الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التعليم بالمغرب.. سياسة السيرك الروماني

عبد الوكيل البايعيشي

2023 / 11 / 21
التربية والتعليم والبحث العلمي


التعليم بالمغرب..سياسة السيرك الروماني
في الإمبراطورية الرومانية كانت تقام مجموعة من الأنشطة الترفيهية كسباق الخيول وصيد الحيوانات والمصارعة الرومانية، كانت هذه الأنشطة تؤدي وظيفة سياسية محضة وهي جعل الناس منشغلين بمظاهر البهرجة لصرف نظرهم عن القضايا العامة وقد تطورت هذه السياسة في العصر الحديث لتصبح أكثر شمولية مما كانت عليه عند الرومان، فما أكثر مظاهر الإلهاء في هذا العصر من مسارح تعرض أعمالا مبتذلة تحط بالذوق العام، وأفلام وأعمال تلفزيونية تهاجر بالمتلقي إلى عوالم خيالية أو على الأقل إلى واقع غريب عن الواقع الذي يعيشه، أو جعله منشغلا بذاته معزولا عن مجتمعه مكتفيا بما تجود به "سياسة السيرك" من ملذات تشبع أناه الفردية وتلقي به خارج الهموم الجماعية كما أشار لذلك "أليكسيس دو طوكفيل" في كتابه "الديمقراطية في أمريكا.
لكن رغم شمولية "سياسة السيرك" إلا أن لكل حكومة سركها الخاص أو بالأحرى نظريتها الخاصة في الإلهاء والتي ترتبط بالمناخ العام للمجتمع وميولاته، ففي الولايات المتحدة تنحو نظرية الإلهاء نحو الأفلام الهوليودية ومباريات "الباسكط بال" وبشكل عام بثقافة الاستهلاك فلا يخلو جيب مواطن أمريكي واحد من ثلاث بطاقات بنكية على أقل تقدير فالاستهلاك المفرط والسعي الحثيث خلف المتعة لا يترك أي فرصة للمواطن الأمريكي للنظر إلى ما يجري حوله من أحداث والشعب الأمريكي من أقل الشعوب في العالم دراية أو إهتماما بما يحدث في العالم.
في جانب آخر من العالم أقل إستهلاكية لكن أكثر شغفا بالرياضة الأكثر شعبية في العالم، تتخذ نظرية الإلهاء في المغرب من كرة القدم أساسا لتطويع المواطنين وتخذيرهم، ففي مجتمع قل فيه منسوب التدين لم يعد أي معنى لمقولة ماركس "الدين أفيون الشعوب" ويمكن استبدالها بمقولة أكثر مواءمة : "الفوتبول أفيون الشعوب"، فالمقاهي أكثر اكتظاظا من المساجد أما المكتبات فلا داع لفتح تلك السيرة، ولا يخلو أي حديث بين شخصين عن آخر المستجدات في عالم "الفوتبول" وعن تسريحة شعر اللاعبين والسخرية من ارتيادهم مقاهي الشيشة بدل مقرات التداريب، والزيادة الغير مفهومة في أوزانهم من تعاطي البيرة و"الفاست فود" ، أما المنتخب الوطني فتلك حكاية أخرى فالجميع يعرف كيف يختار التشكيلة المثالية للفريق ويبدي امتعاضه من عدم استدعاء اللاعب الأسطوري الذي سجل هدفا أسطوريا في مرمى "الخريطيات" القطري، بل هناك من ذهب به الهوس إلى حد البكاء بشكل هستيري أو كسر شاشة التلفاز عند خسارة المنتخب، ومن جانبهم لا يفوت المقامرون متابعة نتائج الفرق من مختلف خرائط العالم ليس حبا في شعارهم بقدر ما هو ترقب لحسن الطالع لعله يجود عليهم ببعض الأموال ليقامروا بها من جديد في دوامة دائرية تشبه السيرك الروماني.
ولكي تكتمل الصورة ويؤدي السيرك الروماني المعاصر أدواره الإلهائية يعمل صناع هذا السيرك على زرع النزعة القبلية بين المتفرجين، فتزدهر مصطلحات قبلية مثل "الغريم الأزلي" ، "الإخوة الأعداء" ، فيتحول الصراع العمودي إلى صراع أفقي بين جيش الفريق الأحمر مع جيش الفريق الأخضر- أي تشابه في الألوان ليس من نسج خيال الكاتب- فيعمل كل جيش على الحاق الهزيمة "بعدوه" داخل السيرك وخارجه، في المقاهي العمومية والشارع العام وفي وسائل النقل العمومي، وعبر فيديوهات ساخرة و"طرولات" في مواقع التواصل الاجتماعي، فكل هزيمة للخصم هي انتصار معنوي للذات المتضخمة بنشوة الإنتماء، وكل انتصار على الخصوم هو تعزيز لهذا التضخم في مشاعر الإنتماء لشعار الفريق.
ينتعش سوق البلاهة هذا وترتفع أسهم السيرك في بورصة الإلهاء بقدر ما يكون ارتباط المتفرجين قويا بفرقهم فتتم صناعة الرموز لإضفاء بعض القداسة على الشعار، فكل فريق يخلق رموزا خاصة به، فهذا "فريق القرن" وذاك "الفريق العالمي" والآخر "بعبع القارة" ... ويتم صناعة "طوطم" للفريق شبيه بذلك الموجود عند بعض القبائل في أستراليا، فلا يخلو شعار فريق من "طوطم" يرمز له؛ الديك، الأسد، النسر، القرش، وغيرها من الحيوانات الأليفة والمفترسة التي تصير مقدسة عند أنصار الفريق وأوثانا منبوذة عند الخصوم يسخرون منها عند أول هزيمة، واللاعبون أيضا لهم نصيبهم من القداسة كرموز للفرق، يصل حد الهوس بمريديهم إلى وشم أسمائهم وصورهم على أجسادهم الهزلية بسوء التغذية، وتقليد تسريحة شعرهم ومتابعة كل كبيرة وصغيرة عن أخبارهم بل يصل الهوس ببعض المراهقين إلى متابعة مقاطع فيديو لهم داخل الفصول الدراسية أو حتى مشاهدة مبارايات لهم، فهؤلاء الصغار يعرفون أسماء اللاعبين أكثر من الرموز الذين صنعوا التاريخ ومن أسماء الفلاسفة، ويحفظون زوايا الملعب وأبعاده أكثر من مبرهنات طاليس وفيتاغورس، ويقدسون رموز "السيرك" أكثر من تقديسهم لرموزهم الدينية.
الحكومة تغدق بسخاء على مجموعة من اللاعبين يركضون خلف كرة، فتبسط يدها كل البسط، لكنها تجعلها مغلولة إلى عنقها عندما يتعلق الأمر بالتعليم، وكأن نار الوعي والتنمية الحقيقية للطبقة المسحوقة تحرقها في يدها، فنرى على الدوام شعار إصلاح التعليم إلا أننا في الواقع لا نرى إلا إصلاح العشب الاصطناعي للملاعب والمدرجات وبناء المزيد من "السيركات" لصناعة البلاهة الممنهجة، فكرة القدم لم تكن يوما قاطرة للتنمية أو وسيلة فعالة للإقلاع الإقتصادي، وخير أو أسوأ مثال على ذلك دولة البرازيل صاحبة الخمسة كؤوس عالمية.
هل تعلمون الآن ما سر هذا السخاء في تمويل المنتخبات وأندية كرة القدم؟
إنه السيرك اليوناني أو نظرية الإلهاء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما محاور الخلاف داخل مجلس الحرب الإسرائيلي؟


.. اشتعال النيران قرب جدار الفصل العنصري بمدينة قلقيلية بالضفة




.. بدء دخول المساعدات عبر الرصيف الأمريكي العائم قبالة سواحل غز


.. غانتس لنتنياهو: إما الموافقة على خطة الحرب أو الاستقالة




.. شركة أميركية تسحب منتجاتها من -رقائق البطاطا الحارة- بعد وفا