الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محطات فكرية سلبية في تراثنا

أحمد هيكل

2023 / 11 / 28
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


إن واقعنا المعيش يدين بالفضل إلى منظومة ثقافية تمده بعوامل استمراره وعناصر بقائه وتجدده. فما نحياه من عادات وتقاليد وأوضاع اجتماعية لم يأتِ هكذا اعتباطا أو مصادفة، بل إن نوع الأفكار والمعرفة التي يتلقاها الإنسان لها دور رئيس في تشكيل مستقبله ورسم ملامح واقعه ومجتمعه. فالثقافة ليست هى كم المعارف والأفكار التي يستقبلها الإنسان، وليست هي مقدار ما يخزنه العقل من معلومات ليستظهرها أو يستخدمها بعدُ فيما يفيده، بل هي أساليب التفكير وطرائق العيش التي تنتج لنا مستويات معينة من العلاقات الاجتماعية وتحدد مفاهيمنا للحريات وتصوراتنا للعلاقة بين الحاكم والمحكوم ووضع السلطة في المجتمع من القاعدة إلى الرأس.
ولا ريبَ أنَّ مجتمعنا يرزح تحت نيِّر منظومات فكرية وثقافية ودينية هي المسئولة عن تردي أوضاعه الحياتية على كل الأصعدة وفي مختلف الجوانب. فنهضة المجتمعات المادية والعلمية والحضارية لا تصدر إلا عن روح قوية، وروح أىِّ أمة هي ثقافتها، فهي تمثل قلبها النابض وضميرها الحيّ وشخصيتها المميزة، فإذا ما ذبلت ذبل واقعها وإذا ما دبَّت فيها الحياة وانتعشت وتجددت عناصرها، فأنت بإزاء واقع قويّ ناهض مزدهر .
وثقافتنا بقدر ما حملت من جوانب عقلية وفلسفية وروحية ممتازة، واحتفت بالفنون والآداب أيما احتفال، لكنها عبرت عن احتقارها للحياة وإهانتها للإنسان في أوجه ومواقف عديدة. وسنوجز في السطور القادمة أهم المحطات الفكرية التي وقفت عندها ثقافتنا موقف الجمود وتعاملت معها من منطلقات غير إنسانية وحضارية، وخلفت آثارا عميقة في سلوك الإنسان العربي وتركت ندوبا بالغة في شخصيته.
* تقوم الأيديولوجيا الدينية على تقسيم الناس إلى فئات وطوائف والتمييز بينهم، فالناس هم مؤمنون وكافرون، رجال ونساء، أحرار وعبيد، معاهدون وحربيّون، والعالم ينقسم إلى فسطاطين: فسطاط إسلام وفسطاط كفر. وتمضي الأيديولوجيا الدينية في تقريرها لهذه الحقيقة حتي تتفرق الأيديولوجيا نفسها على يد أتباعها إلى فرق وجماعات، كلٌّ منها يدَّعي أنه الفرقة الناجية التي خصها الدين بالفلاح والسؤدد، والتي تمتلك مفتاح الجنة والنار والمعيار المطلق للصواب والخطأ الديني. والمسلم في الحقيقة يعيش هذه الحالة، حالة الأضداد والثنائيات المتناقضة المتعارضة، التي ترسخها في ذهنه الأيديولوجيا الدينية وذلك بإصرارها على إبرازها وتأكيدها في كل مناسبة، من خلال الاستدعاء الدائم للنصوص المؤسسة للتمايز العقدي بين المؤمنين والكافرين، والاستعراض المبالغ فيه عند تحليل الشواهد الدينية التي تكرس المنهج الاعتقاديّ، وجعلها قضية الإيمان الأولى والتي عليها مدار الدين وأحكامه!
ثم تنتج هذه الحالة لنا في الواقع حدية دينية وعصابية عقائدية، حيث لا يحتمل المؤمن الاختلاف وتنوع الآراء والمذاهب والعقائد بسبب قناعاته الدينية الأحادية! فالناس وفق المنطق الديني هم : إما أو ! فتبدو الرؤية الدينية متعصبة منغلقة على ذاتها، إذ ينحصر الوعي الدينيّ بين قطبي رحى: إيمان وكفر، وتغدو نظرة المؤمن إلى العالم من حوله أسيرة هذا المنطق الديني الضيق المنطوي المتشرنق! وينعكس هذا بالطبع على لغة الخطاب الديني السائد، فهو خطاب حدي تكفيريّ، وسبب ذلك هو حدية التصور الإيمانيّ وتصلبه، واتباعه منهجا صارما في التعامل مع أصحاب العقائد الأخرى!
وتحتل قضية الإيمان والكفر الحيِّز الأكبر من اهتمام المسلم، ويشكل تأصيل العقائد أجلَّ الأعمال ويعدُّ أنفس العلوم، فبه قيام الدين وصلاح العمل. فإذا صلحت العقيدة صلح عمل المؤمن، وإذا فسدت فسد سائر عمله، وتتأسس رؤية المسلم للكون وللعالم بناء على هذا المنطق ذي الأفق الضيق المحدود، فلا ينفع مع الكفر طاعة ولا يضر مع الإيمان معصية ! فما دمت مؤمنا موحدا تنطق الشهادتين، فكل شيء بعد ذلك يهون ولو قتلت وسرقت وارتكبت كل الموبقات والمعاصي! أما المنكرون لهذه العقيدة فهم وإن أتوا كل فضيلة مصيرهم إلى الجحيم، ولن تقبل أعمالهم، وسيريهم الله هذه الأعمال حسرات عليهم وكأنها سراب!
وعليه فإن النار ستمتلئ بكل من قدَّموا أرواحهم فداءً للبشرية، فمخترع المصباح الكهربائي لن يشفع له كونه أنقذ ملايين البشر حول العالم من الظلام الدامس، ولن ينجي صاحب لقاح شلل الأطفال من مصيره الأخرويّ أنه غير حياة ملايين الأطفال وانتشلهم من خطر الكساح وضعف الحركة!
* تتميز المنظومة الدينية التقليدية بأنها منظومة راديكالية وشمولية إلى حد بعيد، يتجلى ذلك في كثير من المسائل والقضايا ذات البعد التشريعيّ أو ما اتصل منها بفقه السياسة والأحكام السلطانية. حيث تُبني النظرية السياسية الإسلامية -إن صحَّ التعبير- على سيادة الشرع وليس سيادة الشعب، فالحكم في ظل المنظومة الإسلامية هو لله، والله هو المشرع، والشعب ليس بيده إقرار الحقوق والواجبات لأنها مقررة شرعا؛ وذلك بعكس الديمقراطية التي تعني أن يحكم الشعب نفسه بنفسه لنفسه، ومن ثمَّ فلا مكان للحرية السياسية والقيم الديمقراطية كخيار أو منهج تقوم عليه الحقوق السياسية. فالقاعدة التي تبنى عليها الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الدولة الإسلامية مقيدة بالشرع وليست منطلقة من فكرة الديمقراطية أو الحرية السياسية. وإن كانت السلطة في الإسلام هي سلطة غير دينية بمعنى أنها ليست سلطة رجال دين، وبرغم أنَ الحكومة الإسلامية ليست حكومة ثيوقراطية أي لا تحكم باسم الحق الإلهي، لكنَّ نظام الحكم في الإسلام هو نظام خاضع لسلطة لنص الدينيّ، ومن يفسر النص الدينيّ في النهاية هم طبقة رجال الدين المتحكمة في القرار السياسيّ، والتي تحتكر تفسير النصوص الإلهية وتصادر على عموم المسلمين وجماهيرهم الاجتهاد في المسائل الدينية وإعمال عقولهم فيما يستجد من معاملات . ففي كل الأحوال ستؤول بنا كل الممارسات الدينية التقليدية إلى تبرير السلطة الدينية وتدخل الدين في السياسة.
ومن ظلال الشمولية وملامحها في المنظومة الإسلامية تقييد الحريات تحت مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففي ظل هذا المبدأ الشموليّ لا مكان للحريات الشخصية ولا محل لها من الإعراب، بل يسمح لأي مسلم التدخل في المساحة الشخصية لأيِّ إنسان، ويصبح انتهاك الخصوصيات واجبا دينيا واضطلاعا بأمر إلهيّ مقدس؛ فوفق القاعدة الحديثية الشهيرة التى كثيرًا ما نرددها :"من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه"، يحق لأيِّ فرد من آحاد المؤمنين أن يتدخل لدفع ما يراه منكرًا ومعصية من وجهة نظره، إذا ما رأى - مثلا - امرأة متكشفة، أو رجلا يعاقر الخمر، أو رجلا وامرأة يجلسان سويًّا فى مكان عام أو مغلق، أو عُرسًا به مظاهر سفور وخلاعة من وجهة نظره. ومن هذه الظلال والملامح أيضًا مساءلة المسلم دينيا وتفتيش إسلامه وامتحان عقيدته تحت مفهوم الاستتابة، إن هو تشكك في أمر دينه أو ألقيت الشبهات في روعه ولم يستطع أن يجد إجابة شافية لها، والتي تعد صورة من صور الإرهاب الفكريّ، فضلا عن وضع سيف مسلط على رقاب أتباع الملة إن هم تجاوزوا الخطوط الحمراء وفكروا على نحو يخالف رأى الدوغمائية الدينية المتسلطة.
* وضع المرأة في الإسلام:
دائمًا ما يبدأ الحديث التقليدي لشيوخ الإسلام من السنة والشيعة عن المرأة بالعبارة المحفوظة عن ظهر قلب والتي يتم ترديدها كثيرا وهي : "الإسلام كرم المرأة". وهم يعنون بالطبع أن المرأة قبل الإسلام كانت مستعبدة فحررها، ومسترقة فأطلق سراحها. وفي الحقيقة، إن المنظومة الدينية الإسلامية تعاملت مع المرأة على أنها سلعة جنسية، فالنصوص الدينية تكرس للتعامل معها باعتبارها متاعا وشهوة، وأنها خلقت من أجل إمتاع الرجل، والتراث يلخص علاقة الرجل بالمرأة ويختصرها في ممارسة الجنس، وذلك عندما يسمي الزواج نكاحا، ويجعل النفقة الزوجية مقابل طاعة المرأة لزوجها في الفراش، وعندما يلزم المرأة بالاستجابة لزوجها إذا دعاها لممارسة الجنس حتي ولو لم ترغب!
والمرأة في ظل المنظومة الدينية الإسلامية لا تملك جسدها، ولا تملك حرية ارتداء ما تريد من ملبس، بينما للرجل أن يختار ما يشاء من ملابس ويخرج بالزي الذي يحب، في تمييز واضح بين الرجل والمرأة في نيل وممارسة الحقوق الطبيعية. والحق أن آخر من يملك حرية التصرف في جسد المرأة، في ظل هذه المنظومة البالية المتخلفة، هي صاحبة هذا الجسد، فأخوها أو أبوها أو عمها هم أجدر الناس الذين يقررون التصرف في جسدها بينما هي لا تملك هذا القرار! ومن ثمَّ يصير أقدس وأعز ما يملك الإنسان ليس ملكه، بل وللآخرين حق اقتحامه وانتهاكه !
ولا تنال المرأة حق امتلاك جسدها وحرية التصرف فيه إلا إن هجرت أهلها مثلا ولاذت بالفرار من محيطها الأسريّ، ففي هذه الحالة تملك حرية التصرف، ولكن بعد أن تفقد حماية ذويها واحتواء أهلها لها، فتتعرض لأبشع صنوف الاستغلال، وذلك بسبب سلب الإنسان قراره وحريته، فتصبح المسكينة بين نارين: نار العبودية الأبوية والذكورية، ونار التسليع والاستغلال الجنسيّ من أحط صنوف البشر، فتختار نار الاستغلال.
وليس من المنطق ولا من العقل حرمان المرأة من حق أوليّ أساسيّ منحته لها الطبيعة بحجة أن الرجل لا يستطيع التحكم في غريزته. هذا يشبه أن أقول لك: اختف ؛ فظهورك يستفزني! فالمرأة غير مطالبة بأن تدفن نفسها في الحياة لأن الرجل غير قادر على ضبط شهواته مثل الحيوانات.المرأة أيضا يثيرها وجه الرجل وشعره وطوله وعرضه ورائحته ، لكن المرأة تعلمت أن تتحكم في غرائزها، والرجل مطالب بأن يرتقيَ لمستوى المرأة.
وفرض زيٍّ معين على المرأة وإلزامها به هو صورة من صور العبودية، ولذلك تحرص على بقائه مؤسسات الرجعية والكهنوت الديني؛ فالسيطرة على المرأة وسلوكها هو عنوان حضورهم في حياتنا الاجتماعية، وبدونه لن يصبح لوجودهم قيمة أو معنى.
والخطاب الديني خطاب ذكوريّ، فهو موجه للذكور فقط، وقد يوجه للاثنين الرجل والمرأة بلغة واحدة، لكن لا توجد مرة واحدة خاطب فيها الشارع المرأة على حدة وباعتبارها كيانا مستقلا ذا إرادة، والمرات القليلة التى وجه فيها الشارع نداءه إلى المرأة كانت بطريق غير مباشر: حيث يطلب من النبي أو المؤمنين أن يبلغوا زوجاتهم ونساءهم وبناتهم أن يفعلوا كذا.

* العقوبات البدنية وامتهانها لكرامة الإنسان:
أعتقد أنه قد أصبح اليوم من البديهيات، بعد ارتقاء الإنسانية وتطورها الأخلاقي والأدبي في القرنين الأخيرين بفعل ما أحدثته ثورة العلم في الجانب المادي والإنسانيّ، أن العقوبات البدنية هي إهانة لكرامة الإنسان، وأن أفعالا مثل: الجلد، وبتر الأعضاء، وتشويه الجسد بالصلب وخلافه، والرجم بالحجارة.. هي جرائمُ ضد الإنسانية، وليست فقط عقوباتٍ غيرَ مناسبةٍ لذوق زماننا، فقد استقرَّ منذ وقت بعيد أنَّ جسد الإنسان هو مساحة مقدَّسة، فلا ينبغي الإساءة إليه أو تعريضه للإيذاء، بالضرب أو التعذيب أو الإيلام. والمنظومات الدينية ليس بها هذه المفهوم وهو احترام الجسد وتقديسه، فتقديس الجسد يستوجب إلغاء الضرب وهي تشرِّع له، ويتطلب تجريم استغلاله وهي تسوِّغه عبرَ إباحة الرق وشرعنة النخاسة وأسواق العبيد، ويقتضي تقرير حرية الجسد وهي تبرر انتهاكه وتقييد حركته تحت مسمَّي العفة والفضيلة الوهمية!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اليهود في ألمانيا ناصروا غزة والإسلاميون أساؤوا لها | #حديث_


.. تستهدف زراعة مليون فدان قمح تعرف على مبادرة أزرع للهيئة ال




.. فوق السلطة 387 – نجوى كرم تدّعي أن المسيح زارها وصوفيون يتوس


.. الميدانية | المقاومة الإسلامية في البحرين تنضمّ إلى جبهات ال




.. قطب الصوفية الأبرز.. جولة في رحاب السيد البدوي بطنطا