الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النظام الاجتماعي في فلسفة الإمام الشهيد محمد باقر الصدر

حيدر جواد السهلاني
كاتب وباحث من العراق

2023 / 11 / 28
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


"إني منذ عرفت وجودي و مسؤوليتي في هذه الأمة, بذلت الوجود من أجل الشيعي و السني على السواء , و من أجل العربي و الكردي على السواء, حيث دافعت عن الرسالة التي توحدهم جميعاً, و عن العقيدة التي تهمهم جميعاً ، الإمام الشهيد محمد باقر الصدر".
المقدمة:
النظام الاجتماعي هو شبكة من العلاقات النمطية تشكل رابطة قوية ما بين الأفراد والجماعات والمؤسسات، و يشير هذا المصطلح إلى الهيكل الرسمي للدور والمركز الممكن تشكيلهم في الجماعات الصغيرة المستقرة، ومن الممكن أن ينتمي الفرد لعدة نظم اجتماعية في وقت واحد، و من الأمثلة على النظم الاجتماعية: أفراد الأسرة، المجتمعات، المدن، الشعوب، الجامعات، الشركات والمصانع، و يعتمد تعريف المجموعات ضمن النظام الاجتماعي على عدة خصائص مشتركة كالمكان، الوضع الاقتصادي والاجتماعي، العرق، الدين، الوظائف الاجتماعية وغير ذلك من الصفات المشتركة، ويرتبط مفهوم البنية الاجتماعية بالسلوك الإنساني أو بتلك الظواهر التي تتأثر بالسلوك الإنساني، والنظم الاجتماعية التي تشكل في مجملها البنية الاجتماعية هي في حد ذاتها عبارة عن مجموعة مترابطة من الظواهر الاجتماعية المرتبطة بالسلوك الإنساني، وتتحدد طبيعة كل نظام اجتماعي بموجب هذا الترابط بين مجموعة الظواهر الاجتماعية المتعلقة بناحية معينة من السلوك الإنساني التي تميز كل نظام اجتماعي عن النظام الآخر، كما يطلق مصطلح النظام الاجتماعي على أي من الأنشطة والتفاعلات الإنسانية النمطية والمستقرة، وعبر الترابط بين الظواهر الاجتماعية المتسقة ينشأ النظام الاجتماعي.
السيد محمد باقر الصدر أكبر من أن يحيط به عنوان أو تستوعبه دراسة، فهو مدرسة متكاملة برزت في عالم الفكر في واحدة من فترات الركود الاسلامي، لتعكس قوة الفكر الاسلامي وقدراته الابداعية المعطاء.(1) وفي الحديث عن السيد الصدر نتذكر أولئك المفكرين الموسوعيين الذين حذقوا بشتى ضروبها، فلسفة وفقهاً وسياسة وحتى تاريخاً ومنطقاً، ونتذكر عصر اتسم بالتخصص والعمق إلى درجة بات متعذراً معها على الباحث الإحاطة بمعارف خارج دائرة تخصصه واهتمامه، وقد كان السيد الصدر غزير الانتاج في الفلسفة والاقتصاد و المنطق والاجتماع، وحتى التاريخ.(2) ويمثل السيد الصدر حالة فريدة في الفكر العربي المعاصر، فهو درس في الحوزات العلمية بالنجف، ولم يكن يتكلم اللغات الاجنبية، لكنه أظهر حساً فلسفياً قوياً، واطلاعاً واسعاً على النصوص الفلسفية المترجمة إلى العربية.(3) ويعد واحداً من ابرز رواد الابداع والتجديد الفكري في العالم الاسلامي وأحد صناع المشهد الفكري بالرغم من مضي 43 عاماً على رحيله المفجع.(4) ويقول عنه المفكر المصري حسن حنفي" الامام الشهيد محمد باقر الصدر يعد من الائمة المجتهدين المعاصرين، وكان لديه احساس بالجدة وبضرورة التطوير".(5)
أن السيد الصدر يشكل ظاهرة متميزة في عالم الفكر الاسلامي المعاصر، فقد تطورت شخصيته الفذة على العديد من الابعاد التي برز فيها عنصر الإبداع والريادة والتجديد في الحقول المختلفة من حقول المعرفة الاسلامية والإنسانية، فقد كان مرجعاً دينياً حمل لواء التغيير والاصلاح في المؤسسة الدينية واعطى للمرجعية الدينية صورتها المشرقة في استيعاب مشكلات الفرد والمجتمع المسلم على السواء وحاجاتها كل منهما إلى الحل الاسلامي الذي يحقق الانسجام مع الشريعة السمحة ومتطلبات الواقع المتجدد، وقد واجه بالإسلام الفلسفات والعقائد والافكار الأخرى، وقد نقل المواجهة من خندق الدفاع إلى ساحة التحدي والمواجهة، فطرح الاسلام بديلاً حقيقياً يشبع حاجات الإنسانية المتعطشة وينقذها من التيه والضلال الذي تتخبط فيه، وقد اتسمت اعماله بأنها تعبير عن محاولات منهجية جادة لتأصيل نظرية اسلامية في كل حقل من حقول المعرفة الاسلامية، وحرص على اكتشاف نظريات الاسلام في التاريخ والاقتصاد والسياسة والفلسفة والمجتمع الذي ينشد التقدم في المجالات الحياتية والأخروية.(6)
السيد محمد باقر الصدر سيرة وفكر:
حياته:
ولد السيد محمد باقر الصدر في عام 1935( ويقال أيضاً في عام 1933) في منطقة الكاظمية شمال العاصمة بغداد، وينتهي نسبه الشريف إلى الإمام موسى بن جعفر(ع)،وينتمي السيد الصدر لأسرة علمية عريقة من جهتي الأب والأم، فوالده السيد حيدر اسماعيل الصدر ذو منزلة عظيمة، وقد حمل لواء التحقيق والتدقيق والفقه والأصول، وكان عابداً زاهداً عالماً عاملاً، ومن علماء الإسلام البارزين، ووالدته هي أبنة الفقيه الشيخ عبدالحسين آل ياسين، و أخت المرجع الديني المحقق الشيخ محمد رضا آل ياسين، توفي والده عام 1938 وهو في الثالثة من عمره، فتولت والدته رعايته واعتنى به أخوه الأكبر السيد اسماعيل الصدر الذي كان عالماً فاضلاً، كما حظي بعناية أخواله العلماء من آل ياسين.(7)
عائلته:
ينتمي السيد الصدر إلى اعرق العائلات العربية الاسلامية نسباً حيث يعتبر جد الاسرة صالح آل شرف الدين احد علماء جبل عامل في جنوب لبنان الذي هاجر إلى العراق عام1779 بعد المحنة التي تعرض لها على يد والي عكا( أحمد باشا) الملقب بالجزار وبذلك عاد إلى أرض الاجداد، وترجع تسميه الصدر إلى السيد محمد المعروف ب(صدر الدين) الذي استقر في مدينة النجف، وقد عرف عن هذه العائلة بالمثابرة والعلم والجهاد والشهادة.(8) وقد أنجبت عائلة الصدر العديد من العلماء المسلمين في إيران ولبنان والعراق ومن أبرزهم:
1_السيد صالح شرف الدين العاملي المعروف بالسيد صالح الكبير العاملي المكي(1710_1802) وهو جد الطائفة المعروفة بآل الصدر المنتشرة في لبنان والعراق وإيران.
2_السيد صدر الدين محمد بن صالح شرف الدين( 1779_1848) باحث إسلامي، وهو الجد الأعلى لأسرة آل الصدر.
3_السيد اسماعيل الصدر (1842_1919) من علماء الشيعة ولد بمدينة اصفهان وتوفي في الكاظمية، وهو جد السيد محمد باقر الصدر.
4_السيد حسن الصدر، هو حسن بن هادي بن محمد علي الصدر (1856- 1935)هو رجل دين وفقيه ومحدث ومرجع شيعي بالإضافة لكونه شاعراً وأديباً ومؤلفاً .
5_السيد محمد حسن الصدر(1882_1956) رئيس وزراء العراق في عام 1948.
6_السيد موسى الصدر (1928_) من العلماء و المفكرين المؤثرين في المجال الثقافة والسياسة، ومؤسس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى وحركة أمل في لبنان، اختفى خلال زيارته الرسمية إلى ليبيا في صيف عام 1978، ولا يزال مصيره لغزا.
7_السيدة آمنة الصدر المعروفة باسم بنت الهدى، وتلقب أيضاً الشهيدة (1937_1980) وهي شقيقة السيد محمد باقر الصدر، وقد أعدمها النظام البعثي في عام 1980م مع شقيقها.
8_السيد محمد الصدر( 1943_1999) هو محمد بن محمد صادق الصدر، وهو رجل دين ومرجع شيعي عراقي معروف، كان من معارضي النظام العراقي في فترة حكم حزب البعث وقد عرف بنشاطه المناهض للنظام آنذاك، استشهد على يدي حزب البعث عام 1999برفقة ولديه مؤمل ومصطفى في سيارته عندما كان عائداً إلى منزله في منطقة الحنانة إحدى مناطق محافظة النجف.
9_ السيد مقتدى الصدر(1974_) هو رجل دين شيعي وزعيم التيار الصدري الذي يعتبر أكبر تيار شعبي في العراق، وهو الابن الرابع للسيد محمد محمد صادق الصدر.
دراسته:
درس المرحلة الابتدائية في مدرسة منتدى النشر بالكاظمية، وتركها بعد السنة الثالثة وهو في الحادي عشر من عمره، ليلتحق بالدراسة الدينية ويتفرغ لها، وقد عرف عنه بالنباهة والذكاء منذ وقت مبكر، وقد كان محط أنظار التلاميذ والاساتذة، وأنتقل السيد الصدر برفقة عائلته إلى النجف الأشرف وبدأ السيد الصدر دراسته في الحوزة العلمية وامتدت نحو 14 عاماً امضاها في الجد والاجتهاد والمثابرة، فقد ذكر عن السيد الصدر أنه كان يقتطف أكثر من عشرين ساعة من الليل والنهار للتحصيل العلمي، وكان يقسمها بين المطالعة والكتابة والتفكير، ويقول السيد الصدر في هذا الخصوص" أنني في الايام التي كنت أطلب فيها العلم، كنت أعمل في طلب العلم كل يوم بقدر خمسة أشخاص مجدين".(9)
في عامه الخامسة والعشرين من عمره بدأ بألقاء الدروس التي تعرف في نظم الحوزات الدينية عند المسلمين الامامية ببحث خارجي وتمثل أعلى مراحل الدراسات الدينية وتعادل مرحلة الدراسات العليا النهائية في نظم الجامعات الحديثة، وقد أخذ نجم السيد الصدر يسطع عالياً في حاضرة النجف العلمية ويشار إليه بالبنان وبات الطلبة يقصدونه للتلمذة على يديه كما يقصده العلماء والمفكرون والكتاب من داخل العراق وخارجه للتعرف عليه والتحاور معه والتزود من علمه ومعارفه.(10)
من أبرز اساتذته:
1_محمد رضا آل ياسين(1880_1951) وهو خال السيد محمد باقر الصدر وقد حضر عنده مرحلة البحث الخارجي في صغره.
2_ملا صدرا البادكوبي وقد درس عنده الجزء الثاني من الكفاية والأسفار الأربعة.
3_أبو القاسم الخوئي(1899_1992) وقد درس عنده مرحلة البحث الخارجي وقد كان أبو القاسم الخوئي أول من أجاز السيد محمد باقر الصدر وقد كان يرجع طلابه إلى الصدر عند عدم فهمهم لبعض عناصر الدرس.
4_الشيخ محمد تقي الجواهري(1922_1979) وقد درس عنده الجزء الأول من الكفاية وجزء من اللمعة.
من أبرز تلاميذه:
1_المرجع السيد محمود الهاشمي الشاهرودي(1948_2018).
2_آية الله العظمى السيد محمد باقر المهري(1948_2015).
3_السيد حسن نصر الله(1960_).
4_الفقيه الشيخ محسن الأراكي(1956_).
5_المرجع السيد كمال الحيدري(1956_).
6_المرجع السيد محمد باقر الحكيم(1939_2003).
7_المرجع السيد محمد بن محمد صادق الصدر(1943_1999).
8_المرجع السيد كاظم الحائري(1938_).
9_آية الله العظمى السيد نور الدين الإشكوري.
10_آية الله العظمى الشيخ علي أكبر برهان.
11_محمد حسين فضل الله(1935_2010).
12_الشيخ محمد إبراهيم الأنصاري.
13_علي رضا اليزدي الحائري.
14_علي الحسيني الأشكوري.
15_سلطان فاضل الأفغاني.
16_محمد منصور الستري.
17_الشيخ عيسى أحمد قاسم.
18_السيد عبد الله الغريفي.(11)
كان للسيد الصدر الكثير من الصفات ومنها:
حبه وعاطفته:
إن من سمات شخصية السيد الصدر تلك العاطفة الحارة، والأحاسيس الصادقة، والشعور الأبوي تجاه كل أبناء الأمة، إذ يذكر عنه يلتقي الناس بوجه طليق و تعلوه ابتسامة تشعرك بحب كبير وحنان عظيم، حتى يحسب الزائر أن السيد لا يحب غيره، وإن تحدث معه أصغى إليه باهتمام كبير ورعاية كاملة، وكان يقول: "إذا كنا لا نسع الناس بأموالنا فلماذا لا نسعهم بأخلاقنا وقلوبنا وعواطفنا".
صبره وتسامحه:
كان السيد الصدر أسوة في الصبر والتحمل والعفو عند المقدرة فقد كان يتلقى ما يوجه إليه بالصبر ، وكان يصفح عمن أساء إليه.
ايثاره وشفقته:
كان السيد الصدر يفيض عاطفة وشفقة ورقة على من حوله، ويرعاهم رعاية أبوية تختزن طاقة هائلة من الحنان والمودة، فمثلاً لما جرى اعتقاله، اعتقل معه الشيخ المجاهد طالب السنجري، ولما اندلعت التظاهرة الاحتجاجية العنيفة في ذلك اليوم في النجف الاشرف، تم الافراج عنه، بيد أنه رفض العودة الى النجف من دون الافراج عن رفيقه الشيخ طالب السنجري، لكن مدير الأمن تمنع لأول وهلة لأجل أن يثني السيد الصدر عن ذلك، إلا أنه عندما لاحظ اصرار السيد الصدر على الافراج عن السنجري اضطر للأفراج عنه، وقد عبر السيد الصدر عن هذه الحادثة قائلاً: "كنت مصمماً على البقاء في مديرية الأمن مدى الحياة إذا لم تفرج السلطة عن مرافقي".
وبلغت المشاعر الانسانية للشهيد الصدر أن يعطف على رجال الأمن الذين كانوا مكلفين بفرض طوق وحشي على داره، إذ يذكر الشيخ النعماني أنه سمعه في أحد أيام الاحتجاز يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فقال له: هل حدث شيء ؟ فقال: كلا، بل كنت انظر الى هؤلاء ويقصد قوات الأمن من خلال فتحة في الكسر الصغير في زجاجة النافذة فرأيتهم عطشى ويتصبب العرق من وجوههم في هذا اليوم من أيام الصيف الحار، فقلت: سيدي أليس هؤلاء هم الذين يطوقون منزلكم ويعتقلون المؤمنين الاطهار من محبيكم وأنصاركم، هؤلاء الذين روعوا أطفالكم وحرموهم من أبسط ما يتمتع به الأطفال ممن هم في أعمارهم؟ فقال: ولدي صحيح ما تقول: ولكن يجب أن نعطف حتى على هؤلاء، أن هؤلاء أنما انحرفوا لأنهم لم يعيشوا في بيئة اسلامية صالحة، ولم تتوافر لهم الاجواء المناسبة للتربية الإيمانية، وكم من أمثال هؤلاء شـملهم الله جل جلاله بهدايته ورحمته، فصلحوا وأصبحوا من المؤمنين.
زهده:
لم يكن السيد الصدر زاهداً في حطام الدنيا، لأنه كان لا يملك شيئاً منها، أو لأنه فقد أسباب الرفاهية في حياته، فصار الزهد خياره القهري، بل زهد في الدنيا وهي مقبلة عليه، وقد روض السيد الصدر نفسه على خشونة الحياة، فظل يعيش حتى أيامه الاخيرة في دار صغيرة، تعود إلى أحدى الأسر التي كانت قاطنة في النجف، ورفض بشدة كل العروض التي قدمت له من قبل بعض مريديه بالتبرع بشراء دار، فيذكر أن تاجر من أهالي الكويت ذهب بنفسه الى السيد الصدر، وقال له: سيدي لي اليك حاجة أرجو أن تقضيها؟ فأجاب السيد الصدر: تفضل، قال لدي أمنية أن اشتري لك داراً من أموالي الخاصة لا من الحقوق الشرعية، فتبسم السيد الصدر ثم قال: لكن بشرط أن تشتري لكل طالب علوم دينية في النجف لا يملك داراً وأنا أحد هؤلاء، يقول فقلت له: أن هذا الشرط غير مقدور، و لم يؤثر فيه كل رجاء والتماس في ذلك فلم يستجب لعروض أخرى في هذا المضمار، أما في ملبسه فقد كان يكتفي بالمقدار الضروري ولا يسعى لارتداء الملابس الفاخرة، حتى أن بعض محبيه كان يهدي له أرقى أنواع الاقمشة والالبسة، فلا يستعمل منها أية قطعة، ويعمد إلى اهدائها للطلاب في النجف الاشرف، ممن يصعب عليهم مادياً شراء الملابس الجديدة.
عبادته:
من الجوانب الرائعة في حياة السيد الصدر هو الجانب العبادي، إذ يذكر أنه كان يهتم في هذا الجانب بالكيف دون الكم، فكان يقتصر على الواجبات والمهم من المستحبات، وكانت السمة التي تميز تلك العبادات هي الانقطاع الكامل لله سبحانه وتعالى، والإخلاص والخشوع التامين.
سعى السيد الصدر لتحقيق أهداف منها:
1_ محاولة إعادة صياغة الفكر الاسلامي ورفعه إلى مستوى الفكر الغربي بكل تياراته، وطرح البديل الاسلامي في المجال المعرفي والمنهجي والاجتماعي والحضاري.
2_ ضرورة إقامة حكومة إسلامية رشيدة، تحكم بما أنزل الله عز وجل، تعكس كل جوانب الإسلام المشرقة، وتبرهن على قدرته في بناء الحياة الإنسانية النموذجية، بل وتثبت أن الإسلام هو النظام الوحيد القادر على ذلك.
3_قيادة العمل الإسلامي يجب أن تكون للمرجعية الواعية العارفة بالظروف والأوضاع المتحسسة لهموم الأمة وآمالها وطموحاتها، والإشراف على ما يعطيه العاملون في سبيل الإسلام في مختلف أنحاء العالم الإسلامي من مفاهيم، وهذا ما سماه السيد الصدر بمشروع (المرجعية الصالحة).
4_ من الأمور التي كانت موضع اهتمام السيد الصدر وضع الحوزة العلمية، الذي لم يكن يتناسب مع تطور الأوضاع في العراق لا كماً ولا كيفاً، وكانت أهم عمل في تلك الفترة هو جذب الطاقات الشابة المثقفة الواعية، وتطعيم الحوزة بها.
مؤلفاته:
بدأ السيد الصدر الكتابة والتأليف منذ وقت مبكر، فقد كتب في مختلف حقول المعرفة، ومن أهم مؤلفاته التي صدرت بعضها في حياته وبعضها بعد استشهاده ومنها:
1 ـ فدك في التاريخ: وهو دراسة لمشكلة (فدك) والخصومة التي قامت حولها، صدر في عام 1955.
2_ غاية في الفكر، وهو كتاب في اصول الفقه، صدر عام 1955.
3_ فلسفتنا، وهو دراسة موضوعية في معترك الصراع الفكري القائم بين مختلف التيارات الفلسفية، وخاصة الفلسفة الاسلامية والمادية والديالكتيكية الماركسية، صدر عام 1959.
4_ اقتصادنا، وهو دراسة موضوعية تناولت بالنقد والبحث المذاهب الاقتصادية للماركسية والرأسمالية والاسلام في اسسها الفكرية وتفاصيلها، وصدر عام 1961.
5_ المعالم الجديدة للأصول، وهو كتاب في اصول الفقه، وتم تقديم الاصول بصورة مبسطة، صدر عام 1965.
6_ البنك اللاربوي في الاسلام، وجاء في هذا الكتاب ثلاث نقاط، وهي تجدد معالم البنك الاسلامي وهي:
أ_ أن لا يخالف احكام الشريعة الاسلامية.
ب_ أن يكون قادراً على الحركة وتحقيق النجاح والربح كباقي المؤسسات.
ت_ أن تمكنه صيغته الاسلامية من النجاح بوصفه بنكاً، وأن يمارس دوره المطلوب في الحياة الاقتصادية، صدر عام 1969.
7_ الاسس المنطقية للاستقراء، يحاول السيد الصدر في هذا الكتاب إعادة بناء نظرية المعرفة على اساس معين، ودراسة نقاطها الاساسية ويقول السيد الصدر حول التأليف هذا الكتاب" أن مرحلة الاستيراد في العالم الاسلامي من الغرب يجب أن تنتهي، وعلينا أن نصدر ابداعنا إلى الغرب". صدر هذا الكتاب عام 1972.
8_ بحوث في العروة الوثقى، كتاب في الفقه وهو عبارة عن تعليقه على كتاب العروة الوثقى للفقيه السيد محمد كاظم اليزدي، وصدر عام 1972.
9_ المدرسة الاسلامية، صدر هذا الكتاب عام 1975.
10_ موجز احكام الحج، يتناول احكام فقهية حول اداء ومناسك الحج، صدر عام 1976.
11_ تعليقه على منهاج الصالحين، وهو كتاب في الفقه وعبارة عن تعليقه على كتاب منهاج الصالحين للفقيه السيد محسن الحكيم، صدر عام 1976.
12_ الفتاوي الواضحة، وهي رسالة في الفقه، صدر عام 1977.
13_ بحث حول الولاية، صدر عام 1977.
14_ بحث حول المهدي، وهو في الاصل مقدمة لموسوعة الامام المهدي(عج) للسيد محمد صادق الصدر وطبعت مستقلة في كتاب عام 1977.
15_ دروس في علم الاصول، وهو كتاب في اصول الفقه، صدر عام 1978.
16_ المرسل، الرسول، الرسالة، وهو في الاصل موجز اصول الدين في كتاب الفتاوي الواضحة، وحققه الدكتور عبدالجبار الرفاعي، وصدر بعنوان( موجز في اصول الدين) وضم أليه محاضرتين حول الوحي وختم النبوة ونظرة عامة في العبادات، صدر عام 1997.
17_ نظرة عامة في العبادات، وهو في الاصل خاتمة كتاب الفتاوي الواضحة.
18_ الاسلام يقود الحياة، ويشمل هذا الكتاب ست حلقات وهي:
أ_ لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الاسلامية.
ب_ صور عن اقتصاد المجتمع الاسلامي.
ت_ خطوط تفصيلية عن اقتصاد المجتمع الاسلامي.
ث_ خلافة الإنسان وشهادة الانبياء.
ج_ منابع القدرة في الدولة الاسلامية.
ح_ الاسس العامة للبنك في المجتمع الاسلامي، صدر عام 1979.
19_ أهل البيت تنوع أدواره ووحدة هدفه.
20_ محاضرات في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم.
21_ المنطق الوضعي واليقين الرياضي، صدر عام 1980.
22_ رسالتنا، صدر عام 1980.
24_ النبوة الخاتمة، صدر عام 1982.(12)
استشهاده:
منذ مجيء حزب البعث عام 1968 عملت قيادته على مضايقة السيد الصدر وتلامذته وانصاره بالتهديد والتشريد والسجن والاعدام، وقد تعرض السيد الصدر لعدة مرات إلى الاحتجاز والارهاب، فلم يزد السيد الصدر ذلك إلا إصرارا على مواصلة مسيرته الجهادية من أجل الدفاع عن المبادئ الاسلامية وخلاصة الشعب العراقي من الظلم والفساد، واعتقل في عام 1979 ثم وضع تحت الإقامة الجبرية والمراقبة الشديدة مدة عام تقريباً وفي أوائل نيسان عاودوا على اعتقاله مع أخته العالمة الشهيدة بنت الهدى، فعذبا وقتلا على أيدي النظام البعثي في 9/4/1980، ليكون شاهداً وشهيداً ومعلماً على مسيرة الاسلام الصاعدة في هذا العصر.(13)
كان من المؤلم والمحزن أن ينتهي مصير هذا المفكر الكبير إلى الاعدام ، فقد استطاع السيد الصدر خلال عمره المبارك أن يربي طلاباً امتازوا عن الآخرين من حيث العلم ، والأخلاق ، والثقافة العامة ، لأن تربيته لهم ليست منحصرة في الفقه والأُصول ، بل إنه كان يلقي عليهم في أيام العطل والمناسبات الأُخرى محاضراته في الأخلاق ، وتحليل التأريخ ، والفلسفة ، والتفسير ، ولذا أصبح طلابه معجبين بعلمه ، وأخلاقه ، وكماله ، إلى مستوى منقطع النظير ، ويقول المفكر المصري الكبير زكي نجيب محمود:" أن اعدام مفكر ساهم في تنمية العقل العربي الاسلامي يثير لدينا مشاعر التقزز والاشمئزاز، فالدول المتقدمة تكرم أفذاذها، أما العراق فيعدم مفكريه".(14)
النظام الاجتماعي:
يعتبر البحث عن علاج لمشكلة النظام الاجتماعي للسيد الصدر مشكلة عميقة الجذور في الاغوار البعيدة من تأريخ البشرية وقد واجهها الإنسان منذ نشأت واقع الحياة الاجتماعية، وانبثقت الإنسانية الجماعية المتمثلة في عدة أفراد وتجمعهم علاقات وروابط مشتركة، هذه العلاقات الاجتماعية التي كانت وما زالت بحاجة إلى توجيه وتنظيم شامل، يمكنهم من الانسجام مع واقعهم الاجتماعي ويحقق لهم الاستقرار والاطمئنان، لذا اندفعت البشرية بشتى مذاهبهم وتوجهاتهم نحو خوض جهاد طويل وكفاح حافل بمختلف ألوان الصراع، بحثاً عن علاج للمشكلة الاجتماعية والتنظير لها، ولكن ذلك الاندفاع أدى إلى واقع اجتماعي أخر يضج بالمآسي والمظالم وتقترن فيه السعادة بالشقاء، لأن كل تلك النظريات التي دارت حول علاج المشكلة الاجتماعية وكانت عبارة عن مظاهر من الشذوذ والانحراف عن الوضع الاجتماعي الصحيح.(15) ويعتقد السيد الصدر أن احساس الإنسان المعاصر بالمشكلة الاجتماعية أشد من احساسه بها في أي وقت مضى من أدوار التأريخ القديم، فهو الآن أكثر وعياً لموقفه من المشكلة وأقوى تحسساً بتعقيداتها، لأن الإنسان الحديث اصبح يعي أن المشكلة من صنعه، و المشكلة الإنسانية اليوم، هي مشكلة النظام الاجتماعي، ويطرح السيد الصدر السؤال التالي ما هو النظام الذي يصلح للإنسانية وتسعد به في حياتها الاجتماعية؟(16)
الفكر الاجتماعي عند السيد الصدر رفعه إلى مستوى مجابهة النظريات والمذاهب الاجتماعية الغربية بالنقد والرفض، كما أنه ركز على خصوصية الفكر الاجتماعي الغربي من ناحية المنهج ومن ناحية العقل النظري، أي الاختلاف بين الفكر الاجتماعي الاسلامي والفكر الاجتماعي الغربي، وهذا الاختلاف بين الشرع والواقع العربي الاسلامي يدل على أن السيد الصدر رفع الفكر الاسلامي إلى مستوى النضج والعمق وحرره من ردود العقل الدفاعي، فنقد الفكر الاجتماعي الغربي لا باسم القيم والمفاهيم الاسلامية بالحقل النظري لهذا الفكر، وقد حلل السيد الصدر الفكر الاجتماعي الغربي تحليلاً ابستيمولوجياً وكشف عن العوامل الاجتماعية والتاريخية والثقافية، التي أدت إلى انتاج هذه المفاهيم التي يتألف منها فكرهم الاجتماعي.(17) ويرى السيد الصدر أن النظام الذي ينشئ من خلال الإنسان ويؤمن بصلاحه وكفاءته لا يمكن أن يكون جديراً بتربية هذا الإنسان وتصعيده في المجال الإنساني إلى أفاق أرحب، لأن النظام الذي يصنعه الإنسان الاجتماعي يعكس دائماً واقع الإنسان الذي صنعه ودرجته الروحية والنفسية.
يهدف هذا البحث إلى التعرف إلى رأي السيد الصدر في مناقشة ونقد أهم المذاهب والأنظمة الاجتماعية المعاصرة، وما تقوم عليه من مرتكزات اساسية ومفاهيم فكرية، ومن ثم مقارنتها بالنظرية الاجتماعية في الاسلام، ومن الاهداف التي يسعى إليه السيد الصدر وهي:
1_ التعرف على النظام الاجتماعي الاصلح والأفضل للإنسانية من بين الأنظمة الوضعية والسماوية.
2_ التعرف على فلسفة النظام الديمقراطي الرأسمالي ودوره في تعقيد المشاكل الاجتماعية.
3_ التعرف على فلسفة النظام الاشتراكي الشيوعي وتخبطه في تحديد المحور الاساس للمشاكل الاجتماعية.
4_ التعرف على النظام الاسلامي ودوره في تحديد المشكلة الاجتماعية التي تعاني منها الإنسانية ووضع العلاج المناسب لها.(18)
الرأسمالية:
أن حجر الزاوية في بناء النظام الديمقراطي الرأسمالي قائم على اساس الإيمان بالفرد إيماناً لا حد له، وبأن مصالحه الخاصة نفسها تكفل بصورة طبيعية مصلحة المجتمع في مختلف الميادين وأن فكرة الدولة تستهدف حماية الأفراد ومصالحهم الخاصة، فلا يجوز لها أن تتعدى حدود هذا الهدف في نشاطها ومجالات عملها.(19) ويسعى هذا النظام إلى حماية الحريات الأربعة وهي:
1_ الحرية السياسية، أي يحق لكل فرد بشكل متساوي المشاركة في بناء النظام الاجتماعي للأمة، ولجهاز الحاكم فيه تعيين السلطات، وذلك من خلال أبداء الرأي السياسي في تقرير الحياة العامة للأمة، وعلى هذا الاساس قام حق التصويت ومبدأ الانتخاب العام، الذي يضمن انبثاق الجهاز الحاكم بكل سلطاته.
2_ الحرية الاقتصادية، أي الإيمان بالاقتصاد الحر لجميع الأفراد على حد سواء، حيث يباح لهم التملك للاستهلاك والإنتاج معاً، بل لكل فرد مطلق الحرية والتنافس في انتهاج أي اسلوب وسلوك أي طريقة لكسب الثروة وتضخيمها ومضاعفتها، وذلك على ضوء مصالحه ومنافعه الشخصية، لأنه السبيل نحو تحقيق التوازن الاقتصادي وقوانينه الطبيعية في المجتمع، لا سيما من ناحية العرض والطلب.
3_ الحرية الفكرية، وتعني أن يعيش الناس أحراراً في عقائدهم وأفكارهم ويعتقدون ما يصل أليه اجتهادهم، أو ما توحيه أليه مشتهياتهم بل لا يحق للدولة أن تسلبهم هذه الحرية.
4_ الحرية الشخصية، وتعني تحرر الإنسان في سلوكه الخاصة من مختلف ألوان الضغط، فهو يملك إرادته وتطويرها وفقاً لرغباته الخاصة، مهما نجم عن ذلك من مضاعفات ونتائج، ما لم تصدم بحرية الآخرين.(20)
يرى السيد الصدر أن النظام الرأسمالي، يرتبط المجتمع فيه بمصالح الأفراد، فالفرد هو القاعدة التي يجب أن يرتكز عليه النظام الاجتماعي والدولة الصالحة هي الجهاز الذي يسخر لخدمة الفرد وحمايته.(21) وأن النظام الرأسمالي تحركت من أجله الكثير من الثورات ونادى به الكثير من القادة معتقدين بأن هذا النظام سيجلب لهم الخير الكثير والعيش السعيد، وينتقد هذا النظام من خلال ثلاثة أمور وهي:
1_ الاتجاه المادي للرأسمالي، وهذا النظام المادي خالص، أخذ فيه الإنسان منفصلاً عن مبدئه وآخرته، ومحدوداً بالجانب النفعي من حياته المادي مشبعاً بالروح المادية الطاغية، ومع ذلك لم يركز النظام الرأسمالي على فهم فلسفي مادي للحياة، وهذا التناقض والعجز أدى إلى انطوائه وتضليله، لأنه جمد المسألة الواقعية للحياة وشرع في دراسة المسألة الاجتماعية، وكشف اسرارها وقيمها بشكل منفصل عن واقع الحياة.(22)
2_ الاخلاق في الرأسمالية، لقد كان من جراء هذه المادية التي زخر النظام الرأسمالي بروحها، أن اقصيت الاخلاق عن الحساب، ولم يلحظ لها وجود في ذلك النظام أو بالأحرى تبدلت مفاهيمها ومقاييسها، وأعلنت المصلحة الشخصية كهدف أعلى، والحريات جميعاً كوسيلة لتحقيق تلك المصلحة، فنشأ عن ذلك أكثر ما ضج به العالم الحديث من محن وكوارث ومآسي ومصائب، ويدافع انصار الرأسمالية بأن الهدف الشخصي يحقق المصلحة الاجتماعية وأن الاخلاق تتحقق عن طريق الدوافع الخاصة وخدمتها، فإن الإنسان حين يقوم بخدمة اجتماعية يحقق بذلك مصلحة شخصية باعتباره جزء من المجتمع الذي سعى في سبيله، وحين ينقذ شخص تعرض للخطر، فقد أفاد نفسه أيضاً، لأن حياة الشخص سوف تقوم بخدمة للهيئة الاجتماعية فيعود عليه نصيب منها، إذن الدافع الشخصي والحس النفعي يكفيان لتأمين المصالح الاجتماعية وضمانها ما دامت ترجع إلى مصالح خاصة ومنافع فردية، إذ مقياس الرأسمالية في الحياة هو لكل فرد في المجتمع تحقيق منافعه ومصالحه الخاصة على أوسع نطاق وأبعد مدى، وعلى الدولة أن توفر للفرد حرياته وتقدسه بغير تحفظ ولا تحديد، ويتساءل السيد الصدر هنا هو ما هو وضع العمل وماهي المنفعة الاجتماعية في قاموس الأفراد، وكيف يمكن أن يكون اتصال المصلحة الاجتماعية بالفرد كافياً لتوجيه الأفراد نحو الاعمال التي تدعوا إليها القيم الخلقية؟(23)
3_ مآسي النظام الرأسمالي، يعتبر هذا النظام مادياً في روحه وصياغته وأساليبه وأهدافه، وأن تطبيق هذا النظام بشكل عملي وانتشاره بين بلدان العالم أدى إلى سلسلة حلقات من المآسي والويلات التي اجتاحت مختلف ميادين الحياة ومنها:
أ_ تحكم الأكثرية في الأقلية ومصالحها ومسائلها الحيوية، لأن الحرية السياسية أحدى مرتكزات هذا النظام وقد رسمت قوانينها بما يلائم حق الأكثرية، وبالتالي من الذي يخطط للأقلية كيانها الحيوي ويطرد عن وجهها الظلم مادامت المصلحة الشخصية هي مسألة كل فرد، وما دامت الأكثرية لا تعرف للقيم الروحية والمعنوية مفهوماً في عقليتها الاجتماعية.
ب_ الحرية الاقتصادية، وقد اجاز النظام الرأسمالي الثراء وألوانه مهما كان فاحشاً، ومهما كان شاذاً في طريقته واسبابه، مما أدى إلى تقديس الثروة في أيدي فئة قليلة من المجتمع الصناعي، وممن أتاحت لهم الفرص امتلاك وسائل لإنتاج الحديث وزودتهم الحريات الرأسمالي غير المحدودة بضمانات كافية لاستثمارها واستغلالها، وبذلك اصبحت هناك طبقات من المجتمع، والطبقة الفقيرة تكون تحت رحمة الطبقة الغنية، وهذا الفقر والظلم سيؤدي إلى الكثير من الانحراف في المجتمع ما دامت الرأسمالية تضع المقياس الخلقي هو المنفعة واللذة، وما دامت الدولة تضمن ذلك وتوفر له مطلق الحرية وما دام النظام الرأسمالي يؤيد ذلك، وقد أدى هذا النظام إلى انقسام المجتمع إلى طبقتين، طبقة في قمة الثراء وطبقة فقيرة، وهذا الفئة الغنية وبحكم مركزها الاقتصادي في المجتمع أدى إلى وصولها إلى مقاليد الحكم في المجتمع، وذلك بسبب قدرتها المادية على الترشح للانتخابات والتي في المقابل تنعدم في الطبقة الفقيرة، وبذلك تتسلم السطلة لتسخير مصالحها والسهر على مآربها، ويصبح التشريع والنظام خاضعين لسيطرة رأس المال، بعد أن كان من المفترض في المفاهيم الديمقراطية أنها من حق الأمة جمعاء، وبعد سيطرة الرأسمالية على الدولة يبدأ سريان المآسي إلى البلدان الأخرى والمجاورة لتلك البلدان المطبقة للنظام الرأسمالي، حيث أن وفرة الانتاج فيها وبدافع الحرص على الربح السريع، يتطلب السيطرة على البلاد الأخرى واستعمارها لكي تستطيع أن تمتص ثروتها وتستغلها من أجل تحقيق ملذاتها ومصالحها الطبقية في داخل بلدانها، هذا فضلاً عن تحويل تلك البدان المستعمرة إلى اسواق جديدة لبيع المنتجات الفائضة فيها.(24)
الاشتراكية:
عندما وصلت الشيوعية إلى السلطة كشفت عدم قدرتها على تطبيق الفكر الشيوعي بخطوطه وأنه لا يمكن ذلك إلا بعد تطوير الإنسانية في أفكارها ودوافعها ونزعاتها، أي أن الإنسان كما تعتقد الشيوعية يأتي عليه يوم تموت في نفسه الدوافع الشخصية والعقلية الفردية وتحيا فيه العقلية الجماعية والاندفاع في سبيل الجماعة وتحقيق مصالحها، لذلك اتجه الفكر الشيوعي نحو إقامة النظام الاشتراكي كضرورة ليتخلص فيه الإنسان من طبيعته الفردية والنزعة الشخصية ويكتسب بدلاً عن ذلك الطبيعة الجماعية المستعدة لتقبل النظام الشيوعي، كما أنه يتطلب إقامة النظام الاشتراكي وإجراء تعديلات مهمة فيه تطال الخطوط الاقتصادية الرئيسية ومنها فكرة الشيوعية في ألغاء الملكية الفردية والوصول إلى حل وسط، وذلك من خلال وضع الصناعات الثقيلة والتجارة الداخلية والخارجية بيد الدولة في مقابل وضع الصناعات والتجارة البسيطة بيد الأفراد، وذلك لأن الاقتصاد الشيوعي اصطدم بواقع الطبيعة الإنسانية، حيث أخذ الأفراد يتقاعسون عن القيام بوظائفهم وتراجع نشاطهم في العمل، فضلاً عن التهرب من واجباتهم الاجتماعية، إذ وجد الفرد داخل النظام الشيوعي أنه مهما أجتهد في العمل النتيجة واحدة، ومادام هذه النتيجة فالكثير منهم بدأ بالخمول والتهرب من العمل.(25)
يرى السيد الصدر أن النظام الاشتراكي وأن عالج جملة من مآسي الرأسمالية الحرة ويمحو الملكية الفردية غير أنه لم يضع يده على سبب الفساد ليقضي عليه، وإنما قضى على شيء آخر، وبالتالي لم يتوقف في العلاج ولم ينجح في التطبيب، إذ أن ألغاء الملكية الفردية أدى إلى القضاء على حريات الافراد، لأنه خلاف الطبيعة الإنسانية العامة، وأيضاً ألغاء الملكية الفردية لا يضمن القضاء على الفساد الاجتماعي، لأنه لا يصل إلى تشخيص الداء.(26)(23_24) والاشتراكية ذهبت إلى الاعتقاد بضرورة فناء المجتمع الرأسمالي وإقامة المجتمع الاشتراكي على انقاضه، ليكون ذلك خطوة للإنسانية نحو تطبيق الشيوعية تطبيقاً كاملاً، والميدان الاجتماعي هو ميدان صراع بين المتناقضات، بحيث أن كل وضع اجتماعي ما كالنظام الرأسمالي يسود ذلك الميدان هو ظاهرة منسجمة مع سائر الظواهر والاحوال المادية ومتأثر بها، غير أنه في الوقت نفسه يحمل نقيضه في صميمه، وينتج عنه صراع بين النقائض ويستمر الصراع حتى يتبدل ذلك الوضع وتكون الإنسانية كلها طبقة واحدة وفي تلك اللحظة يسود الوئام ويتحقق السلام وتزول آثار النظام الرأسمالي، ويهدف النظام الاشتراكي إلى:
1_ ألغاء الملكية الخاصة للأفراد وتمليك جميع الثروات إلى الدولة بصفتها الوكيل الشرعي عن المجتمع في إدارة واستثمار الثروات، وتعتبر هذه الخطوة ضد الرأسمالي التي قسمت المجتمع إلى طبقتين( منتج/ أجير)، وبالتالي ألغاء الملكية الخاصة وإلغاء طبقة الرأسمالية(المنتج) وتوحيد في طبقة واحدة(الأجير).
2_ توزيع السلع المنتجة على جميع الأفراد كلا بحسب قدرته وحاجته الاستهلاكية.
3_ تقوم الدولة برسم منهاج اقتصادي وتوفق فيه بين حاجات المجتمع وبين الانتاج في كميته وتنويعه وتحديده لئلا يمنى المجتمع بنفس الازمات التي حصلت في المجتمع الرأسمالي حينما اطلق الحريات بغير تحديد.(27)
وبذلك يعتقد النظام الاشتراكي أنه النظام الأفضل الذي يمكن أن يخلف النظام الرأسمالي الديمقراطي، وينتهي هذا الرأي إلى القول بأن الإنسان قادر على توفير النظام الأصلح، وإن الصراع الطبقي كفيل بذلك وأن الضمان الأكيد لصلاحية هذا النظام يأتي من خلال توافقه مع وسائل الإنتاج ومع مسيرة التأريخ التي هي مسيرة تقدمية بشكل حتمي، ويرى السيد الصدر إن الضمان لصلاحية النظام الاجتماعي الاشتراكي ليس ضماناً حقيقياً لأنه لا توجد حتمية تفرض على التأريخ أن يسير في اتجاه تقدمي ليكون كل ما يفرضه التأريخ في مسيرته من أنظمة واتجاهات صالحاً بشكل حتمي كما تفترض الاشتراكية.
يقارن السيد الصدر بين الضمان الاجتماعي الاسلامي والاشتراكي:
1_ يعتبر الضمان الاجتماعي في الاسلام حق من حقوق الإنسان التي فرضها الله جل جلاله، أما عند الاشتراكية فهو حق الآلة وليس حقاً إنسانياً، أي حق من وسائل الانتاج.
2_ في الاسلام يعتبر الضمان نتيجة التعاطف الأخوي الذي يسود أفراد المجتمع الاسلامي، أما الاشتراكي ترى أن ايجاد الضمان الاشتراكي ليس إلا ثمرة لصراع هائل مرير يجب إيفاده وتعميقه، والضمان ليس تعبيراً عن وحدة مرصوصة وأخوة شاملة، وإنما يرتكز على تناقض وصراع مدمر.
3_ أن الضمان في الاسلام، بوصفه حقاً إنسانياً، لا يختص بفئة دون فئة، فهو يشمل حتى أولئك الذين يعجزون عن المساهمة في الانتاج العام بشيء فهم مكفولين بالمجتمع الاسلامي، ويجب على الدولة توفير مسائل الحياة لهم، أما الاشتراكية فهو يستمد وجوده من الصراع بين الطبقة العاملة والطبقة الرأسمالي الذي يكلل بظفر الطبقة العاملة وتضامنها واشتراكها في تلك الثورة، لأجل ذلك لا يوجد مبرر اشتراكي لضمان حياة أولئك العاجزين.
4_ الضمان في الاسلام من وظيفه الأفراد والدولة، أما في الاشتراكية من وظيفة الدولة فقط.(28)
النظام الاسلامي:
يؤمن السيد الصدر بأن الحل الوحيد للمشاكل الاجتماعية هو تطبيق النظام الاجتماعي الاسلامي، وهو يمكن العالم من درء الخطر عن حاضر الإنسانية ومستقبلها، وهو أن يطور المفهوم المادي للإنسان عن الحياة وبتطويره تتطور طبيعياً اهدافه ومقاييسه وتتحقق المعجزة حينئذً من أيسر الطرق، والإسلام لم يتجه إلى مبدأ الملكية الخاصة ليبطله وإنما غزا مفهوماً جديداً ولم يجعل الإسلام الفرد آلة ميكانيكية في الجهاز الاجتماعي الضخم، ولا المجتمع هيئة قائمة لحساب الفرد ومصالحه الذاتية والشخصية، بل وضع لكل منهما حقوقه وكفل للفرد كرامته المعنوية والمادية معاً، وقد أوجد الإسلام قاعدة فكرية جديدة للحياة والكون تختلف اختلافاً كبيراً عن النظرة المادية للكون والحياة كما قدمتها الرأسمالية و الشيوعية، بل الإسلام قد جعل الإنسان من خلال تلك القاعدة الفكرية الجديدة ينظر إلى حياته على أنها منبثقة عن مبدأ مطلق الكمال، وأنها إعداد الإنسان إلى عالم لا عناء فيه ولا شقاء، ونصب له مقياساً جديداً وهدفاً مقدساً في كل خطواته وأدواره وهو( رضى الله تعالى) والشخصية الاسلامية هي التي تسير في شتى أشواطها على هدى هذا الهدف، وضوء هذا المقياس وضمن إطاره العام.(29)
يتساءل السيد الصدر عن مدى قدرة الاسلام في الموازنة بين المقياس الخلقي وحب الذات، وكيف يجد النظام الاجتماعي الاسلامي التوازن السليم والمنطقي بين المقياس الخلقي الذي يضعه للإنسان وحب الذات المرتكزة في فطرته؟ وهنا يجيب السيد الصدر بأن الاسلام يمكنه التوفيق بين المقياسين الخلقي وحب الذات، من خلال اتباع أسلوبين هما:
الأول: هو تركيز التفسير الواقعي للحياة وإشاعة فهمها في لونها الصحيح، كمقدمة تمهيدية إلى حياة آخروية يكتب الإنسان فيها من السعادة على مقدار ما يسعى في حياته المحدودة هذه، في سبيل تحصيل رضى الله جل جلاله، فالمقياس الخلقي أو رضى الله جل جلاله يضمن المصلحة الشخصية في الوقت نفسه ويحقق أهدافه الاجتماعية الكبرى، فالدين يأخذ بيد الإنسان إلى المشاركة في أقامت المجتمع السعيد والمحافظ على قضايا العدالة التي تحقق رضا الله جل جلاله، لأن ذلك يدخل في حساب ربحه الشخصي، مادام كل عمل ونشاط في هذا الميدان يعوض عنه بأعظم العوض وهذا التوفيق لا يمكن أن يحصل في ظل فهم مادي للحياة، إذ الفهم المادي للحياة يجعل الإنسان بطبيعته لا ينظر إلى ميدانه الحاضر وحياته المحدودة على عكس التفسير الواقعي للحياة الذي يقدمه الاسلام، فإنه يوسع من ميدان الإنسان ويفرض عليه نظرة أعمق إلى مصالحه ومنافعه، ويجعل من الخسارة العاجلة ربحاً حقيقياً في هذه النظرة العميقة، ومن الأرباح العاجلة خسارة حقيقية ويستند السيد الصدر بقوله هذا على ما قدمه القرآن الكريم، إذ قدم القرآن الكريم صور رائعة لذلك " من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد" (سورة فصلت، الآية46) " يومئذً يصدر الناس أشتاتاً ليروا اعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره"(سورة الزلزلة، الآيات 6_7_8).
الثاني: يتخذ الدين للتوفيق بين الدافع الذاتي والقيم أو المصالح الاجتماعية، هو التعهد بتربية أخلاقية خاصة، وتعني تغذية الإنسان روحياً وتنمية العواطف الإنسانية والمشاعر الخلقية فيه، لأن طبيعة الإنسان طاقات واستعدادات لميول متنوعة، بعضها ميول مادية تفتح شهواتها بصورة طبيعية كشهوات الطعام والشراب والجنس، وبعضها ميول معنوية تفتح وتنمو بالتربية، ولأجل ذلك كان من الطبيعي للإنسان إذ ترك لنفسه، أن تسيطر عليه الميول المادية، لأنها تتفتح بصورة طبيعية، وتظل الميول المعنوية و استعداداتها الكامنة في النفس مستترة، لذا أدرك الاسلام هذه المسألة فأوكل علاجها إلى قيادة معصومة مسددة من الله جل جلاله، حيث تقوم هذه القيادة بتربية الإنسان وتنمي الميول المعنوية فيها، فتنشأ بسبب ذلك مجموعة من العواطف والمشاعر النبيلة، ويصبح الإنسان يحب القيم الخلقية، ويستبسل في سبيلها، ويزيح عن طريقها ما يقف أمامها من مصالحه ومنافعه، ولا يعني ذلك أن حب الذات يمحي من الطبيعة الإنسانية، بل أن العمل في سبيل تلك القيم والمثل تنفيذ كامل لإرادة حب الذات، فإن القيم بسبب التربية الاسلامية تصبح محبوبة للإنسان ويكون تحقيق المحبوب بنفسه معبراً عن لذة شخصية خاصة، فتفترض حب الذات بذاتها السعي، لأجل القيم الخلقية المحبوبة تحقيقاً للذة الخاصة بذلك.(30)
أن الخط العريض في النظام الاجتماعي الاسلامي هو اعتبار الفرد والمجتمع معاً، وتأمين الحياة الفردية والاجتماعية بشكل متوازن، فليس الفرد هو القاعدة المركزية في التشريع والحكم كما هي الديمقراطية الرأسمالية وليس الكائن الاجتماعي الكبير هو الشيء الوحيد الذي تنظر أليه الدولة وتشرع لحسابه كما هي الاشتراكية، ويعتقد السيد الصدر أن اقامة الإنسان على قاعدة ذلك الفهم المعنوي للحياة والاحساس الخلقي ليس عملاً شاقاً وعسيراً، فإن الاديان في تأريخ البشرية قد قامت بأداء رسالتها الكبيرة في هذا المضمار، والوعي السياسي للإسلام وعياً للناحية الشكلية من الحياة الاجتماعية فحسب، بل هو وعي سياسي عميق مرده إلى نظرة كلية كاملة نحو الحياة والكون والاجتماع والسياسة والاقتصاد والاخلاق، فهذه النظرة الشاملة هي الوعي الاسلامي الكامل، والذي تختصره كلمة اجتماعنا.(31)
أن الرأسمالية كما ينظر لها السيد الصدر نظام محكوم عليه بالانهيار والفشل المحقق في نظر الاسلام ومرد الفشل والوضع الفاجع بنظر الاسلام المادية الذي منيت به الرأسمالية المادية الخالصة، وهذه المفاهيم لا يمكن أن تسعد البشر بنظام يستوحي جوهره منها ويستمد خطوطه العامة من روحها وتوجيهها، فلا بد من معين آخر غير المفاهيم المادية عن الكون يستقي منها النظام الاجتماعي، ولابد من وعي سياسي صحيح ينبثق من مفاهيم حقيقية للحياة، ويتبنى القضية الإنسانية الكبرى ويسعى إلى تحقيقها على قاعدة تلك المفاهيم ويدرس مسائل العالم من هذه الزاوية، وعند اكتمال هذا الوعي السياسي في العالم واكتساب لكل وعي سياسي آخر وغزوه لكل مفهوم الحياة، حينها يمكن أن يدخل العالم في حياة جديدة، وعلى قاعدة فكرية جديدة للحياة والكون مشرقة بالنور وعامرة بالسعادة، وأن هذا الوعي السياسي العميق هو رسالة الاسلام الخالدة، والذي من أبرز وأهم ركائزه اجتماعنا.(32)
يشير السيد الصدر إلى أن الإسلام لا يرى في الملكية الخاصة سبباَ للمشكلة الاجتماعية كما تقرر الاشتراكية، وإنما يعتبر السبب كامناً في العقلية المادية التي يعيشها الإنسان أحياناً، فالتفسير المادي المحدود للحياة هو الذي أدى بالرأسمالية إلى ما انتهت إليه بعد أن التقى هذا التفسير بغريزة هي من أعم الغرائز الإنسانية ألا وهي غريزة حب الذات، فنتيجة لهذه الرؤية المادية للحياة وتلك الغريزة العامة الجامحة انطلق المجتمع الرأسمالي باحثاً عن هدفه الأوحد في الحياة ألا وهو اللذة والمنفعة والربح بأكبر قدر ممكن ولاهثاً خلف أفضل الوسائل التي تتيح له هذه المعاني وتبعد عنه كل ما من شأنه الخسارة ولو كانت قليلة واضعاً المثل والقيم المعنوية تحت قدميه، وهكذا نشأت فكرة الصراع في العقلية الأوروبية وأصبح الإنسان الأوروبي يرى في حياته ميداناً واسعاً للصراع مع كل من يدور من حوله حرصاً على أن لا يفوته شيء من حقه في اللذة والربح أو يكون نصيب الآخرين من ذلك أكبر من نصيبه وكان الاستعمار هو التعبير البارز عن هذه الفكرة، وفي ضوء هذا التحليل الإسلامي للمشكلة الاجتماعية يقرر الإسلام علاجه لها، وهو إنهاء المفهوم المادي للحياة وإبداله بمفهوم إلهي يثبت القيم المعنوية كمحور له ويجعل القيم المادية متحركة حوله، فحيث لا سبيل لإزالة غريزة حب الذات لأنه يستلزم تغير خلق الإنسان فلا مناص من إيجاد مفهوم يغير من اتجاه هذه الغريزة ويحولها من غريزة تدفع بالإنسان إلى الصراع مع الآخرين لتوسيع دائرة حقه من اللذة والمنفعة على حساب حق الآخرين منهما إلى غريزة تحث الإنسان إلى الاجتماع مع أخيه الإنسان والتعاون معه والرأفة به والمحافظة على حقوقه، وليس ذلك إلا المفهوم الإلهي، ويرى السيد الصدر أن الدين رسالة مهمة في حل المشكلة الاجتماعية، فالدين وحده القادر على تقديم المفهوم الإلهي للحياة والكون وهو القادر على تركيز هذا المفهوم في ذهنية الإنسان ومن ثم تربيته عليه، إذ الرسالة التي يقدمها الدين ليست هي أحكام الحلال والحرام بما هي تشريع لما هو حلال وما هو حرام، وإنما هي النظرة الخلقية للحياة ولذا فالمجتمع الذي لا تحيا في أعماقه هذه النظرة لا يمكن أن تسعفه القوانين الإسلامية المحددة في مجالات السياسة، والقضاء والاقتصاد والاجتماع وليس في ذلك تقليل من شأن هذه الأحكام فهي ضرورية لتنظيم الحياة الاجتماعية، ولكن هذه الأحكام تفقد قيمتها بالنسبة إلى الحياة عندما لا يعيش الإنسان النظرة الخلقية للحياة، وبذلك يرفض السيد الصدر القانون الطبيعي أو القانون الوضعي في تسيير شؤون الإنسان، ويستند على قوله تعالى" وإذ قال ربك للملائكة أني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال أني أعلم ما لا تعلمون"(سورة البقرة، الآية30) وبذلك أن الإنسان لا يستطيع أن يسير أموره بل لا بد من تدخل الله جل جلاله.(33)
يعتقد السيد الصدر أن اصول الدين الخمسة هي من توجه الحرية التاريخية وتنظم المجتمع، وهي من تشيع معايير العدل والقسط في الحياة الاجتماعية وغياب مظاهر الظلم والاستغلال، وكل ذلك يتوقف على تبني اصول الدين وتجسيدها في الحياة الاجتماعية، و يلخص السيد الصدر الوظيفة الاجتماعية لكل واحد من اصول الدين الخمسة:
1_التوحيد، يمنح التوحيد المؤمن رؤية واضحة فكرياً وايديولوجياً للمثل الأعلى، أي أن الإيمان بالله جل جلاله يوحد كل الغايات والطموحات البشرية في مثل أعلى واحد هو الله جل جلاله.
2_ العدل، هو صفة من صفات الله جل جلاله والعدل هو الصفة التي تثري المسيرة الاجتماعية، والتي تحتاجها المسيرة أكثر من أية صفة أخرى، ولهذا لابد أن نتعامل مع العدل كغيره من صفات الله جل جلاله بوصفها منارات ومؤشرات وأدلة على الطريق، لا بوصفها حقائق عينية منفصلة عنا.
3_ النبوة، عندما تتبنى المسيرة البشرية المثل الأعلى للحق، وبما أن هذا المثل منفصلة عنها، إذن لا بد أن تتوفر صلة موضوعية بين الإنسان والمثل وهذه الصلة الموضوعية بين المثل الاعلى والبشرية.
4_ الإمامة، هي قيادة ربانية تندمج مع دور النبوة، فالنبي قد يكون إماماً بيد أن الإمامة لا تختفي بغياب النبوة، إذا كانت الرسالة بحاجة إلى قيادة تواصل المعركة ضد الطواغيت والآلهة المزورة، فالإمام هو القائد الذي يتولى هذه المعركة.
5_الإيمان بيوم القيامة، هو الذي تستقي منه إرادة الإنسان الوقود والطاقة الروحية، ويحفظ للإنسان دائماً قدرته على التجديد والتطوير عبر ما يؤمنه من شعور بالمسؤولية وضمانات موضوعية.(34)
يميز السيد الصدر النظام الاجتماعي الاسلامي عن الأنظمة الأخرى ويرى أن الميزة الاساسية للنظام الاجتماعي الاسلامي تتمثل في ما يرتكز عليه من فهم معنوي للحياة، وإحساس خلقي بها، والخط العريض في هذا النظام هو اعتبار الفرد والمجتمع معاً، وتأمين الحياة الفردية والاجتماعية بشكل متوازن، فليس الفرد هو القاعدة المركزية في التشريع والحكم وليس الكائن الاجتماعي هو الشيء الوحيد الذي تنظر إليه الدولة وتشرع لحسابه.(35) ويهدف السيد الصدر ويسعى إلى تعريف المجتمعات بأن الإيمان بالله جل جلاله يساعد المجتمعات على النهوض وتحقيق المساواة فيما بينهم ، فالمثل الأعلى للجماعة البشرية صالحاً وعالياً وممتداً وتكون فيه المجتمعات اهدافها صالحة وممتدة، وبقدر ما يكون هذا المثل الاعلى محدوداً أو منخفضاً تكون الغايات المنبثقة عنه محدودة ومنخفضة أيضاً، وكلما كانت الطاقة الروحية والرؤية الفكرية للجماعة البشرية تتناسب مع ذلك المثل الأعلى ومع وجهة نظرها إلى الحياة والكون كلما تحققت إرادتها للسير في طريق هذا المثل مع ما يتخلله من منعطفات.(36)
الهوامش:
1_ينظر محمد عبد اللاوي: فلسفة الصدر(دراسات في المدرسة الفكرية للإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر، مؤسسة العارف للمطبوعات، بيروت، ط2، 2001، ص5.
2_ ينظر السيد محمد باقر الصدر: السنن التاريخية في القرآن، أعاد صياغة عباراته وترتيب أفكاره الشيخ محمد جعفر شمس الدين، دار أحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 2011، ص3.
3_ينظر السيد ولد أباه: أعلام الفكر العربي(مدخل إلى خارطة الفكر العربي الراهنة)، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، 2010، ص146.
4_ينظر إبراهيم العبادي: الشهيد الصدر منهج الابداع بين التوقف والاستمرار، ضمن مجلة قضايا اسلامية معاصرة، العددان(11_12) قراءات في فكر الإمام الشهيد الصدر، بيروت، 2000، ص4.
5_حسن حنفي: تجديد علم الاصول( قراءة في فكر الإمام الشهيد محمد باقر الصدر)، ضمن مجلة قضايا اسلامية معاصرة، العددان(11_12)، ص125.
6_ينظر عامر عبد الأمير حاتم: أفاق الحداثة في فكر الإمام محمد باقر الصدر، مجلة الاستاذ، العدد(203)، 2012، ص37_38.
7_ينظر زكي الميلاد: الصدر والمنزلة الفكرية، ضمن كتاب السيد محمد باقر الصدر: المدرسة الاسلامية، دار الكتاب المصري، القاهرة، 2010، ص21_22. وينظر أيضاً نزيه الحسن: السيد محمد باقر الصدر دراسة في المنهج، دار المعارف للمطبوعات، بيروت، 1992، ص15.
8_ينظر جواد كاظم الشايب: السيد الشهيد محمد باقر الصدر ومنهجه الاصلاحي، مجلة كلية الآداب_ جامعة القادسية، العدد(90)، ص342.
9_ ينظر زكي الميلاد: الصدر والمنزلة الفكرية، ضمن كتاب السيد محمد باقر الصدر: المدرسة الاسلامية، ص22_23.
10_ينظر المصدر نفسه، ص24.
11_ ينظر المصدر نفسه، من ص25 إلى ص28.
12_ ينظر المصدر نفسه، من ص28 إلى ص39.
13_ينظر السيد محمد باقر الصدر: المدرسة القرآنية، دار الكتاب الاسلامي، ط2، 2013، ص6(المقدمة).
14_ ينظر زكي الميلاد: الصدر والمنزلة الفكرية، ضمن كتاب السيد محمد باقر الصدر: المدرسة الاسلامية، ص24_25.
15_ينظر السيد محمد باقر الصدر: اجتماعنا، جمعية المعارف الاسلامية الثقافية، ط1، 2011، ص9_10.
16_ينظر نزيه الحسن: السيد محمد باقر الصدر دراسة في المنهج، ص27_28.
17_ ينظر محمد عبد اللاوي: فلسفة الصدر، ص111_112.
18_ ينظر السيد محمد باقر الصدر: اجتماعنا، ص7.
19_ينظر المصدر نفسه، ص12.
20_ ينظر المصدر نفسه، ص13_14.
21_ ينظر المصدر نفسه، ص15.
22_ ينظر المصدر نفسه، ص15_16_17.
23_ ينظر المصدر نفسه، ص18_19_20.
24_ ينظر المصدر نفسه، من ص20إلى ص24.
25_ ينظر المصدر نفسه، ص27_28_29.
26_ ينظر المصدر نفسه، ص32_33.
27_ ينظر المصدر نفسه، ص26_27.
28_ ينظر السيد محمد باقر الصدر: المدرسة الاسلامية، ص129_130_131.
29_ ينظر السيد محمد باقر الصدر: اجتماعنا، ص36_37_38.
30_ ينظر المصدر نفسه، ص38_39_40_41.
31_ ينظر المصدر نفسه، ص42_43.
32_ ينظر المصدر نفسه، ص43_44_45.
33_ ينظر نزيه الحسن: السيد محمد باقر الصدر دراسة في المنهج، ص28_29.
34_ينظر عبدالجبار الرفاعي: المدلول الاجتماعي لأصول الدين عند الشهيد الصدر، ضمن كتاب السيد محمد باقر الصدر: موجز في اصول الدين( المرسل_ الرسول_ الرسالة)، تحقيق عبدالجبار الرفاعي، مكتبة مؤمن قريش، ط1، ص86_87.
35_ ينظر زكي الميلاد: الصدر والمنزلة الفكرية، ضمن كتاب السيد محمد باقر الصدر: المدرسة الاسلامية، ص56.
36_ ينظر السيد محمد باقر الصدر: السنن التاريخية في القرآن، ص114.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بدء التوغل البري الإسرائيلي في رفح


.. طفل فلسطيني ولد في الحرب بغزة واستشهد فيها




.. متظاهرون يقطعون طريق -أيالون- في تل أبيب للمطالبة الحكومة بإ


.. الطيران الإسرائيلي يقصف محيط معبر رفح الحدودي




.. دول عربية تدرس فكرة إنشاء قوة حفظ سلام في غزة والضفة الغربية