلقون في سيارتنا الواقفة بالقرب من الباب ورقمها السحري "حكومي/اعلام"، لا أدري ربما كانوا يظنون بنا شيئاً آخر، ليُشجّعني ذلك على سؤال الصبي مَدفوعاً بشيء من حب الفضول الذي أبتليَّ به الآثاريون، عن ذلك البناء والسيطرة التي استوقفتنا في الطريق الآخر، ليجيبنا وابتسامته العريضة تأبى أن تفارق وجهه.. (أنتو ما قريتو القطعة في بداية الطريق؟ هذه استراحة حَرَم الرَيّس، مكتوب عليها.. "مُضيف الحاجة...........")، ضحكت بسري وكذلك زميلاي العزيزان، حيث كانا يُشاركاني نفس رَدة الفعل والشُعور، لتضّل القلوب خزينة بدواخلها، حينها تذكرت المقولة الشعبية الدارجة.. (القَرَج خاتون المَحَّلة)، لنغادر بعدها "الضلوعية" متوجهين نحو بغداد الحبيبة، التي وصلناها عند المساء مع حُلكة الظلام ورَجفات برد الشتاء.

هَلك شالو على مكحول يا شير

غدا الطريق المؤدي من بغداد الى الموصل لكثرة مُرورنا به، وتنقلنا الدائم عبره على مدى سنوات عديدة، بسبيل توجهنا نحو مدينة الموصل وقصباتها أو قضاء الشرقاط ونواحيه أو قرى وأراضي الزاب الصغير والحويجة، من أجل أداء أعمالنا وواجباتنا الآثارية من تنقيبات وكشوفات ومُسوحات آثارية، كأنه أحد شوارع بغداد، حيث بتّنا نعرف دقائق تفاصيله ومحطات الاستراحة فيه وجميع النقاط التي يمّر بها صغيرة كانت أم كبيرة، وكان هذا الطريق سَلساً وانسيابياً في جميع البلدات التي يمر بها أو يقطعها، باستثناء المنطقة المُقابلة لحدود وأطراف مدينة "تكريت"، حيث نُصّبت نقطة سيطرة هناك والى جانبها يافطة معدنية كبيرة، كتب عليها (محافظتنا تُطبق القانون)، وكانت تُطبقه بالفعل لكن وفق منظورها الخاص، حيث أن السيارات العابرة خاصة العائدة للمزارعين أو تلك التي تنقل البضائع التجارية، كان لابد من أن تدفع شيئاً من حُمولتها للحراس المتواجدين هناك، وأياً كان شكلها أو نوعها.. خضار، فواكه، حبوب، أطعمة مُعلبة، مُنتجات حيوانية، وما شابه ذلك، المهم أن تُقدّم شيئاً كنوع من الضريبة الى (السلطة القائمة) في هذه السيطرة.
وأهم محطة في هذا الطريق هي قضاء "بيجي" الواقع الى الشمال من بغداد بمسافة حوالي مئتين وعشرين كيلومتراً، الذي يعتبر بناحيتيه "الزوية" و"الصينية" أكبر أقضية محافظة صلاح الدين، وتكمن أهمية القضاء بمصفاة نفطه الشهيرة التي تُعتبر الأكبر في العراق، إضافة الى موقعه الذي جُعل من مركزه محطة استراحة ونقطة مفصلية هامة عند طرق المواصلات التي تربط قصبات ونَواحِ وقرى مناطق الشمال بالجنوب والشرق بالغرب، لذلك أمتاز بطابعه الحَضري والريفي معاً، وأيضاً بزحامه الدائم حتى يصعب كثيراً لمن يَمّر بسيارته أيجاد مكان على جانب الطريق لإيقافها فيه، أما مطاعمه وأسواقه ومقاهيه المُنتشرة على شارعه العام بالقرب من موقف سيارات نقل المسافرين، فهي مكتظة بالزبائن على الدوام، وهي تستقبل المسافرين القادمين من كل تلك المناطق، خاصة المتوجهين من والى محافظة نينوى، لذلك تبدو لمن يتجول في هذا المكان الذي يُعتبر القلب النابض للقضاء، كأنه يلتقي خليطاً من ألوان عديدة من المجتمع العراقي، فذاك يتكلم التركمانية وآخر الكردية، بل وحتى العربية تجدها بلهجات والفاظ مختلفة، فتلك الموصلية، وتلك التكريتية والسامرائية أو البغدادية أو العائدة لأهل حديثة والرمادي.
والى الشمال من مركز قضاء "بيجي" بمسافة ستة عشر كيلو متراً تقريباً تقع منطقة "الفتحة"، التي تُعتبر واحدة من أجمل الأماكن التي يمكن مشاهدتها بين ربوع العراق، رغم أنها تقع ضمن مناطقه شبه القاحلة لطول صيفها وقصر شتائها، وقد سُميّت بهذا الاسم لأن نهر دجلة عند مروره في هذه المنطقة يفتح السلسلة الجبلية التي يتراوح ارتفاعها ما بين مائتين وأربعمائة متر ليقسمها الى قسمين، الأولى تمتد باتجاه الشمال الغربي وتُسمى "مكحول"، والثانية باتجاه الجنوب شرقي وتُسمى "حمرين"، لذلك فأن بعض المصادر العربية القديمة قد أسمتها بـ"الخَنقة" ويُقصد به المكان الضَيّق الذي يمّر به النهر من بين هذين الجبلين. ومنظر هذا المرور لا يمكن أن يُنسى لمن يراه، حين ترى دجلة الخير وهو يَشق سلسلة الجبال الشامخة تلك، ليبدو كأنه إله سلام أسطوري يَفك اشتباكاً بين عملاقين جبارين، بمشهدٍ جميل ساحر، يُذّكر حتماً بالبطل اليوناني المعروف "هيركوليس"، عندما فتح اليابسة حسب ما ترويه الأسطورة الشهيرة، ليربط مياهي المحيط الأطلسي بالبحر الأبيض المتوسط، ويُنشئ ما يُعرف اليوم بمَضيق "جبرالتر" أو "جبل طارق" كما يُعرف في الكتابات العربية.
ومن الجدير بالذكر أن تسمية "بيجي" مُحرفّة في الغالب من كلمة "بعيجي"، وهو الوصف الذي عُرفت به مُنطقة "الفتحة" بين الأهالي، ويُقصد به موضع "انبعاج" السلسلة الجبلية مما سمح بمرور نهر دجلة من خلالها، كما أن تسمية جبال "حمرين" تعود في الغالب الى لونها الذي يغلب عليه الاحمرار، وقد وردت هذه الجبال في النصوص المسمارية البابلية بصيغة "دوكو" المأخوذة من المقاطع المسمارية السومرية "دوكور" بمعنى "الجبل المقدس"، حيث تذكر الأساطير البابلية أن "مردوخ" كبير آلهة بابل قد ولد عليها، لذلك فأن أسم "مردوخ" الذي يقرأ بصيغة "ماردوكو" يعني في اللغة الأكدية البابلية "أبن الجبل المقدس"، بالمقابل فقد وَردت هذه الجبال في الكتابات المسمارية الآشورية بصيغة "أبخ"، حيث وصفت بأنها "موطن الآلهة"، بالإضافة الى ذلك فأن الآشوريين كانوا يعتبرون سلسلتي جبال "حمرين" و"مكحول" بمَثابة الحَد الفاصل بين بلاد بابل وآشور.
وكان حاكم مدينة "لكَش" السومرية بسلالتها الثانية الأمير "كَوديا" 2200ق.م، والذي عُرف بتعبده، قد أورد في كتاباته أسم جبل يُدعى "باراما "، كانت تُجلب منه الأحجار التي تُصنع منها تماثيل الآلهة، في الغالب أن المقصود بها هو جبال "حمرين"، وما يُرجح ذلك أن هذه الجبال قد ورد ذكرها في المراجع العربية بـاسم "جبال بارما"، حيث أوردت كذلك أسم مدينة تُدعى "السِن" بالرغم من عدم الاتفاق على تحديد موقعها بدقة لكن من المُفترض أنها قريبة من هذه الجبال، ويُعتقد أنها تقع في المنطقة التي يَصب فيها رافد الزاب الصغير بنهر دجلة شمال منطقة "الفتحة"، حيث أنها ذُكرت بصيغة "سِن بارما"، اشتهرت بصناعة الجرار الفخارية وخاصة حِباب الخزن الكبيرة التي تُعرف بـ"الباربوتين"، كان معظم سكانها من المسيحيين النصارى، وَردت في المصادر السريانية القديمة باسم "شِنّا"، كما تَم ذكرها أيضاً في الكتابات الساسانية في القرن الرابع الميلادي باسم "قرَد ليباد".
أما "مكحول" الذي يمتد من "الفتحة" باتجاه الشمال الغربي لمسافة حوالي ستين كيلومتراً، حيث ينتهي بسلسلتي جبل أقل ارتفاعاً هي "مكيحيل" و"الخانوكَة"، اللتان تتصلان بمرتفعات "القيارة" ثم سلاسل تلال "العطشانة"، "عداية"، "شيخ أبراهيم"، "تلعفر"، "أشكفت"، ثم جبل "سنجار"، فأنه يُعتبر من ضمن الجبال الوعرة التي توصف جيولوجياً بـ"ذات الطيات الواطئة"، وتكاد الآراء تُجمع على أن تسميته بـ"مكحول" جاءت من لونه الرمادي الذي يبدو مع مَغيب الشمس غامقاً أقرب الى السواد، مما يَجعله مُشابهاً لنوع خاص من الكُحل اشتهرت به الجزيرة العربية عُرف بـ"الكُحل المَكاوي".
من جانبٍ آخر فقد ذكرت المصادر العربية وجود مدينة تقع الى الجانب الأيمن من نهر دجلة، في الجهة المقابلة لمدينة "السِن" تدعى "الكُحيل"، في الغالب أنها استمدت تَسميتها من أسم هذا الجبل، كما ذكر عدد من الرَحّالة الذين زاروا المنطقة في القرن السابع عشر ومنهم الفرنسي "جان دي تيفينو" 1633_1667، وجود بقايا قلعة كبيرة عند السفح الشرقي لهذا الجبل المُطل على الضفة اليُمنى لنهر دجلة أسموها "قلعة مكحول"، شُيّدت بعض أجزاء منها باللِبن وأخرى بالآجر، تُعرف بقاياها اليوم بين سكان المنطقة بـ"قصر البنت"، في الغالب أنها كانت نقطة حراسة للحدود الشمالية للدولة الساسانية. ولموقعه الاستراتيجي الهام فقد شُيّد في أعلى هذا الجبل خلال عقد الثمانينات من القرن العشرين، قصراً رئاسياً كبيراً يُمكن مشاهدته بوضوح مع الطريق المُنحدر المؤدي إليه وذلك قبل الوصول الى مفرق القيارة بعدة كيلومترات.
ولعل أجمل ذكر لجبل "مكحول" كان قد أورده شاعر البادية المعروف وصاحب القصة المشهورة "عبد الله الفاضل" الذي عاش في أواسط القرن التاسع عشر، في أحدى أشهر قصائده التي ناجى فيها كلبه الوفي "شير" وهو على فراش المرض...
هَلك شالو على "مَكحول" يا شير
وخَلولك عظام الحيل يا شير
لوَن تبجي طول الدَهر يا شير
هَلك شالو على "حَمص" و"حَما"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجامعات الأميركية... تظاهرات طلابية دعما لغزة | #غرفة_الأخب


.. الجنوب اللبناني... مخاوف من الانزلاق إلى حرب مفتوحة بين حزب 




.. حرب المسيرات تستعر بين موسكو وكييف | #غرفة_الأخبار


.. جماعة الحوثي تهدد... الولايات المتحدة لن تجد طريقا واحدا آمن




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - كتائب القسام تنشر فيديو لمحتجزين ي